سُورَة مريم مكِّيَّة وآياتها (98)

* تفسير سورة مريم: الآيات ( 1 - 15 ) قصة زكريا ويحيى

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)

--------------------------------

 

هذه سُورَة "مريم" تُسَمَّى بهذا الاسم، والأسماء توقيفية، تُسَمَّى السُورَة غالبًا بما يذكر فيها أو تنفرد بذكره من بين أخواتها، وهنا في هذه السُورَة تأتي قصة مريم ابنة عمران: أم عيسى المسيح ـ عليهما السلام ـ مفصلة.

( كهيعص ):

وتفتتح السُورَة بالحروف الهجائية المقطعة، بخمسة حروف وهو أقصى عدد تصله فواتح السور مثل سُورَة الشورى {حم عسق}، ومنها ما يفتتح بأربعة: {ألمص}، {ألمر}، ومنها بثلاثة {ألم}، {ألر}، ومنها بحرفين {يس}، {طه}، ومنها ما هو بحرف واحد {ص}، {ن}، {ق}، ولم يرد فيها تفسير عن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ، ولذا لم يتفق المفسرون على معنى لها، بل تعددت تآويلهم، وهي كلها ظنية ليست قطعية.

 

قال بعضهم: هي أسماء السور المفتتحات بها مثل ما نقول سُورَة "يس"، وسُورَة "ص"، وسُورَة "ن والقلم"، ولكن هذا الاستعمال في المفتوحة بالحرف الواحد لخفته على اللسان، وقال آخرون: كل حرف منها بداية اسم من أسماء الله تعالى، فالكاف يرمز إلى "كافٍ"، والهاء يرمز إلى "هادٍ"، والياء يرمز "لاسم في علم الله"، والعين يرمز إلى "عليم"، والصاد ترمز إلى "صادق"، وجعلها بعض دلالة على بعض حسابات، واستدلوا بها على بعض أمور غيبية وأغرقوا في النزع، وابتعدوا عن الصواب، وقال آخرون: هي بمثابة حروف تنبيه في أوائل السور، وقال آخرون: هي رمز للإعجاز القرآني، أي أن هذا القرآن منزل بلغتكم التي تنطقون بها أيها العرب مؤلف من حروفكم الهجائية المعروفة، ولكنكم تعجزون عن الإتيان بسُورَة من مثله، وما هذا إلا برهان على أنه من عند العزيز الحكيم، وكل ما قاله القائلون إنما هو تخمين وظن، ليس يقطع به، والله أعلم بمراده من ذلك، ثم ندخل في تفسير السُورَة حسبما يتيسر لنا من معاني سائرها:

 

{ذِكرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبدَهُ زَكَرِيَّاءَ}

 

أقرب ما قيل في تفسير هذه الآية أن كلمة {ذِكرُ}خبر لمبتدأ محذوف، أي هذا ذكر رحمة، {ذِكرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبدَهُ زَكَرِيَّاءَ}، أي اذكر لهم يا مُحَمَّد ذكر رحمة ربك عبد زَكَرِيَّاء، واضطرب المفسرون في وجوه أخرى لإعراب الآية وليس يسع تفسيرنا هذه الاضطرابات، فلنأخذ بأشهرها وأقربها إلى الفهم، وهو بيان الرحمة التي أضيفت إلى الرب، وإضافة اسم الرب إلى النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ إضافة تشريف وتكريم، وإضافة العبد زَكَرِيَّاء إلى ضمير اسم الجلالة إضافة تكريم وحفاوة، وزَكَرِيَّاء هذا نبي كريم من أنبياء بني إسرائيل من ورثة موسى ومن حملة التوراة من بعده، يدعوا إلى الرشد ويحكم بما أنزل الله فيها بين بني إسرائيل.

 

{إِذ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا}

 

هذه الرحمة مَوقعها حين نادى العبد الصالح زَكَرِيَّاء ربه نداءً خفيًا بما سيأتي بيانه، إنما كان هذا النداء في خلوة في مكان خفي لا يسمعه إلاَّ الله تعالى، نداء ذو صوت مرتفع غير خافت، ولكنه في خفاء بعيد عن رؤية الناس وسمعهم، وفي هذا التعبير إشارة إلى أن أقرب الدعاء إلى الإخلاص وحضور القلب ما كان في خلوة، وقد يكون من الدواعي التي دعت زَكَرِيَّاء إلى إخفاء النداء أن لا يسمعه من يخافهم من الموالي كما سيأتي.

 

{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ العَظمُ مِنِّي وَاشتَعَلَ الرَأسُ شَيبًا وَّلَمَ اَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَّإِنِّي خِفتُ الْمَوَالِيَ مِن وَّرَائِي وَكَانَتِ اِمرَأتِي عَاقِرًا فَهَب لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا يَّرِثُنِي وَيَرِثُ مِنَ _الِ يَعقُوبَ وَاجعَلهُ رَبِّ رَضِيًّا}

 

قال سيدنا زَكَرِيَّاء ـ عليه السلام ـ في ندائه لربه: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ العَظمُ مِنِّي وَاشتَعَلَ الرَّأسُ شَيبًا}

 

الوهَن: الضعف، والاشتعَال: مجاز لانتشار الشيب في رأسه ولحيته انتشارًا حثيثًا، وهي علامة للكبر ودنو الأجل، فهو تعبير بليغ عن الضعف والهرم، وهذا التقديم للاسترحام، والله أعلم به وبضعفه وشيخوخته ثم قال: {وَّلَمَ اَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}، زاد فاستعطف ربَّه، فقال: وما كنتُ شقيًّا بدعائك ربي، فقد عودتني الإجابة، واسعدتني بحفاوتك، وأنت الحفي بمن دعاك، فكن عند حسن ظني ورجائي، واستجب دعائي يا من هو لمن رجاه قريب.

 

{وَإِنِّي خِفتُ الْمَوَالِيَ مِن وَّرَائِي}

 

الموالِي: أبناء العمومة والأقارب، خافهم على التوراة أن يُحرِّفوها ويبدلوها ويضيعوها، وشعب بني إسرائيل شعب غليظ الرقبة، عنيد، يقتلون الأنبياء بغير حق، وسيقتلون زَكَرِيَّاء نفسه، قال:

 

{وَكَانَتِ اِمرَأَتِي عَاقِرًا فَهَب لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا يَّرِثُنِي وَيَرِثُ مِنَ _الِ يَعقُوبَ وَاجعَلهُ رَبِّ رَضِيًّا}

 

وكانت امرأة زَكَرِيَّاء عاقرًا طول عمرها، لَم تلد، فطلب من الله ولدًا صالحًا رضيًّا يرثه، وميراث النبييّن الحكمة، فهم لا يرثون درهَمًا ولا دينارًا، إنما ميراثهم ما أتاهم الله من الهدى والحكمة، خاف سيدنا زَكَرِيَّاء ـ عليه السلام ـ من التوراة أن ينالَها بنو إسرائيل بالتحريف والتغيير، فدعا ربه أن يهب له غلامًا رضيًّا يرث عنه التوراة ويرث عن آل يعقوب، ويعقوب هو جد بني إسرائيل، وهو إسرائيل، طلب من الله وليًّا، وطلب أن يكون هذا الولي رضيًّا، يرضاه الله لتقواه وصلاحه، ويرضاه الناس لِسَعة صدره وحسن أخلاقه، لكي يلتفُّوا حوله ويتبعوه ولا ينفروا عنه ويتركوه، فاستجاب الله دعاءه وناداه:

{يَا زَكَرِيَّاءُ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمُهُ يَحيَى لَم نَجْعَلْ لَّهُ مِن قَبلُ سَمِيًّا (7)}

 

يا زَكَرِيَّاءُ أبشر فقد استجبنا لدعائك، وإنا سنهب لك ولدًا اسمه "يَحيَى" سماه الله قبل أن يولد باسم لم يسم به أحد قبله فهو "يَحيَى" باللغة العربية و"يوحنا" بالعبرانية، والسميّ هو الشبيه في الاسم عن أهل اللغة، وعند بعضهم الشبيه في الخصال.

 

{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاًمٌ، وَّكَانَتِ امرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغتُ مِنَ الكِبَرِ عُتِيًّا (8)}

 

تعجَّب سيدنا زَكَرِيَّاءُ، كيف يأتيه الغلام بعد أن جاءته به البشارة المحققة من الله! فسأل ربَّه يا ربِّ كيف يكون لي غلام وامرأتي عاقر لَم تلد منذ تزوجت بها؟!، وأنا كبير السن وقد بلغت من الكبر عُتيًّا، والعُتِيُّ من الكبر: عندما تتصلب الشرايين، ويغيض ماء الشباب من المفاصل، فيشكو الشيخ وجع المفاصل، ويضعف عن الحركة، تعجب زَكَرِيَّاء من الولادة بعد الشيخوخة والعقم وقال: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ}، ولم ينكر ذلك بل آمن بوعد ربِّه واطمأن إليه، وإنما رغب إليه أن يعرِّفه بكيفية ذلك، فأجابه الله:

 

{قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَّقَد خَلَقتُكَ مِن قَبْلُ وَلَم تَكُ شَيئًا (9)}

 

قال كذلك أمْرُ ربِّك وحُكمُه، إذا أراد شيئًا يكون كما أراد، وهو عليه هَيِّن سهل، وقد خلقتك يا زَكَرِيَّاء من العدم وما كنت شيئًا، ضرب الله له المثل بخلقه من العدم لِيَعلَم أن ولادة عاقر من شيخ كبير أهون من خلق الأشياء من العدم، وهما في قدرة الجبَّار الخالق سيَّانُ.

 

{قَالَ رَبِّ اجعَلْ لِّي ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)}

 

قال زَكَرِيَّاء ـ عليه السلام ـ ربِّ اجعل لي آية، أي علامة تعرفني بتحقق وقوع ما بشرتني به من الولد، وما ذلك من زَكَرِيَّاء شكٌّ في وعد الله، فقد آمن، ولكن يريدُ العلامة ليطمئن قلبه كما طلب جدُّه إبراهيم ـ عليه السلام ـ آية الخلق من ربه ليطمئن قلبَه، فوافقه الله إلى ما طلب، وقال آيتك ألاَّ تُكلِّم الناسَ، أي يَحتَبِسُ لِسَانك عن كلام الناس، ولا يَحتَبِس عن ذكر الله لمدة ثلاثة أيام بلياليها، وهذه كرامة لزَكَرِيَّاء ـ عليه السلام ـ، لا يُكلِّم الناس وهو سَوِيُّ البدن سليم اللسان، ومظهر المعجزة أنَّه يذكر الله بلسان فصيح، لكن لا يقدر على مكالمة الناس المدة المذكورة كلُّها، تلك هي الآية التي جعلها الله لعبده زَكَرِيَّاء ـ عليه السلام ـ لوقوع الولد الموعود في بطن المرأة العاقر.

 

{فَخَرَجَ عَلَى قَومِهِ مِنَ الِمحرَابِ فَأَوحَى إِلَيهِمُ أَنْ سَبِّحُوا بُكرَةً وَّعَشِيًّا (11)}

فلما حان الموعد لما أراد الله تحقيقه خرج زَكَرِيَّاء على قومه بني إسرائيل من مِحرابه وهو ساكتٌ لا يقدر على الكلام، فأشار إليهم بيده التسبيح صباحًا ومساء، {فَأَوْحَى إِلَيهِم}: أي أشار إليهم أن سبحوا الله واذكروه بُكرة وعشيًّا، وهو يذكر الله كما أمره، {واذكر ربَّك كثيرًا وسبح بالعشي والابكار} (آل عمران:41).

 

بقي ثلاثة أيام بلياليها في بيت العبادة يذكرُ اللهَ ويسبحه، ولا يكلم بني إسرائيل وهو نبيهم ورسولهم، والقائم بشؤون دينهم، ولكنه أمْرُ الله وآيتُه لابدَّ وأن تظهر وتستوفي مدتها، وفي ذلك موعظة وذكرى لأولى الألباب.

 

ثُم ينتقل المشهد القرآني إلى مخاطبة الابن الصالح الذي تحققت بولادته آية الله، فها هو بعدما ولد يتلقى حكم الله في صباه قبل أن يبلغ مبلغ الرجال، وتلك آية أخرى وكرامة من الله لهذا المولود الكريم.

---------------------------

 

{يَا يَحيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَءَاتَينَاهُ الحُكمَ صَبِيًّا (12) وَّحَنَانًا مِن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَّكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيهِ وَلَم يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلاَمٌ عَلَيهِ يَومَ وُلِدَ وَيَومَ يَمُوتُ وَيَومَ يُبعَثُ حَيًّا (15)}

 

نداء من الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ لهذا المولود باسمه الذي اختاره الله له، وهذا النوع من النداء الذي يقرن باسم المنادى فيه تشريف وحفاوة بالمنادى يشعر به الناس فيما بين بعضهم البعض، وناهيك إذا جاء من الله عز وجل.

 

كذلك شرّف الله عبده حين كرَّمه وقرَّبه بهذا النداء الذي أمره فيه بأخذ الكتاب بقوة وعزيمة على الإيمان به كلِّه والعمل بجميع ما فيه، وأن يدعُوَ إلى ذلك قومَه بني إسرائيل، وفي إعداد الله عبده يَحيَى لأخذ الكتاب بقُوَّة استجابة لدعوة أبيه زَكَرِيَّاء الذي رغب إلى الله أن يهب له وَلِيًّا يرث عنه الكتاب والحكمة والقيام على قومه بنِي إسرائيل في رقابتهم وحملهم على العمل بما في الكتاب، وهذا الكتاب هو التوراة الذي جاء به موسى ـ عليه السلام ـ، وكان أنبياء بني إسرائيل يتوارثونه ويحكمون به ويدعون إليه، والقوَّةُ المقصودة هنا: ليست هي الإكراه والجبر، بل هي: العزيمة والصبر على الدعوة إليه والعمل بكل ما فيه، والصبر على أذى السفهاء من قومه، وقد كانوا يؤذون أنبياء الله ويقتلونهم، ثم إن الله تعالى أخبرنا أنه آتى يحيى الحكم صبيًّا، وذلك استجابة لعبده زَكَرِيَّاء الذي بلغ من الكبر عتيًّا، حتى يطمئن على ما خاف ضياعه من ميراث العلم والحكمة.

 

وإيتاء الحكم: يعني به إيتاء النبوة والوحي، أوحى الله إليه صبيًّا، كما أوحى إلى ابن خالته عيسى صبيًّا، وقد أعدهما الله إعدادًا خاصًّا لتلقِّي هذا الأمر العظيم في سن مبكرة، وزاده مع الحكم حنانًا في قلبه، وهو الخُلق العظيم الذي يكون سببًا لنجاح النبِي في دعوة قومه واجتذابهم إليه، والحنانُ: هو رِقَّة ورحمة وحب وعطف، تكون في قلوب من أعدهم الله لإرشاد عباده ورعايتهم، حتى يلتفوا حوله ولا ينفضوا عنه كما جاء في القرآن في وصف رسول الله مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران:159).

 

وجعله الله زكيًّا، والزكاء: هو الطهارة، طهارة النفس والروح، وطهارة القلب والبدن من الأدران والآثام، وكان تقيًّا لله مطبوعًا على التقوى، والتقوى: هي جماع الخير، وتكون في القلب فيصلح بصلاحه الجسد، وهي خشية الله ومراقبته واتقاء سخطه باجتناب الغفلة عن ذكره في حق أنبياء الله وأوليائه المقربين، وبهذه الأوصاف الثلاثة العظيمة: الحنان والزكاة والتقى، تحققت رغبة العبد الصالح زَكَرِيَّاء ـ عليه السلام ـ في كون ولده رضيًّا، فهو مرضي الأخلاق، مرضي الأقوال والأفعال، وهبة من الله من لدنه حفاوةً به وإكرامًا له ولأبيه، وحنانًا وزكاة وتقوى، وجعله برًّا بوالديه، وبِرُّ الولد بوالديه من أعظم نعم الله على الوالد والولد، وقد رفع الله مقام الأبرار وأجزل مثوبتهم وأثنى عليهم ثناء جميلا، فيا طوبى لهم وطوبى لهذا الولي الذي لا زال ثناء الله عليه يتعاظم في سرد هذه الأوصاف إثباتًا لطيِّبِها ونفيًا لخبيثها، ولم يكن جبارًا عصيًّا، نفى عنه الجبروت والمعصية؛ لأنها ليست من أخلاق الأنبياء والمرسلين.

 

{وَسَلاَمٌ عَلَيهِ يَومَ وُلِدَ وَيَومَ يَمُوتُ وَيَومَ يُبعَثُ حَيًّا}

 

ثلاثة أطوار من أطوار تقلبات الإنسان في الدنيا والآخرة وهي كلُّها أطوار ضعف يكون فيها أحوج ما يكون إلى الرحمة والسلام: يومَ ولادته ضعيفًا، ويوم موته وانتقاله وحيدًا من الدنيا إلى الآخرة، وما يتبع الموت من دخول القبر، ويوم يبعث يوم القيامة للحساب والجزاء، وهو أخطر الأطوار وأحوجها إلى السلام، والسلام: هو السلامة والمعافاة من كل مكروه وسوء، والموت مكروه لا بد منه، وسلامة يَحيَى فيه: هي تخفيف شدته وتهوين سكراته عليه، وجعل ما بعده خيرًا مما قبله، وسلامة البعث: هي استقباله بالبشارات بحسن المصير.

 

مريم: الآيات ( 16 - 40 ) قصة مريم وعيسى عليهما السلام

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمِْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)

------------------------------------

 

هكذا يذكر الكتاب في سياق عجيب القصة الثانية في هذه السُورَة، قصة مريم التي نُسبت السُورَة إليها وسميت باسمها؛ لبسط القصة فيها بتفصيل وهي أيضًا القصة الخامسة من القصص المتوالية في هاتين السورتين المتتاليتين: "سُورَة الكَهف، وسُورَة مريم"، قصة أصحاب الكَهف، وقصة موسى والخضر ـ عليهما السلام ـ وقصة ذي القرنين، ثم قصة زَكَرِيَّاء وقصة مريم وأمرهما عجيب كالتي في السُورَة السابقة، أسرار وحكم ربانية، وخرق لسنن الله في خلقه بإذن خالق الكون مدبر الأمر، ولله في خلقه شؤون، وما من قصة من هذه القصص إلاَّ وراءها أسرارٌ وأسرار، يولد ولد من غير أب، هذا أمر لَم يقع في الأرض في هذه البشرية منذ خلق آدم، ولن يقع حتى تقوم الساعة: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}(آل عمران:59).

 

ثم كانت قصة ولادة مريم من غير ذَكرٍ آية للعالمين، قال ـ تَبَارك وتعالَى ـ: {وجعلناها وابنها آية للعالمين} (الأنبياء:91)، لقد كان حملها بعيسى آية وامتحانًا من الله، وابتلاء لهذه البنت العذراء العفيفة المؤمنة؛ ليرفع الله درجتها في العالمين، ولم يذكر في القرآن امرأة باسمها غيرها، وذلك تشريف لها ورفع لمقامها بين نساء العالمين، جاء ذكرها في القرآن الكريم مكررًا ونوديت باسمها غير مرة.

 

{وَاذكُر فِي الكِتَابِ مَريَمَ إِذِ انْتَبَذَت مِنَ اَهْلِهَا مَكَانًا شَرقِيًّا}

 

واذكر يا مُحَمَّد في كتابنا مريم، هذه المرأة المصطفاة التي نشأت في بيت طاهر، واصطفى الله أهله على العالمين، كما اصطفى من قبل آل إبراهيم، نشأت في بيتها طاهرة وفي بيت المقدس، ذلك أن أمها نذرتها لله، لعبادته وخدمة بيته، {إذ قال امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررًا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم} (آل عمران:35)، نذرت امرأة عمران ما في بطنها لله ولخدمة بيته، وكانت ترجو أن يكون المولود ذكرًا كي يصلح لخدمة البيت، ولكن الله شاء أن يكون أنثى، ويتقبلها بقبول حسن، وينبتها نباتًا حسنًا يحفها بعنايته ولُطفه وأرزاقه، فنشأت في هذا الجو القدسي نشأة صالحة زكية، وأعاذها الله وذريتَها من الشيطان الرجيم، استجابة لدعوات أمها، والتعبير بالإنبات: تعبيرٌ فيه ما فيه من الروعة والبلاغة، لا سيما وقد وُصِف بالحُسن، فهو يوحي بعناية الله البالغة، وألطافه المتصلة التي لا تنفك عن مريم لحظة من اللحظات، وهي تنمو نمو النبات الحسن.

 

لقد كانت العناية من قبل الله تتولى كل شأن من شؤون مريم وإن كانت الكفالة الظاهرية من زَكَرِيَّاء، فقد ألقى الله القبول في قلوب ذويها فتنافسوا في كفالتها، واقترعوا بالأقلام يُلقونَها في نهر من ماء أيُّهم يكفل مريم، فجرف الماء أقلامهم إلاَّ قلم زَكَرِيَّاء فإنه جرى على عكس اتجاه الماء، وتلك إشارة من الله أنه هو الذي يكفل مريم، وهو زوج خالتها، وقيل هي أختها، فكفل هذا النبي الصالح القائم بالتوراة هذه العذراء البتول، ورأى عندها من الكرامات الربانية ما رأى، كان كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقًا، قيل كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، فيتعجب ويسأل: أنَّى لك هذا؟ فتقول: هو من عند الله، إنَّ الله يرزق من يشاء بغير حساب، ويبدو أن هذا الرزق يتجدد ويتنوع؛ لأن التعبير بالنكرة بعد: "كلما"، يدل على ذلك، ولأنه لو كان نوعًا واحدًا لظنه بقية الأول.

