سورة الكوثر مكية وآياتها 3

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ (1)

 

فوعل من الكثرة المفرطة وهو صيغة مبالغة وهو صفة لمحذوف أي الخير الكوثر ومذهب الجمهور أنه نهر في الجنة قال - صلى الله عليه وسلم - " هل تدرون ما الكوثر " قالوا الله ورسوله أعلم قال: هو نهرٌ أعطانيه ربى في الجنة عليه خير كثير ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد الكواكب يختلج العبد منهم فأقول يا رب إنه من أُمتي فيقال إنك لا تدرى ما أحدث بعدك ".

 

ويروى " يذاد عنه رجال من أصحابي فأقول يا رب أصحابي فيقال ما تدرى ما أحدثوا بعدك، فأَقول سحقاً سحقاً " قال أنس دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال " قد أعطيت الكوثر قلت يا رسول ما الكوثر قال نهر في الجنة عرضه وطوله ما بين المشرق والمغرب لا يشرب منه أحد فيظمأ ولا يتوضأ منه أحد فيشعث أبداً، لا يشرب منه من أخفر ذمتي ولا من قتل أهل بيتي " .

 

وعن عائشة هو نهر في الجنة عمقه سبعون ألف فرسخ ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل شاطئاه الدر والياقوت والزبرجد خص الله به نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - من بين الأَنبياءِ عليهم السلام وقالت ليس أحد يدخل إصبعه في أذنيه إلاَّ سمع خرير ذلك النهر أي صوته كصوت الأُذنين إذا سدتا.

 

وعن أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " دخلت الجنة فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ فضربت بيدي إلى ما يجري في الماء فإذا مسك أذفر قلت ما هذا يا جبريل؟ قال هذا الكوثر الذي أعطاكه الله تعالى " وقيل هو حوضه في المحشر ينصب فيه ماء من عينه في الجنة قيل هو قريب من الجنة حيث يحتبس أهلها ليحالوا من المظالم بينهم في الأرض المبدلة، وعلى نهره في الجنة طير أعناقها كأعناق الجزور قال عمر هي ناعمة فقال - صلى الله عليه وسلم - " أكلها أنعم ".

 

وعنه - صلى الله عليه وسلم - " حوضي كما بين جرباء وأدرج " وهما قريتان في الشام بينهما ثلاثة أيام ويروى كما بين صنعاء والمدينة ويروى ما بين المدينة وعمان بفتح العين وشد الميم موضع في الشام ويروى ما بين صنعاء وأيلة ويروى ما بين صنعاءِ والمدينة.

 

ويروى ما بين أيلة وعدن واختلاف الروايات يدل على أن المراد التمثيل بالوسع لكل أحد بما يعقل وبين أيلة والمدينة خمس عشرة مرحلة وأيلة آخر الحجاز وأول الشام والمخصوص به هو هو الذي في الجنة وأما في المحشر فلكل نبي حوض وأنهم يتباهون أيهم أكثر واردة وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردة، وقيل الكوثر أولاده لأَن السورة رد على من قال أبتر، وقيل أصحابه وأشياعه إلى يوم القيامة وقيل علماء أمته.

 

وعن الحسن أنه القرآن وفضائله لا تحصى وقيل تيسير القرآن وتخفيف الشرائع، وقيل الإسلام، وقيل التوحيد، وقيل النبوة، وقيل نور قلبه - صلى الله عليه وسلم - وقيل العلم والحكمة، وقيل إيثاره غيره على نفسه في المنافع، وقيل فضائله، وقيل المقام المحمود، وقيل الخير الكثير والنعم الدنيوية والأُخروية من الفضائل والفواصل وما خص فهو تمثيل لا حصر ومعنى أعطيناك الكوثر ملكناكه من الآن وستقبضه يوم القيامة وفي هذا غنى عن قولك الماضي بمعنى المضارع، وفي الخطاب مزيد تعظيم وتبشير وأنه مجرد فضل ولو قيل أعطينا الرسول أو النبي أو نحو ذلك من المشتقات فربما توهم أنه أعطيه لمضمون ذلك المشتق من الرسالة أو النبوة أو نحو ذلك.

 

فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ (2)

 

{ فَصَلِّ لِرَبِّكَ } الصلوات الخمس وغيرها كصلاة العيد والضحى خلافاً لمن يصلى لغير الله وينحر لغير الله تعالى.

 

{ وَانْحَرْ } ما قدرت عليه من الأَنعام ولا سيما البدن والضحية وتصدق بها على المساكين وغيرهم لأَجل ذلك الإعطاءِ شكراً له وخلافاً للساهين عن الصلاة وللذي يدع اليتيم ويمنع الماعون، والجمهور على أن المراد نحر الأضاحي وقيل نزلت لصلاة عيد الأَضحى ونحر الضحية، وقيل أمر بصلاة الصبح في مزدلفة والنحر بمنى، وقيل انحر وارجع في الحديبية فخطب وصلى ركعتين ونحر.

