بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْفَجْرِ (1)

الصادق عند الجمهور كما قال { والصبح إذا تنفس }[التكوير: 18] وهو أولى بالإقسام به لأَنه أول النهار وبه انقضى الليل الذي فيه النوم كالموت وذلك شبه بالبعث للحساب وينتشر فيه كما ينتشر بالبعث ولأَنه تتعلق به أحكام شرعية كالصوم والصلاة، وقيل الفجر الكاذب وعلى كل هو مأخوذ من فجر بمعنى شق شقاً واسعاً ووجه القول الثاني أنه أولى بمعنى الشق إذ شق الظلمة ودخل فيها، والمراد العموم.

 

وعن ابن عباس فجر يوم النحر لأَن فيه أكثر مناسك الحج وفيه القربات كذا قيل، وعنه صلاة الفجر أقسم الله عز وجل بها لأنها تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار وعنه فجر أول المحرم وهو فجر أول السنة ومنه تنفجر السنة، وعنه النهار كله، وعنه صلاة الفجر تسمية للحال باسم زمانه أو على حذف مضاف، وقيل فجر يوم الجمعة، وقيل فجر ذي الحجة أوله لأنه قرن به الليالي العشر، وعن مقاتل فجر ليلة جمع، وقيل مصدر بمعنى فجر الماء من العيون وجواب القسم أغنى عنه قوله عز وجل: { إن علينا حسابهم }[الغاشية: 26] كما تقول زيد قائم والله أو يقدر ليعذبن بعد قوله لذي حجر، وعن ابن مسعود جوابه إن ربك لبالمرصاد.

 

وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)

أول ذي الحجة عند ابن عباس وعبد الله بن الزبير موقوفاً، ورواه جابر بن عبد الله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونكرها للتعظيم لأَن فيها فضلاً لا يحصل في غيرها وهي أيام الشغل بالحج.

 

وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - " ما من أيام العمل فيهن أحب إلى الله تعالى وأفضل من أيام العشر قيل يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد إلاَّ رجلاً جاهد في سبيل الله عز وجل بماله ونفسه فلم يرجع من ذلك شيءٍ " ، وروى فلم يرجع من ذلك بشيءٍ، وعن ابن عباس العشر الأَواخر من رمضان، وعن عائشة رضي الله عنها كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخلت العشر تعنى الأَخيرة منه شد مئزره وأحيا الليل وأيقظ أهله فنقول قصدت بالآية لليلة القدر فيها.

 

وقال ابن جريج العشر الأُولى من رمضان وهو ضعيف لا حجة له، وقيل العشر الأُولى من المحرم ليوم عاشوراء فيها، وفضله المشهور حتى أن البخاري ومسلما رويا أنه - صلى الله عليه وسلم - " أرسل غداة عاشوراءِ إلى قرى المدينة من أصبح صائما فليتم صومه ومن أصبح مفطراً فليصم بقية يومه " فكان الصحابة يصومونه ويحملون صبيانهم على صومه وإذا بكى أحدهم ألهوه بشيءٍ من لعب حتى يحل الإفطار وهذا اليوم مخصوص بأنه يصح صومه بلا تبيت نية من الليل بلا قضاءِ وشاركه إنشاءِ الصوم في رمضان لمن صح له خبر الهلال في النهار ومن طهرت من حيض أو نفاس نهاراً ومن أسلم أو بلغ نهاراً ونحو ذلك لكن بقضاء.

 

وفي فضله أحاديث ضعيفة إذا ضم بعضها إلى بعض تقوت ونكر للتفخيم إذ هن ليال معينة ولولا ذلك لعرفت كالفجر والشفع والوتر، ومن قدر صلاة الفجر حسن له أن يقدر وعبادة ليال عشر، وليال مجرور بفتحة مقدرة على الياءِ المحذوفة نائبة عن الكسرة.

 

وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)

{ وَالشَّفْعِ } يوم النحر لأَنه عاشر { وَالْوَتْرِ } يوم عرفة لأَنه تاسع وعن عمران بن حصين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " سئل عن الشفع والوتر فقال الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر " ، رواه الترمذي وعن ابن عباس الشفع صلاة النهار والوتر صلاة المغرب وعن عبد الله بن الزبير الشفع النفر الأول والوتر النفر الآخر كما قال الله عز جل{ فمن تعجل في يومين.. }[البقرة: 203] الآية.