 

اذكر يا مُحَمَّد في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانًا شَرْقِيًّا، إذ اعتزلت أهلها، وقصدت مكانًا شَرْقِيًّا، لبيت المقدس، تفردت فيه بعيدة عن الناس، وما هي علة هذا الانتباذ؟

 

قيل: إنما ابتعدت عن المسجد الأقصى، واعتزلت عن محرابها فيه؛ لأجل الحيض الذي أتاها، وذلك أن حيضة أتتها قبل حملها بالمسيح، وهي في سن الثالثة عشرة.

 

وقيل: في الرابعة عشرة، وقيل أكبر من ذلك، عكفت في ذلك المكان البعيد أيام حيضها، ريثما تطهر ويزول الأذى فلما طهرت جاء أمر الله.

 

{فَأَرسَلْنَا إِلَيهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا}

 

أرسل الله إليها الروح جبريل ـ عليه السلام ـ فتمثل لها في صورة بشر سوي، تام الخلقة، جميل الصورة، حسن الهيئة، وقد يتمثل الملك بإذن الله في صورة آدمي.

 

{قَالَتِ اِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا}

 

ذُعرت المرأة الضعيفة، وخجلت وخافت منه سوءًا، فاستعاذت بالرحمن، وتصوروا كم تعظم دهشة امرأة تقية عفيفة تنشأ منفردة، في بيت العبادة في بيئة طاهرة لا يخطر السوء ببالها، كم تكون دهشتها عظيمة حين تجد بجانبها في خلوتها شابًا وسيمًا سَوِيًّا، كم يكون ذعرها شديدًا من هذا الفتى، فما أعظمها محنة من الله لمريم البتول بهذا الشاب الرسول، ولذلك ما لبثت أن نطقت بالاستعاذة ملتجئة بها إلى ربها الرحمن الذي لا راحم اليوم لضعفها سواه.

 

{قَالَتِ اِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا}

 

تذكره بالله إن كان تقيًا، أي فاجتنبني إن كنت متقيًا لله، وما تدري أن الله هو الذي أرسله إليها، وقال بعض المفسرين: {إِن كُنتَ تَقِيًّا}

 

أي ما كنت تقيًا، جعلوها نافية غير أني أرى الروعة في المعنى الأول؛ لأن الوعظ والتخويف به أبلغ، وهو نظير قوله تعالى: {يا أيها الذِّينَ آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} (البقرة:278).

 

{قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا}

 

أجابها قائلا: ما جئت إلاَّ مرسلا من الله ربُّك الذي أنبتك نباتًا حسنًا، ورزقك وحفَّك بألطافه.

 

اختيرت الإضافة إلى الرب ليذكرها بنعمه وألطافه، ولتعلم أن هذه الهبة من جملة نعمه، ورزقه فلتتقبلها من الله برضا وصدر منشرح، والواهب هو الله، وما المَلَكُ إلاَّ مبلغ للهبة حامل لها وفي بعض القراءات: {لِيَهَبَ} لك ولدًا ذكرًا زكي النفس والقلب، صالح الأفعال مَرضِيًّا.

 

{قَالَتَ اَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَّلَم يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَّلَمَ اَكُ بَغِيًّا}

 

تعجبت وقالت كيف يكون لي غلام ولم يمسسني بشر؟ إنها لا عهد لها بالأمور الجنسية، ولكن الصدمة أثارتها فتكلمت ولم تصرِّح، وكَنَّت بالمسيس عن الجماع حياء منها، وبما أن المسيس يشمل الحلال والحرام وهي لم يسبق لها زواج زادت فصرحت بنفي النوع الثاني منه وهو الحرام، والبغي: هي المرأة الزانية، نفت عنها البغاء تشبثًا بعفافها، وهو كلام يدل على شدة وقع الصدمة على هذه المرأة المسكينة في محنتها هذه، ولولا دهشتها لأدركت أن الغلام الزكي الذي يأتي هبة من الله لا يكون بطريق البغاء، ولكنها الدهشة المفاجئة أنطقتها بما نطقت به.

 

{قََالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَّلِنَجعَلَهُ ءَايَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَّكَانَ أَمرًا مَّقضِيًّا}

 

قال لها الملَك: كذلك قال ربك، أي هو قول ربك وحكمُهُ، وأمره لا بد مقضي، ذكَّرها بالله وبقوله، لتعلم يقينًا أن الهبة من الله، وأن الأمر أمره حتى تطمئن إلى قول الله وأمره، ويسكن روعها، وتذهب عنها الهواجس، فليس ثمة ما ينكر، وأضيف القول إلى الرب، كما أضيفت الرسالة إليه من قبلُ، تذكيرًا لها بربها الذي سبق إحسانه إليها، فلتطمئن إليه فإنه لا يخزيها.

{قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ }

 

هذا الأمر الذي تتعجبين منه هيّن سهل ميسور في إرادة الله وقوته.

{وَّلِنَجعَلَهُ ءَايَةً لِلنَّاسِ}

قال الله تعالى: لنجعل هذا الأمر آية للناس، تُريهم قدرة الله على خرق سننه في الخلق متى شاء، فليست السنن المطردة إلاَّ بأمره وقدرته، وربما يظن كثير من الناس أن جريان الأمور على سننها حتم لا يمكن تغييره، ويغفلون عن قدرة الخالق المدبر الحكيم الفعال لما يريد، فاقتضت حكمة الله أن يُريَهم في بعض الأحيان بعض الخوارق التي تجري على خلاف ما يعتادونه؛ ليعلموا أن الله هو الذي أجرى هذه الأمور على سُنَن خَلَقَها وأرادها، وأن الله متى شاء خرقها وغيّرها، وفي ذلك تنبيه من الله عظيم للناس، إن كل شيء بإرادة الله وأمره، لا يعجزه شيء، ولا يستحيل في إرادته شيء.

 

{وَّلِنَجعَلَهُ ءَايَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا}

 

كان هذا الأمر بإرادة الله آية للناس ورحمة من الله، نعم رحمةٌ من الله لخلقه أن يرسل إليهم غلامًا زكيًا من امرأة زكية عابدة، من بيت اصطفاه الله، ليدعوهم إلى الله، وليخرجهم من الظلمات إلى النور.

{أَمرًا مَّقضِيًّا}

 

هو أمر قضاه الله وقدَّره، وأمر الله لابدَّ واقع لا رادَّ لأمره ولا معقب لحكمه، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، نعلم أن الله على كلَّ شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا، قُضِي أمر الله بما أراد وقدره.

{فَحَمَلَتهُ فَانتَبَذَت بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا}

 

لا ندري كيفية حمل مريم لهذا الجنين، وإن كان بعض المفسرين ذكروا أن جبريل ـ عليه السلام ـ نفخ في جيب درعها، وليس في القرآن ذكرٌ لِهذا، ولو تعلق به غرض لذكره الله تعالى، وأسند الله النفخ إلى نفسه في موضع آخر من القرآن، ففي سُورَة التحريم {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتابه، وكانت من القانتين} (التحريم:12)، وفي سُورَة الأنبياء: {والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها ءاية للعالمين} (الأنبياء:91)، وكذلك يقول عز وجل في خلق أبينا آدم: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} (الحجر:29)، ولا يفسِّر القرآن مثل القرآن، فلنؤمن بهذا النفخ، ولنترك السؤال عن الكيفية، والروح من أمر ربي وما أوتينا من العلم إلاَّ قليلا.

 

حملت مريم بعيسى ومضت تلتمس مكانًا بعيدًا عن قومها تنفرد فيه بعبادة ربها، ولا يعلم إلاَّ الله ما في ضميرها من الخواطر بهذا الحمل الذي سيولد من غير أب، ماذا تكون أقوال الناس فيه؟ ولكنها تفوض أمرها أخيرًا إلى ربها، وهو الذي يجعل لها من أمرها يسرًا، وهي مُصدِّقة بكلمات ربها وكتابه، مؤمنة قانتة لله، خاضعة له خاشعة تملأ به وجدانها فليس للشيطان إليه سبيل.

 

{فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذعِ النَّخْلَةِ قَالَت يَا لَيتَنِي مِتُّ قَبلَ هَذَا وَكُنتُ نِسيًا مَّنسِيًّا}

 

أجاءها فعل رباعي من "أجاء" مزيد بالهمزة، أي ألجأها المخاض ـ مقدمات الوضع ـ وهي حالة تعرفها الحوامل، تحس فيها أن ما في بطنها على وشك الخروج، لما أحست ذلك التجأت إلى جذع النخلة، وكأنها نخلة كانت معروفة عندهم وليس البلد بلد نخل، ولذلك عُرِّفت بالألف واللام، التجأت إليها لتمسك بجذعها عند الطلق لعلّها تجد بذلك قوة تعينها على الولادة، وما تدري أن الله قد جعل لها على رأس هذه النخلة المباركة رُطبًا يكون لها أفضل غذاء وأنفعه، ركضت هنالك وحيدة وفي قلبها ما الله به عليم من الهواجس.

 

ها قد أصبح الأمر حقيقة واقعة، وها هو المولود سيستهل بعد لحظات، فماذا تقول لقومها، ومن يصدقها منهم؟ إنه أمر عظيم أحست به مريم وهي راكضة للولادة.

 

{قَالَت يَا لَيتَنِي مِتُّ قَبلَ هَذَا وَكُنتُ نِسيًا مَّنسِيًّا}تَمنت أن تكون ماتت قبل هذه الحالة، وكانت خرقة من ثوب بال مرمية منسية، إنها صدمة عنيفة هي من الله محنة وبلاء مبين لهذه المرأة التي أراد الله أن ينقي عنصرها، ويرفع درجاتها عنده حتى تكون أفضل نساء العالمين، ويريد الله أن تكون محلا لظهور هذه الآية العظيمة التي ستبقى ما بقي الزمان، يتناقلها الناس، ويهتدون بها إلى قدرة الله الفعال لما يريد، لقد كان الله حَفِيًّا بمريم، فلم يتركها في هذه الحيرة طويلا، فما إن خرج منها المولود الذكر، وصار حقيقة واقعة حتى خاطبها بلسان فصيح خطابًا تفهمه، يزيل عنها الحزن ويسري عنها ما بها من الحيرة والاضطراب.

---------------------

 

{فَنَادَاهَا مِن تَحتِهَا أَلاَّ تَحزَنِي قَد جَعَلَ رَبُّكِ تَحتَكِ سَرِيًّا وَّهُزِّي إِلَيكِ بِجِذعِ النَّخلَةِ تَسَّاقَط عَلَيكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وِاشرَبِي وَقَرِّي عَينًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرتُ لِلرَّحْمَنِ صَومًا فَلَنُ اكَلِّمَ اليَومَ إِنسِيًّا}

 

كانت هذه الكلمات التي خاطبها بها ولدها بصوت مرتفع في تعبير فصيح تفهمه جيدًا وتأنس إليه.

{فَنَادَاهَا مِن تَحتِهَا} أي في ساعة الولادة، وبعدها مباشرة جاءت {أَنْ}: وهي تفسيرية، {لا تحزني}: أزيلي عنك الحزن وسري عن قلبك، فإن ربك سيجعل لك من أمرك يسرًا، فاشتغلي بطعامك الذي هيأه الله لك، ولا تشتغلي بما وراءه فإن الله معك ولن يخزيك.

 

{قَد جَعَلَ رَبُّكِ تَحتَكِ سَرِيًّا}

 

وهنا تأتي كلمةُ الرب التي تدل على التربية والعناية والكفالة والحفظ، مضافة إليها تذكيرًا لها على ما سلف من إحسان الله إليها، وكما أحسن الله فيما مضى كذلك يحسن فيما بقي، ما دامت تعبُده وتتوكل عليه.

 

{قَد جَعَلَ رَبُّكِ تَحتَكِ سَرِيًّا}

 

قد خلق ربك وأنبع لك سَرِيًّا: أي نهرًا صغيرًا، تحتك قريبًا منك، وخلق لك الرطب في النخلة قريبًا منك، فما هو إلاَّ أن تهزي إليك بجذع النخلة حتى يتساقط عليك الرطب الجني، الرطب الناضج المتهيئ للأكل، فكلي منه واشربي من السري العذب، وقري عينًا، وانبذي عنك المخاوف والأحزان، أربع كرامات تتحقق لهذه المرأة القصَّية عن قومها، ولكن الله معها فهو عندها يهيئ لها من أمرها مرفقًا.

 

الكرامة الأولى: إن الله أنطق لها وليدها تحتها في لحظة الولادة؛ ليطمئن قلبها، ويزيل ما به من خوف وحزن.

الكرامة الثانية: إن الله خلق لها على رأس النخلة رطبًا جنيًا، وليس البلد بلد نخل وتمر، ولا الوقت وقت جني الرطب.

الكرامة الثالثة: إن الله أنبع لها سَرِيًّا من ماء، وما كان موجودًا من قبل.

 

الكرامة الرابعة أنها تهز جذع النخلة فيطاوعها ويلقى عليها الرطب الجني الكثير، وهذا يفهم من قوله: {تَسَّاقَطْ} عليك رطبًا جنيًا، فكأن النخلة كلُّها تَسَّاقَطُ رطبًا لكثرته، ولم يقل يَسَّاقَطُ الرطب وهذا المعنى يدركه أهل البلاغة.

 

ثم إن الله اختار لها الرطب، ولو شاء لساق لها رزقًا غيره؛ وما ذلك إلاَّ لأن الرطب أوفق طعام لها ولوليدها تحنكه به وهذا ما يقرره الأطباء، ثم إن الله كلّفها أن تهز جذع النخلة؛ وما هذا إلاَّ لأن حركتها أرفق بها، وليعلَّمنا الله أن التسبُّب في طلب الرزق عبادة، وأن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، وأن تظهر معجزته وقدرته بمطاوعة جذع النخلة الغليظ لسواعد امرأة نفساء ضعيفة، ولعل هناك كرامات غير هذه لم تذكر فقد يكون يسَّر عليها أمر الولادة، وخفّف عليها آلام الوضع، والله على كل شيء قدير، أطعمها الله وسقاها ثم أرشدها إلى أمر تعتصم به عند مقابلة أهل بلدها، حتى ترجع إليهم وهي تحمل طفلها.

 

{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرتُ لِلرَّحْمَنِ صَومًا فَلَنُ اكَلِّمَ اليَومَ إِنسِيًّا}

 

إن رأيت أحدًا من الناس عند رجوعك إلى قومك فقولي: إني نذرت صومًا لله: أي صومًا عن الكلام، فلن أكلم اليوم إنسيًّا، اختار لها كلمة النذر حتى يحترم قومها نذرها؛ لأنهم مؤمنون يعلمون حرمة النذر، والصوم المقصود هنا هو الإمساك عن الكلام، وليس الصوم عن الطعام والشراب؛ لأن القرآن بينه وربطه بالفاء التفسيرية، ولأنه لا يشرع لامرأة نفساء أن تصوم فرضًا ولا نفلا.

--------------------------

 

{فَأَتَت بِهِ قَومَهَا تَحمِلُهُ قَالُوا يَا مَريَمُ لَقَدْ جِئتِ شَيئًا فَرِيًّا (27) يَا أُختَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوءٍ وَّمَا كَانَتُ امُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتِ اِلَيهِ قَالُوا كَيفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبدُ اللهِ ءَاتَانِيَ الكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا اَينَ مَا كُنتُ وَأَوصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَم يَجعَلنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَومَ وُلِدتُ وَيَومَ أَمُوتُ وَيَومَ أُبعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابنُ مَريَمَ قَولُ الحَقِّ الذِّي فِيهِ يَمتَرُونَ (34)}

 

فرجعت إلى قومها قادمة إليهم من المكان القصي، وهي تحمل طفلَها الصغير متوكلة على ربها معتصمة به.

{قَالُوا يَا مَريَمُ لَقَد جِئتِ شَيئًا فَرِيًّا}

 

نادوها باسمها؛ لأنهم عرفوها يقينًا، ورأوها تحمل الولد وترضعه، قالوا لها: قد جئت أمرًا عظيمًا فظيعًا ولا أفظع من ولادة من غير زواج، وما عهدوا ولا سمعوا منذ أبيهم آدم ولدًا من غير أب، فلم يخطر ببالهم إلاَّ أسوأ الظنون، ولذلك أردفوا قائلين لها

 

{يَا أُختَ هَارُونَ}

 

تكلم أهل التفسير في هارون هذا المذكور في الخطاب، ولا نعلم لها أخًا من النسب اسمه هارون، ولو نعلمه لكان هو المقصود، بل قال المفسرون: "إنه رجل صالح من قومها شُهِرَ بالعفاف والبر والتقى"، وكان الناس يتبركون بتسمية أبنائهم باسمه، حتى قيل: "إنه لما مات حضر جنازته أربعة آلاف شخص اسمهم هارون"، فنسبوها إليه بأخوَّة الدين والشبه في العبادة والصلاة والتبتل، وقال بعضهم ـ وأرى هذا القول سخيفًا ـ: "إنما قصدوا اتهامها بشخص اسمه هارون كان مريبًا عندهم"، ولا أرى هذا.

 

ولا مانع أن تكون هذه الأخوَّة نسبة لقبيلة مريم إن كانت من ذرية هارون أخي موسى ـ عليهما السلام ـ، وفي التعبير العربي الشائع إذا أرادوا نسبة شخص إلى عشيرة قالوا يا أخا بني فلان، وقد يحذفون البنوَّة ويلغونها، وينسبون إلى اسم القبيلة أو العشيرة الذي هو اسم جدِّهم فيقولون مثلا: "يا أخا العرب"، "يا أخا قريش"، "يا أخا هذيل"، وهذا مستعمل كثيرًا في كلامهم.

 

{مَا كَانَ أَبُوكِ امْرأَ سَوْءٍ وَّمَا كَانَتُ امُّكِ بَغِيًّا}

 

عرف الناس معنى الوراثة منذ القدم، ولذلك تعجبوا من مريم أن يصدر منها هذا وهي بنت الأطهار الأعفة الأبرار، قالوا لها: ما عُرف أبوك بالفجور، وما كانت أمك زانية، فمن أين أُصِبْتِ بهذا الخُلق الرديء الفاضح، ومن أين جئت بهذا الولد؟

{فَأَشَارَتِ اِلَيهِ}لَم تكلمهم، وقد قالت لهم من قبل: {إِنِِّي نَذَرتُ لِلرَّحْمَنِ صَومًا فَلَنُ اكَلِّمَ اليَومَ إِنسِيًّا}، فأشارت إلى الولد وهو يرضع، أي كلِّمُوا هذا واسألوه، فتعجبوا من إشارتها وقالوا:

 

{كَيفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهدِ صَبِيًّا}

 

أتهزئين بعقولنا؟ كيف نكلِّم صبيًّا في المهد ولا يفعل هذا عاقل؟ قيل: كان الصبي يرضع ثدي أمه، فلما أشارت إليه ترك الثدي والتفت إليهم متكئًا على اليسرى مشيرًا بسبابته اليمنى مخاطبًا لهم بلسان فصيح:

-------------------------

 

{قَالَ إِنِّي عَبدُ اللهِ ءَاتَانِيَ الكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَّجَعَلَنِي مُبَارَكًا اَينَ مَا كُنتُ وَأَوصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَم يَجعَلنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَومَ وُلِدتُ وَيَومَ أَمُوتُ وَيَومَ أُبعَثُ حَيًّا}

 

كان هذا الكلام المتزن المعقول المفهوم الذي خاطبهم به الصبي الرضيع الذي ليس من شأنه الكلام، ولا يعهد من مثله الكلام، فالكلام من مثله آية بينّة ومعجزة كبرى من الله، ليريهم الله أنه على كل شيء قدير، وأن مريم بريئة مما يتهمون، وأن طفلها مبارك ونبي، وسلام الله عليه أينما حلَّ وارتحل، ولا يكون هذا لِوَلَدِ بِغَاء، ولذلك سكتوا عن مريم وآمنوا بأمر الله الذي أظهره من هذه العذراء البتول، ولم يشك في أمرها إلاَّ المنافقون والذِّينَ في قلوبهم مرض، ولم يسلم من مثل هؤلاء نبيٌّ ولا رسولٌ، أما المؤمنون فازدادوا بهذه الآية إيمانًا وقد علِمُوا أنما أمرُ الله إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون.

{قَالَ إِنِّي عَبدُ اللهِ}

 

بدأ بهذا الوصف الذي هو العبودية المحضة لله ـ تَبَارك وتعالَى ـ، حتى ينفي كل شبهة يتمسك بها من يزعم أنه إله في زمانه، أو بعد زمانه فما أبعد العبودية عن صفات الألوهية، تعالى اللهُ عما يقول المبطلون علوًّا كبيرًا، إن عيسى بن مريم عبد مخلوق خاضع متذلل لربه معترف بعبوديته له غير مستنكف عن ذلك، هذا كلامه عند أول نطقه وهذا اعتقاده ودينه ما دام حيًّا، وسيكون هذا كلامه بعد مبعثه، وعند وقوفه بين يدي ربه يوم القيامة، إن ربنا لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤًا احد، ما اتخذ صاحبة ولا ولدًا.