 

وفي البيهقي والحاكم وابن أبى حاتم وابن مردوية سأَل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النحر جبريل فقال رفع يديك أي إلى نحرك عند كل تكبيرة في الصلاة وإن ذلك صلاتنا معشر الملائكة وزينة الصلاة قلنا هذا حديث موضوع لو صح للزمه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أكثر منه في صلواته وكذلك الصحابة ولم نجد حديثاً صحيحاً في أنه فعله ولا في صحته ثم رأيت ابن كثير قال إنه حديث منكر جداً وابن الجوزى قال إنه موضوع وكذا حديث ابن جرير عن أبى جعفر مرفوعاً أنه رفع اليدين عن تكبيرة افتتاح الصلاة وحديث البخاري وغيره أنه وضع يمناك على يسراك ثم وضعهما على صدرك في الصلاة وكذا في البيهقي عن أنس وجماعة عن ابن عباس كل ذلك موضوع لا يصح فهذه الأُمة كلهم يعملون بنحو الضحية وغيرها في هذه الآية.

 

ومر ذكر أن سنة القرآن ذكر الزكاة بعد الصلاة وما ذكرته قريب منها بخلاف الحمل على رفع اليدين وبخلاف ما ذكره الضحاك من أنه رفعها إلى النحر للدعاءِ بعد الصلاة وهو كلام غير حديث وكان المشركون يصلون وينحرون للأَوثان فأَمرنا الله تعالى أن نصلى له وننحر له.

 

إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ (3)

 

{ إنَّ شَانِئَكَ } مبغضك مطلقاً كالعاصي بن وائل كما فسر ابن عباس والجمهور وعقبة بن معيط كما فسر به شمر بن عطية وكأبي جهل كما فسر به بن عباس في رواية وكمشركين قالوا أبتر لما مات ابنه إبراهيم في رواية عن أبى أيوب، وكأَبي لهب كما فسر به عطاءِ.

 

وعن ابن عباس كعب بن الأَشرف وجماعة من قريش، ويروى أنه دخل مكة وقالوا له إنك سيد المدينة ونحن أهل الكعبة فنحن خير أم هذا الأَبتر أو نحن خير أم هذا الصنبور فقال أنتم فنزل فيه{ ألم تر إلى الذين أُوتوا نصيباً من الكتاب }[آل عمران: 23، النساء: 44، 51] إلخ، وفيهم إِن شانئك هو الأَبتر والصنبور ما ينبت في أصل النخلة يقطع فتستريح منه هكذا محمد نستريح منه إذا مات، وقيل الوحيد الضعيف الذي لا ناصر له لا قريب ولا بعيد، والصحيح العموم بل هؤلاءِ التخصيصات سبب النزول وسببه لا يمنع عموم الحكم وشانئ اسم فاعل للاستمرار فشمل الماضي أو هو للماضي فإضافته محضة فصح الإخبار عنه بالمعرفة ومجيء ضمير الفصل وإن جعلنا هو مبتدأ فالخبر جملة لا معرفة فيجوز حمله على المضي أو على الحال أو على الاستقبال أو الاستمرار وعلى كل حال المراد من استمر على البغض فيخرج من تاب.

 

{ هُوَ الأبْتَرُ } المنقطع النسل والذكر الحسن وأما أنت فذريتك وحسن ذكرك وآثار فضلك باقية كثيرة ملأت الأرض إلى آخر الدهر والحمد لله تعالى ولك في الآخرة ما لا تحيط به دائرة وانقطع نسل هؤلاء الشانئين له ولم يبق لهم ابن ولا بنت وقيل انقطع نسل بعض حقيقة ونسل بعض حكماً بأن أسلم فقطع الإسلام بينه وبين أبيه وجده لا يلحق أباه ولا جده دعاء ولا عمل صالح منه وأكبر ولده - صلى الله عليه وسلم - القاسم ثم زينب ثم عبد الله ثم أُم كلثوم ثم فاطمة ثم ورقية رضي الله عنهم، مات القاسم بمكة ثم مات عبد الله فقال العاصي انقطع نسله فهو أبتر وكان عقبة يقول لا يبقى لمحمد عقب فهو أبتر.

 

وعن أبي أيوب لما مات إبراهيم ليلاً قال بعض المشركين لبعض إن هذا الصابئ قد بتر الليلة واعترض نسبة ذلك إلى أبى جهل بأَنه مات لعنه الله قبل موت إبراهيم ولا أسلم هذا الاعتراض لظهور أن إبراهيم مات قبل بدر وأبا جهل في بدر والسورة مدنية عند الجمهور وهو الصحيح قال أنس " أغفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إغفاءَة فرفع رأسه مبتسماً فقال أنزل عليَّ آنفا سورة فقرأ سورة الكوثر " وقيل نزلت بمكة ونزلت أيضاً والمدينة، أسأَلك اللهم أن تسقني من الكوثر والله المستعان وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.