﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾

ذكر الله في هذه الآية الأسباب التي تنتشل الإنسان من الخسران في الدنيا وما يترتب عليه من الخسران في الدار الآخرة، وهذه الأسباب التي تعتبر صمّام الأمان من هذا الخسران هي: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي الحقّ، والتواصي بالصبر، وسنحاول أن نتحدث عن هذه الأسباب بشيء من الإيجاز.

 

السبب الأول: هو الإيمان، والإيمان عنصر فعّال في حياة الإنسان، وبدون الإيمان يفقد الإنسان كل قيمة من قيمه، كما أنه يصبح في هذه الحياة حائراً متردّداً لا يعرف من أين جاء، ولا إلى أين يذهب، وماذا عليه أن يعمل في حياته هذه التي هي بين المبدأ والمصير، ولكنّ الإيمان هو الذي يحلّ له الألغاز، ويبصّره بأمره، ويرفع حيرته، وينتشله من هذا الضياع.

 

أثر الإيمان في نفوس أصحابه:

وحسبكم دليلاً على قوة الإيمان الفاعلة تأثير هذا الإيمان في سحرة فرعون، ماذا كان هدفهم قبل أن يلامس الإيمان شغاف قلوبهم؟ وما هو مطمح أبصارهم آنذاك؟ قد كان همهم محصورا في المنافع المادية فحسب، ولذلك قالوا لفرعون عندما جاءوا إليه: ﴿ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ﴾، ولكن عندما وقر الإيمان في قلوبهم، وفتّح بصائرهم، وأرهف حسهم، وبصّرهم بحقيقة هذه الحياة، وحقيقة ما بعدها، ماذا قالوا لفرعون مصر؟ قالوا له: ﴿لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾.

 

هذا الإيمان نفسه هو الذي حول العرب مما كانوا فيه وعليه من الضلالة والضياع والتشتت، والأنانية والغطرسة والفساد في الأرض إلى ما انتقلوا إليه؛ حتى صاروا قادة الأمم في الخير، اجتمعت كلمتهم على حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكانوا أرحم الناس بالناس، يصفهم الأستاذ الكبير مصطفى صادق الرافعي عندما كانوا في حالة لم يلامس الإيمان فيها شغاف قلوبهم فيقول: "كانوا بين راع للغنم، وداع للصنم، وعالم على وهم، وجاهل على فهم، وإنسان كأنه من شره آلة لفناء الإنسان، وشيطان كأنه من خبثه مادته من جنس الشيطان"، ولكن بعد ذلك تحوّلوا إلى وضع معاكس وطبيعة مخالفة لما كانوا عليه، حتى صاروا كما يصفهم الأستاذ نفسه: "كأنما جاء هذا القرآن الكريم الذي غرس الإيمان في قلوبهم فأمسك بجزيرة العرب من طرفها، فنفضها تحت شعاع الشمس، فتفرّقت ذرّاتها على جميع أرجاء الأرض، وإذا بكلّ ذرّة وراءها عربي يحمل كتاب الله إلى الخلق داعياً إلى الله كأنما أُرسِل من قِبل الله بشيراً ونذيراً".

 

وهذا الإيمان هو الذي انتزع السقائم والأحقاد التي كانت متوارثة في قلوب طرفي الأنصار الأوس والخزرج، بعد ما كانوا متناحرين متقاتلين مدة 120 سنة يتوارثون العداوات والثارات والتِرات ، وإذا بهم يتحولون إلى إخوانٍ متصافين في الله تعالى متحابّين فيه، وهذا الإيمان هو الذي جعل المهاجرين لا يبالون بما يتركونه وراء ظهورهم من مال وأهل وولد في سبيل نصرة الله ورسوله.

 

هذا الإيمان هو الذي جعل الأنصار تتفتح قلوبهم لاستقبال إخوانهم المهاجرين في دار الهجرة مع أنها دار محدودة المساحة ومحدودة الموارد، ومن شأن الناس أن يضيقوا ذرعا بالمهاجرين؛ لأنهم يشاركونهم في خيراتهم ويضايقونهم في أرضهم، ولكنّ الأنصار كانوا بخلاف ذلك، فكانوا يحبون من هاجر إليهم، وقد أثنى الله عز وجل على هؤلاء وهؤلاء ثناء يُتلى بلسان الدهر ما بقي الدهر، حيث قال: ﴿ لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ أيّ وصف أبلغ من هذا الوصف!! كيف أخرج هذا الإيمان جيلا من البشر كأنما هم مخالفون للبشر في طباعهم، أو كأن هذا الإيمان طوى هؤلاء الناس طيّاً، ونشرهم بعد ذلك نشراً بطباع غير طباعهم، وصفات غير صفاتهم.

 

هذا الإيمان هو الذي ألف بين العرب والعجم، فتآخوا في سبيل الله مترابطين من أجل نصرة الله تبارك وتعالى ونصرة رسوله – صلى الله عليه وسلم- من غير التفات إلى تمييز أو عنصرية.

 

وهذا الإيمان هو الذي جعل الخنساء تحمد الله تبارك وتعالى على أن تقبل أولادها شهداء في سبيله بعدما كانت تنوح على أخيها ذلك النواح، وتلبس الصِّدار وتشق الجيب، وتحلق الشعر، وتفعل ما تفعله من أجل موت أخيها!!

