سورة قريش مكية وآياتها 4

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ (1)

 

متعلق بيعبد ولا تمنع الفاء من ذلك لأَنها صلة لتأكيد الربط وتلويحاً لمعنى الشرط أي إن نعم الله تعالى غير محصورة فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لنعمة الإيلاف وإنما تمنع التقديم لمعمول ما بعدها عنها لو كانت في جواب شرط محقق وهو المتبادر وهو قول الخليل وعلقه الكسائي والفراء بفعل أمر محذوف أي أعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاءِ والصيف وتركهم عبادة الله تعالى الذي أعزهم ورزقهم وأمنهم وفرع على ذلك بقوله رب هذا البيت.. الخ .

 

وعلقه الأخفش بمحذوف تقديره فعلنا ما فعلنا من إهلاك أصحاب الفيل وأهلكنا أصحاب الفيل لإيلاف لدلالة آخر السورة قبلها عليه بناءً على أنه لا يجوز تعليق ما في أول السورة في آخر ما قبلها إذ لم يوجد في القرآن ولكن إذا صار إلى هذا التقدير فليعلقه بجعلهم في آخر السورة وقد روي عنه أنه علقه به لصحة المعنى والقرب وعدم حذف وتقديم وتأخير وتأويل ومع ذلك كله ومع كون القرآن كالسورة الواحدة يمتنع عندي لوجوب المحافظة على أن تكون كل سورة مستقلة والقول بأنهما سورة واحدة فيسوغ التعليق كما أنه قول جماعة يرده الفصل بالتسمية المتواترة نطقاً وخطاً وروى أن البسملة لم توجد في مصحف أبي لكن روى أيضاً أنها وجدت فيه والمثبت مقدم على النافي.

 

ويروى أنه يراهما سورة واحدة ويعتقد ذلك ولم يبسمل خطأ في كتابه ولا يقرأ البسملة بينهما، وعن عمر بن ميمون صليت المغرب خلف عمر فقرأ في الأُولى والتين وفي الثانية ألم تر. الخ ولإيلاف قريش بلا بسملة قلنا لعله لا يصح ذلك وإن صح فلعله قرأها بمقدار لا يسمعه والتواتر نطقاً وكتابة يأتي على ذلك كله وكل الصيد في جوف الفرا وهو حجة لا محيد عنها، وفي الترمذي عن سعيد بن زيد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من أراد هوان قريش أهانه الله " .

 

وفي الترمذي عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اللهم أذقت أول قريش نكالاً فأذق آخرهم نوالاً " ، وعن الزبير بن العوام وسعيد بن المسيب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أنَّ الله تعالى فضل قريشاً بصورة لم يذكر فيها غيرهم لإيلاف قريش " وعنه - صلى الله عليه وسلم - " أن الله اصطفي كنانة من ولد إسماعيل واصطفي قريشاً من كناية واصطفي من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم " رواه مسلم عن واثلة بن الأًسقع، ويروى " اصطفي عبد المطلب من بني هاشم واصطفي أبي من عبد المطلب واصطفاني من أبي "

 

وفي مسلم عن جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الناس تبع لقريش في الخير والشر " ، وفي البخاري ومسلم " الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم " ، وعن أُم هانئ بنت أبى طالب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " فضل الله قريشاً بسبع خصال لم يعطها أحد قبلهم ولا أحد بعدهم أني فيهم والخلافة فيهم والحجابة فيهم والسقاية فيهم ونصروا على الفيل وعبدوا الله تعالى سبع سنين لم يعبده فيها أحد سواهم ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم لإيلاف قريش " .

 

وفي رواية النبوة فيهم بدل إني فيهم وعشر سنين بدل سبع سنين ويناسب أنهما سورتان أن فواصل لإيلاف ليس على طريقة الم تر ولا يحتج بهذا لأنه يقع أيضاً في سورة واحدة وإيلاف مصدر ألف بهمزة وألف مبدلة من همزة بوزن أكرم والياءِ في الآية بدل من همزة وليست همزة ألف للتعدية بل هو كالثلاثي ألف كفرح فكلاهما متعد لواحد والمراد مؤالفتهم رحلة الشتاءِ والصيف أو معاهدتهم لها من آلفة بمعنى عاهده والوزن واحد هو أفعل كأكرم أي هي شيء اعتادوه لتفضل الله تعالى عليهم فيها بعدم الخوف.

 

ويجوز أن يكون للتعدية فالأصل إيلاف الله قريشاً إيلافه إياهم رحلة أي تصييره إياهم ألفين وقريش ولد النضر بن كنانة على الأصح سميت به القبيلة وهي من تناسلوا عنه وقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قريش فقال مَن ولد النضر بفتح الميم والدال وضم الراءِ وإذا صحت الرواية لم يعدل عنها وقيل ولد فهر بن مالك بن النضير ونسب للجمهور وأجمع عليه النسابون من قريش وغيرهم فيما قال الزبير بن بكار واسمه قريش وفهر لقبه وأبو غالب كنيته وقيل قريش ولد مخلد بن النضر وهو ضعيف وقيل لا ولد للنضر إلاَّ مالك وقيل قريش هو كلاب لقب لكثرة صيده بالكلب وقيل لكثرة مكالبته للأعداء أي معالجته لهم ووثوبه عليهم واسمه عروة.