 

{قَالَ إِنِّي عَبدُ اللهِ ءَاتَانِيَ الكِتَابَ}

 

الكتاب المقدس: التوراة ورثه عمَّن قبله من أنبياء بني إسرائيل، والإنجيل نزل عليه مكمِّلا للتوراة، فالكتاب هنا يعني به جنس الكتاب.

 

{وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}

 

جعله الله نبيًّا يوحى إليه كما أوحي إلى النبيّين من قبله.

 

{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا اَينَ مَا كُنتُ}

 

وجعله مباركًا، أينما حلَّ كانت البركة، فهو مبارك في بطن أمه، مبارك عليها، مبارك ساعة ميلاده، مبارك على قومه، يُبرِئ الأكمه والأبرص ويُحيِي الموتى بإذن الله، مبارك عليهم يهديهم الصراط المستقيم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور لِيَنجُوا من سخط الله، وليُزَحزَحُوا عن النار، ويدخلوا الجنّة، وذلك هو الفوز المبين، فما أعظم بركة الله عليه وعليهم ببعثه فيهم.

 

{وَأَوصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمتُ حَيًّا}

 

قال أوصاني الله بالصلاة والزكاة ما دمت حَيًّا، أي أمره بإقام الصلوات المفروضات، وأداء الزكوات ما دام على قيد الحياة، وهذا بلاغ من الله للمكلفين أن الصلاة فرضت على المكلفين مدى الحياة، ليست هنالك حالة تسقط فيها عنهم ولو في حالة قتال الأعداء في الميدان، فإنها تؤدَّى حسب الإمكان {فإن خفتم فرجالا اَو ركبانًا} (البقرة:239)، وكذلك الزكاة تؤدَّى إذا بلغ المال النصاب، وتجب في أموال الصغار والكبار والعقلاء والمجانين لا تسقط عنهم مدى الحياة، والوصية من الله أمر مؤكد واجب فعله، من تركه كان آثِمًا متعمدًا لمخالفة أوامر الله يستحق العقوبة من الله.

 

{وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَم يَجعَلنِي جَبَّارًا شَقِيًّا}

 

وجعلني ربي برًّا بوالدتي، والبرُّ: هو الإحسان وفعل الخير، أثبت صفات البر، ونفى الجبروت والشقاء، والجبروتُ: هو الكبر والظلم وغلظ القلوب، والشقاءُ: التنكُّب عن طريق البر وسلوك طريق الشر والفساد، هذه صفات نطق بها المسيح وهو صبي في المهد، طبع عليها منذ تكوينه الأول، وستظهر فيه عندما يبلغ مبلغها، وذلك مثل النبوة والكتاب والصلاة والزكاة والبر، ومن المفسرين من فسر الزكاة بزكاة النفس وطهارتها؛ لأن المسيح لم يمتلك مالا تجب فيه الزكاة، ولا مانع عندي أن تكون الزكاة وهي الحقيقة الشرعية للزكاة، وهي فرض عليه وعلى من اتبعه من أمته، فهو وإن لم يؤدها مؤمن بها، ناوٍ أداءها لو كان يملك نصابها.

 

{وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَومَ وُلِدتُ وَيَومَ أَمُوتُ وَيَومَ أُبعَثُ حَيًّا}

 

السلام معناه السلامة من الآفات، والسلم الذي هو ضد الحرب، وهو اسم من أسماء الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ؛ لأنه الحفيظ العليم الذي إن كتب السلامة لعبد من عباده فلن يستطيع أهل الأرض والسماوات أن ينالوه بمكروه، والسلام تحية أهل الجنة من ربهم ومن الملائكة، وتحية أهل الجنة بعضهم لبعض.

 

وإذا أردنا فهمَ السلام يومئذ حق الفهم فبالمقابلة بضده وهو العذاب، ففي سُورَة طه {إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى} (طه:48)، وذلك بعد قوله: {والسلام على من اتبع الهدى} (طه:47)، فالسلام ضد العذاب، وهو الرحمة والنجاة والفوز بالنعيم المقيم، لقد أنطق الله المسيح بالحق، فأخبر أن السلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيًّا، وهي الأطوار الثلاثة التي يكون الإنسان فيها أحوج ما يكون إلى السلام، فما أضعف الإنسان يوم ولادته، وما أضعفه المسكين يوم موته، وما أضعفه وأحوجه إلى الرحمة والسلام يوم يبعث حيًّا، وتطالعه أهوال يوم القيامة، وقد رحمنا الله في الأولى، ونسأله أن يرحمنا ويسلمنا في الثانية والثالثة، وفي هذه الصفات الثمانية التي نطق بها الصبي المبارك، ووصف بها نفسه ردٌّ على الجانين من الكفار، وتكذيب لهم في دعواهم.

 

-الغالين في بغضه، والمتهمين لأمه بالزنا، المحاولين لقتله بعد ذلك، إذ الأوصاف هذه لا تنطبق على ولد غير شرعي.

-والغالين في تقديسه، ومن جعله إلَهًا، إذ الأوصاف هذه لا يوصف بها الإله، فهي لا تكون إلاَّ لمخلوق ضعيف يولد ويموت ويبعث، والله جل وعلا أولده وأماته وسوف يبعثه تقدست أسماؤه لا تناله هذه الأوصاف المتحولة، {لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤًا اَحد} (الإخلاص:03-04).

 

فما أحكم كلام الله، وفيها بشارة لأمه ولمن آمن به من قومه.

-----------------------

 

{ذَلِكَ عِيسَى ابنُ مَريَمَ قَولُ الحَقِّ الذِّي فِيهِ يَمتَرُونَ}

 

{ذَلِكَ}، إشارة إلى نبي الله وعبده عيسى ابن مريم الذي اختلفت فيه الأهواء، قول الحق من إله الحق، لو اتبعوا الحق ما تشتتت بهم الأهواء، {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والارض ومن فيهن} (المؤمنون:71).

{مَا كَانَ للهِ أَن يَّتَّخِذَ مِن وَّلَدٍ سُبحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35)}

 

ما كان لله أن يتخذ من ولد، نفيٌ للشأن، وهو أبلغ في النفي، أي ليس من شأن الله أن يكون له ولد، سبحانه تنزه على الولد، وتقدس وتعالى عن الصاحبة والولد علوًّا كبيرًا، وهذا ردٌّ على الذِّينَ يزعمون أن المسيح ابن الله، وما المسيح إلاَّ عبدٌ لله سبحان ربك رب العزة عما يصفون.

 

إذا قضى أمرًا وأراده يقول له: {كُن فَيَكُونُ}، وليس ثمة قول، فلا كاف ولا نون، بل هي إرادة الله وقدرته إذا تعلقت بشيء كان كما أراد في الوقت الذي يريد، خلق المسيح من غير أب بإرادته وقدرته، كما خلق آدم من قبل من غير أب ولا أم بإرداته وقدرته.

 

{وَأَنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُم فَاعبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّستَقِيمٌ (36)}

 

تُوصَل هذه الجملة بالواو عطفًا على الجمل المفصولة السابقة التي بينهما كمال الاتصال، وهي كسوابقها من كلام المسيح ـ عليه السلام ـ، وهذا الذي أراه ويراه "أبو مسلم"، وجملة من المفسرين، فهي معطوفة على الجمل التي نطق بها المسيح من قبل ليُثبِتَ لقومه: أنه مثلهم عبدٌ لله، وليس بإله، وأن الله ربه وربهم، فليعبدوه مخلصين له الدين، وليوحِّدُوه بالعبادة، ولا يشركوا به شيئًا، هذا هو الصراط المستقيم لا اعوجاج فيه ولا ضلال، بهذه الجملة يختم المسيح كلامه لقومه، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، هذا الذي أرجحه، وهذا ما يتفق مع قول المسيح يوم القيامة حين يسأله ربه ويجيبه، ومن جملة كلامه يومئذ {ما قلت لهم إلاَّ ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم، وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم} (المائدة:117).

 

ويقول بعض المفسرين إن هذا ليس من كلام المسيح، وإن كلام المسيح انتهى عند قوله: {وَيَومَ أُبعَثُ حَيًّا}، فالآية عندهم من جملة سائر القرآن ويقدر فيها: "قُل"، أي قل يا مُحَمَّد: {وَأَنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُم فَاعبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّستَقِيمٌ} وكلٌّ يصحُّ، والوجه الأول أوضح وأتم لكلام المسيح ـ عليه السلام ـ، وألزم للحجة على النصارى الذِّينَ يدَّعون ألوهية المسيح، ورد على جميع من يتخذ من دون الله شفعاء، حتى الذِّينَ يعكفون على قبور الأولياء، يتخذون عندها السرج، ويبنون عندها القباب والمحاريب والأنصاب، يذبحون عندها وينذرون يطلبون عندها الحاجات، ويستدفعون البلايا والآفات، وكل ذلك شرك والله بريء مما يفعلون.

 

{وَأَنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُم فَاعبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّستَقِيمٌ}الله ربنا وخالقنا ومربينا، فهو الذي يستحق عبادتنا، ومن يستحق العبادة غير الرب الخالق الرزاق المحيِي المميت؟!، إن عبادته وحده هي الصراط المستقيم الذي يهدي إلى الحق، وهو الصراط الذي دعت إليه أنبياء الله ورسله من لدن أبينا آدم إلى خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ وعليهم أجمعين، وهو الصراط المستقيم الذي علّمنا الله أن ندعوه ليهدينا إليه، والدعاء في سُورَة الفاتحة، وهي أم الكتاب التي لا تصح الصلاة إلاَّ بها، وهي السبع المثاني {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذِّينَ أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} (الفاتحة:06-07).

---------------------------

 

{فَاختَلَفَ الاَحزَابُ مِن بَينِهِم فَوَيلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشهَدٍ يَومٍ عَظِيمٍ (37)}

 

الجملة مربوطة بالفاء السببية؛ لأن الاختلاف بين بني إسرائيل، إنما وقع بعد مبعث عيسى ـ عليه السلام ـ، والحال أنهم لو أنصفوا واستمعوا وأطاعوا ما وقع بينهم خلاف، اختلفوا بعد ميلاده وبعد مبعثه، وازدادوا خلافًا بعد رفعه، اختلف الأحزاب من بينهم، قال: {مِن بَينِهِم}، ولم يقُل: "بينهم"؛ لاشتداد الخلاف وتشعب الأهواء، فهم أحزاب متعددة لا حزبان، منهم من ادَّعَى ألوهيَّته، ومنهم من أبغضه واتهم أمه العذراء البتول، وأحزاب أخرى، جاء المسيح فوجدهم حرَّفوا الكلم من بعد موضعه وبدَّلوا وغيروا؛ يكتبون الكتاب بأيديهم، ثم يقولون هذا من عند الله وما هو من عند الله، فبيّن لهم وجه الحق فيما اختلفوا فيه، ونفى التحريف والتغيير الذي أدخل على التوراة، وأحل لهم بعض الذي حرم عليهم، وما حرَّمه التوراة، بل حرمه أحبارهم فأبغضوه وحاولوا قتله.

 

{فَوَيلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشهَدٍ يَومٍ عَظِيمٍ}

 

ويل للذين كفروا بالمسيح وبغيره من الرسل، ولم يتبعوا النور الذي أنزل معه، ويل لهم من مشهد يوم عظيم يشهدونه ويشهده الأولون والآخرون، وتشهده الملائكة ويأتي فيه أمر ربك، وهو يوم عظيم في مشهده وأهواله، عظيم في أنواع جزاء الناس فيه، لهم الويل فيه: وهو العذاب الأليم، لا مفر لهم منه ولا خلاص وما لهم من ناصرين، وهو يوم لا ينفع فيه نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا.

 

{اَسمِعْ بِهِم وَأَبصِرْ يَومَ يَاتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ اليَومَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (38)}

 

ما أرهف أسماع الذِّينَ كفروا! وما أحد أبصارهم! يومئذ حين يرون العذاب بأعينهم، ويسمعون زفير جهنم وتغيُّظَها بآذانهم، حينئذ يرون الحقَّ، ويستمعون القول وهم اليوم عن الحق عمون، وعن سماعه متصاممون، ما أسمعهم للحق وما أبصرهم له يوم يأتوننا، يوم لا ينفعهم سمع ولا بصر ولا إيمان، وهذا محطُّ العجب أن يعموا عن الحق ويصموا عنه اليوم، ولو سمعوا وأبصروا لنفعهم، وإن يسمعوا ويبصروا اليوم لا ينفعهم ذلك، وهذا زجر لهم عن كفرهم وضلالهم، وتخويف من الله لهم من سوء مصير الكافرين الظالمين.

 

{وَأَنذِرهُم يَومَ الحَسرَةِ إِذْ قُضِيَ الاَمرُ وَهُم فِي غَفلَةٍ وَّهُم لاَ يُومِنُونَ (39)}

 

أي خوِّفهم من يوم القيامة الذي هو يوم الحسرة على الكافرين؛ لأنهم يرون العذاب محقّقًا، ويدركون أن سبب استحقاقهم له إنما هو تفريطهم وعدم إيمانهم، فيستحسرون: أي يتندمون على ما فرطوا في جنب الله، ينادُون بالويل والثبور، ويتقطعون حسرات ويعضون على أيديهم، وفي وصفه بـ: {يَومَ الحَسرَةِ} تصوير بليغ لشدته وهوله، فهو يوم الحسرة الكبرى؛ ذلك لأنهم يعلمون أنهم فرطوا، وأنهم أضاعوا كل شيء، فلا ينفعهم اليوم ندمهم، ولا يؤذن لهم فيعتذرون {فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين} (فصلت:24)، أما اليوم فهم في غفلة وهم لا يؤمنون، طغت عليهم أهواؤهم وطالت في الدنيا آمالهم، فهم عن الآخرة هم غافلون، وهم بآيات الله البيّنات لا يؤمنون، في الآية موعظة بليغة وبيان لمصير الغافلين المعرضين وقد قضي الأمر، وانتهى كل شيء، فلا مطمع في الرجوع، ولا في المراجعة، قضي الأمر ومات الموت.

 

عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ: "يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي به منادٍ: يا أهل الجنّة فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟، فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادي منادٍ: يا أهل النار فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟، فيقولون نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيذبح بين الجنة والنار ثم يقول: يا أهل الجنّة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون} وأشار بيده إلى الدنيا". رواه البخاري ومسلم والنسائي.

 

{إِنَّا نَحنُ نَرِثُ الاَرضَ وَمَن عَلَيهَا وَإِلَينَا يُرجَعُونَ (40)}

هكذا يختم هذا السياق بهذا التذييل الغريب الذي يحمل الحقيقة الثابتة، وهي أن مرجع الأمور كلها إلى الله، وهم إليه يوم القيامة يرجعون مجردين مما خولهم الله من متاع الحياة الدنيا، كان التذييل بهذه الحقيقة؛ لأن الله الخبير بعباده علم أن سبب كفر الكافرين والمنافقين وغفلتهم وعدم إيمانهم، إنما هو لأجل تعلقهم بالدنيا فقد فتنوا بزينة الأرض وأطغاهم الملك والمال والجنود، فأعرضوا عن الآخرة، فهم صُم عُمي بُكم، فأنبأهم الله بهذا النبأ العظيم؛ لعلّه يزجرهم عن غفلتهم ويردعهم عن غيهم.

 

{إِنَّا نَحنُ نَرِثُ الاَرضَ وَمَن عَلَيهَا}

 

إنا نحن الوارثون للأرض وما عليها، وما فيها ومن عليها من الناس، إنه مالك كل مَن عليها وما عليها، ولا يبقى إلاَّ وجه ربك ذو الجلال والإكرام، فهو الذي خلق الأرض وما فيها وما عليها ومن عليها، وهو الذي يرثها أخيرًا، ومن عليها بعد هلاك كل شيء وفناء كل شيء، ثم إليه المصير ليوم الحساب فلا يفلت منهم أحد.

 

{وَإِلَينَا يُرجَعُونَ}

 

هكذا، بتقديم ما حقه التأخير ليفيد الحصر، وبِنُون العظمة يأتي الحكم النهائي من الله ملك يوم الدين أن مرجع هؤلاء الغافلين إلى الله يوم القيامة، يوم يضع الموازين القسطَ، فلا تظلم نفس شيئًا، ومن ذا الذي يعقب هذا الحكم المحكم؟ ومن ذا الذي يفلت من هذا القضاء المبرم؟ ومن ذا الذي يتغيب عن هذا المصير الذي يرجعون إليه حتمًا؛ ليمثلوا أمام المحكمة الإلهية العادلة؟ إنها آيات عجيبة مؤثرة، وأحكام مبرمة، وحقائق ثابتة لا مفر منها، فلا ملجأ من الله إلاَّ إليه!

 

مريم: الآيات ( 41 - 50 ) قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)

------------------------

 

بعد قصة مريم والمسيح ـ عليهما السلام ـ تأتينا من الله العلي الكبير هذه الآيات البينّات في ذكر إبراهيم خليل الرحمن ـ عليه السلام ـ، ومحاورته لأبيه آزر وبين القصتين مناسبة متينة، ذلك أن كلا القصتين تعالجان موضوع الدعوة إلى توحيد الله تعالى، ونفي الصاحبة والولد والشريك بحجج واضحة، تعالى الله عن الصاحبة والولد والشريك علوًّا كبيرًا.

 

في الآيات الأولى ردٌ على المشركين من النصارى، وبيان للحق في مريم والمسيح عليهما السلام، وفي الآيات التاليات ردٌّ على قريش وعرب الجزيرة الذِّينَ يتخذون الأوثان والأصنام، يعبدونهم من دون الله، ويحبونهم كحب الله، ثم يزعمون أنهم على دين إبراهيم، ويفتخرون بالانتساب إلى إبراهيم فتبيّن لهم الآيات البيّنات أن أباهم إبراهيم كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين، فهو بريء من الشرك والشركاء ومن الذِّينَ يعبدونهم.

 

ويأتي الأسلوب في غاية الأدب والتلطف، وذلك ما يقتضيه محاورة الابن للوالد لا سيما والخطاب من إبراهيم الحليم الأواه المنيب، فلتكن صيغة المناداة والمحاورة درسًا لشبابنا في حق التأدب مع الوالدين، فهو في كل مقطع من مقاطع الكلام يستهل النداء بـ: "يا أبت"، وهذا ما ينبغي للأبناء والبنات في محاورة الآباء والأمهات، وهو من تمام البر والرحمة بالوالدين، ونحن نعلم أن بعض شبابنا يستنكفون من هذه الكلمة التي هي عنوان المحبة والبر، ولو كان من الآباء من تُنْزَعُ كَلِمَةُ الأُبُوَّة من محاورته، لكان أبا إبراهيم المشرك الجاحد الذي أعلن الحرب بينه وبين من يدعوه إلى التوحيد، ونبذ الأصنام ولو كان ابنُه، ولكن هذا الابن البَرّ الوَصُول أبى عليه أدبه الرباني إلاَّ أن يستهل كل مقطع من محاورته لأبيه المشرك المعاند بـ: "يا أبت"، فاعتبروا أيها الشباب واقتدوا بأبيكم إبراهيم.

 

{وَاذكُر فِي الكِتَابِ إِبرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا}

 

واذكر في الكتاب إبراهيم، والقصد من الذكر التذكير والموعظة بخبر إبراهيم أبي الأنبياء وسيد الحنفاء ـ عليه السلام ـ.

وقبل عرض المحاورة اللطيفة يثني الله ربنا على عبده إبراهيم ويصفه بوصفين عظيمين: "الصديقية والنبوة"، ويبدأ بالصديقية قبل النبوة، فما هي الحكمة من ذلك، والحال أن رتبة الأنبياء فوق رتبة الصديقية؟ فيما نرى أن إبراهيم كان صدِّيقًا قبل أن يكون نَبِيًّا على أن الصدِّيقية هي من أبرز صفات الأنبياء، والصدِّيق في اللغة صيغة مبالغة من الصدق والتصديق، فالعبد الصادق لا يزال يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدِّيقًا، كما جاء في الحديث الشريف، والصدِّيق أيضًا الذي يسارع إلى تصديق الحق إذا جاءه ولا يرتاب، ولذلك سمي أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ صدِّيقًا حين كان أول المصدقين لصاحبه مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ، وكذلك صدق بقصة الإسراء قبل أن يسمعها من صاحبه فسمي لذلك صدِّيقًا، وإذا كان هذا الوصف مدحًا لأحد، فلأن يكون بأنبيائه ورسله أولى وأحرى وبهم ألزم، ثم يأتي المدح بوصف النبوَّة وهي هبة من الله لمن يشاء، والله أعلم حيث يجعل رسالاته.

 

بدأ الله بالثناء الجميل بهذين الوصفين لخليله إبراهيم ـ عليه السلام ـ حتى نتخذ منه المثل الأعلى في الاقتداء بهداه، ملة أبيكم إبراهيم.