 

فما هو هذا الإيمان الذي يقيم الإنسان في حياته على نهج سوي، ثم بعد ذلك يكفل له السعادة في الدار الآخرة؟

 

                                                             **********

 بيان معنى الإيمان وجوهره:

كلمة الإيمان من حيث المدلول اللغوي هي بمعنى التصديق، يقال: آمن بالشيء، بمعنى صدّق، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى في قصة يعقوب عليه السلام مع بنيه حين قالوا: ﴿ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا﴾؛ أي وما أنت بمصدّقٍ لنا، ومادة الإيمان مأخوذة من الأمن؛ فكأن المصدِّق آمن محدِّثه التكذيب عندما صدَّقه8، وأما من حيث المدلول الشرعي فهو تصديق بقضايا معينة تصديقا تتفاعل معه النفس البشرية حتى تكون في كل جزء من أعمالها غير خارجة عما يقتضيه هذا التصديق.

 

والله سبحانه وتعالى بين جوهر الإيمان من خلال إخباره عن صفات المؤمنين، فقد قال عز من قائل: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾، وفي قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ حصر بتعريف المسند والمسند إليه وتوسيط ضمير الفصل بينهما، ويقول سبحانه: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، ويقول عزّ وجلّ : ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾.

 

والنبي صلى عليه وسلّم يحدثنا عن الإيمان فيقول كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان من طريق أبي هريرة رضي الله عنه: «الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها كلمة لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى من الطريق، والحياة شعبة من الإيمان»9، وذكرُ هذا العدد في الحديث لا يفيد الحصر، ولذلك جاء في رواية أخرى عند مسلم من طريق أبي هريرة أيضا : «الإيمان بضع وسبعون شعبة»10، وقد أفاد قوله صلى الله عليه وسلم: «أعلاها كلمة لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى من الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» أنّ الإيمان ينطوي على العقيدة والعمل والأخلاق، فالعقيدة رَمَزَ إليها بقوله: «أعلاها كلمة لا إله إلا الله»، فإنّ ( لا إله إلا الله) هي قاعدة العقيدة الحقّ، والعمل رَمَزَ إليه بقوله: «وأدناها إماطة الأذى من الطريق»، والخُلُق رَمَزَ إليه بقوله: «والحياء شعبة من الإيمان». 

 

وجاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان من طريق أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ».

 

أول هذه الخصال الثلاث التي ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام: «أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا»، وجدير بالمؤمن أن يحبّ الله سبحانه وتعالى محبة تفوق محبة كلّ شيء، وجدير به أن يحبّ رسوله صلى الله عليه وسلم محبة تفوق حبّه لجميع الناس، وذلك لأن الحب إنما ينشأ غالبا عن أمرين اثنين: فإما أن يحبّ الإنسان غيره لاعتقاده عظمة ذلك المحبوب وتفوّقه عليه، وإما أن يحبّه لبسط يده إليه بالإحسان، وعلى كلا الأمرين فإنّ الله سبحانه وتعالى هو أحقّ بأن يحبّ من كل شيء، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي سخّر هذا الوجود بأسره للإنسان، فخلْقُه هذا الكون دليل عظمته، فهو الإله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، هو خالق هذا الوجود، الذي سخّر كل ذرة من ذراته فلا تخرج عن أمره، وهو الذي يحيط بهذا الوجود علماً وحكماً، وهو القاهر لكلّ ما عداه، فهو سبحانه وتعالى لا يُكتَنف عِظَمه ولا يُحاط بقدرته، وبجانب ذلك سخّر هذا الوجود لمصلحة الإنسان، فمن أحق منه بالمحبة!!.

 

والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أرسله الله رحمة للعالمين كما قال عزّ وجلّ: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾، وهو بيانٌ تنقطع دونه كل لسان ويخسأ معه أيّ بيان، ذلك البيان الرباني الذي يعجز البشر أجمعون عن أن يأتوا بمثله، فالله تعالى يعلن أنه أرسل سيدنا ونبينا محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وهذه كلمة لها أبعادها الواسعة التي لا يحيط بها عقل بشر أبداً، فالله سبحانه وتعالى لم يقل: وما أرسلنك إلا رحمة للعرب، أو ما أرسلنك إلا رحمة لقومك، أو ما أرسلنك إلا رحمة للعباد، أو ما أرسلنك إلا رحمة للثقلين، أو ما أرسلناك إلا رحمة للأرض ومن فيها وما فيها، وإنما قال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾، والعالَمون جمع عالَم، والعالم يدخل فيها كلّ ما كان دليلاً وعلامةً على وجود الله ، فإذاً كل ذرة من ذرّات هذا الكون مغمورة بهذه الرحمة العظيمة ومشمولة بهذه النعمة الجسيمة، ذلك لأن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم تستهدف الإنسان، وصلاح الإنسان يترتب عليه صلاح هذا الكون، لأن الله تعالى جعل الإنسان خليفة في الأرض، وقطباً في هذا الكون تدور عليه رحاه.