 

وزعم الشيعة أن قريشاً ولد قصي ليدخل على دون عمر وأبى بكر إذ هما فوق قصي وهو تصغير قرش وهو دابة أقوى دواب البحر تأكل ولا تؤكل وتعلو ولا تعلى، وقيل مأخوذ من التقرش وهو الكسب والتجمع لكثرة تجرهم وجمعهم الفضائل، وقيل من التقريش وهو التفتيش لأن أباهم يفتش عن أصحاب الحاجات ليقضيها وتابعوه في ذلك وقيل من التقرش وهو التجمع كانت قريش متفرقين فجمعهم إلى الحرم وسكنوه قال بعضهم:

 

أبونا قريش كان يدعى مجتمعاً     به جمع الله القبائل من فهر

 

وروي:

 

أبونا قصي كان يدعى مجمعاً     به جمع الله القبائل من فهر

 

والتصغير على كل حال للتعظيم سواءَ أقلنا من القرش على الأصل أو من التقرش أو التقريش على الترخيم بحذف والزوائد.

 

إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ (2)

 

{ إيلاَفِهِمْ } بدل كل من إيلاف قريش وفي ذلك تفخيم إذ ذكر الإيلاف أولاً غير مقيد وثانياً برحلة الشتاءِ والصيف كقولك أكرم زيداً العالم.

 

{ رِحْلَةَ } مفعول به ثان لإيلاف الثاني من معنى الأُلفة وهو أولى أو منصوب على حذف على أو لام التعليل أي معاهدتهم على رحلة ولزومهم لها أو لأجل رحلة إذ عاهدوا غيرهم في ذلك ويجوز أن يكون مفعولاً به على المعاهدة على التجوز إذ نزل الرحلة منزلة عاقل يعاهد فرمز لذلك بملائمه وهو المعاهدة.

 

{ الشِّتَاءِ والصَّيْفِ } الحاصل أنه أهلك أصحاب الفيل لتبقى رحلة الشتاءِ والصيف والإطعام لهم وعدم الخوف أو قال اعبدوه ليبقى لكم ذلك رحلة في الشتاءِ إلى اليمن وإلى مكة للتجر وسائر الأغراض ورحلة في الصيف إلى بصرى من أرض الشام وإلى الطائف للماءِ والظل ولا يتعرض لهم لأنهم أهل حرم الله عز وجل، وأفرد الرحلة لأَنه مصدر يصلح للقليل والكثير وأيضاً الإضافة للجنس فشمل الكثير فعن النقاش لهم أربع رحل لأربعة أخوة من مناف، عبد شمس يؤالف إلى الحبشة والمطلب إلى اليمن ونوفل إلى فارس وهاشم إلى ملك الشام، أخذ من هاشم خيلا فأَمنه للتجر، وقيل الإيلاف شبه الإجارة بالخفارة ويقال شق عليهم الاختلاف إلى اليمن والشام فأخصب قياله وجرش من بلاد اليمن فحملوا الطعام إلى جدة في السفن وإلى مكة على الإبل والحمير وأخصب أهل الشام وحملوا إليها فكفاهم الله أيضاً مؤنة الرحلتين وعن ابن عباس جمعهم هاشم على الرحلتين فزالت المجاعة وكانوا يقسمون ربحهم على الغنى والفقير فكان فقيرهم كغنيهم، وعن الكلبي أول من حمل السمراء أي القمح من الشام ورحل إليها الإبل هاشم بن عبد مناف.

 

فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ (3)

 

الكعبة التي حميت من أصحاب الفيل.

 

ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)

 

{ الَّذِي أطْعَمَهُم } بواسطة الرحلتين أو الأربع التي تمكنوا منها لكونهم أهل بيت الله عز وجل وولاة بيته العزيز.

 

{ مِّن جُوعٍ } عظيم يأكلون فيه الجيف والعظام والجلود والدم لدعوة إبراهيم وارزقهم من الثمرات ومن للتعليل على حذف مضاف أي لإزالة الجوع أو بمعنى عن أو الجوع علة باعثة أي لحصول الجوع وقيل من للبدلية.

 

{ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } شديد والناس بين مختطف ومنهوب ومنه خوف أصحاب الفيل وخوف الخطف في مسايرهم وبلدهم لدعوة إبراهيم { رب اجعل هذا البلد آمناً }[إبراهيم: 35] ومنه خوف الجذام والطاعون ومن للابتداءِ أو بمعنى عن اللهم آمنا من الخوف والجوع في الدنيا والآخرة، وقيل أمنهم بمحمد وبالإسلام - صلى الله عليه وسلم -، وقيل لما كفروا دعا عليهم بسبع سنين قحطاً حتى أكلوا الجلود وقالوا يا محمد ادع الله تعالى يمطرنا فقد آمنا فدعا فأخصبوا وقد احترمهم الناس لكونهم أهل بيت الله عز وجل فذلك قوله تعالى { أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.