 

ثم قصَّ علينا خبر محاورته لأبيه، يدعوه إلى توحيد الله ونبذ الأصنام.

 

{إِذ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعبُدُ مَا لاَ يَسمَعُ وَلاَ يُبصِرُ وَلاَ يُغنِي عَنكَ شَيئًا}

 

يا أبت لِمَ تعبد من دون الله ما لا يسمع لك دعاء، ولا يبصر لك عبادة ولا سجودًا، فهي أصنام جامدة لا تسمع ولا تبصر، ولا تنفع ولا تضر، ولا تغني عنك شيئًا، لا تجلب لك نفعًا ولا تدفع عنك ضرًا ولو قليلا، وهذا ما تدل عليه كلمة: {شَيئًا} المنكرة بعد النفي، وهي الحجة القاطعة التي تنسف الشرك والشركاء، إنها لا تسمع ولا تبصر، ولا تعي ما يأتيه عابدوها، وهي عنهم غافلة فَلِمَ إذن عبادتها، ثم هي لا تغني شيئًا عن العاكفين عليها من جلب نفع ولا دفع ضر فما جدوى عبادة من هذا وصفه؟، إن هذا لهو الخطأ البيّن والضلال المبين، والحال أن الرب الخالق الرزاق الواجب الوجود الحي القيوم السميع البصير العليم القدير لا يرضى لعباده الكفر ولا يغفر أن يشرك به.

 

{يَا أَبَتِ إِنِّي قَد جَاءَنِي مِنَ العِلمِ مَا لِمْ يَاتِكَ فَاتَّبِعنِي أَهدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا}

 

يا أبت: نداء لطيف كالأول فيه حنان الأبناء البررة بآبائهم.

 

{إِنِّي قَد جَاءَنِي مِنَ العِلمِ مَا لَم يَاتِكَ}

 

فيه تلطف آخر وأدب عظيم، وهو أنه لم ينسب لأبيه الجهل، وإنما ذكر له أن عنده علمًا ليس عنده، وليس من اكتسابه، بل جاءه من العليم الوهاب، فما على أبيه إلاَّ أن يتبعه فيهديه صراطًا سَوِيًّا مستقيمًا لا عوج فيه، ولا يُخشَى على سالكه ضلال، وما على الكبير من غضاضة في أن يتبع الصغير الذي عنده من العلم ما ليس عنده، فالعلم نور والجهل ظلام، فكما لا يستنكف الذي هو في ظلمة أن يتبع من عنده نور ولو كان دونه في السن أو في القدر، فأحرى أن لا يستنكف الجاهل أن يتبع العالم، وهذه قاعدة يقررها القرآن في هذا الحوار الذي يجري على لسان أبينا إبراهيم ـ عليه السلام ـ تبيّن أن على العالم أن ينشر علمه ولا يكتمه، وأن على الجاهل أن يتبع العالم ولو كان ابنه، وأن درجة العالم هي العليا، وقديمًا كان الملوك والأمراء يجلسون بين يدي العلماء يأخذون من علومهم.

 

{يَا أَبَتِ لاَ تَعبُدِ الشَّيطَانَ إِنَّ الشَّيطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا}

 

ينادي العبد الصالح إبراهيم أباه للمرة الثالثة باسم الأبوة مُصدِّرًا به نداءه تأدبًا وتلطفًا، يقول له: {لاَ تَعبُدِ الشَّيطَانَ}؛ لأن عبادة الأصنام هي في الحقيقة عبادة للشيطان؛ لأنه هو الذي زين لهم ذلك ووسوس لهم به ثم قال له:

 

{إِنَّ الشَّيطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا}

 

والشيطان عند جميع الأمم هو رمز للشر والطغيان، ينفر كل الناس منه ويزعم حتى الطغاة منهم أن أعمالهم حسنة ليست من أعمال الشياطين، وذلك من مكر الشيطان، يزين لهم سوء أعمالهم، ويخيل إليهم أنها عبادات، وأنها قربات لله، كما زين لأبيهم آدم معصية الله وأقسم له بذلك فأغراه وزوجه فأكلا من الشجرة، ذكّر إبراهيم أباه أن الشيطان كان للرحمن عَصِيًّا منذ أن أمره بالسجود لآدم، فهو منذ ذلك اليوم عصيُّ للرحمن بعيد من رحمته محروم منها، ومثله في ذلك من عبده من الإنس والجن.

 

{يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَّمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيطَانِ وَلِيًّا}

 

جاء هذا النداء الرابع من إبراهيم لأبيه على النحو الذي سبق، مليء بالتحنن والتلطف، وفيه تخويف وإنذار لأبيه إن هو لَم يستمع إلى نصحه، فهو يخاف على أبيه سوء العاقبة وهي أن تحق عليه كلمة العذاب فيمسَّه عذاب من الرحمن، واعجَبُوا لعذاب يأتي من الرحمن، ولا يكون إلاَّ لمن فرّ من رحمة الله، وأبى وكذب وتولى وأعرض، وهؤلاء هم أولياء الشيطان تولاهم واستحوذ عليهم، وأخذ بنواصيهم فأبعدهم من رحمة الرحمن، هذا ما خافه إبراهيم الحليم الأواه على أبيه آزر، فصرح له به أخيرًا لعله يرتدع وينصاع إلى سماع الحق، ولكن أباه لم يستمع لهذا النصح العميق والموعظة البليغة من ولده، ولم يزدْه إلاَّ عتوًّا ونفورًا، وراح يهدد ابنه وناصحه بأقسى أنواع التهديد، كأن قلبه قُدَّ من صخر، فهو لم يلن لعبارات ولده اللطيفة اللينة التي لو خاطب بها الحجارة للانت وخشعت، ولكن الله يهدي من يشاء، ومن يضلل الله فلا هادي له، قاسية ممعنة في الضلال لا تحب الناصحين.

 

{قَالَ أَرَاغِبٌ اَنتَ عَنَ الِهَتِي يَا إِبرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرَجُمَنَّكَ وَاهجُرنِي مَلِيًّا}

 

كان هذا جواب الشيخ الكافر لولده الناصح الأمين البر الوصول بعد تلك العبارات التي تفيض مودَّة وإشفاقًا، قال لابنه مجيبًا له بصيغة الاستفهام التعجبي، مناديًا له باسمه تاركًا اسم النبوة جانبًا، كأنه لم يعترف ببُنُوَّته له، فهو لا يستحقها في نظره الحَرِد:

 

{قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم}

 

قال أمعرض أنت عن آلهتي، كافر بها يا إبراهيم، فهي آلهة كثيرة ليست إلهًا واحدًا، لقد همه أمر آلهته في الدرجة الأولى، ولذلك أخر عنها ذكر اسم إبراهيم فهو في غاية التمسك بها معتزًا بنسبتها إليه، وفي غاية التوتر والغضب لمن يرغب عنها، غضبًا يمنعه من سماع الحق، والرد على حجج ولده المحاور له ولو بالشبه، بل لجأ إلى أسلوب القوة والتهديد شأن الذِّينَ تعوزهم الحجة، ويمنعهم الكبر عن الإذعان والاستماع فيلجئون إلى أساليب المكر والانتقام انتصارًا لأهوائهم، كذلك كان جواب الشيخ الكفور لابنه النصوح أنكر عليه في شدة إعراضه عن آلهته التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني شيئًا، وهدده لئن لم ينته عن دعوته إلى التوحيد بالرجم، والرجم أفظع أنواع القتل فهو لا يكون إلاَّ للكلاب المسعورة، والهوام المؤذية، وأكد تهديده بلام القسم والنون المشددة ثم راجعته عاطفة الأبوة قليلا فقال:

 

{وَاهجُرنِي مَلِيًّا}

 

أي أنج بنفسك قبل أن انتقم لآلهتي منك واهجرني مَلِيًّا، إبعد عني مدة طويلة ما دمت على هذا الرأي، لا تخاطبني ولا أحب أن أراك أو أستمع إلى كلامك.

 

هكذا بلغ الجفاء والكفر من أبي إبراهيم هذا الْمَبلَغَ المشتط، ولكن إبراهيم الحليم الأواه المنيب لَم يقطع صلته بأبيه، وراح يخاطبه بخطاب آخر كلُّه لين ورحمة، وليس فيه هذه المرة تعرض لآلهته بسوء ولا دعوة إلى نبذها، وقد اكتفى بما تقدم لو كان نافعًا.

 

{قَالَ سَلاَمٌ عَلَيكَ سَأَستَغفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعتَزِلُكُم وَمَا تَدعُونَ مِن دُونِ اللهِ وَأَدعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}

قال إبراهيم لأبيه مودعًا له ولقومه:

{سَلاَمٌ عَلَيكَ}وهي كلمة مليئة بالخير وحب الخير، سلام عليك: دعاء بالسلامة من الآفات، تحية من عند الله مباركة طيبة تقال عند اللقاء وعند الافتراق، قالها إبراهيم لأبيه قيامًا بحق أبوته عليه وأظهر له أن يتمنى له الهداية من الله.

 

{سَأَستَغفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}

 

سأطلب لك المغفرة من ربي إني رأيت من ربي الحفاوة والبر والإكرام، ولذلك أرغب إليه وادعوه أن يهديك للإسلام ليكون لك إسلامك سببًا لمغفرة ذنوبك، فهو لا يسأل له المغفرة على شركه؛ لأنه يعلم أن الشرك يحول دونه ودون المغفرة، ولكنه يتمنى له الهداية التي تكون سببًا للمغفرة، ولذلك لما تبين له بعد أنه عدو لله، وأَيِس من إيمانه تبرأ منه، ولم يعد يدعو له، ثم قال:

 

{وَأَعتَزِلُكُم وَمَا تَدعُونَ مِن دُونِ اللهِ}

 

وهذا القول منه تصريح لهم بالهجرة، ولم يعد ينفع مع هؤلاء الطغاة في كفرهم إلا الاعتزال، فليعتزلهم إذن مهاجرًا إلى ربه؛ ليفرغ لعبادته وينجو من رجم أبيه، ولا تكون هجرته لهم إلا بإذن من ربه، وهو أول المهاجرين وإمامهم، وما هجرة الرسول ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ إلا اقتداء بأبيه إبراهيم.

 

اعتزل إبراهيم أباه وقومه، وهاجر إلى الشام مُوَدِّعًا إياهم بهذه الكلمات، وهي آخر ما يسمعهم من الكلام.

 

{وَأَدعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}

 

أدعو ربي الذي خلقني وهداني وأكرمني، ومن أحق بالدعاء ممن سبق إحسانه؟، وكل دعاء لغيره ضلال في ضلال، عسى ألا أشقى بدعائي إياه، فأنا أطمع منه في الإجابة والإسعاد، وقد رأيت منه الحفاوة والإكرام، وهذا تعريض بآلهتهم التي لا تسمع لمن دعاها ولا تسعده، فما أشقى من يدعو مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني شيئًا، يقول لهم هذا الكلام عند الفراق لعله يؤثر فيهم، ولعلهم يرجعون إلى أنفسهم فيعلمون أنه الحق، أما هو فقد وجد ربه سميعا وله مجيبا، هداه وعوّضه عن بلده الذي هاجر منه بلدًا طيبا مباركا في الشام، وعوّضه عمن فارقهم من أبيه وأقاربه ذرية طيبة، وآمن له لوط ابن أخيه.

 

{فَلَمَّا اعتَزَلَهُم وَمَا يَعبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَهَبنَا لَهُ إِسحَاقَ وَيَعقُوبَ وَكُلاَّ جَعَلنَا نَبِيًّا}

 

هاجر أبونا إبراهيم قومه وبلده وذهب إلى ربه، وهو أول من سن الهجرة إلى الله، وفارق الأهل والوطن في ذات الله معتزلا الشرك والمشركين، فارًّا بدينه من الفتنة، تاركًا وراءه كل جبار عنيد من أعداء الله، وكان لغاية هجرته عاقرًا، وكان يوم هجرته شيخًا، قيل عمره خمسة وسبعون عامًا، فعوضه الله وأهله "سارة" التي هاجرت معه، وتكبَّدت معه مشاق الهجرة ومفارقة الأهل والوطن، عوَّضهما خيرًا ممن فارقا من الأقارب، وَلَديْن ذَكَريْنَ صالحين نبيَّيْن، يولد الأول ويكبر، ثم يعقب الثاني، والشيخان على قيد الحياة تقرُّ أعينهما بهما جميعًا، ذكر الله هنا إسحق ويعقوب ولم يذكر إسماعيل؛ لأنهما الولدن اللذان يشترك فيهما المهاجران، أما إسماعيل فهو ولد لإبراهيم دون أهله المهاجرة معه، فهما الولدان اللذان بشرت بهما الملائكة "سارة"، وهما: ـ هي وزوجها ـ في مقر هجرتهما والولدان هبة من رحمة الله للأبوين المهاجرين إلى الله.

{وَّوَهَبنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلنَا لَهُم لِسَانَ صِدقٍ عَلِيًّا(50)}

 

كلا من الوالد والولدين، جعل الله منهم أنبياء ووهب لهم من رحمته الواسعة ما تقر به أعينهم من الهبات، وفضلهم على العالمين وجعل لهم لسان صدق عَلِيًّا، أي ذكرًا حسنًا صادقًا، وأعلى منزلتهم عنده وعند ملائكته وعند الآخرين ممن يأتون من بعدهم، وحسَّن عواقبهم في الدنيا والآخرة والعاقبة للمتَّقين.

 

وفي قصة إبراهيم مع قومه موعظة لقريش في الرجوع إلى الحق، وترك ما عليه الآباء والأجداد من الضلال القديم، وقريش تعظم إبراهيم وتدّعي أنها على دينه، فها هو دينه يجلوه القرآن، وها هي خطته مع أبيه وقومه المشركين، فهل أنتم معتبرون يا من يدعى الانتساب إلى ملته؟ وهل أنتم متبعوه؟.

 

ومن جملة ما وهب الله لإبراهيم وبنيه حسن الأخلاق، وحسن الخلق من أعظم ما يهب الله لمن يشاء من عباده، وورد في الحديث عن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ قال: "إن الله تعالى أوحى لإبراهيم: يا إبراهيم إنك خليلي، فحسِّن خُلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار، فإن كلمتي سبقت أن من حَسُنَ خلقه أظللته تحت ظل عرشي، وأسكنته حظيرة قدسي وأسكنته بجواري".

 

مريم: الآيات ( 51 - 65 ) قصة موسى وهارون وإسماعيل وإدريس عليهم السلام

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)

--------------------------------

 

يُقفّي الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ ذكر قصة إبراهيم بذكر بعض أنبيائه بإيجاز، ومنهم موسى وقد بسط قصته وقومه في مواضع متعددة من القرآن، بمجموعها تكتمل قصته منذ ميلاده إلى نهاية أمره، فقد ذكر في سُورَة البقرة، والمائدة، والأعراف، ويونس، وهود، والإسراء، وطه، والشعراء، والنمل، والقصص، وأوجز ذكر خبره في هذه السُورَة وفي سُورَة العنكبوت، ولكل مناسبته، وكلما ذكر هؤلاء الأنبياء فالمقصود من ذكرهم الاعتبار والتأسي، فهم بشر كسائر البشر ينالهم ما ينال غيرهم من التعب والحاجة والمرض والجوع والعطش والتعرض للأذى والقتل، غير أن الله أكرمهم بالنبوة وعصمهم من الكبائر، ففي إمكان البشر أن يقتدوا بهم في كل شيء إلاَّ في النبوة فهي هبة من الله اختصهم بها دون سائر البشر.

 

وهنا يأتي ذكر موسى بعد ذكر إبراهيم لا للترتيب الزمني بل لدرجة موسى عند الله فهو من أعظم أنبياء الله ورسله وهو من أولي العزم من الرسل وقد ذكر منهم في هذه السُورَة ثلاثة وموسى ثالثهم.

 

{وَاذكُر فِي الكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخلِصًا وَّكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا (51)}

 

ذكر الله في كتابه موسى، وأمر بذكره للاقتداء والاعتبار، إنه كان مخلصًا، وهذه خصلة لا يعلمها إلاَّ الله عالم ما في الصدور؛ لأن الإخلاص صفة من صفات القلب الخفية، والإخلاصُ: أن يعمل الإنسان العمل لا يعلمه إلاَّ الله تعالى، لا حظ لغير الله فيه، وهو سر النجاح والفوز عند الله، وبدونه لا يُقبل عمل، فمن كان مخلصًا فقد فاز، لقد كان موسى مخلصًا وكان مع إخلاصه رسولاً نَبِيًّا، اجتباه الله إليه واختصه برحمته، فقد أكرمه بالنبوة وزاده فوق النبوة الرسالة {إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهدًا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً} (المزمل:15)، فهو رسول الله إلى أعتى أعدائه، ثم رسول إلى بني إسرائيل، ما فرغ من أمر فرعون حتى استقبل جهاده مع قومه بني إسرائيل.

 

{وَنادَينَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الاَيْمَنِ وَقَرَّبنَاهُ نَجِيًّا}

 

يخبرنا ربنا ـ تَبَارك وتعالَى ـ خبر موسى يوم نبَّأه، وناداه من جانب الطور الأيمن وفي آية أخرى يقول: {نودي من شاطئ الوادي الأيمن} (القصص:30)، والجهة اليمنى من الوادي هي باعتبار المتجهة للجهة التي يجري إليها السيل، فنفهم أن جانب الطور الأيمن الجانب الأيمن من الوادي عند الطور، وذكر الأيمن في كلتا الحالتين مقصود مقدر من الله؛ لأن اليمين هي علامة اليمن والسعادة والفوز فأصحاب اليمين هم أولياء الله الصالحون.

 

{وَقَرَّبنَاهُ نَجِيًّا}

 

وقربناه قُربَ مكانة لا قرب مكان، تعالى الله عن وصف الأمكنة، قرّب الله عبده موسى نَجِيًّا، والنجيُّ: الكليم المناجي، وهي الصفة التي امتاز بها موسى دون سائر أنبياء الله عليهم جميعًا سلام الله، فقد كلّم الله موسى تكليمًا، ولا نبحث في كيفية هذا الكلام، وكيفية سماع موسى له بل نؤمن بذلك ونكل علم تأويله إلى الله.

 

{وَوَهَبنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا}كان موسى سأل ربه أن يؤيده بأخيه هارون، يشركه في أمره، ويشدد به أزره، فاستجاب الله له، ورحمه ووهب له من رحمته أخاه هارون نَبِيًّا، يؤازره ويشد من عضده، وما أحوجه إلى المعونة وهو ذاهب إلى فرعون الجبار العنيد وملإه العتاة، فنعم الوزير كان هارون لأخيه موسى، ونعمت الهبة له من رحمة الله! وكذلك يبسط الله رحمته لعباده الصالحين المخلصين في عبادتهم ودعائهم لربهم.

------------------------

 

{وَاذكُر فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا (54) وَّكَانَ يَامُرُ أَهلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرضِيًّا (55)}

 

من جملة هؤلاء الأنبياء الذِّينَ يذكرهم الله في هذه السُورَة، ويأمر بذكرهم لتخليدهم وللاقتداء بهم، إسماعيل بن إبراهيم ـ عليهما السلام ـ، يثني عليه بصدق الوعد.

 

{إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعدِ}

 

وصدق الوعد من أنبل صفات الرجل وأشرفها، وهو أعظم دليل على صدق الإيمان، كما أن إخلاف الوعد آية من آيات النفاق، وقد روى المفسرون في صدق وعد إسماعيل أخبارًا غريبة، بعضهم قال: إن إسماعيل انتظر في موضع الموعد يومًا وليلة لم يبرح مكانه، وهذا كثير، وبعض قال: عامًا كاملا، ولا أدل على صدق وعده من صبره على أن يذبح؛ لأنه قال لأبيه حين أخبره بذلك وطلب منه رأيه، قال له: {يا أبت افعل ما تُومر ستجدني إن شاء الله من الصابرين} (الصافات:102)، وعد أباه بالصبر فصدق وعده، وصبر على بلاء مبين لا يصبر الناس على مثله، بل إن كثيرًا من الناس يخلفون وعودهم لأتفه الأسباب، ثم يختلقون المعاذير ولا عذر لهم، فإن إخلاف الوعد نفاق، والله لا يحب كل خوان كفور، ثم إن الله يصف إسماعيل بالرسالة والنبوة وهما أعلى رتبة يصل إليها المصطفون الأخيار من البشر، وأي شرف يداني شرف الرسالة والنبوة.

{وَكَانَ يَامُرُ أَهلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرضِيًّا (55)}

 

ضرب الله بعبده إسماعيل مثلا للاقتداء به في القيام بواجب الأمر والنهي في دائرة مسؤولية الرجل، ولو أن كل رجل قام بواجب الأمر والنهي في أهله، ومن له عليهم رعاية، لصلح أمر الناس جميعًا، وهذا طبعًا لا يكون نافعًا إلاَّ بعد أن يصلح نفسه، وضرب الله مثلا بالصلاة والزكاة؛ لأنهما قاعدتا الإسلام في كل شريعة، فما من شريعة، مضت إلاَّ ومن دعائهما الصلاة والزكاة وإن اختلفت الكيفيات والمقادير من شريعة لأخرى.