 

وهو عليه أفضل الصلاة والسلام يفوق سائر البشر، قد اجتمع فيه ما تفرّق في غيره من الكمالات البشرية، فهو جدير بأن يُحبّ لعظم شأنه، وجدير لأن يُحبّ لما جرى على يديه من خير عظيم لهذه الإنسانية.

 

وإذا كان من شأن الإنسان المحبّ أن يسارع في هوى محبوبه حتى يذوب هواه في هواه، فإن الإنسان الذي يحبّ الله ورسوله لا بدّ من أن يترجم هذا الحب بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا بدّ من أن يتفاعل هذا الإنسان مع كلّ أمر من الله تعالى، أو من رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول الحق سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾، ويقول تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده»11، وفي رواية: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين»12، ويقول النبي عليه أفضل الصلاة والسلام في رواية أخرجها البزار : «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به»13.

 

هذا .. وثاني الخصال التي يجد معها المؤمن حلاوة الإيمان ـ كما جاء في الحديث المذكور أولا ـ أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وذلك أن المؤمن يحبّ أخاه المؤمن حبّاً جمّاً، فمحبّته له إنما هي بسبب صلته بالله سبحانه وتعالى، لا تكون لمنفعة مادية ولا لمصلحة دنيوية، إنما من أجل تلك الصلة التي تصلنا جميعا بالخالق العظيم تبارك وتعالى، فهذا الحب ناشئ عن حبّ الله سبحانه وتعالى، وبهذا يكون المجتمع المسلم مجتمعاً قويّاً مترابطاً برباط العقيدة الصحيحة.

 

وثالث خصال حلاوة الإيمان: أن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار؛ ذلك لأنّ الكفر ـ والعياذ بالله ـ يؤدي به إلى النار، والكفر يشمل كفر الشرك الذي يخرج الإنسان من ملة الإسلام، وكفر النعمة الذي هو اعتداء على حرمات الإسلام.

 

ويبين النبي صلى الله عليه وسلم حالة المؤمن فيقول كما جاء في الصحيحين من رواية أنس أيضا: «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه»14، فالحديث يجسِّد الحالة التي يكون عليها المؤمنون، كيف يؤاخي هذا الإيمان بين عباد الله المؤمنين حتى تكون قلوبهم جميعاً كقلب رجل واحد، وقد مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أروع التمثيل عندما قال: «مثَلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر»15.

 

فإذاً نستخلص من ذلك أن الإيمان هو عقيدة راسخة يتفاعل معها المؤمن حتى تكون أعماله كلها ترجمةً لهذا الإيمان وتصديقاً له، فليس من الإيمان في شيء أن يؤثر الإنسان هوى نفسه على طاعة ربه، وأن يحرص على أن يستبدّ بالمصلحة لنفسه وينسى إخوانه في ذات ربه، فإنّ ذلك مما ينافي هذا الإيمان، وحسبكم أن السلف الصالح كانوا يعدّون مخالفة أوامر الله سبحانه وتعالى منافيةً للإيمان في أي شيء، فعندما أبصرت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها امرأةً قد لبست ثياباً رِقاقاً، قالت: "ما آمنت بسورة النور امرأةٌ تلبس هذه الثياب"، ومِصداق ذلك في كتاب الله عز وجل، فإنّ الله سبحانه عندما ذكرَ بني إسرائيل وذكرَ قبولهم لبعض ما جاء في التوراة، وإعراضهم عن بعض ما جاء فيها قال: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾، فجعل الرفض لبعض أوامر الله سبحانه وتعالى في الكتاب كفراً بالكتاب.

 

هذا .. وعند الرجوع إلى ما يقوله السلف الصالح في الإيمان نجد أن آراء السلف منطبقة تمام الانطباق على مفهوم الإيمان في الكتاب العزيز والسنة النبوية، فقد أخرج أبو القاسم اللالكائي بسنده إلى الإمام البخاري أنه قال: "أدركت نحو ألف من السلف وما وجدتهم يختلفون في كون الإيمان قولاً وعملاً"16، وذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره أنّ غير واحد من علماء السلف حكى انعقاد الإجماع على ذلك17.

 

وقد يسأل سائلٌ فيقول: إن كان الإيمان يندرج فيه العمل الصالح فكيف يُعطف عليه؟!كما جاء ذلك في مواضع من الكتاب العزيز، ومن تلك المواضع هذه السورة.

 

والجواب: ما قاله بعض المحقّقين من المفسرين، وهو أنّ الإيمان إن عُطِف عليه العمل كان بمعنى العقيدة، وإن ذُكِر مطلقا كان بمعنى العقيدة والعمل.

 

على أننا يجب علينا أن ننظر في أركان هذه العقيدة، وكيف تجعل الإنسان يتفاعل معها هذا التفاعل بحيث تكون أعماله مترجِمة لهذه العقيدة، فالإيمان المطلوب من الإنسان هو ما أجاب به رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام حينما سأله عن الإيمان: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره»18، فالإيمان بكل واحد من هذه الأركان الستة يقتضي التفاعل التام مع أمر الله سبحانه وتعالى، وبيان ذلك كالتالي:

---------------

8-    راجع: الجوهري؛ الصحاح (مادة أمن)، وابن منظور؛ لسان العرب (مادة أمن).

