بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

 وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)

 

{ وَالتَّينِ } فاكهة طيبة لا فضل لها فيما قيل والمعهود أن لها فضلة كسائر طعام الدنيا، فالمراد لا فضلة كثيرة معها وهو غداءِ لطيف سريع الانهضام ويقال هو أصح الفواكه غذاء إذا أُكل على فراغ البطن ولم يتبع بشيءٍ وهو كثير النفع يفتح السدود ويقوى الكبد ويذهب داءِ الطحال وغلظة وعسر البول وهزال الكلى والخفقان والربو وعسر النفس والسعال وأوجاع الصدر وخشونة القصبة ويزيل نكهة الفم ويطيل الشعر وهو أمان من الفالج وأهدى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه: كلوا فلو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه لأن فاكهة الجنة لا عجم لها فكلوها فإنها تقطع البواسير وتنفع النقرس.

 

وقال نِعْمَ السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب بالحفرة، وقال هي سواكي وسواك الأَنبياءِ قبلي ومعنى أنه لا عجم لها يطرح ولا يؤكل بل عجمها دقيق مأكول مغذ ويقال إن نفعه من النقرس إذا دق مع دقيق الشعير أو القمح أو الحلبة وحينئذ ينفع من الأورام الغليظة وأوجاع المفاصل.

 

{ وَالزَّيْتُونِ } إدام ودواء وفاكهة والمكلس منه لا شيء منه في الهضم والتسمين وتقوية الأعضاءِ ويكفيه فضلاً دهنه الذي عم الاصطباح به في المساجد ونحوها مع ما فيه من المنافع فتحسن اللون وتصفية الأخلاط وشد الأَعصاب وفتح السدد وإخراج الدود والإدرار وتفتيت الحصا وإصلاح الكلى شرباً بالماءِ الحار وقلع البياض وتقوية البصر اكتحالاً ومر معاذ بن جبل بشجرة الزيتون فأخذ منها سواكاً فاستاك به، وقال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول " نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب بالحفرة " وسمعته - صلى الله عليه وسلم - يقول " هو سواكي وسواك الأَنبياءِ عليهم السلام قبلي " .

 

وعن قتادة التين الجبل الذي عليه دمشق والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس، قيل يقال للأول طور تينا والثاني طور زيتا لأنهما منبت التين والزيتون المأكولين سمى مكانهما باسميهما، وقيل التين مسجد دمشق والزيتون بيت المقدس لأن فيهما شجرا من الجنسين، وعن كعب الأحبار التين دمشق والزيتون إيليا بلد بيت المقدس تسمية للمحل باسم الحال، وعن محمد بن كعب التين مسجد أصحاب الكهف والزيتون بيت المقدس وعبارة بعض مسجد إيليا وعن ابن عباس التين مسجد نوح عليه السلام الذي بني على الجودي والزيتون بيت المقدس، وعن شهر بن حوشب التين الكوفة والزيتون الشام.

 

ولعل المراد الأرض التي تسمى اليوم الكوفة وقد كانت منزل نوح وإلاَّ فالكوفة بلدة حادثة مصرها سعد بن أبى وقاص في أيام عمر رضي الله عنه، وقيل الكوفة بلدة خربت وهي قديمة حددت في أيام عمر، وقيل التين جبال ما بين حلوان وهمدان والزيتون جبال الشام، والمراد تشريف هذه البقاع في ضمن تعظيم المقسم عليه وذلك لشرف تلك البقاع لأنها مواضع الطاعة وفيه مناسبة للقسم بالبقاع بعد واختار بعضهم التفسير الأول بالشجر لبركة تلك الثمار كذلك.

وَطُورِ سِينِينَ (2)

هو طور سيناءَ الجبل الذي كلم الله عز وجل فيه موسى عليه السلام كما قرأ عمر وابن مسعود وطور سيناءِ بالكسر بدل سينين وقرأ أيضاً هو وزيد بن على سيناءَ بالفتح والمد بدل سينين وسينين مفرد يعرب كجمع المذكر السالم ففي الرفع سينون بالواو وتارة تلزم الياءَ ويعرب على النون، وعن الأخفش أنه جمع بمعنى شجر والواحدة سينة، وكأنه قيل وطور الشجر أي جبل الشجر.