 

وإسماعيل بانِي الكعبة مع أبيه إبراهيم وهو جد قريش وهي تفتخر بالانتساب إلى أبوته، فهلا اقتدت به وتشبهت بخصاله وأفعاله؟ أم تكتفي بمجرد الانتساب، وهو لا يكفى إذا خلا عن الاقتداء.

 

{وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرضِيًّا}

 

كان إسماعيل مَرضِيًّا عند ربه الذي هداه ورباه وفداه بذبح عظيم، نال درجة الرضا باستحقاق، فقد عمل بعمل أهل الرضا وسعى سعيهم، ودرجةُ الرضا أعلى ما يطمح إليها أولوا الألباب، فإنها أعلى الدرجات، إذ نَيلُ الثواب فيه متعة الجسد، ونيل الرضا فيه متعة الروح، والشعور بمنتهى الغبطة والسرور أن تعلم أن الله عنك راضٍ.

----------------------------

 

{وَاذْكُر فِي الكِتَابِ إِدرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (56) وَّرَفَعنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)}

يذكر الله عبده إدريس في هذه الآية ذكرًا موجزًا، ولم يرد له ذكر في سائر القرآن إلاَّ ما ورد من ذكر اسمه مقرونًا باسم إسماعيل وذي الكفل، ومدحهم بالصبر في سُورَة الأنبياء، وهنا لم يرد من أخباره إلاَّ أنه كان صدِّيقًا نَبِيًّا، وإن الله رفعه مكانًا عَلِيًّا، وهذا يكفيه شرفًا ورفعة مقام، وإدريس هذا قديم قبل نوح، وقيل هو جده، وهو من ولد شيت بن آدم، وكان صدِّيقًا نَبِيًّا، كما أخبر الله عنه، وقد تقدم معنى الصدِّيقية في ذكر إبراهيم وكذلك النبوة، أما رفعه مكانًا عَلِيًّا فرُوِيَ أنه رفعه الله في السماء الرابعة، كما تدل عليه قصة الإسراء والمعراج، وهل كان رفعه بجسده أو بروحه كسائر الأنبياء الذي التقى بهم النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ في السماوات؟ الله أعلم بحقيقة ذلك، ويذكر صاحب العقيدة: وأربعة منهم لم يموتوا إلى الآن "عيسى وإدريس في السماء، والخضر وإلياس في الأرض"، ذكر هذا صاحب العقيدة، وما كان ينبغي أن يذكر هذا في العقيدة؛ لأن هذا ليس فيه يقين لم ينقل نقلا متواترًا يوجب العلم، والله أعلم بمدى صحة الخبر وحقيقة الرفع، فلا سبيل لنا إلى الجزم بما ذكره صاحب العقيدة في حق هؤلاء الأربعة.

----------------------------------

 

{أُولَئِكَ الذِّينَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيهِم مِّنَ النَّبِيئِينَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّن حَمَلنَا مَعَ نُوحٍ وَّمِن ذُرِّيَّةِ إِبرَاهِيمَ وَإِسرَائِيلَ وَمِمَّن هَدَينَا وَاجتَبَينَا إِذَا تُتْلَى عَلَيهِم ءَايَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)}

 

أولئك الإشارة إلى من ذكرهم الله تعالى في الآيات السابقة من السُورَة أو أمر بذكرهم، من النبيين من ذرية آدم، وهم إدريس؛ لأنه كان قبل نوح وهُوَ جَدُّه، وممن حملنا مع نوح وكل من في الأرض بعد الطوفان، فهم ذرية نوح، ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل، وإسرائيل هو يعقوب، وقد أخرج الله من صلبه أنبياء كثيرين، وكل هؤلاء ممن هداه الله واجتباه أي اصطفاه من بين سائر خلقه، وهم الذِّينَ أنعم الله عليهم بنعمة الهداية للإسلام وبنعمة النبوة والوحي والاجتباء، وليس وراءها نعمة، وكانوا أعرف الناس بربهم وأشدهم حبًا لله وتواضعًا له، لم يزدهم تقريب الله لهم إلاَّ خوفًا وخروا لله ساجدين باكين، وأقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد، تلك الصفات العلية التي ترفع مقام العبد عند ربه، معرفته بربه، وتواضعه، وسجوده له، وأولئك الذِّينَ امتن الله عليهم بهدايته إياهم واجتبائه لهم، وضربهم لنا مثلا علينا لنقتدي بهم، وإذا كان أمثال هؤلاء المجتبين المصطفين يبكون من خشية الله يرجون رحمته ويخافون عذابه، فَلَنحن أولى بالخوف والبكاء ونحن من دهماء الناس لا ندري ما يُفعل بنا، فما أحرانا بالبكاء والتضرع لعل الله يرحمنا، وإن لله عبادًا فطناء فهموا عن الله هذه المعاني واقتدوا بأنبياء الله ورسله فيا طوبى لهم ويا طوبى من اقتدى بهم، ولكن أكثر الناس لا يعقلون، وهم عن آيات الله غافلون، وعن التذكرة معرضون.

--------------------------

 

{فَخَلَفَ مِن بَعدِهِم خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوفَ يَلقَونَ غيًّا (59) اِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظلَمُونَ شَيئًا (60) جَنَّاتِ عَدنٍ التِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالغَيبِ إِنَّهُ كَانَ وَعدُهُ مَاتِيًّا (61) لاَّ يَسمَعُونَ فِيهَا لَغوًا اِلاَّ سَلاَمًا وَّلَهُم رِزقُهُم فِيهَا بُكرَةً وَّعَشِيًّا (62) تِلكَ الجَنَّةُ التِي نُورِثُ مِن عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا (63)}

 

الخَلَفُ ـ في اللغة ـ: هم الأولاد؛ لأنهم يخلفون من مضى من الآباء قبلهم، ويكون بفتح اللام وإسكانه، وغالبًا ما يستعمل التسكين في خَلفِ السوء، والفتح في الخَلَفِ الصالح، وعليه جرت الكلمة هنا على الغالب فسكنت، خَلفٌ من بعد هؤلاء الصالحين الأخيار خَلفٌ رديء فاسد؛ أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وهو تعبير جامع لمعاني التمرد والعصيان والانحراف، فإذا كانت الصلاة وهي عمود الدين أضاعوها فهم لما سواها أضيع، وكل عمل غيرها لا يقبل، والصلاة هي الصلة بين العبد وبين ربه، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله، وهي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، فمن ضيعها وقع في الشهوات، فهما وصفان متلازمان، إضاعة الصلوات واتباع الشهوات، فمن أضاع الصلاة غويت نفسه وانهزمت أمام شهواتها، واستحوذ عليه الشيطان فأنساه ذكر الله، وذكر الله هو الحصن الحصين الذي يلوذ به الذاكرون، وينجون من همزات الشياطين، والشيطان يأتي النفس من قِبَلِ شهواتها فيهلكها، والشيطان للإنسان عدو مبين، قال الله تعالى في شأن هؤلاء للصلاة المتبعين للشهوات.

 

{فَسَوفَ يَلقَونَ غَيًّا}

 

تهدَّدَهم بأفظع أنواع العذاب وهو الغي؛ ذلك لأنهم اتبعوا سبيل الغي في الحياة الدنيا، فعاقبهم الله بالغي في أسفل دركات جهنم، وهو واد في جهنم شديد الحر شديد النتن، تستعيذ جهنم من حره ونتنه، إنه عذاب أليم أعده الله لمن أعرض عن ذكره فأضاع الصلاة واتبع الشهوات.

 

{اِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظلَمُونَ شَيئًا جَنَّاتِ عَدنٍ التِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالغَيبِ إِنَّهُ كَانَ وَعدُهُ مَاتِيًّا}إلاَّ من تاب من هؤلاء، وأناب إلى الله وراجع إيمانه أو آمن من جديد مفارقًا كفره، قال هذا؛ لأن من ارتكب الكبائر فارق الإيمان فإن تاب وآمن عاوده إيمانه، ثم قال:

{وَعَمِلَ صَالِحًا}

أي أتى بما أمر الله به وندب إليه من الأعمال الصالحة وتقرب إلى الله بأنواع القربات؛ يُكَفِّر بها عما سلف من إعراضه وإساءته، وأتبع السيئات بالحسنات، فأولئك يغفر الله لهم ذنوبهم ويكفر عن سيئاتهم، ويدخلهم الجنة مع الأبرار، ولا يظلمون شيئًا، لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم مثقال ذرة، هي ليست جنة واحدة، بل هي جنات كثيرة، جنات عدن، إقامة وخلود، جنات الفردوس يخلدون فيها لا يبغون عنها حِوَلاً، جنات وعد الرحمن بها عباده، والإضافة هنا إضافة تشريف وتقريب، وعدهم بها بالغيب، فآمنوا ووثقوا بوعد الله وعلموا أن وعده كان مأتيًا لا يتخلف، دخلوا جنة الرحمن برحمته ووجدوا ما وعدهم ربهم حقًّا، وقالوا الحمد الله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء.

 

{لاَ يَسمَعُونَ فِيهَا لَغوًا اِلاَّ سَلاَمًا وَّلَهُم رِزقُهُم فِيهَا بُكرَةً وَّعَشِيًّا}

 

اختار الله لجنته هنا هذا الوصف المريح الذي بدونه لا يحلو النعيم مهما كان عظيمًا، إنهم فيها منعمون مستريحون، راضون مرضيون، لا يسمعون لغوًا، أي كلامًا جارحًا يوجع قلوبهم أو يكدر صفوهم، واللغو هو الباطل من الكلام الذي لا نفع فيه، وكثيرًا ما يسوء ويورث الأحقاد والضغائن، ليس في الجنة شيء من اللغو، فهم لا يسمعون إلاَّ سلامًا، أي كلامًا طيبًا كله خير وسلام، يزيدهم نعيمًا إلى نعيمهم، إنهم أعرضوا عن اللغو في الدنيا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا، فجنبهم الله اللغو في الآخرة وأسمعهم في الجنة سلامًا، جزاءً وفاقًا، {لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون} (الأنعام:127)، ففي الآية بيان لجزاء هؤلاء التائبين المنيبين إلى ربهم، وفيها إرشاد لما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون في الدنيا من الإعراض عن اللغو واجتناب قول الزور والعمل به، ثم إن لهؤلاء السعداء بالجنة رزقهم بكرة وعشيًا، وليس في الجنة تعاقب البكرة والعشي بالمعنى المعهود في الدنيا ذات الليل والنهار، إنما جاء هذا التعبير لبيان دوام الأرزاق فيها ووفرتها بدون عناء، فالموائد مبسوطة، والأكواب موضوعة، والمياه مسكوبة، والأرزاق موفورة والفواكة كثيرة، لا مقطوعة ولا ممنوعة، وهم على سرر مصفوفة، متكئين عليها متقابلين لا يمسهم فيها نصب، وما هم منها بمخرجين.

 

{تِلكَ الجَنَّةُ التِي نُورِثُ مِن عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا}

 

الإشارة للتعظيم والرفعة، تلك الجنة ذات المقام الرفيع والسعادة العظيمة، الجنة التي وعد الرحمن عبادَهُ بالغيب، الذِّينَ آمنوا بالغيب وأحسنوا الظن بوعد الرحمن، يقول الله عز وجل معظّمًا مصير الأتقياء عنده يوم القيامة.

 

{تِلكَ الجَنَّةُ التِي نُورِثُ}

نكتب هذه الجنة ميراثًا للأتقياء من عبادنا، والتعبير هنا بالميراث رائع؛ لأن الشيء الذي ترثه تأخذه خالصًا لا ينازعك فيه منازع، ولا منّة فيه لأحد عليك، وهي الشيء الذي يبقى عندك، وفي الميراث معنى البقاء، والجنة دار الخلود والبقاء، والإرث قد يكون كثيرًا وكثيرًا، فهو ليس كالشراء يكون على قدر ما تبذله من الثمن، وقد يربي عليه قليلا، لكن الإرث ليس كذلك، وما أعمالنا وإن كثرت هي التي تدخلنا الجنة، فهي لا تكون كفاء لشكر نعمة واحدة من نعم الله التي تمتعنا بها في الدنيا، إنما رحمة الله وفضله الواسع هو الذي يدخل أهل الجنة الجنّة، ويخلدهم في نعيمها، ومن هنا أشبه الميراث، وإن كان جاء في التعبير القرآني {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعلمون} (الزخرف:72) فهذا التعبير من الله لأوليائه جاء تكريمًا لهم وتشريفًا لمقامهم، وإشعارًا لهم برضا ربهم عن أعمالهم، وشكرها لهم، ولا يعلم إلاَّ الله ما يشعرون به من الرضا والكرامة حين يسمعون هذا النداء من رب العالمين، جعل الله الجنة للأتقياء من عباده حتى نتشبث بهذا المعنى الذي هو جماع كل خير وبر، فالتقوى وحدها ترفعك أعلى الدرجات وينال أهلها الكرامات، لا الانتساب إلى الأنبياء والصالحين مع الابتعاد عن سننهم، فإن هؤلاء الخلف لهؤلاء الأنبياء الأخيار كان مصيره الغي لما أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وورث كل تقي جنة الله ولو كانت نسبته كنسبة إبراهيم إلى عدو من أعداء الله، والتقيّ هو الذي يراقب ربه في كل حركاته وسكناته، فيما يأتي وما يذر فهو يبرئ قلبه ونفسه من كل وصف قبيح لا يرضاه الله، ويجعل بينه وبين المعاصي وقاية باستقامته على أمر الله، فهو يتقي الحرام ويتقي الشبهات ويتقي الكفر ويتقي البدع، وأخيرًا يتقي الإصرار، وإذا أردنا معرفة خصال المتقين فإنا نجدها مبينة في القرآن الكريم، ولنأخذ منه تفسيرين في موضعين منه:

 

الأول في سُورَة البقرة وهو قوله تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قِبَل المشرق والمغرب ولكن البر من _امن بالله واليوم الاخر والملائكة والكتاب والنبيئين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذِّينَ صدقوا وأولئك هم المتقون} (البقرة:177)، هذا بيان لخصال المتقين في سُورَة البقرة.

 

والثاني في سُورَة الأعراف حيث يقول عز وجل: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويوتون الزكاة والذِّينَ هم بآياتنا يومنون، الذِّينَ يتبعون الرسول النبيء الامي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والانجيل يامرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم، فالذِّينَ ءامنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} (الأعراف:156-157).

 

هذان نموذجان للتقوى في كتاب ربنا ـ تَبَارك وتعالَى ـ، وما فسر القرآن مثل القرآن، والله أعلم بما ينزل، فلنزن أنفسنا وتقواها بهذا الميزان الطريس القويم ولنتجنب الدعاوي الفارغة {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} (النجم:32)، فبشرى للأتقياء بشرى لهم من هذا المصير الذي ينتظرهم بجوار رب العالمين وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

 

{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَينَ أَيدِينَا وَمَا خَلفَنَا وَمَا بَينَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالاَرضِ وَمَا بَينَهَمَا فَاعبُدهُ وَاصطَبِر لِعِبَادَتِهِ هَل تَعلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)}

هاتان الآيتان من كلام رب العالمين، من قول جبريل وأمثاله من الملائكة ـ عليهم السلام ـ.

 

{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمرِ رَبِّكَ}

 

وسبب نزول هذه الآية أن فترة وقعت في الوحي تأخر فيها نزول جبريل مدة أربعين يومًا وقيل أقل من ذلك فاستوحش النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ واشتد شوقه إلى الوحي، وإلى جبريل ـ عليه السلام ـ، وذلك بعد أن سألته قريش بإيعاز من اليهود عن الأسئلة الثلاثة المتقدم ذكرها في تفسير سُورَة الكَهف، فقال لهم سأجيبكم عنها غدًا، ونسي أن يقول: "إن شاء الله"، فأدبه الله بتأخر نزول الوحي، فاشتد حزنه وقلقه، فلما نزل جبريل ـ عليه السلام ـ قال له: يا جبريل احتبست عني حتى ساء ظني واشتقت إليك، فقال له جبريل: إني كنت أشوَق إليك ولكني عبد مأمور، إذا بعثت نزلت وإذا لم أُبعث احتسبت فنزلت بعد ذلك هذه الآية:

 

{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَينَ أَيدِينَا وَمَا خَلفَنَا وَمَا بَينَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}.

 

ما يكون لنا معشر الملائكة أن ننزل إلاَّ بأمر ربنا وربك، له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك، ترى هل هذه (الماءات) المتكررة ظروف زمانية أو مكانية، للمفسرين فيها آراء، قال بعض ما مر من أعمارنا وما يستقبل منها، وما بين أيدينا الحاضر منها، وقال آخرون: ما بين أيدينا "الآخرة"، وما خلفنا "الدنيا"، وما بين ذلك "البرزخ"، وقال آخرون المراد الأمكنة، والاختلاف هنا إنما هو اختلاف تنوع لا تضاد، إذ المراد كل ذلك يعم الأزمنة والأمكنة كلها، وكل من فيها مِلكٌ لله ـ تَبَارك وتعالَى ـ خالق الأزمنة والأمكنة، ومن يضطرب في الأزمنة والأمكنة من الملائكة والإنس والجن وسائر المخلوقات، فرأيي في الآية أن تبقى على هذا المفهوم، ومن ذهب يحدد المراد من الأزمنة أو الأمكنة فهو في نظري ينقص من روعة المعنى.

 

{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}هذا على غرار قوله ـ تعالى ـ: {ما ودعك ربك وما قلى} (الضحى:03)، أي لئن تأخر نزول الوحي فما ذاك عن نسيان ولا عن قلى، تعالى الله عن النسيان، فهو صفة ضعف تكون للمخلوقين، ما كان ربك نسيًّا، نفي الكون أبلغ من نفي الفعل وهو تذييل مناسب للمقام.

 

{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاَرضِ وَمَا بَينَهُمَا فَاعبُدهُ وَاصطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَل تَعلَمُ لَه سَمِيًّا}

 

هذا قول الله، رب السماوات والأرض وما بينهما خالقهما وخالق ما فيهما وما بينهما ومربي مخلوقاته، قيوم عليها وعلى إصلاحها وتنميتها، المحيي والمميت، المبدئ والمعيد لا رب غيره، فاعبده وحده، والربط هنا بالفاء رائع يؤذن بالسببية، أي من أجل ذلك فاعبده ووحده بالعبادة، واصطبر لعبادته، أي اصبر وتكلَّف الصبر ولو كان شاقًّا، وهذا ما تفيده الزيادة على حروف الفعل الأصلية، وزيادة الحروف تؤذن بزيادة المعنى كما يقولون، والعبادة هي التلبس بحالة المحبّة والخضوع والطاعة لله في جميع الأحوال في المساجد والأسواق والمحاكم ومناصب السلطة كلها، العبادة هي الاستقامة في طلب المعاش والمعاد، وسياسة العباد، فهي شاملة لشؤون الحياة، وهي عبْء شاق يحتاج إلى صبر وعزيمة ولا يستحق العبادة إلاَّ الربُّ الذي خلق وهدى، وأطعم وسقى، وأمات وأحيا.

 

{هَل تَعلَمُ لَهُ سَمِيًّا}

 

والسَّميُّ ـ في اللغة ـ: من يشبهك في الاسم واللقب، ولله ـ تبارك وتعالى ـ تسعة وتسعون اسمًا، أعظمها اسم الجلالة "الله" ثم "الرحمن" وهذا لا يجوز لأحد أن يسمى بها، أو يُسمّي بها مخلوقًا، ومن فعل ذلك صار كافرًا مشركًا حكمهُ القتل حدًّا عند العلماء، أما غيرها فيتُسَمَّى الناس بنسبة العبد إليها وإلى الله وإلى الرحمن مثل عبد الله، عبد الرحمن، عبد الرحيم، عبد العزيز، عبد الجبار، وفي غير عبد الله وعبد الرحمن، قد يختصرها الناس فيقولون: عزيز ورحيم وحميد وحكيم، وذلك جائز؛ إذ قد يوصف المخلوقون بذلك، غير أن معناها في المخلوقين ليس كمعناها في الخالق، شتان ما بين معنى ومعنى، فالرحمة في المخلوق وصف ضعيف وناقص، والعزة وصف ضعيف وزائل، والملك والقهر والعلم وغيرها من الأوصاف فهي كلها أسماء لم تكن ثم كانت بتكوين من الله، ثم هي فانية زائلة، فليس لله سَمِيّ في أسمائه كلها على الحقيقة، فسبحان المتفرد بالعز والملك والقهر والجبروت والعلم والقدرة، سبحان المتفرد بالأسماء الحسنى لا تجد له فيها سميًّا، فاعبده وحده، واصطبر لعبادته ولن تجد من دونه ملتحدًا، والتعبير بالاستفهام الذي أريد به النفي أبلغ من التعبير بالنفي كما هو معروف عند أهل العلم بالبلاغة؛ لأنه يترك الحكم الصحيح إلى عقل المخاطب وفهمه، فهو الذي يحكم بالنفي إذا كان عاقلا واعيًا ولا سبيل له إلاَّ ذلك، وتوحيد الله بالعبادة أن نطيعه فيما أمر ونهى، مخلصين له الدين لا نشرك به شيئًا.