9-    رواه البخاري (8)، ومسلم (51).

10-رواه مسلم (50).

11-رواه البخاري (13).

12- رواه البخاري (14)، ومسلم (63).

13-رواه ابن أبي عاصم في " السنة " ( رقم 15 ) والطبراني في " المعجم الكبير " ، وأبونعيم في " الأربعين " كما في " جامع العلوم والحكم " ( ص489 )، والخطيب في " تاريخه " ( ج4 / ص469 ) ، والبيهقي في " المدخل " ( رقم 209 ).

14-رواه البخاري (12)، ومسلم (64).

15-رواه البخاري (5552)، ومسلم (4685).

16-رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (284).

17-ابن كثير؛ تفسير ابن كثير 1/165

18-رواه البخاري (48)، ومسلم (9)

                                                                      **************

 

 

(1) الإيمان بالله تعالى هو الإيمان بموجد هذا الوجود الذي تسبِّح بحمده السماوات والأرض، ويتجلى وجوده في كل ذرّة من ذرات هذا الكون بأسره، بل كل ذرة من ذرات هذا الكون إنما هي كلمة من كلمات الله ناطقة بحمده سبحانه وتعالى، ودالّة على وجوده عزّ وجلّ، وما يأتي من بعد ذلك إنما هو كالشرح لهذه الكلمة، فالكائنات كلها مُعربة عن افتقارها إلى واجب الوجود لذاته الذي أخرجها من العدم إلى الوجود؛ إذ ما من شيء في هذه الكائنات إلا وهو دالٌّ على أنه حادث، كان بعد إن لم يكن، وكلّ حادث إنما يفتقر إلى مُحدِثٍ أحدثه .

 

 فنحن عندما نظرنا إلى هذا المسجد لأول مرة عرفنا أنّ أحداً بناه مع أنّ جميع مواد البناء كانت موجودة قبل أن يقوم هذا البناء، فالحديد كان موجوداً، والإسمنت كان موجوداً، والأتربة كانت موجودة، وكلّ ما تكوّن منه هذا المسجد كان موجوداً من قبل، ولكنْ لا يمكن أن تجتمع هذه الأشياء وتلتحم بنفسها، ويقوم منها هذا المسجد بدون أن يكون هنالك بانٍ صمّم هذا البناء وقام ببنائه، ولئن كان هذا فيما كانت موادّه موجودة فكيف بالكون الذي بأسره لم يكن شيئاً يذكر!! بل ذلك يظهر للإنسان في نفسه، فإن الإنسان يعلم أنّه مرّ عليه زمن لم يكن شيئاً مذكوراً، فالإنسان إن كان ابن أربعين فقبل تلك الأربعين لم يكن شيئاً يذكر، وإن كان ابن خمسين فقبل تلك الخمسين لم يكن شيئاً يذكر، وإن كان ابن ستين فقبل تلك الستين لم يكن شيئاً يذكر، فكيف يمكن لهذا الشيء الذي لم يكن موجوداً قط أن يُخرج نفسه من العدم إلى الوجود؟!! إذاً لا بدّ من مُوجِدٍ أوجد هذا الوجود.

 

على أنّ الإنسان وهو ينظر إلى هذا الكون المترامي الأطراف الواسع الأرجاء يرى أنّ هذا الكون متناسقٌ تناسقاً عجيباً، بحيث إنّ أيّ ذرّة من ذرّاته لم تشذّ عن نظامه الذي قلنا بأنّ مسافاته المكتشفة وصلت إلى أبعاد عظيمة، وهذا التناسق ما بين ذرّاته أدى إلى التناسق ما بين جزيئاته، والتناسق ما بين جزيئاته أدى إلى التناسق ما بين مركّباته، وهكذا، فالكون بأسره كلّه مقدّرٌ تقديراً عجيباً من ذراته الدقيقة بل ممّا هو أقلّ من هذه الذرات إلى المجرات الواسعة كما يدل على ذلك قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾، هذا التناسق العجيب في هذا الكون هو دليلٌ على أنّ الكون وحْدة متكاملة، كل جزء منه مكمّل لبقية الأجزاء.

 

وهل يمكن أن يكون الكون كذلك إلا إذا كان صادراً من مكوّن واحد، فلو كان هناك أكثر من مكوّن واحد لكان كلٌّ منهم مستقلاً بإرادته، فهذا يريد أن يكون هذا الشيء أبيض والأخر يريده اسود، هذا يريده ناعماً والآخر يريده خشناً، هذا يريده قصيراً والآخر يريده طويلاً، وهكذا، فالاختلاف بين الإرادات يؤدي إلى الاختلاف في المراد، ولكنْ تناسقُ هذا الكون بأسره إنما هو شاهد على وحدانية مكوّنه، ولذلك عندما يقرّر سبحانه وتعالى أعظم حقيقة في هذا الوجود وهي وحدانيته؛ يلفت انتباه الناس إلى هذا النظام الموجود في هذا الكون، إذ يقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾، ثم يُتبِع ذلك قوله: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.