 

وعن ابن عباس سينين الحُسْن بضم الحاءِ وإسكان السين قال عكرمة هذا المعنى بلغة الحبش، وعن قتادة مبارك حسن بفتح الحاءِ والسين من إضافة الموصوف إلى الصفة وهو جبل بالشام سمى بذلك لحسنه أو لكونه مباركاً وقيل هو بقرب التيه بين مصر والعقبة، وقيل اسم للبقعة التي فيها الجبل.

 

وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)

 

هو مكة بلا خلاف وفيه الكعبة ومولد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه بعث يأمن فيه الناس في الجاهلية والإسلام لا ينفر صيدها ولا يعضد شجرها ولا يحل لأَحد أن يلقط لقطتها إلاَّ على نية إنشائها والأَمين شبه بإنسان نفي عنه الخوف أي غير خائف أن يستحل أو ذو أمن كذلك أو هو للنسب أي ذى أمن عن أن يستحل كقوله تعالى{ حرماً آمناً } [القصص: 57، العنكبوت: 67] في وجه من أوجه تفسيره ومن دخله كان آمناً أو الأمن أهله على حذف مضاف أو على التجوز في الإسناد إلى المكان أو معنى مأمون أهله على حذف مضاف أو على التجوز في الإسناد إلى المكان أو معنى مأمون أي مأمون أهله أو على التجوز ويقال أمن بضم الميم فهو أمين غير خائف أو غير خائن.

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)

{ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ } المؤمن والكافر بدليل الاستثناءِ بعد ولو فسر بالكافر لكان الاستثناء منقطعاً والأصل فيه الاتصال .

 

{ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ } أي أعدله فهو أحسن ما يكون صورة وخصلة ظاهرة وباطنه كانتصاب القامة وحسن الصورة والإحساس والعقل وأكثر الملائكة على صورة الإنسان بلا فرج ولا فرج لواحد منهم ووصفه الله بأنه عالم قادر مريد سميع بصير وغير ذلك مما ورد فيه من ألفاظ صفة الله تعالى وخلقه الله بيده وأمر الملائكة بالسجود له وهم مكرمون شرفاءِ عنده وأحسن اسم تفضيل عام فلو حلف أن زوجه أحسن من القمر لم يحنث إلاَّ بعناية تحنثه فإن أراد الضوءِ الحسي فإنه يحنث وفي أحسن حال مقارنة من الإنسان قيل أو في زائدة وأحسن مفعول مطلق.

ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)

ثم للتراخي في الزمان على الأصل كما هو الظاهر والرد مستقبل ولتحققه كان بصورة الماضي وأجيز أن تكون لتراخى الرتبة مجازاً ومن أجاز الجمع بين الحقيقة والمجاز أنها للزمان والرتبة معاً والرد بمعنى التصيير متعد لمفعولين فأَسفل مفعول ثان كقوله:

 

فرد وجوههن السود بيضا   ورد وجوههن البيض سودا

 

أو الرد بمعنى تغيير الحال فأسفل حال من الهاءِ وأسفل السافلين أصحاب النار وهم أقبح من كل قبيح وأسفل من كل سافل يشوه الله صورهم ولا يبقيها على حسنها أو الرد النقل إلى موضع ولو لم يكن فيه قبل، أي رددناه إلى أسفل أصحاب النار السافلين وأسفل واقع على الإنسان وأجيز أن يكون واقعاً على المكان.

 

وسافلين على الناس أي الموضع الأسفل المنسوب للناس السافلين أو على الأمكنة على جمع الصفة لغير العقلاء جمع السلامة لمذكر للفاصلة أي الموضع الأَسفل من جملة المواضع السافلة وهو خلاف الأصل وذلك جهنم وأسفل خارج عن التفضيل لأَنه إن أبقى عليه كانوا كلهم في الموضع الذي هو أسفل من كل موضع في النار فلا يبقى أحد فوق ذلك الموضع إلاَّ أن يعتبر فساق الموحدين فهم فوق.

ِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)

{ إلاَّ الَّذِينَ آمنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } فيبقون على صورهم ويزدادون امتداداً وحسناً والاستثناء متصل وإن فسرنا أسفل سافلين بالهرم والضعف ظاهراً وباطناً كتقوس الظهر والشيب وتغير الجلد وكلال السمع والبصر وسقوط الأسنان وتثاقل المشي وضعف الصوت كقوله تعالى:{ يرد إلى أرذل العمر } [النحل: 70، الحج: 5] وقوله تعالى { ومن نعمره ننكسه في الخلق } [يس: 68] وذلك في الجملة ولا يصيب كل إنسان كان منقطعاً لأَن المؤمنين يصيبهم ذلك أيضاً وهذا الاستثناء المنقطع دفع لما يتوهم من أن التساوي في رذالة العمر يستتبع دخول النار، ويجوز أن يكون منقطعاً على معنى لكن الذين آمنوا لا ينقطع ثواب عملهم بالرد إلى أرذل العمر.