 

مريم: الآيات ( 66 - 76 )

وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا(76)

-----------------------------

 

المناسبة متينة بين هذه الآيات وبين سوابقها، كان الكلام في الآيات السابقة على الوعد والوعيد، ثم جاء الكلام على مصير الأبرار ومصير الفجار يوم القيامة يوم البعث والجزاء، فناسب هنا أن يتعرض للذين ينكرون البعث إذ لا يمكن أن ينتفع بالوعد والوعيد إلاَّ الذِّينَ آمنوا بالبعث والجزاء، وهناك شياطين يضللون الناس ويشككونهم في البعث بعد الموت، وما أكثرهم، فتناولت الآية هذا الموضوع بصيغة المفرد المعرَّف بـ: "ألْـ"، ولا تقصد شخصًا معينًا، تكلم بعض في الشخص الذي هو سبب نزول الآية، ولا حاجة لنا هنا إلى التعرض إلى فلان ولا إلى فلان، فإن الآية أهم من ذلك، فهناك في كل زمان ومكان آلاف وآلاف من الناس يزعمون هذا الزعم ويحاولون تشكيك الناس في اليوم الآخر، فالآية تقصدهم جميعًا بصيغة العموم.

 

{وَيَقُولُ الاِنسَانُ أَئذَا مَا مِتُّ لَسَوفَ أُخرَجُ حَيًّا}

 

الإنسان المتكبر المتمرد على ربه الذي خلقه ونسي خلقه الأول يقول ساخرًا متهكمًا إذا ما مت وبليت ورمَّت العظام لسوف أُبعث وأخرج من الأرض حَيًّا؟!، يقول هذا الكلام رافعًا بعقيرته غير خاجل ولا واجل، يقول في صيغة الاستفهام التعجبي، ويقصد بذلك النفي والتكذيب:

 

{أَئذَا مَا مِتُّ لَسَوفَ أُخرَجُ حَيًّا}

 

أبعد الموت بعثٌ وحياة؟ ذلك رجع بعيد، فرد الله عليهم ردًا محكمًا موجزًا، يدحض شبهتهم دحضًا:

 

{أَوَلاَ يَذكُرُ الاِنسَانُ أَنَّا خَلَقنَاهُ مِن قَبلُ وَلَم يَكُ شَيئًا}

 

أيعمى هذا الإنسان وينسى ولا يذكر أن الله الذي خلقه قادر على أن يعيده، خلقه من العدم بعد أن لم يكن شيئًا، فأيهما أعجب؟ الخلق من العدم، أو الرد إلى الحياة بعد الموت، كل ذلك عند الله هين وسواء، وهو الخلاّق العليم.

 

قال أهل التفسير: لو اجتمع أهل الأرض والخلائق كلهم، وتعاونوا على أن يأتوا بحجة أبلغ وأخصر لما استطاعوا أن يأتوا بمثل هذه الآية فهي دامغة لباطلهم، كافية في الرد عليهم، ولها في كتاب الله نظائر، وكرر هنا كلمة الإنسان ولو ردَّ الضمير لكفى في الفهم، ولكن الروعة في الذكر هنا لا في الإضمار؛ لأن الإنسان المتهكم المستهزئ بالبعث هو الإنسان المخلوق من العدم بعد أن لم يكن شيئًا، أولا يذكر الخلق الأول؟، أولا يتفكر في نفسه؟، ما أبلده وما أجهله! حتى ولو ادَّعى العلم والذكاء، إن عددًا كثيرًا من البشر يجتمعون على مثل هذا الكفر ويصرحون بمثل هذه الكلمة، قالها الأميون الجاهلون، وقالها العباقرة المثقفون المتفلسفون، وكان يكفي لو تفكروا في مبدئهم أن يعلموا أن ما قالته الأنبياء والرسل في أمر البعث والجزاء حق، ولكنهم يفرون أمام هذه الحقيقة ولا يريدون أن يسلموا بها، بل يريدون أن ينطلقوا من كل قيد ليفجروا ويتبعوا أهواءهم {بل يريد الإنسان ليفجر أمامه} (القيامة:05)، جاء هذا الرد المختصر الكافي الذي يدحض كل شبهة لهم، ثم أردفه الله ـ تعالى ـ بِقَسَمٍ قاطع على حقيقة الأمر، وما أشد وقع القسم بعد هذه الآية التي قصمت ظهر الخصم اللدود!.

 

{فَوَرَبِّكَ لَنَحشُرَنَّهُم وَالشَّيَاطِينُ ثُمَّ لَنُحضِرَنَّهُم حَولَ جَهَنَّمَ جُثِيًّا، ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ اَيُّهُمُ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عُتِيًّا، ثُمَّ لَنَحنُ أَعلَمُ بِالذِّينَ هُمُ أَولَى بِهَا صُلِيًّا}

 

أقسم الله ـ تبارك وتعالى ـ باسمه مضافًا إليه ضمير عبده مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ تشريفًا له وتطمينًا لقلبه وتسكينًا لنفسه، إشعارًا له أن ربه الذي أرسله إلى هؤلاء العتاة لن يخذله ولن يسلمه، وسينتقم له من أعدائه أعداء الله، فوربك يا مُحَمَّد لنحشرنهم والشياطين، لنحشرنهم يوم القيامة هم وشياطينهم الذِّينَ أضلوهم، ثم لنحضرنهم جاثين على رُكَبِهم من شدة الهول والفزع، لنحضرنهم حول جهنم لا يغيبون عنها، يرونها ويسمعون زفيرها ويعلمون أنهم صالوها فيجثون على ركبهم من شدة الفزع.

 

{ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ اَيُّهُمُ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عُتِيًّا}

 

الشيعة: هي الفرقة والطائفة، بعد القسم يؤكد الله هذه الأفعال المتتابعة بلام القسم ونون التوكيد الثقيلة وعيدًا من الله لهؤلاء العتاة، وبيانًا منه ـ تعالى ـ أنه لا يفلت منهم أحد، وتطمينًا لقلب نبيه وأصحابه الذِّينَ يتلقون من أذاهم أنواعًا فليصبروا فإن الله سيجازيهم على صبرهم أحسن الجزاء وسينتقم من عدوهم شر انتقام، يقول ـ تبارك وتعالى ـ:

{لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ}

 

من الكفار أيهم أشد عتيًا على الرحمن، هو يبعث إليهم الأنبياء والرسل رحمة منهم بهم، ويغدق عليهم النعم، وهم يزدادون كفرًا وعنادًا ويصدون الناس عن رحمة الله، وهذا الصد عن الحق أنواع، منهم من يصد الناس بالقوة، كالفراعنة والعتاة من الملوك والرؤساء، ومنهم من يصدهم بأساليب من التضليل، وعلى أمثال هؤلاء يعتمد الملوك والرؤساء في إضلال رعاياهم، علماء السوء وأئمة الضلال الجالسون على شفير جهنم يدعون الناس إليهم، يضلون الشباب بأساليب التعليم والتثقيف والدعاية والنشر، يُهوِّدُونَهم ويُنصِّرُونهم ويُمجِّسُونهم، وينشرون فيهم التحلل والمجون والعُري وسائر الفواحش بمختلف الأساليب، ويحقّرون في أعينهم الدين وما يأمر به من الأخلاق والحياء والعفة والصلاح، هؤلاء أشد على الله عتيًّا من الذِّينَ يأخذونهم بالعنف والقسوة؛ لأن الإنسان يزداد تمسكًا بعقيدته ودينه أما القسوة والقهر، أما إذا أخذ بأساليب التضليل الأخرى من التعليم المنحرف والدعاية المسمومة، فإنه يسقط في حمأة الكفر والضلال، فما أعتى هؤلاء المضللين بالتعليم والدعاية والنشر على ربهم.

 

وأذكر لهذه المناسبة شخصًا كنا نعتبره من الدعاة إلى الحق ونقرأ له في مجلة: "الرسالة" المصرية فصولا طويلة، واليوم ينقلب على عقبيه ويسير في ركب الضلال، يتملق رئيسه فيكتب مقالا في مجلة إسلامية: "مجلة الأزهر" يظهر فيه مقارنة بين سياسة: "مُحَمَّد بن عبد الله"، رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ وبين سياسة: "عبد الناصر"، وسياسة: "صلاح الدين الأيوبي"، فيفض سياسة رئيسه على سياسة رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ الذي ما ينطق عن الهوى إن هو إلاَّ وحيٌ يُوحى.

 

يقول هذا الكاتب الضال المضلل "أحمد حسن الزيات": "الوحدة المُحَمَّدية مرتكزة على العقيدة، والعقيدة مهما تمكنت فإنها تحول، والوحدة الصلاحية مبنية على السلطان، لكن الوحدة الناصرية مبنية على ثلاث قواعد تضمن لها البقاء والخلود وهذه القواعد هي: الاشتراكية في الرزق، والحرية في الرأي، والديمقراطية في الحكم".

 

ثم نازعه في هذا الهراء "سعيد رمضان" نزاعًا شديدًا قال فيه: "أيجرؤ إنسان على مقام النبوة حتى يضع مُحَمَّدا في الميزان ويقارن به غيره ثم يفضله عليه"؟.

 

وكذلك: "محجوب ميلاد"، قارن بين السياسة المُحَمَّدية والسياسة "البورقيبية" وتفلسف، حتى خرج بنتيجة أن السياسة البورقيبية أفضل وأحكم من السياسة المُحَمَّدية.

 

لقد هزلت حتى بدا من هزالها ** كلاَها، وحتى سامها كل مفلس

 

خسارة كبرى لشبابنا أن يقرؤوا هذه الفلسفة ذات البريق المغري فيضل، ويلكم أيها الضالون المضلون، أيبلغ أحد ممن ينتسب إلى الإسلام هذا المبلغ من الجرأة على الله ورسوله؟!، إن هذا العتوّ في الضلال، أين وحدتكم من وحدة مُحَمَّد المبنية على العقيدة؟، وهل هناك شيء في الدنيا يتم من غير عقيدة؟ وهل تظنون أن هذه العقيدة هي هذه الشعارات التي يحملها الناس في اللافتات ويصرخون بها! أليست عقيدة مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ متغلغة في قلوب أصحابها وممتزجة بكل شأن من شؤون حياتهم اليومية، {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون}(البقرة:138)، وهذه الوحدة الناصرية التي تتبجحون بها، كم من سنة مضت عليها حتى توهم الناس أنها ضمنت البقاء والخلود؟! إنها لم توجد، ولم تخلق، ولم تك شيئا فضلا عن أن يكون لها بقاء، إن هذا لهو العتو في الضلال والتضليل، هؤلاء وأمثالهم المقصودون بهذه الآية والآية التي بعدها.

 

{ثُمَّ لَنَحنُ أَعلَمُ بِالذينَ هُمُ أَولَى بِهَا صُلِيًّا}

 

يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ مؤكدا قوله بلام القسم: نحن أعلم بالذِّينَ هم أولى الناس بالنار صليا، فكما أهل الجنة درجات، فإن أهل النار دركات، وكما أن من أهل الجنة سباقين إليها، فكذلك من أهل النار سباقون إليها هم أولى بها من غيرهم {حتى إذا إدَّاركوا فيها جميعا قالتُ اخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فاتِهِم عذابًا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون} (الأعراف:38)، كل يستحق المضاعفة من عذاب الله، ولكن الذِّينَ يضلون الناس ويفتنونهم هم أشد على الرحمن عُتيًّا، وهم أولى بالاحتراق في أشد العذاب.

 

{وَإِن مِّنكُمُ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتمًا مَّقضِيًّا، ثُمَّ نُنَجِّي الذِّينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جُثِيًّا}

يقول بعض المفسرين: "إن هذه الآية خطاب لهؤلاء الكفار خاصة دون المؤمنين"، وهذا المعنى، وإن كان يصح إلا أني أرجح كما يقول الجمهور، أنها خطاب لجميع المكلفين إنسهم وجِنَّهم، كافرهم ومؤمنهم، والورود هنا ليس معناه الدخول، لكني أقول معناه الوصول والمرور، والمعنى يصح وقد جاء بالقرآن الكريم، عند قوله ـ تعالى ـ: {ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون} (القصص:23)، وصل موسى ـ عليه السلام ـ ساحة الماء، ولم ينغمس في البئر التي يسقي منها الناس وكذلك، ـ والله أعلم ـ يكون ورود الناس جميعا جهنم يوم القيامة يصلون ساحتَها ويرونَها، كما قال ـ تعالى ـ: {لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين} (التكاثر:07)، والكلام يؤذن بالتعميم المطلق، ثُم تأكيدُه بأن ذلك قضاء قضاه الله وأوجبه على نفسه وجوبا حتميا لا مراجعة فيه، وكذلك قضاء الله، لا قضاء لقضائه، ولا معقب لحكمه، وذلك إنذار للكافرين وتخويف للمؤمنين، ويوم يأتي تأويله ينادي الكفار بالويل والثبور ويزداد المؤمنون وثوقا وطمأنينة بصدق وعد الله ووعيده، ويزداد نعيم النجاة من النار والفوز بالجنة عِظمًا في أعين أولياء الله وقلوبهم، ولا تدرك حقيقة الشيء إلا بالمقارنة بضده ويومئذ يمر أولياء الله بالنار مرورًا لا تمسهم إلا تحلة القسم ولا يصلونها، إنهم عنها مبعدون، هم في جنات يتساءلون عن المجرمين، يود أحدهم لو يطَّلع على النار ليرى قرينًا كان يجادله في الدنيا ويسخر من إيمانه ويضحك منه، يود أن يراه فيراه يقينًا يتقلب في سواء الجحيم، فيدرك عِظَمَ نِعمة الله عليه، ويسخر من هذا القرين ويضحك منه ويقول له: {تالله إن كدت لتُردِينِ ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين} (الصافات:56-57)، فليس إذن في ورود المؤمنين النار يوم القيامة احتراق، إنما عند مرورهم بها سيكون مسُّها لهم بردًا وسلامًا، كما كان على إبراهيم في الدنيا، والله على كل شيء قدير، ولا يدركون حقيقة نعمة النجاة منها إلاّ برؤيتها والمرور عليها.

 

{ثُمَّ نُنَجِّي الذِّينَ اتَّقُوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جُثِيًّا}

 

ليس معنى هذه النتيجة إخراجهم منها بعد الاحتراق والصِّلي، فما تلك تنجيةٌ، إنما هي إخراج أو إنقاذ، أما التنجية فهي أن لا يذوقوا حرَّها وحميمها وهوانها وخزيها، وكذلك معناها في القرآن الكريم فقوله ـ تعالى ـ: {ولما جاء أمرنا نجينا هودًا} (هود:58)، {نجينا صالحًا} (هود:66)، {نجينا شعيبًا} (هود:94)، وغيرهم من أنبياء الله ورُسُله نجاهم من العذاب، أبعدهم وخلصهم منه ولم يقعوا فيه، وما فسر القرآن مثل القرآن

.

ثم قال: {وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جُثِيًّا}

 

أي نذر الظالمين في جهنم جاثين على ركبهم تسحبُهم زبانيتها على وجوههم، فالذِّينَ يذرهم الله في النار هم الظالمون، إنا بالظلم العظيم الذي هو الشرك، وإما بغيره من أنواع الظلم الكثيرة التي بينها الله ـ تعالى ـ في كتابه الكريم، وأنذر أصحابها بالوعيد، ولا ينجو منهم إلاّ من تاب من ظلمه واستغفر ربه قبل الممات {من يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا} (النساء:110)، {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابًا رحيمًا} (النساء:64)، هذا ما نقرره في معنى هذه الآية على ضوء القرآن الكريم والله أعلم.

 

---------------------------------

 

{وَإِذَا تُتلَى عَلَيهِمُ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الذِّينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَيُّ الفَرِيقَينِ خَيرٌ مَّقَامًا وَّأَحسَنُ نَدِيًّا (73) وَّكَمَ اَهلَكنَا قَبلَهُم مِّن قَرنٍ هُمُ أَحسَنُ أَثَاثًا وَّرِءْيًا (74) قُل مَن كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ فَليَمدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَواْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابُ وَإِمَّا السَّاعَةُ فَسَيَعلَمُونَ مَن هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَّأَضعَفُ جُندًا (75) وَيَزِيدُ اللهُ الذِّينَ اهتَدَوا هُدًى وَّالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَّخَيرٌ مَّرَدًّا (76)}

 

يكشف الله ـ تعالى ـ في هذه الآيات عن طباع أهل الكفر والضلال الذِّينَ تصدهم كبرياؤهم عن الإيمان بآيات الله البينات، وقد ملأ حب الدنيا وزينتها نفوسَهم، فهي لا تفخر إلاّ بها ولا تبصر الحق، تلك طباع المتكبرين أعشى أبصارَهم حبُّ الدنيا وزينتها، فلم تعد تبصر الحق أو تستجيب لداعي الهدى، إنها أبصار حول وبصائر عُمْي وآذان صُم وقلوبٌ غُلف مفتونة.

 

{وَإِذَا تُتلَى عَلَيهِمُ ءَايَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الذِّينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَيُّ الفَرِيقَينِ خَيرٌ مَّقَامًا وَّأَحسَنُ نَدِيًّا}

 

إذا تتلى على هؤلاء المفتونين بالدنيا آيات الله البينات، تدعوهم إلى الحق بلهجة صادقة لا لبس فيها، وحجج بينة لا ريب فيها، إذا بهرهم نور القرآن المبين وعجزوا عن رده أو الإتيان بمثله، لجؤوا إلى أساليب من التضليل، كاللغو والتهديد، أو الافتراء في السب والشتم أو التَّعيِير بأشياء لا قيمة لها في أعين العقلاء، وفعلهم هذا أكبر دليل على أن كلام الله حق لا ريب فيه؛ لأنهم لم يلجؤوا إلى هذه الأساليب من التضليل إلاّ لما أعوزتهم الحجة، فلما لم يجدوا عنها مصرفًا، ومنعهم كبرهم من الإيمان بها، وغلبت عليهم جاهليتهم، لجؤوا إلى التفاخر بكبريائهم وغناهم وكثرة عددهم، وقد علموا أن هذا لن يغني عنهم من الله شيئًا، إنما يقولونه ليضللوا به السفهاء من الناس، يقول بعضهم لبعض: أي الفريقين خيرٌ مقامًا؟ فريقنا الذي فيه الرؤساء والسادة والأغنياء، أم فريق مُحَمَّد الذي فيه الفقراء والأحداث والعبيد؟ وكذلك أتباع الأنبياء والرسل في كل زمان ولذلك عيّر قوم نوح نوحًا ـ عليه السلام ـ بأتباعه قالوا له: {وما نراك اتبعك إلا الذِّينَ هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين} (هود:27)، هذه هي نظرتهم إلى الحق يقيسون دُعَاته بمقامات السادات والكبراء والأندية والمجتمعات، والنَدِيُّ: هو مجتمع القوم ومكان وجودهم، وما علموا أن ذلك لا يغني من الحق شيئًا، وسوف يتبرأ بعضهم من بعض يوم القيامة، ويلعن بعضهم بعضًا، يرد الله عليهم باللهجة التي يفهمونها وتردع أتباعهم من الناس.

 

{وَكَمَ اَهلَكنَا قَبلَهُم مِّن قَرنٍ هُمُ أَحسَنُ أَثَاثًا وَّرِءيًا}

 

وكم أهلكنا قبلهم من قرن، والقرن هي الجماعة من الناس في زمن ما، قال الله: {ثم أنشأنا من بعدهم قرنًا آخرين} (المؤمنون:31)، {ثم أنشأنا من بعدهم قرونًا آخرين} (المؤمنون:42)، ولذلك وُصِفَ القرن بالجمع المذكر السالم، أما تعبير الناس بالقرن عن المائة من الأعوام، فهو اصطلاح خاص وجديد.

 

يقول الله: أفلا ينظر هؤلاء المفتونون بالدنيا وزينتها إلى القرون الكثيرة التي أهلكناها وقد علموا أخبارها، إنهم أغنى منهم وأعتى وأوفر عددًا، فما كان غناهم ولا عتوهم ولا وفرة أعدادهم بمغنية عنهم شيئًا لما نزل بهم بأس الله، لقد كانوا أحسن منهم أثاثًا ورءيًا، اختار التعبير بالأثاث، والرءي: الذي هو المنظر الحسن؛ لأنها مظاهر الغنى والترف، ولقد كان الناس منذ القدم إلى يومنا هذا يجعلون اقتناء الأثاث هو مقياس الغنى، فاليوم نسمع الإحصائيات في البلاد الغنية تحصي عدد السيارات والتليفزيونات ومكيفات التبريد والتسخين وغيرها من الأجهزة، وتجعل النِّسَبَ بينها وبين أعداد السكان هي مقياس الترف والغنى، وقد يعبرون بالقدرة الشرائية، ردّ الله عليهم فقال هم أحسن أثاثًا ورءيًا، أي يملكون من الفرش والأثاث ما لا يملك هؤلاء القوم، ووجوههم أنضر من وجوههم، ولباسهم أنظف من لباسهم، فأين حضارة هؤلاء القوم الذِّينَ هم أقرب إلى البداوة من حضارة من سبقوهم من المترفين؟!، وأهلكهم الله، ففي هذا التعبير رَدٌّ عليهم وتبكيت لهم، وفيه إنذار من الله لهم بالهلاك إذا لم يستجيبوا لداعي الله ولم يستمِعوا لآياته البينات، فلا تغرنهم أموالهم ولا أنديتهم ولا إمداد الله لهم بمُتع الحياة الدنيا وزينتها، فإن لله مكرًا خفيًّا بأعدائه العتاة، وأنه يمهل ولا يهمل، ولكل أجل كتاب.