 

وعن الحسن أقسم ربنا سبحانه بالعدد كله شفعه ووتره وهو قول غير حسن، وعن مجاهد أقسم بالخلق كله شفعه ووتره، وعنه الشفع الخلق ذكر وأنثى والجن والإنس والإيمان والكفر والهدى والضلال والسعادة والشقاوة والليل والنهار والأَرض والسماءِ والشمس والقمر والبر والبحر والنور والظلمة والجن والإنس، والوتر الله عز وجل، ومن كل شيء خلقنا زوجين، وقيل شفع تلك الليالي ووترها، وقيل الشفع أبواب الجنة والوتر أبواب النار ونقول الأُولى تعميم كل شفع من ذلك ونحوه وكل وتر.

 

ولعل مراد من يقول بتلك الأقوال التمثيل لا الحصر إلا أن حديث عمران المذكور نص في الحصر ولا يعارضه ما مر عن جابر مرفوعاً أن الليالي العشر هن الأُولى من ذي الحجة، وقيل الشفع أوصاف المخلوقات المتضادة كالعز والذل والقدرة والعجز والقوة والضعف والغنى والفقر والعلم والجهل والبصر والعمى والموت والحياة والوتر صفات الله كعز بلا ذل وقدرة بلا عجز.

 

وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)

بحذف الياءِ في الخط والوقف وقراءَتها وصلاً وكان عمى صالح بن عيسى أخو أبى رجلاً صالحاً فقيراً متعففا مجوداً للقرآن حسن الصوت جداً - رحمه الله وتقبل قراءَته وعلمه - إذا كان يقرأ القرآن في الجماعة خرج بعض الناس منها ليستمعوا لصوته متميزاً عن غيره وكان ينشد لهم يوم الزيارة بيت ابن برى على حذف الياءِ في الإمام:

 

وأحرف ثلاثة في الفجر  ...   أكرمن أهانن ويسر

 

أخبرني بذلك من أخبره به جدي أبو أمي الحاج سعيد بن حم رحمه الله وغيره وإنما حذفت في الخط على خلاف الأصل والليل إنما هو مسرى فيه لإسار ومعنى يسر يمضى كقوله تعالى:{ والليل إذْ أدبر }[المدثر: 33] { والليل إذا عسعس }[التكوير: 17] على التجوز الإرسالي أطلق السريان وهو موضوع لسير الإنسان ليلاً على مطلق المضي لعلاقة الإطلاق والتقييد أو المجاز الاستعاري بأن شبه مضى الليل بالسير ليلاً وهي تبعية أو بأَن شبه الليل بإنسان ورمز إليه بلازمه وهو السريان أو المجاز العقلي بأَن أسند السير إلى الليل لوقوعه فيه من الناس وغيرهم.

 

ويضعف ما قيل أن إذا بدل من الليل لأن خروج إذا عن الشرط والصدر يحسن إذا ذكر قبلها فعل أو نحوه صريح لا إذا أخرج إلى الإقسام بمعناه بل تعلق بمحذوف أي وعظمة الليل إذا يسر والإقسام بالليل لدلالته على كمال القدرة ووفور النعمة إذ يُسكن فيه ويُستراح فيه وهو على العموم وعن مجاهد أنه ليل النحر يسرى الحاج فيه من عرفات إلى مزدلفة.

 

هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)

{ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمُ } إقسام أو مقسم به عظيم { لِّذِي حِجْرٍ } عقل قلنا فيه قسم عظيم يا ربنا ففهمنا واهدنا هداية توفيق بعد هداية بيان، والحجر العقل سمى لأَنه يحجر صاحبه أي يمنعه عن ارتكاب ما لا يحسن كما هو نهيه لأَنه ينهي صاحبه عما لا يحسن وهو عقل لأَنه يعقله عن ذلك وحصاة لأَنه يضبطه.

 

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)

ألم تعلم يا محمد أو من يصلح للخطاب ما فعل ربك بهم من العذاب وثمود وفرعون لكفرهم فليخف قومك تعذيباً مثله على كفرهم وهم أولاد عاد بن عيص أو عاص أو عوص ابن أروم بن سام بن نوح عليه السلام، قوم هود عليه السلام سموا باسم أبيهم ومثل هذا حقيقة عرفية خاصة لا مجاز على الصحيح لأَنه يقال بلا اعتبار علاقة وملاحظة قرية وإنما التجوز في التسمية الأُولى قبل أن تشيع وكذا تسميتهم ارم اسم جدهم في الأصل أو أبيهم عاد أو أمهم وصرف باعتبار القوم أو الحي أو لسكون وسطه كهند ولو اعتبر معنى القبيلة والجملة مفعول ترى علق عنها بالاستفهام التعجبي.