 

{ فَلَهُمْ أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } قدم المعمول للفاصلة والتبشير والتشويق إلى ما بعد والأجر ما في الجنة وغير ممنون غير مقطوع وغير ممنون به افتخاراً عليهم بإعطائه وإذلالهم وهذه الجملة مفرعة على الاستثناءِ لا مخبر بها عن الذين لأنه منصوب على الاستثناءِ لا مبتدأ أو هي جواب لمحذوف أي إن قيل فما حالهم فلهم أجر.. الخ أو الأجر ثواب ما قطعهم الهرم عنه وقد نووه .

 

وفي البخاري عنه - صلى الله عليه وسلم - " إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له تعالى من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحاً مقيما ثم قرأ: فلهم أجر غير ممنون " رواه أبو موسى وذكر الطبراني عن شداد بن أوس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إنَّ الله تبارك وتعالى يقول إذا ابتليت عبدي المؤمن فحمدني على ما ابتليته به فإنّه يقوم من مضجعه كيوم ولدته أُمه من الخطايا " ويقول الرب عز وجل " أنا قيدت عبدي هذا وابتليته فأجروا له ما كنتم تجرون قبل ذلك " وكذا سائر الموانع كنسيان وقهر قاهر وجنون وقد نوى أن يعمل.. ألا ترى كيف ذكر السفر في الحديث الأول وكذا فيما روى عن ابن عباس موقوفاً في الآية إذا ضعف عن العمل كتب له ما كان يعمل في شبابه ودخل بذلك تعطل عضو عن عمل بقطع أو فساد.

 

وقيل الذين آمنوا من يقرأون القرآن لا يصيبهم أرذل العمر فإن أريد فساد العقل فلعله لا يطرد وأما فساد الأعضاءِ فمشاهدة وقوعه لا تنكر وإن صح الأثر ففي قراءة على صفة مخصوصة وعلى كل حال لا يحل تفسير الآية به خصوصاً ولا دليل عليه.

فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)

{ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ } أيها الإنسان المذكور عموماً والخطاب بعد الغيبة تشديد في الزجر وهو بظاهره للكفار وبإرادة الدوام على التصديق والإلهاب فيه للمؤمن وفسر بعضهم الإنسان بالكافر فالكاف للكافر.

 

{ بِالَّدينِ } بالجزاءِ إِذا دعيت أنه لا بعث فضلاً عن الجزاءِ والباءِ للسببية والفاءِ للتفريع على خلق الإنسان من الأَطوار أي ما يحملك بعد قيام الحجة في البعث بالخلق من الأطوار على أن تكون كاذباً بسبب تكذيبك وذلك أن كل مكذب للحق كاذب في تكذيبه أي فما يصيرك كاذباً فإن إنكار البعث كذب.

 

وقيل الخطاب لسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلهاباً له على ازدياد التصديق والدوام عليه وتعريضاً بالمكذبين وماله - صلى الله عليه وسلم - فهو لنا والمعنى على ما سبق إلاَّ أنه يجوز أن تكون الباءَ في هذا ظرفية أو سببية أي فما ينسبك إلى الكذب في إخبارك بالجزاءِ أو بسبب إخبارك به، ويجوز أن تكون معدية ليكذب وأن يكون الدين دين الإسلام فيدخل الجزاء أولا وبالذات.

أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)

بلى إن الله خلق الإنسان في أحسن تقويم ورده أحكم الحاكمين صنعاً وتدبيراً فالبعث والجزاء متعينان وذلك تقرير لما قبل أو الحكم بمعنى القضاءِ فهو وعيد للكفار بالعذاب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهي إلى قوله سبحانه وتعالى: أليس الله بأحكم الحاكمين فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين " ، رواه أبو داود والترمذي وروى أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا أتى على هذه الآية " سبحانك وبلى " .

 

وعن البراءِ بن عازب وهو المراد عند إطلاق البراءِ صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء في سفر فقرأ في إحدى الركعتين بالتين والزيتون فما سمعت أحداً أحسن صوتاً أو قراءَة منه - صلى الله عليه وسلم - والله الموفق، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.