 

فإذاً هذا الكون بأسره هو وحدة متكاملة، وهو دالٌّ على وحدانية مكوّنه سبحانه وتعالى، ثم مع ذلك يتجلى للإنسان أنّ الله هو بكلّ شيء عليم وعلى كلّ شيء قدير، وأنّه أحاط بكل شيء سمعاً، وأحاط بكل شيء بصراً؛ إذ لا يمكن أن يكون هذا الكون مع هذا النظام الذي نشاهده عليه صدر عن خالق جاهل أو عاجز، أو أصمّ أو أعمى، أو ميت تعالى الله عن ذلك، ولهذا كان حقّ هذا المكوِّن الذي انفرد بإخراج هذه الكائنات بأسرها من العدم إلى الوجود أن يُعبد ويُطاع، ويُشكر على نِعمه وهباته، ومن هنا كان الإيمان بالله دافعاً للإنسان إلى طاعته لربه تعظيماً له سبحانه ، ورجاءً لفضله وخوفاً من عقابه.

 

(2) الإيمان بملائكة الله: فالإيمان بهم إنما هو إيمان بخلْقٍ من خلق الله سبحانه، خلْق لا يقعون تحت الحس البشري؛ أي لا نراهم بأعيننا ولا نسمعهم بآذاننا، ولكن علينا أن نؤمن بهم، وإيماننا بهم إيمان بالغيب الذي أمرنا الله سبحانه وتعالى به.

 

وهؤلاء الملائكة يختلفون عنا في طباعهم وأحوالهم وأفعالهم، والله سبحانه قد جعل لهم صفاتٍ تختلف عن صفاتنا ، وقد أوتوا من القدرات والسعة في تكوينهم وخلقهم ما لم نؤتَ شيئاً منه، فالله سبحانه وتعالى خلقهم خلْقاً يختلف عن خلقنا، فهم أوتوا من القدرات بحيث يستطيعون أن يتمثّلوا من صورة إلى صورة ، ومن وضع إلى وضع ، وفي بيان عِظَم خلْقهم جاء حديث الرسول عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام الذي روي عن طريق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه وصف جبريل بقوله: «لم أره في صورته التي خلقه الله عليها إلا مرتين رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظمُ خلقه ما بين السموات والأرض»19.

 

ومع ذلك فإن هؤلاء الملائكة ـ على هذه القدرات وعلى ما أوتوه من سعة في الخلق ـ تتضاءل نفوسهم أمام الله تعالى، فهم كما وصفهم الله تعالى في قوله: ﴿ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾، وقوله سبحانه: ﴿ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴾، وقوله عزّ وجلّ: ﴿ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾، وهذا مما يستدعي أن يكون هذا الذي آمن بهؤلاء حريصاً على التشبّه بهم في طاعة الله سبحانه وتعالى، فلئن كانوا مع هذه العظمة التي خُلِقوا عليها يتضاءلون إلى هذا الحدّ أمام عظمة الله، ويحرصون على أن يطيعوه ولا يعصوه، فكيف بنا نحن!! فجدير بالإنسان أن يكون حريصاً على أن لا يعصي ربه؛ بحيث يستشعر عظمة الله في جميع أحواله.

 

ومع هذا فإن لهؤلاء الملائكة الكرام وظائف متعددة، من بينها تسجيل ما يصدر عن الإنسان، يقول سبحانه وتعالى: ﴿كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾، وإذا كان من شأن الإنسان أن يخاف الرقباء الذين يرقبونه لتسجيل أعماله ونقلها إلى من يفوقه قوة من الناس، وإذا كان من شأن البشر أن يخافوا من رجال المخابرات أن يطّلعوا على ما يخالف سياسة الدولة من تصرفاتهم وأعمالهم؛ فما أجدر هذا الإنسان بأن يخشى أن ترى هذه الملائكة من تصرفاته وأعماله ما يخالف أمر ربّه عزّ وجلّ، وأن يسجّلوا ذلك عليه في صحيفته.

 

ومع ذلك كله هناك وظائف أخرى متعددة لهؤلاء الملائكة بحسب ما جعل الله سبحانه وتعالى من وظائفهم، منهم ملك الموت وأعوانه، وهذا مما يستدعي الإنسان أن يكون مستشعراً لقاء ربه، حريصاً على طاعته ومرضاته، إذ لا يدري متى يفجؤه ريب المنون، ومن هؤلاء خزنة النار والعياذ بالله، ومنهم خازن الجنة، ومنهم الملائكة الذين يدخلون على الأولياء في الجنة بسلام ، فإذاً هذا مما يستدعي أن يكون هذا الإنسان ـ وهو يعرف هذه الوظائف التي لهؤلاء الملائكة ـ حريصاً على طاعة الله سبحانه ؛ لأنه يبقى بين الخوف والرجاء.