 

إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)

{ إرَمَ } بدل عاد لا عطف بيان لأَنهم عرفوا بعاد أكثر ما عرفوا بإرم ومنع الصرف للعلمية وتأنيث القبيلة وقدر بعضهم سبط إرم وجعل إرم اسم أُمهم والسبط ولد الولد وتفسيره بالجد لا يأبى منع الصرف للتأنيث لأن المراد أنه اسم جدهم في الأَصل وجعل اسماً للقبيلة فمنع لتأنيث القبيلة، وقيل إرم لفظ أعجمي فمنع الصرف للعلمية والعجمة، وقيل ابن عاد بن شيم بن سام بن نوح.

 

وعن الكلبي إرم هو الذي يجتمع إليه نسب عاد وثمود وأبقى أهل السواد وأهل الجزيرة، وكان يقال عاد إرم وثمود إرم فأهلك عاد وثمود وأبقى أهل السواد وأهل الجزيرة، وقيل إرم قبيلة من عاد وكان فيهم الملك وكانوا بمهرة موضع باليمن وعاد أبوهم، وقيل المتقدمون من عاد يسمون بإرم اسم جدهم.

 

{ ذَاتِ الْعِمَادِ } نعت لإرم فإرم مؤنث والعماد القدود الطوال على تشبيه قاماتهم بالأعمدة ورجل معمد طويل القامة، فقيل طول الواحد اثنا عشر ذراعاً وأكثر وأطولهم أربعمائة ذراع وهذا تفاوت عظيم عجيب وكان أحدهم يأخذ الصخرة العظيمة فيلقيها على الحي فيقتلهم، وعن ابن عباس العماد الخيام والأًعمدة أهل بدو في الربيع وإذا يبس النبت رجعوا إلى منازلهم وهي منازل جنان وزروع بوادي القرى وعاد هم الذين قالوا من أشد منا قوة وقيل هم بدويون دائماً يحلون ويرتحلون وقيل العماد الرفعة أو الوقار أو الثبات وطول العمر.

 

الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)

لم يخلق مثل تلك القبيلة طولاً وقوة في موضع من الدنيا كأَنه قيل لم يخلق مثل أجسامهم في الأرض فالكلام على أجسامهم لا على البنيان وقيل إرم اسم مدينة هي الأَسكندرية وعليه محمد بن كعب، وقيل عن سعيد بن المسيب دمشق، ويردهما أنهما ليستا بلاد رمل وأحقاف وقد قال الله عز وجل:{ واذكر أخا عاد إذْ أنذر قومه بالأَحقاف }[الأحقاف: 21]، إلاَّ أن يقال ما هنا عاد الأُولى وما في الأَحقاف عاد الآخرة واختلفت منازلهما وقيل مدينة بين عمان وحضرموت ذات رمال وأحقاف فإذا كان إرم اسم مدينة وقيل اسم أرضهم وقيل مدينة عظيمة في اليمن رد الكلام إلى الأَجسام بتقدير مضاف أي أهل إرم أو إلى البنيان أي ألم تر كيف فعل ربك ببلاد عاد أو مدينة عاد أو أرض عاد.

 

وكان لعاد ابنان شداد وشديد ملكا الدنيا ومات شديد وخلص الأَمر لشداد وسمع بذكر الجنة فبنى مدينة في زعمه مثل الجنة في بعض صحارى عدن في ثلثمائة سنة وعمره تسعمائة قصورها وغرفها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة ولما تم بناؤها أقام في التجهز إليها عشر سنين فسار إليها بأَهل مملكته ولما كان بينهم وبينها مسير يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة فهلكوا كذا قيل: وهو موضوع كما قال ابن حجر.

 

وعن عبد الله بن قلابة خرج في طلب إبل له فوقع عليها فوجدها مبنية بالذهب والفضة والياقوت وأنواع الجواهر والعيون والشجر المثمر في أزقتها مفروشة بذلك وبالمسك فحمل ما قدر عليه مما فيها فاستحضره معاوية فقص عليه فبعث إلى كعب فسأله فقال هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال يخرج في طلب إبل له ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال هذا والله ذلك الرجل، وهو موضوع.

 

وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)

{ وَثَمُودَ } قبيلة سميت باسم جدهم ثمود أخي جديس وثمود وجديس هما ابنا عابر بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام وهم عرب عاربة يسكنون الحجر بين الحجاز وتبوك يعبدون الأصنام ومنع الصرف للعلمية وتأنيث القبيلة من الثمد وهو الماءِ القليل الذي لا مادة له وثمدته النساءِ قطعن ماءَه لكثرة وطئه، وثمد السائلون ما له وليس لفظاً أعجمياً كما قيل.