{قُل مَن كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ فَليَمدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابُ وَإِمَّا السَّاعَةُ فَسَيَعلَمُونَ مَن هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَّأَضعَفُ جُندًا (75)}

 

{قُل مَن كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ فَليَمدُد لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا}

 

لقن الله نبيَّه الجواب الصحيح الذي فيه الإنذار لأهل الضلال المتعصبين لأهوائهم، ووصفهم بأنهم في الضلال منغمسون فيه، وهذا أبلغ من الوصف بالضالين، وأمعن في الضلال، من كان كذلك واستكبر فلم يستمع للناصحين بل عاداهم وسخر منهم، فإن الله يمده في غيه وضلاله بالأسباب التي ضل بها وعمي عن الحق، ومكرًا منه بهم والله خير الماكرين.

 

{حَتَّى إِذَا رَأَوا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابُ وَإِمَّا السَّاعَةُ فَسَيَعلَمُونَ مَن هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَّأَضعَفُ جُندًا}

إنهم يسيرون في طريق عاقبته وخيمة الأمور بعواقبها لا بمبادئها، إن الله لا يزال يملي لهم في غيِّهم، ليزدادوا إثمًا حتى إذا رأوا ما يوعدون وهم الآن يُكذِّبون به، فإذا رأوه عين اليقين إما عذاب الدنيا وإما عذاب الآخرة، إما قيام الساعة العام وإما قيام ساعتهم الخاصة، فسيعلمون حينئذ يوم لا ينفعهم العلم، سيعلمون من هو شر مكانًا وأضعف جندًا، أفريقهم الساخر أم فريق مُحَمَّد المسخور بهم؟، وهذه مقابلة لقولهم: {أَيُّ الفَرِيقَينِ خَيرٌ مَّقَامًا وَّأَحسَنُ نَدِيًّا} إلاَّ أن التعبير هذا بوصفهم بالشر والضعف؛ لأنهم لا يرون الخير يومئذ، ولا يطمعون فيه {فسيعلمون من أضعف ناصرًا وأقل عددًا} (الجن:24) وما أروع هذه المقابلة، وما أشد وقعها في القلوب الواعية.

 

{وَيَزِيدُ اللهُ الذِّينَ اهتَدَوا هُدًى وَّالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَّخَيرٌ مَّرَدًا (76)}والباقيات الصالحات: ليس المراد بها فقط ذلك النوع من الذكر المسمى بالباقيات الصالحات: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله"، فهذا وإن سمي بالباقيات الصالحات، ولكن ليس هو كل الباقيات الصالحات، بل جميع الأقوال والأعمال الصالحة، ذوات النيّات الحسنة، ستبقى ويدوم ثوابها عند الله، وهذه مقابلة أخرى أُرِيدَ بها التذكير والاعتبار، إن هؤلاء القوم يزعمون أن الذي هم فيه من الغنى والعز والكثرة هو خير، فبيّن الله للمؤمنين أن الباقيات الصالحات من أفعالهم وأقوالهم هي خير وأبقى عند الله، فقوله ـ تعالى ـ: {خَيرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا} مقابل لقوله: {شَرٌّ مَّكَانًا} الذي هو مقابل لقولهم: {خَيرٌ مَّقَامًا}، وقوله ـ تعالى ـ: {وَخَيرٌ مَّرَدًا} مقابل لقوله: {وَأَضعَفُ جُندًا} الذي هو مقابل لقولهم: {وَأَحسَنُ نَدِيًّا}، فقارن أيها العاقل بعقلك بين المقامات والعواقب لتُدرك أنت وحدك الفرق بين الفريقين، فسيعلمون الفرق حين لا ينفعهم العلم، وقوله: {وَيَزِيدُ اللهُ الذِّينَ اهتَدَوا هُدًى} مقابل لقوله: {قُل مَن كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ فَليَمدُد لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} مقابلة رائعة حقًا بين الحالتين، ونلاحظ أن الله ـ تعالى ـ نسب إليه زيادة الهدى؛ لأنه هو الهادي إلى صراطه المستقيم، ولم ينسب إليه الإضلال هنا؛ لأنهم هم الذِّينَ اختاروا طريق الضلال، واجتنبوا طريق الهدى، ففي هذا التعبير بشارة للمؤمنين الذِّينَ سلكوا سبيل الهدى بأن الله ييُسر لهم عزائم الخير وأعمال البر، وإن كانت في نفسها شاقة قد تحتاج إلى صبر، إن الله يعينهم عليها ويزيدهم هدى، كما يمكر بأعدائهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون.

 

وفيه نكتة لطيفة: وهي أن نِعَم الدنيا كالمال والصحة والعافية قد توهب من غير تسبب بعمل، وتوهب للبر والفاجر سواء، أما نعمة الهداية فإنها تمنح للمبتدئين بالاستجابة للهادي إلى صراط المستقيم، ثم يزيدهم الله هدى ويؤتيهم تقواهم، فيا طوبى لهم، أولئك هم الفائزون بأعلى الدرجات، الناجون من المهلكات، الذِّينَ يردون إلى حسن الثواب والله عنده حسن الثواب.

 

وفي الآية نكتة أخرى: وهي أن المؤمن لا يصرفه عن إيمانه تعبير أعدائه الكفار بالذلة والقلة ورثاثة الحال، بل يزيده ذلك تشبثًا بإيمانه الذي خالطت بشاشته قلبه، وتغلغل الإيمان في أعماقه، إنه يزداد هدى كلما سخر به الساخرون ومكر به الماكرون؛ لأنه ينظر إلى حُسن العواقب، أما زينة الحياة الدنيا فقد علم أنها لا بقاء لها ولا وزن لها عند الله، بل هي فتنة لأعداء الله، وهذا هو العلم النافع، بينما علم الكفار يومئذ لا ينفعهم بل يزيدهم حسرات، هذا ما توضحه الآيات في هذا البيان الشافي.

 

مريم: الآيات ( 77 - 98 ) آخر السورة

ثم يمضي الأسلوب القرآني الحكيم في حِجَاج أهل الكفر والضلال فيقول ـ تبارك وتعالى ـ:

 

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)

---------------------------

 

يَروِيَ أهل الحديث والتفسير أن سبب نزول هذه الآية والمقصود الأول بوعيدها هو: "العاص بن وائل السهمي"، أحد كبار المستهزئين، وذلك لحديث جرى بينه وبين أحد ضعفاء المؤمنين السابقين إلى الإسلام، وهو: "خباب بن الأرت" ـرضي الله عنه ـ، وذلك أن خبابًا كان حدادًا يصنع السيوف والسكاكين، فصنع للعاص بن وائل سيفًا وماطله العاص في ثمنه، وكان خباب يطالبه فيه ولما ألح عليه قال له: "والله لا أقضيك حتى تكفر بمُحَمَّد"، فقال له خباب: "والله لا أكفر بمُحَمَّد حتى تموت وتبعث"، فقال له العاص: "إن كنت سأبعث فسأكون غنيًا ذا مال وولد، وهناك أدفع لك أجرتك"، فنزلت هذه الآيات المحكمات فيه وفي أمثاله في كل زمان حتى تقوم الساعة.

 

والآية مصدرة بكلمة تفيد التعجب: {أَفَرَايْتَ} هذه العبارة تستعمل للتنبيه إلى أمر هام لعظم المخبر به، أو إذا كان يدعوا إلى العجب، أو إذا كان حقًّا لا معدل عنه، أو إذا كان باطلا ظاهر البطلان والفساد، تأتي الكلمة على هذه الصيغة لحمل المستمع على الانتباه إلى ما يلقى إليه، فيحكم بنفسه على الخبر الحكم الذي يستحقه.

 

أفرأيت يا مُحَمَّد إلى أي حد تصل الوقاحة ببعض العتاة؟! يكفرون بآياتنا، ثم يتجرؤون علينا هذه الجرأة، ينكرون البعث والحساب ولا يؤمنون برسلنا ولا يعملون بكتبنا، ثم يزعمون أنهم إذا بعثوا فسيكونون ذوي عز وأموال وأولاد كحالتهم في الدنيا، ويستعلون بذلك على الذِّينَ آمنوا وعملوا الصالحات ويسخرون بهم ويظلمونهم، إن هذا منهم أمر عجيب، كلا! ليس الأمر كما يزعمون، فهل اطَّلعوا الغيب وعرفوا الحقيقة أم اتخذوا عند الرحمن عهدا؟ والعهدُ: هو الإيمان الخالص والعمل الصالح، ذلك ما ينفع يوم القيامة، ويبقى عند الرحمن الذي رحمته قريب من المحسنين، فعلام يعتمد هؤلاء العتاة المتكبرون على آيات الله المستعلون على عباده؟ كلا ليس الأمر كما يزعمون سنكتب ما يقولون ونجازيهم عليه.

 

{كَلاَّ سَنَكتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العَذَابِ مَدًّا، وَّنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَاتِينَا فَردًا}

 

{كَلاَّ} حرف ردع وزجر، دفع بها كلام العاتي على الله المستهزئ بعباده، الكافر بلقائه، سنكتب ما يقول، إن قوله مُحصًى عليه مكتوب مُسجَّل، وسيحاسب عليه، ويجازى شر الجزاء، وسيندم عليه يوم لا ينفعه الندم، وسنمد له من العذاب مدًّا نطيل أمده في العذاب يلبث فيه أحقابًا، ويخلد فيه مهانًا

 

{وَّنَرِثُهُ مَا يَقُولُ}

 

إنه يفخر بالمال والولد ويزعم أنه سيكون له باقيًا يوم القيامة، كلا بل سنرث كل الذي يقوله، ونرثه هو ويصير إلينا فردًا، يترك ما خولناه وراء ظهرِهِ لا مال ولا ولد ولا عز ولا أنصار، إنه يأتينا ليلقى جزاءه، فردًا وحيدًا فقيرًا ذليلا، وفي هذا تهديد للذي نزلت فيه الآية، ولأمثاله المستهزئين المتكبرين، وفيه تسلية لعباد الله المؤمنين المستضعفين، فليصبروا على أذاهم وليعتصموا بمولاهم فإن العاقبة للمتقين.

 

{وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ ءَالِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُم عِزًّا، كَلاَّ سَيَكفُرُونَ بِعِبَادَتِهِم وَيَكُونُونَ عَلَيهِم ضِدًّا}

 

واتخذ هؤلاء الكفرة بالله آلهة يحبونها كحب الله ويعبدونها من دون الله يبتغون عندها العز، كل طائفة منهم تعتز بمعبودها وتبتغي عنده قضاء الحاجات، وتزعم أنها ستكون لها عزًا، قال الله ـ تعالى ـ: كلا، ليس الأمرُ كما يزعمون، بل سيكفرون بعبادتهم، والكفر هنا متبادل، سيكفر عابدوها بعبادتهم يوم القيامة يوم لا تنفعهم بل تكون عليهم ضدًّا، وستكفر الآلهة المعبودة بعابديها وتكون عليهم ضدًّا، أما الملائكة والصالحون من الإنس والجن الذِّينَ عُبِدُوا من دون الله، فسيَلعَنُون عابديهم يوم القيامة، ويَدعُون عليهم بمضاعفة العذاب، وأما الذِّينَ نصبوا أنفسهم لذلك فسيكفرون أيضاً بعبادتهم ويلعنون من عبدوهم ويكبكبون مع أتباعهم في جهنم، وكذلك الأصنام والحجارة والأضرحة والقباب والأوثان حين تكون حصب جهنم، تُلقَى فيها هي وعابدوها وتزيدهم عذابًا، حينئذ تكون عليهم ضدًّا، تكون عكس ما كانوا يرجون منها {وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانًا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضًا ومأواكم النار ومالكم من ناصرين} (العنكبوت:25)، تلك هي عاقبة الذِّينَ اتخذوا من دون الله آلهة يرجون عندها العز، إنها لا تغني عنهم شيئًا، وستكون عليهم ضدًّا، وقد يعلمون ذلك ولكن شياطينهم زيَّنَت لهم عبادتها، وتقليدُهم لآبائهم الأولين غلب عليهم، فهم في طريقهم مندفعون، وفي ضلالهم يعمهون ولشياطينهم متبعون، وهم عن الحق معرضون وله كارهون

 

{أَلَم تَرَ أَنَّا أَرسَلنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمُ أَزًّا، فَلاَ تَعجَلْ عَلَيهِمُ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُم عَدًّا، يَّومَ نَحشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفدًا وَّنَسُوقُ الْمُجرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِردًا، لاَّ يَملِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهدًا}

 

{أَلَم تَرَ}: كلمة تدعو إلى الانتباه لشيء محقق، ذلك أن الله ـ تبارك وتعالى ـ أرسلَ الشياطينَ على الكافرين بالله وبأنبيائه ورسله وباليوم الآخر وعَموا عن ذكر الله، فقيّض لهم قرناء من الشياطين تؤزهم أزًّا، تُثيرهم وتهزهم وتدفعهم دفعًا إلى الفجور والفسوق، تزين لهم سوء أعمالهم فيرونها حسنة وتغريهم بالمعاصي إغراءً، والذِّينَ تعوَّدُوا الفسق بأنواعه، الخمر والزنا والميسر والسرقة تستفزهم شياطينهم إليها فلا يستطيعون أن يصبروا عنها، وعندما تسكرهم الخمرة، أو حب الدنيا، وحب المال، وحب الشهوات، فإن الشياطين تلعب بهم كما يلعب الصبيان بالكرة، يحسب أحدهم نفسه من عِليَةِ الناس وكبرائهم، ويعتز بجاهه وسلطانه ومكانته، وهو لعبة بين أيدي الشياطين تؤزه أزا.

 

{فَلاَ تَعجَلْ عَلَيهِمُ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُم عَدًّا}

 

فلا تعجل بالدعاء عليهم، إنما نؤخرهم لأجل معدود، نعدُّ لهم قبله أنفاسهم، وكلُّ معدودٍ لاَ محالة يَنفَدُ، فاصبر إن وعد الله حق ولا تستعجل لهم، وفي هذا إنذار لهم ولأمثالهم، وفيه تذكر المؤمنين وموعظة تذكرهم بقرب آجالهم حتى يبادروها بالأعمال الصالحة قبل نفادها.

 

رُوِيَ عن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه كلما قرأ هذه الآية بكى وقال: "آخر العدد خروج نَفَسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخول قبرك، كل نَفَس خطوةٌ إلى القبر"، رُوي أن جعفر بن السماك دخل على المأمون فقرأ هذه الآية فقال: "إذا كانت الأنفاس بالعدد، ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد، هذا في عدد الأنفاس والآجال"، وكذلك نفهم من الآية عدَّ الأعمال والأقوال، فإن الله يحصي عليهم أعمالهم وأقوالهم ليجازيهم عليها، إن عليهم رقباء لا تغادر من أعمالهم صغيرة ولا كبيرة، والله من ورائهم محيط، قد أحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا.

-----------------------

 

{يَومَ نَحشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفدًا، وَّنَسُوقُ الٍمُجرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِردًا لاَّ يَملِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهدًا}

 

ذكِّرهم بيوم الحساب والجزاء يومَ نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا، حُشِروا إلى ربهم الرحمن الذي غمرتهم رحمته وتغمدهم بها يوم لقائه، إنها كانت قريبة منهم ؛لأنهم كانوا محسنين، حشروا إلى ربهم وفد معززا مكرما، وكذلك وفود الملوك تعزز وتكرم وتستقبل أحسن استقبال، فإذا كان هذا لوفود البشر، فكيف بوفود أكرم الأكرمين من ملك الملوك أجمعين؟ كذلك يُحشَر المتقون الذِّينَ استجابوا لربِّهم واهتدوا بهداه، واتخذوا بتقواهم واستقامتهم عند الله عهدا، إن الكرم يومئذ لأهل التقوى فهم وحدَهم وفد الرحمن المكرم، أما المجرمون فيساقون إلى العذاب سوقا عنيفا، يساقون إلى جهنم عطاشا، جاءت العبارة بالسوق وفيها ما فيها من الهول فهم لولا الدفع العنيف ما تقدموا خطوة وقد عاينوا جهنم وسمعوا زفيرها، فمن ذا يمشي طائعًا إلى أشد العذاب، إن الزبانية تسوقهم بأمر الله وتأخذهم مغلولين مقيدين في الأصفاد فتسحبهم على وجوههم ذوقوا مس سقر، هذا جزاءهم على إجرامهم فهم أذلاء داخرون لا يملكون الشفاعة، إنها الشفاعة للذين اتخذوا عند الرحمن عهدا بإيمانهم وعملهم الصالح، أوفَواْ بعهد الله في الدنيا فأوفَى الله بعدهم يوم القيامة، وشَفَّعَ فيهم رُسله.

العهد أن تنطق بكلمة التوحيد مخلصًا من قلبك ثم تفسرها بالاستقامة، أما من قالها وراح يعبد الشيطان والهوى وذهب يضيع الصلاة ويتبع الشهوات فهو خائن ليس له عند الله عهد فلنفهم كلام الله على ضوء كلام الله وما فسر القرآن مثل القرآن.

 

--------------------------------

 

{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَّقَد جِئتُمْ شَيئًا اِدًّا (89) يَّكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرنَ مِنهُ وَتَنشَقُّ الاَرضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا (90) اَن دَعَواْ لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَّمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) اِنْ كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَرضِ إِلاَّ ءَاتِي الرَّحْمَنِ عَبدًا (93) وَّكُلُهُمُ ءَاتِيهِ يَومَ القِيَامَةِ فَردًا (94)}

 

في هذه الآيات البيّنات هي في الردِّ على مقالات الكفار، وتشنيعها وإنذارهم بسوء المصير، يذكر الله قول الذِّينَ نسبوا إلى الرحمن الولد، ويرد عليهم بالرد المحكم القاطع، والقائلون لهذا القول الشنيع هم طوائف اليهود والنصارى والمشركين الذِّينَ قالوا الملائكةُ بناتُ الله، تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا.

 

{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَّقَد جِئتُمْ شَيئًا إِدًّا يَّكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرنَ مِنهُ وَتَنشَقُّ الاَرضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا اَن دَعَواْ لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَّتَّخِذَ وَلَدًا}

 

قال اليهود والنصارى والمشركون: "اتخذ الرحمن ولدًا"، وعبدوا ما زعموه ولدًا، ورمزوا له بأصنام وتقربوا إليها بأنواع القربات، يعكفون عليها ويطلبون عندها الحاجات، قال الله ـ تعالى ـ: لقد جئتم بزعمكم هذا شيئًا شنيعًا قبيحًا ثقيلا، تكاد السماوات والأرض تنفطر من شناعته وثقله، لو أذن الله لانفطرت وتشققت، والجبال الراسيات لا تقوى على سماع هذا الكلام الذي لا أثقل منه، تكاد تنهدُّ وتخر لو أذن الله لها بذلك لفعلت، يكاد الكون ينهدُّ من نسبة الولد إلى الخالق الرحمن، ولا ينكر أحد هذه الأمور من السماوات والأرض والجبال، فإن الله الذي خلق السماوات والأرض والجبال هو وحده يعلم ما بداخلها من شعور وإيمان بخالقها، وقد أثبت لها الخشية والتسبيح، ولا ينكر ذلك إلاَّ أعمى البصيرة، مطموس القلب مكذب للرحمن، ولله في خلقه أسرار وشؤون، والله على كل شيء قدير.

 

{وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَّتَّخِذَ وَلَدًا}

 

لا يليق بعظمته، وليس من شأنه أن يتخذ ولدًا، ولا يمكن هذا أبدًا، فشتان بين الخالق والمخلوق بينهما، تباين لا يمكن حصره مطلقًا

 

{إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَرضِ إِلاَّّ ءَاتِي الرَّحْمَنِ عَبدًا}

 

أثبت الله الحقيقة الكبرى الثابتة التي لا تزول ولا تحول والتي قامت بها السماوات والأرض ومن فيهن، فما من مخلوق في السماوات أو في الأرض إلاَّ آتي الرحمن عبدًا، إنهم يأتونه عبيدًا يوم القيامة حين تتمحض عبوديتهم، وتذوب دعاوى القوة والسلطان، التي ادَّعاها العتاة الجبابرة في الدنيا، ينفي الله بهذه الآية ما زعموا من البنوَّة، ويبين الفرق الكبير بين الولد، والعبد فمن كان عبدًا لا يكون ولدًا، ومن كان ولدًا لا يكون عبدًا لوالده، فالكل لله عبيد مخلوقون أذلاء خاضعون، فلا تنسبوا للرحمن ما لا ينبغي له ولا يليق بعظمته وكبريائه، إنما يحتاج إلى الأولاد الضعفاء الذين يفتقرون إلى الأولاد، والذِّينَ يموتون ويرثهم الأولاد ويحيون ذكرهم، أما الرحمن القوي القادر الذي هو حي دائم لا يموت فلا يحتاج إلى شريك ولا ولي، ولا ينبغي له الولد، ثم إن نسبة الولد إلى الله يستلزم الصاحبة، ويستلزم الاتصال المعهود بين الصاحب والصاحبة، ولذلك كان الأمر شنيعًا تتزلزل الأرض والسماوات والجبال منه وتنفطر لنسبة ذلك إلى الرحمن، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وما جاء هذا التعبير: "تَفَطُّر السماوات وانشقاق الأرض وخُرُور الجبال هذا"، إلاَّ في نسبة الولد ودعواه إلى الله، لما فيه من شناعة الاتصال بالصاحبة، ما جاءت هذه العبارة قط في موضع آخر في نسبة الشريك إلى الله، وإن كان الشرك كله افتراء وإثمًا عظيمًا، ولكن هذا النوع منه أشنع وأقبح أنواعه، فيا ويلهم، ماذا يصفون؟ ويا قبح ما يفترون؟ إنه لأمر عظيم، تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولد.