 

(3) الإيمان بكتب الله تعالى: التي هي عهد الله إلى خلقه، فالله سبحانه لم يكِل الناس إلى عقولهم المضطربة وأهوائهم المتنازعة وأفكارهم المتنوعة، بل أرسل رسله وأنزل كتبه ليهلك من هلك عن بينة وليحيى من حيّ عن بينة، وهذه الكتب ما أُنزِلت من قبل الله تعالى لأن تكون كتب تسلية للناس يقرؤونها كما يقرؤون القصص، ويطالعونها كما يطالعون الجرائد والصحف، وإنما أُنزِلت من أجل العمل بها، ولهذا فإن الإيمان بالكتب غايته أن يحرص الإنسان على تطبيق ما في كتب الله تعالى من هداية الله؛ لأنّ الإيمان بهذه الكتب لا يمكن أن يجتمع مع نبذ الإنسان لها وعدم إقباله عليها في تطبيقه وعمله، فالله تعالى يقول في بني إسرائيل عندما طبّقوا بعض ما في التوراة وأعرضوا عن بعض: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾، ويقول سبحانه: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾، هذا هو إيمان المؤمنين حقّاً بالكتاب.

 

وهذه الكتب اجتمع ما فيها من هداية وخير، وصلاح ورشْد في القرآن العظيم الذي جاء مهيمناً عليها جميعاً، فمعنى ذلك أننا مطالبون ونحن نؤمن بأنّ هذا القرآن من عند الله سبحانه وتعالى أن يتجسَّد هذا القرآن في حياتنا وأعمالنا وأقوالنا وجميع تصرفاتنا حتى لا نخرج عن القرآن وهدايته.

-------------------------

19-رواه البخاري (259)، والترمذي (2994).

 

 

 

 (4) الإيمان بالرسل: الذين هم مثال في الكمال البشري، فإنّ الله سبحانه وتعالى صنعهم على عينه واصطفاهم بنفسه، وجعلهم وعاء لهدايته إلى خلقه، فهم أصدق البشر لهجةً، وأوفرهم عقلاً، وأحسنهم سيرةً، وأصفاهم سريرةً، وأسلمهم منهجاً، وهذا يقتضي أن يكونوا لنا أسوة وقدوة، فالإيمان بهم يقتضي أن يحرص الإنسان على الاقتداء بالرسل الكرام المصطفين الأخيار، وكمالات هؤلاء الرسل اجتمعت في شخص الرسول محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام، وهيمنت رسالته على ما جاء في رسالاتهم جميعا، إذ جَمَعتْ ما تفرّق في تلك الرسالات.

 

والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم يستوجب أن يحبّه الإنسان محبةَ تفوق محبة الخلق أجمعين، فمن شأن الإنسان ـ كما ذكرنا سابقاً ـ أن يحبّ غيره لأحد أمرين، إما لأجل عظمة ذلك الغير المحبوب، وإما من أجل أنّه أسبغ يداً عليه، ومن أولى بكلا الاعتبارين بالحب من الرسول صلوات الله وسلامه عليه؟!! أما بالنظر إلى عظم شأنه وتفوّقه على غيره؛ فحسبنا أنّ أعداءه أدركوا عظم شأنه فعبّرت ألسنتهم عمّا وقر في نفوسهم، فالله تبارك وتعالى يقول: ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ﴾، فهم يدركون صدقه صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يغالبون عقولهم وفِطَرهم، فيحمِّلون أنفسهم ما لا تتحمّل من أجل تكذيبه صلوات الله وسلامه عليه.

 

وقد وجدنا من غير المسلمين في هذا العصر وفيما قبله مَن يتحدّث عن عظم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم، كان أحد هؤلاء واحداً من رادة الإلحاد في البلاد العربية، بل هو أحد الثلاثة الذين نشروا الإلحاد في بلاد العرب، وهم فرج أنطون، وسلامة موسى، وشبلي شُميّل، وشبلي شُميِّل رجل كان من قبل نصرانياً كاثوليكياً ثم تحوّل إلى الإلحاد، فصار داعية إليه، ومع ذلك اعترف بعظمة النبي صلى الله عليه وسلم، وتفوّقه على جميع البشر، وجزم بأنه لن يأتي من بعده – صلى الله عليه وسلم – من هو مثله؛ وذلك أن شبلي شُميِّل كان يقرأ مجلة المنار التي كان يحررها العلامة الكبير السيد محمد رشيد رضا بمصر، وكانت هذه المجلة فيها صفحات مخصَّصة لذكر مناقب النبي صلى الله عليه وسلم. فعندما اطلع على هذه الصفحات التي تتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتب إلى السيد رشيد رضا رسالة مختصرة يقول فيها:

 

إلى غزاليّ عصره السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار، أنت تنظر إلى محمد كنبي وتجعله عظيماً، وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله أعظم، ونحن وإن كنا في الاعتقاد الديني أو المبدىء الديني على طرفيْ نقيض فإننا يجمع بيننا العقل الواسع والإخلاص في القول، وذلك أوثق لعرى المودة بيننا، ثم قال: الحق أولى أن يقال، وتحت هذا العنوان كتب هذه الأبيات:

دع من محمدِ  في  سُدى   قرآنه ** ما قد   نحاه    للُحمَةِ  الغاياتِ

إني  وإنْ  أكُ  قد  كفرتُ  بدينهِ ** هل   أكفرنّ    بمُحكمِ   الآياتِ

أو ما  حوت  في  ناصع الألفاظِ ** من حكمٍ روادعَ للهوى وعِظاتِ

وشرائعَ   لو   أنهم   عقلوا  بها ** ما قيّدوا     العمرانَ   بالعاداتِ

نعم    المدبّرُ    والحكيمُ    وإنهُ ** ربُّ الفصاحةِ مصطفى الكلماتِ

رجلُ الحِجا رجلُ السياسةِ والدَّها ** بطلٌ حليفُ النصرِ في الغاراتِ

ببلاغةِ القرآنِ   قد  غلب  النُّهى ** وبسيفهِ   أنحى  على   الهاماتِ

من دونه الأبطالُ في كلِّ  الورى ** من سابقٍ   أو حاضرٍ   أو آتي

 

هذا .. وإذا جئنا إلى اليد البيضاء التي قدّمها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فانّ كلّ خير جاءنا إنما جاءنا من طريقه عليه أفضل الصلاة والسلام، فالله أنقذنا به كما أخبر عن نفسه عليه الصلاة والسلام: «إني آخذ بحُجَزكم عن النار»20، والله تعالى يمتنّ علينا به ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾، فإذاً محبته صلى الله وعليه وسلم يجب أن تكون فائقة على محبة غيره، جاء في الصحيحين من رواية ابن عمر ومن رواية أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده»، وفي رواية: «من والده وولده والناس أجمعين».

 

ومحبته صلى الله عليه وسلم ليست مجرد عاطفة لا تكاد تثور حتى تغور، ولا تكاد تشتعل حتى تنطفىء، وإنما محبته عقيدة راسخة في النفس، على أن الإنسان من شأنه أن يسارع في هوى محبوبه بحيث يذوب هواه في هواه، وتذوب إرادته في إرادته، وعليه فإنّ الإنسان الذي يحبّ الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن تذوب إرادته في إرادة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بحيث يقدّم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ونهيه في كلّ شيء من أموره، والنبي عليه أفضل الصلاة والسلام أولى بالاتباع والتأسي، يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾.

 

(5) الإيمان باليوم الآخر: الذي يعني التصديق بالمعاد بعد هذه الحياة التي نعيشها، وهذا التصديق إنما هو مطلوب ليثمر ثمرات في حياة المصدِّق، ذلك لأنّ الإيمان باليوم الآخر يأتي رديف الإيمان بالله تعالى، حيث نجد أنّ الله سبحانه وتعالى عندما يريد أن يؤكّد شيئاً في كتابه يقرنه بالإيمان بالله واليوم الآخر، وعندما يريد أن يؤكِّد على أمر أو نهي، أو يريد أن يرسِّخ سلوكاً معيناً في حياة الناس يقرن ذلك بالإيمان بالله واليوم الآخر، فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾، ويقول سبحانه: ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾، ويقول تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾، ويقول عزّ وجلّ: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ﴾.

 

فإذاً الإيمان باليوم الآخر له أهميته في حياة الإنسان، تأتي هذه الأهمية بعد أهمية الإيمان بالله؛ ذلك لأن الإيمان بالله إنما هو الإيمان بالمبدئ العظيم، فهو إيمان بمَبدأ هذا الكون؛ لأن الكون كله إنما هو صادر عن الله، هذا الإيمان كما قلنا يعرِّف الإنسان بما لله من نعم وفضل أسبغه عليه، إذ هو يسْبَح في خضمِّ نعمه تبارك وتعالى بحيث لو وقف حياته بأسرها منذ بداية إدراكه وإلى أن يلقى الله في عبادة الله والقيام بطاعته وإنفاذ أوامره ولم يمرّ عليه وقت إلا وهو في طاعة الله لما كان موفّياً بحقّ أصغر نعمة من نعم الله، فكيف بهذه الآلاء وهو يسبح في خضمّ هذه النعم من قبل ولادته وإلى وفاته؟!!

 

فإذاً حقّه سبحانه حقّ عظيم، وذلك يقتضي أن يكون الإنسان قائما بقدْر مستطاعه بأداء هذا الحقّ الواجب لله تعالى، ولكنْ هناك رغبات جامحة ونزعات ونزغات في النفس البشرية تجعل الإنسان ينسى هذا الحقّ مع ما جُبل عليه من حبّ المصلحة لنفسه، ولذلك عندما يكون الإنسان مؤمناً بالمعاد فإن إيمانه به يكون مذكِّراً له بهذا الحق الواجب عليه؛ لأنه يعرف أنه ينقلب إلى معادٍ يُجازى فيه على عمله، ويجني فيه ما غرس خيراً كان أو شراً، فلذلك يحرص على أن يعمل لذلك المعاد الذي ينقلب إليه. على أنّ وجود الإنسان في هذه الحياة وجود محدود، وانتفاعه بكل شيء انتفاع محدود، والإنسان لا يدري متى تنتهي حدود أموره، لا يدري متى يفجؤه ريب المنون، فعندما يكون هذا الإنسان غير مدرك لذلك قد يتقاعس عن الأعمال الصالحة ويقول لعلني لا أدرك أن أستوفي خيرها في هذه الدنيا، بخلاف ما إذا كان مؤمنا باليوم الآخر، فإنّ ذلك الإيمان يجعله مستعلياً على هذه الرغبات الجامحة في نفسه، ويدرك أنه إن لم يستوفِ أجره في هذه الدنيا فإن له آماداً طوالاً في الدار الآخرة يستوفي فيها أكثر من أجره، ويزيده الله تعالى من فضله، فلذلك يحرص هنا على أن يعمل الخير، ولذلك كان الإيمان باليوم الآخر مدعاة لأن يعمل الإنسان الصالحات ، فالإيمان باليوم الآخر لا يعني أن يرسّخ الإنسان في نفسه التصديق باليوم الآخر فحسب كما يرسّخ النظريات التي يراها هذا أو ذاك، وإنما يُراد بذلك أن يتحوّل هذا الإيمان إلى منهج حياة يسير عليه الإنسان في حياته هذه.