 

{إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَرضِ إِلاَّ ءَاتِي الرَّحْمَنِ عَبدًا لَّقَدَ اَحصَاهُم وَعَدَّهُم عَدًّا وَّكُلُهُمُ ءَاتِيهِ يَومَ القِيَامَةِ فَردًا}

 

جميع من في السموات ومن في الأرض آتي الرحمن يوم القيامة عبيدا، لقد أحصاهم عدا، وكلهم آتيه فردا، لا يفلت منهم أحد، ولا يأتونه قبائل ولا عشائر يعتز بعضهم ببعض، بل تتقطع يومئذ بهم الأسباب، فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، كل واحد منهم يحضر مفردا بين أيدي الله صاغرا ذليلا ليس دونه حجاب ولا عنده ترجمان، هناك تتمحض العبودية لله، وهنالك تجزى كل نفس ما كسبت، مالها من دون الله من ولي ولا نصير حتى الذِّينَ زعمتموهم للرحمن أبناء يحضرون بين يديه عبيدا يسألهم الله أفرادا فيجيبون {ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير} (فاطر:14).

--------------------------

 

{إِنَّ الذِّينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا(69) فِإِنَّمَا يَسَّرنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَومًا لُّدًا(97) وَّكَمَ اَهلَكنَا قَبلَهُم مِّن قَرنٍ هَل تُحِسُّ مِنهُمْ مِّنَ اَحَدٍ اَو تَسمَعُ لَهُم رِكزًا(98)}

 

بختم ربنا ـ تبارك وتعالى ـ هذه السُورَة المحكمة بهذه الآيات التي هي خلاصةٌ لِما مر علينا من المعاني التي تناولتها السُورَة من أولها، وفيها الموعظة البليغة لمن يتذكر ويتدبر، فيها التبشير للمؤمنين المتقين، وفيها الإنذار بالهلاك للمعاندين المتمردين على الله.

 

كانت بداية هذه السُورَة بقصص أولياء الله الصالحين، زَكَرِيَّاء، ويحيى، ومريم، وعيسى، وإبراهيم، وموسى، وهارون، وإسماعيل، وإدريس من ذرية آدم، ونوح، ومن ذرية إبراهيم، وإسرائيل، وممن هدى الله واجتبى من عباد الله الصالحين، ثم بعد هؤلاء الصالحين خلف من بعدهم خلفٌ أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، تَوَعَّدَهم الله بالغي.

 

ثم تعرض الأسلوب القرآني الحكيم لشُبه المبطلين وتُرَّهَاتِهم فقرعها بالحجج البيّنات، والحقائق الثابتات وأنذرهم بعذاب جهنم، يوم يأتونه فرادى لا يملكون الشفاعة إلاَّ من اتخذ عند الرحمن عهدًا، والعهدُ: هو الإيمان بالله واليوم الآخر، والاستقامة على ذلك بالقول والعمل، وفي إنذار الظالمين وتخويفهم تنفيس عن قلوب المؤمنين المستضعفين وإنعاش الأمل في قلوبهم بما يبشرهم بحسن العقبى إن صبروا على أذاهم.

 

{إِنَّ الذِّينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}

 

يبشر الله عباده الذِّينَ يعملون الصالحات أن الله سيجعل لهم ودًّا بينهم وبينه، وبينهم وبين ملائكته، وبين بعضهم البعض، ودًّا يبقى ويدوم، بينما تتقطع الأسباب بين أعدائهم الكافرين والمنافقين، ويلعن بعضهم بعضًا، ويتبرأ بعضهم من بعض، كل واحد منهم يأتي الرحمن فردًا لا صلة بينه وبين أخلائه وأقربائه، والمؤمنون يجعل لهم الرحمن ودًّا عظيمًا، نكَّر كلمة: {وُدًّا}، وتنكيرها يدل على عظمة مدلولها، ومن أسماء الله الحسنى "الودود"، وقد جعل الله لأوليائه ودًّا في حياتهم الأولى عند ملائكته، فهم يستغفرون للذين آمنوا، ويصلون عليهم في الدنيا قبل الآخرة، وجعل لهم ودًّا في قلوب المؤمنين، وهي المنزلة التي سألها إبراهيم من ربه حين قال: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} (الشعراء:84)، الوُدُّ والقبول للمؤمنين والمقت والبغضاء واللعنة لأعدائهم المجرمين، بينهم وبين الله، وبينهم وبين ملائكة الله، فهم يبغضونهم ويلعنونهم، وبينهم وبين بعضهم البعض، فهم يوم القيامة يتلاعنون وتنقلب خلَّتهم عداوة، وقد كانت مودَّتُهم في الدنيا على المعصية، ولأجل أغراض دنيئة يختِل بعضهم بعضًا، ويخدع بعضهم بعضًا، أما مودة المؤمنين فكانت في ذات الله فهم يتناصحون ويتعاونون على البر والتقوى، ويتحابون على ذلك ويدعو بعضهم لبعض عن ظهر الغيب، لِمن عرفوه ولمن لم يعرفوه من إخوانهم المؤمنين، والحب في الله أوثق عرى الإسلام كما جاء في الحديث الشريف، وهم على ذلك حتى جاءهم وعد الله فازدادت مودَّتُهم يوم القيامة تمكُّنًا، ونزع الله ما في صدورهم من غلٍّ إخوانًا على سرر متقابلين، وقد حمدوا مغبَّة أمرهم، وحمدوا الله على ما هداهم: {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحَزَنَ إن ربَّنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب} (فاطر:34-35)

.

قال بعض المفسرين: {سَيَجعَلُ لَهُم الرَّحْمَنُ وُدًّا}

 

أي سيحقق لهم ما يودُّون من السعادة الدائمة في الآخرة من رحمته وفضله، وهذا المعنى وجيه، ولا مانع أن يفهم من الآية، والمعاني لا تتزاحم، ومهما قلبتَ معنى الوُدّ في الآية وجدته بردًا وسلامًا على المؤمنين، وتطمينًا لقلوبهم بعدما سمعوا الزواجر والقوارع التي ذكرت في الآيات السابقة للمكذبين بالبعث، المعاندين للنذر، المستهزئين بآيات الله ورسله، فما أبلغها من آية، وما ألذ وقعها في قلوب المؤمنين الذِّينَ حققوا إيمانهم بالأعمال الصالحة، وفيها ما فيها من الموعظة البليغة التي تدعُو الناس إلى ربهم الرحمن، وتبيِّن لهم أن لا ملجأ ولا منجى يومئذ من الله إلاَّ إليه، ولا مفر لهم إلاَّ إلى رحمته.

 

ثم إن من تدبر الآية جيدًا وجد فيها الإشارة إلى أن تشريعات الله لعباده المؤمنين من إقام الصلوات في المساجد إلى قبلة واحدة، وإيتاء الزكوات، وصوم رمضان، والأعياد، والحج في أشهره ومواضعه، وغير ذلك من القربات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، والتناصح في أمور الدين والمعاش، والتخلُّق بأخلاق الإسلام، وأداء حقوق الأزواج والوالدين والأرحام والجوار، وإفشاء السلام، وحقوق الإسلام... كل ذلك يدعو إلى المودة والتحابب، ويغرس الحب في قلوب المؤمنين، أما ولاية المؤمنين بعضهم لبعض التي هي من أسس الديانة، فتلك تثبت المودة في قلوب أصحابها ـ حتى ولو لم يتعاصروا ولم يتعاشروا ـ، وبين الإنس والجن والملائكة من كل زمان ومكان، وقد علَّمنا الله ورسوله ذلك في الصلاة، يقول المصلي عندما يقرأ التشهد: "السلام علينا وعلى عباده الله الصالحين"، ويقول المؤمنون اللاحقون في الأزمنة المتأخرة {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذِّينَ سبقونا بالاِيمان ولا تجعل في قلوبنا غِلاًّ للذين ءَامنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} (الحشر:10).

 

هذه أمة الإسلام تربط المودة بين أولها وآخرها وقاصيها ودانيها، وبين جميع أجناس المسلمين، يقول رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، ولا يتم إيمانهم إلاَّ بذلك، ولا يدخلون الجنة حتى يتحابوا، فشرط محبة الله لهم أن يتحابوا في الله، فإن هم فعلوا ذلك وجبت لهم محبة الله ربهم، وشملتهم رحمته الدائمة، فكأنما شرائع الدين شجرة ثمرتها التواد بين المؤمنين في الدنيا، والود يوم القيامة، يحبونه في الجنة أبد الآبدين، ودُّ الله لهم، ووُدُّ ملائكته، ووُدٌّ في الجنة من الحور العين والولدان، ووُدُّ بعضهم لبعض، يصفو يومئذ ويخلص من شوائب الغل التي كان يلقيها الشيطان في الصدور، فيومئذ لا غِلَّ ولا شيطان ولا دنيا، {ونزعنا ما في صدورهم من غِلٍّ اِخوانًا} (الحجر:47)، لا نظن أن عاقلا أو حكيمًا أو فيلسوفًا يزعم أن هناك رابطة تربط بين مجموعة من البشر مثل رابطة المودة التي بين أهل الإيمان الذِّينَ حققوا معنى: "لا إله إلاَّ الله"، بالسمع والطاعة لله ولرسوله، والنصح لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، فكانوا بذلك خير أمة أُخرجت للناس.

{فَإِنَّمَا يَسَّرنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَومًا لُّدًّا}

 

{فَإِنَّمَا يَسَّرنَاهُ}: الضمير للقرآن، بلسانك: أي بلغتك العربية ليتيسر فهمه، والاعتبار بما فيه من قصص الماضين؛ ذلك لأن جميع أخبار الذِّينَ ذكروا من أول السُورَة من الأنبياء والرسل إنما كانت بلغات غير عربية، فجاءت هنا ميسرة باللسان العربي المبين ليسهل فهمها، ولذلك جاء الربط بالفاء متمكنًا، والتيسير من الله منة عظيمة، إذ لا يقدر على نقل جميع الأحاسيس والعواطف وما يجري في الضمائر إلاَّ خالق الضمائر والقلوب العليم بذات الصدور، فالله وحده العليم الخبير قادر على أن يترجم اللغات الترجمة الحقيقية التي لا يضيع منها شيء من المعنى، والتي يسهل إدراكها والاستفادة منها للذين يتكلمون العربية أو يتعلمونها، وينبغي على كل مسلم أن يتعلم العربية حتى يتيسر له فهم القرآن؛ لأنه ميسَّر بلسانها، فكأن في هذه الآية إشارة إلى وجوب تعلم لغة القرآن حتى نحسن فهم ما فيه من المعاني، والخطاب هنا إلى رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ ثم إلى كل من يقوم بأمانة الدعوة والتبليغ من بعده، وينبغي للداعية أن يتقن لغة المدعوين حتى يدعوهم بلسانهم، والغرض من التيسير التبشيرُ والإنذار، قال الله تعالى:

 

{لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَومًا لُّدًّا}

 

{لِتُبَشِّرَ بِهِ}: أي بالقرآن، {الْمُتَّقِينَ}: تبشرهم بحسن المصير وحسن العاقبة عند ربهم، فليثبتوا على تقواهم وليصبروا على أذى أعدائهم، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، سيوفيهم أجورهم غير منقوصة وسيدخلهم مدخلا يرضونه، والبشارة هنا جاءت مطلقة لم تقيد بذكر المبشَّر به، هذا أروع وأبلغ في تعميم المعنى وتوسيعه وشموله جميع مراحل التبشير في الدنيا وفي الآخرة، فلنترك الفكر يذهب فيها مذاهب {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون} (السجدة:17)، تلك هي عاقبة التقوى، وذلك هو مصير المتقين، والتقوى: معنًى جامع للخير كله، وفيها معنى الوقاية والحذر، فهم يعملون أعمال البِرِّ يرجون بها رضوان الله ويخافون عذابه، ويجتهدون في إخلاص العمل لوجه الله، ويخافون ألاّ يقبل منهم {والذِّينَ يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} (المؤمنون:60)، هذا شأنهم في الطاعة، وهم عن المعصية ناكبون، قد عصمتهم تقواهم من ارتكابها، {إذا مسّهم طائفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}، ليسوا معصومين من الذنوب، ولكنهم سرعان ما يتوبون منها وسرعان ما يتذكرون، أولئك لهم البشارات من الله

أمَّا أهل الكفر والإصرار والعناد والجدال بالباطل فقد قال الله في شأنهم:

 

{وَتُنذِرَ بِهِ قَومًا لُّدًّا}

اللَّدَدُ في الخصومة: هو العناد واللَّجاجة، والتمسك بالباطل ولو ظهر الحق، وهم ينم عن طبع الكبر في النفوس الخبيثة {إن الذِّينَ يجادلون في ءَايات الله بغير سلطان اَتَاهمُ إن في صدورهم إلاّ كبرٌ ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير} (غافر:56)، وصف الله المجادلين في آيات الله بغير سلطان من علمٍ بالكِبْر، وهو العليم بطبائع النفوس، ووصف الله قومًا يعاندون رسوله بعدما شهدوا له بالصدق والأمانة، وبعدما شاهدوا براهين الرسالة ومعجزاتها، وصفهم بأنهم: {قَومٌ لُّدًّا}، وما أحراهم بهذا الوصف وما ألزمه بهم، فأمر الله نبيه أن ينذرهم بالقرآن وكفى به نذيرًا، فإن فيه من القوارع والوعيد ما أن لو أنزل على جبل لهدّه {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله} (الحشر:21)، {ولو أن قرءَانًا سُيِّرَت به الجبال أو قُطِّعَت به الارض أو كُلِّم به الموتى بل لله الأمر جميعًا} (الرعد:31).

 

وأطلقت النذارة هنا ولم تقيد بمفعول به كما مر في البشارة، وإطلاقها أروع وأبلغ لتؤذن بالعموم أي أنذرهم بجميع أنواع الشرور والنكال والعذاب والحسرات في الحياة وفي الممات، فيا ويلهم مما ينتظرهم إن لم يتوبوا ويرجعوا إلى الحق قبل الفوات، لله ما أبلغ هذه الجملة الوجيزة من كلام الله ماذا تحمل من معانٍ عظيمة لا يزال يتكرر تعبيرها في النفوس مدى الحياة، فلا يعرض عنها إلاّ الصم البكم العمي الذِّينَ لا يعقلون، ونعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ومن همزه ونفخه، ونعوذ بالله من الكبر، فإنه إذا تمكن في الصدور جعل قلوبها في أكنة، وجعل في آذانها وقرًا، وجعل بينها وبين كلام الله حجابًا مستورًا، فلا ينفع الإنذار وإنما تقوم به الحجة عليهم يوم يعترفون ويقولون {بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما أنزل الله من شيء إنَ اَنتم إلاّ في ضلال كبير وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقًا لأصحاب السعير} (الملك:09-11)، تلك هي عاقبة القوم اللُّدِّ، وهذا ما ينذَرون به، ذلك وهو حظُّهم من الإنذار، الاعتراف يوم لا ينفعهم الاعتراف، والندم يوم لا يجدي الندم، {ولات حين مناص} (ص:03)، ولو كانوا أهلا للاعتبار لاعتبروا بمن مضى من الأمم التي عاندت رسل الله فأهلكها الله وأبادها وجعلها أحاديث.

 

{وَكَمَ اَهلَكنَا قَبلَهُم مِّن قَرنٍ هَل تُحِسُّ مِنهُم مِّنَ اَحَدٍ اَو تَسمَعُ لَهُم رِكزًا}

 

يختم الله السُورَة بهذه الآية الرائعة الرهيبة التي توحي بجلال الله وعظمته وأنه الحي القيوم، الأول والآخر، الذي يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، {كل شيء هالك إلاّ وجهه له الحكم وإليه ترجعون} (القصص:88).

 

يقول ـ تعالى ـ: {وَكَمَ اَهلَكنَا قَبلَهُم مِّن قَرنٍ}

 

أي ما أكثر الأمم التي أهلكناها، والقرنُ: هو الأمة التي جمعها عصرٌ من العصور في ظل سلطان في قطر من الأقطار، كانت هذه الأمة متمكنة من أمرها تدبر شؤونها، لها حضارة وعمران ثم زالت وبادت، فلم تبق إلاّ آثارها العمرانية خاوية، وأخبارها تتداولها ألسنة الناس بعدهم، وما أكثر القرون الماضية، وما أكثر مواطن آثارها الشاهدة على عمارتها لهذه الأرض وتمكُّنها منها، فما على العاقل إلاّ أن يسير في الأرض فينظر إلى هذه الآثار ويعتبر، لا يخلو قطر من الأقطار من آثار مدن وقرى تشهد لأهلها بالقوة والسلطان والعلوم.

 

اقرأ كتب التاريخ، وقِف على الأطلال الضخمة المعالم، واستمع إلى أخبارهم وتفكر، وانظر هل بقي شيء من سلطانهم وقوتهم، تفكر وتسمَّع وانظر وتحسَّس بين آثارهم

 

{هَل تُحِسُّ مِنهُم مِّنَ اَحَدٍ اَو تَسمَعُ لَهُم رِكزًا}هل تُحسُّ من هؤلاء الهالكين من أحد؟! لا شيء مطلقًا، تخيَّل ما كان هناك من جلبة وصخب في أسواقهم وميادينهم وشوارعهم وملاعبهم، هل تسمع لهم اليوم ركزًا، أي صوتًا خفيًا؟! سكنت الأصوات وهدأ الضجيج، وخلت الميادين والأسواق والشوارع، وخربت الديار، فلا داعي ولا مجيب، ولا حاكم ولا محكوم، ولا بائع ولا مشترٍ، ديارهم كأن لَم تغن بالأمس، فهي خاوية على عروشها، تفكّر أيها العاقل واعتبر بآثارهم وأخبارهم، ولا تغتر بالحياة فإنها ذاهبة، ذاهب من فيها ولا يبقى إلاّ وجه ربك ذو الجلال والإكرام، وفي هذا التفكر ما يقهر النفوس العالية، ويردُّ إليها صوابها، ويكشف عن حقيقة هذه الحياة الدنيا، فلا تغترَّ بها ولا تطغَ، وفيها ما يلفت العقل إلى الاستعداد لدار البقاء والتزوّد لها بما يبقى إن كان فيه ذرة من إيمان، وفيه تسلية من الله لرسوله والمؤمنين، فلا يتألموا من سخرية أعداء الله، ولا يضيقوا بأذاهم، فسوف يهلكون كما هلك من كان قبلهم ممن هو أشد منهم قوة وأكثر جمعًا، والذِّينَ عمروا الأرض أكثر مما عمروها.

 

وفي هذه الآية إنذار شديد لمن أعجب بقوته وسلطانه وماله وجاهه من هؤلاء الكفار، الساخرين من أنبياء الله ورسله، النابذين كتاب الله، وراءهم ظهريًا، فلينظروا إلى من كان قبلهم من القرون هل بقي منهم من أحد، والتعبير في الآية بِـ: {هَلْ} الإستفهامية التي يراد بها النفي: تعبيرٌ في غاية الروعة، فيه تحريك للعواطف والعقول، وإثارة للنفوس حتى تنظر فتحكم بنفسها الحكم الصحيح الذي لا محيد عنه، فهو أبلغ من الإخبار.

 

وفي الآيات التي ختمت بها السُورَة خلاصة لما في السُورَة من أولها، فيها استخلاص الموعظة البليغة من أخبار الماضين، وبيان عاقبة أهل الإيمان والتقوى والصلاح، وعاقبة أهل الغي والجحود والعناد، وفيها الانذار لِمن يعرض عن الحق ويَلِجُّ في الجدال، وفيها التبشير للذين استجابوا لربهم واتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات، ومن أجل ذلك يَسَّر مُنَزِّل القرآنِ القرآنَ بلسان عربي مبين، وهو لسان مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ وقومه، ولسان أهل الاستجابة لكتاب الله، يتعلَّمونه ويعلمونه أبناءهم، ولا سبيل لهم إلى فهم دينهم إلاّ بإتقان لغة القرآن.

 

نسأل الله أن يفتح صدورنا لفهمه، وأن يجعلنا ممن ينتفعون بذكره، ويتعظون بزجره، ويقومون بحفظه وتلاوته، والعمل بما فيه، آمين يا رب العالمين.

 

انتهى تفسير هذه السُورَة بما تيسّر من عون الله، والحمد لله رب العالمين.

 

*** تَمَّ تفسير سُورَة مريَم ***