 

(6) الإيمان بالقدر خيره وشره: ومعنى ذلك أن يعتقد أنّ كلَّ شيء يجري في هذا الكون إنما تصرِّفه تدابير القضاء والقدر، فكل شي مقضيٌّ عند الله، وعندما يدرك الإنسان أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له فإنه يتلقى كلّ ما يصيبه في هذه الحياة برحابة الصدر وبقوة الإيمان، ويدعوه ذلك إلى أن يسلّم الأمر لله، ويخضع لحكمه، ويذعن له، فإنّ في ما يصيبه عبرةً له، فإن اعتبر وادّكر ورجع إلى منهاج الله سبحانه وتعالى فاز بسلامة الدنيا وسعادة العقبى.

 

السبب الثاني: العمل الصالح،  يقول تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾؛ أي وعملوا الأعمال الصالحات، فالصالحات وصف لموصوفٍ لم يُذكر، أو أنَّ الصالحة نفسَها صارت في مكان الموصوف؛ كما تطلق السيئة على العمل المخالف لأمر الله سبحانه وتعالى مع أنها في حقيقتها وصف للعمل.

 

والعمل الصالح ـ كما سبق الحديث ـ إنما هو كالظلّ للإيمان، فلا ينفك الإيمان عن العمل الصالح، بل لا بدّ أن يكون المؤمن جامعاً ما بين إيمانه بما فرض الله تعالى عليه أن يؤمن به، وما بين هذه الأعمال الصالحة.

 

والأعمال الصالحة إنما تقاس بمقاييس الحق التي أنزلها الله سبحانه، وتوزن بموازين العدل، فالعمل الصالح لا يرجع إلى مقاييس البشر؛ ذلك لأن عقول البشر القاصرة هي أقلّ وأحقر من أن تَستطيع أن تُحدِّد العمل الصالح، فإن العقول البشرية لا يمكن أن تكتنف جميع الحقائق، إذ العقل هو طاقة محدودة كما أن البصر طاقة محدودة، فالبصر يبصر الشيء القريب ولا يبصر الشيء البعيد، ويبصر ظواهر الأشياء دون بواطنها، وتحول بينه الحواجز عن إبصار ما وراءها، فكذلك العقل، هو طاقة محدودة، فهنالك حواجز نفسية تحول بين هذا العقل وبين الوصول إلى كثير من الحقائق، ويستطيع أن يدرك ما كان قريباً منه، ولكن لا يستطيع أن يدرك ما كان بعيدا عنه، والعقل البشري يتأثر بمؤثرات كثيرةٍ، منها مؤثرات نفسية، ومنها مؤثرات اجتماعية، ولذلك فإن البشر يتفاوتون في الاستحسان والاستقباح، فقد تستحسن طائفة من الناس عاشت في بيئة معينة أمراً معيناً، وتستقبح ذلك الأمر نفسه طائفةٌ أخرى عاشت في بيئة أخرى، وذلك لتأثير البيئة، وقد تكون هذه العوامل المؤثرة نفسية، فيختلف اثنان في الاستحسان والاستقباح، مع أنهما نشآ في بيئة واحدة، وتربيا في بيئة واحدة.

 

وإذا كان الأمر كذلك فلا بدّ أن يكون تحديد العمل الصالح من غير هذا العقل البشري القاصر المحدود، فالتمييز ما بين العمل الصالح والعمل الفاسد إنما يرجع إلى شريعة الله سبحانه وتعالى، فما وافق الحقّ الذي أنزله الله هو من الأعمال الصالحة، وما خالف الحقّ الذي أنزله الله سبحانه وتعالى هو من الأعمال السيئة.

 

ولا بدّ لمن عمل صالحاً أن يجتنب الأعمال السيئة حتى تكون أعماله الصالحة غير مشوبة بالسيئات، وإذا ما وقع في هفوة أو زلّة فإنه يسارع بالتوبة والاستغفار والندم على ما فرّط، يقول الله تعالى في المتقين الذين وعدهم جنة عرضها السماوات والأرض: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، فإذا ما وقع أحدهم في فاحشة أو ظلم نفسه؛ فإنه يثوب إلى رشده، ويتوب إلى ربّه، ويستغفر لذنبه، ويندم على ما فرّط في جنب الله، ويقول سبحانه وتعالى أيضاً: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾، فالذين اتقوا إذا ألمّ بهم ملمّ من الشيطان الرجيم، وحاول أن يباعدهم عن المسلك الصحيح؛ تذكّروا فإذا هم مبصرون، وعادوا إلى ربّهم وأطاعوا، واستغفروا وأنابوا إليه تبارك وتعالى.

-----------------------

20-رواه البخاري (6002)، ومسلم (4234).