 

{ الَّذِين جَابُوا الصَّخْرَ بالْوَادِ } قطعوا الصخر في وادي القرى وبنوا فيه بيوتاً أو يقطعون الصخر ويجعلون محلها في الجبل بيوتاً، قال الله عز وجل:{ وتنحتون من الجبال بيوتاً }[الشعراء: 149] وهم أول من نحت الحجر والرخام، ويقال بنوا بالحجارة ألفاً وسبعمائة مدينة، وقيل الباءِ للسببية أو الآلة لجعلهم إياه محلاً لمائهم والجوب حقيقة في قطع الأَجسام مجاز في قطع غيرها وسمى الجواب جواباً لأنه يقطع السؤال.

 

وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)

أوتاد الخيام الكثيرة لكثرة جنوده وكان يضرب للمعذب أربعة أوتاد يشده بها مبطوحاً على الأرض فيعذبه بضرب أو إحراق أو غير ذلك، روى أن امرأة حزقيل ماشطة بنت فرعون سقط المشط من يدها فقالت تعس من كفر بالله تعالى فقالت هل لك إله غير أبى فقالت إله أبيك وإله كل شيء الله عز وجل فدخلت على أبيها تبكى فقال مالك فأخبرته بقولها إن رب كل شيء هو الله، فسألها فقالت نعم فمد لها أربعة أوتاد وأرسل إليها حيات وعقارب فقال لها أعذبك شهرين بهذا إن لم تكفري فقالت لا ولو عذبتني سبعين شهراً فذبح على صدرها بنتها الكبرى فقال إن لم تكفري ذبحت بنتك الرضيعة فجيء بها فرقت لها فأنطقها الله عز وجل اصبري فإنك تفضين إلى بيت في الجنة فقالت لا ولو ذبحت من في الأرض.

 

وهرب زوجها وبعث في طلبه ورآه رجلان في جبل والوحوش خلفه تصلى وقال اللهم عبدتك مائة سنة في سر فأيهما كتم على فاهدِه وأعطه ما طلب وعجل عقوبة من لم يكتم على، فقال أحدهما وجدته معي هذا في جبل فقال للآخر هل رأيته فقال لا فأعطاه وأطلقه وقتل الأول وقالت امرأته آسية لم قتلت الماشطة وقد صدقت فمد لها أربعة أوتاد حتى ماتت وقالت رب ابن لي.. الخ، ورأت منزلها في الجنة قبل موتها، والمراد بفرعون شخصه لا قومه لأَنه نعت لمفرد مذكر ويبعد أن يراد هو وقومه معبراً عنهم باسمه فنعت بمفرد نظراً للفظه ورد عليه ضمير الجمع بعد نظر للمعنى.

 

الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11)

{ الَّذِينَ } نعت لعاد وثمود وفرعون ولا دليل أنه منصوب بمحذوف على الذم ولا على أنه خبر لمحذوف على الذم ولا على أنه مبتدأ لمحذوف أي منهم الذين طغوا في البلاد { طَغَوْا فِي الْبِلاَد } كل طغى في بلاده ولكل من هؤلاء بلاد يجمعها قوله في البلاد ويبعد أنه نعت لفرعون نظراً لمعناه على أن يراد به القبيلة كما مر.

 

فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12)

الظلم والجور أو الإشراك والمعاصي.

 

فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)

{ فَصَبَّ } بسبب إكثار الفساد سمى إيقاع العذاب صباً استعارة من صب المائع الكثير ونحوه مثل الحبوب والرمل لجامع التتابع والسرعة والكثرة والأولى أن يراد التشبيه بصب المطر.

 

{ عَلَيْهِمْ رَبُّك سَوْطَ عَذَابٍ } أي سوطاً من عذاب والعذاب ما يعذب به كالريح والصيحة والإغراق، والسوط في الأصل مصدر ساط يسوط إذا خلط وشاع في الجلود المضفورة التي يضرب بها سمى لأنه مخلوط من قطع الجلد أو لأَنه يخلط اللحم والدم عند الضرب به وفي التعبير به تلويح بأَن ما أصابهم في الدنيا بالنسبة إلى ما لهم في الآخرة كالضرب بالسوط.

 

ويجوز أن يراد بالعذاب التعذيب والإضافة بمعنى اللام أو إضافة مشبه به لمشبه كلجين الماءَ أي ماءَ كاللجين والأَصل عذاباً كسوط، والمراد أنواعاً من العذاب مخلوطاً بعضها ببعض كاختلاط جلود السوط بعض ببعض أو سوطاً مصدر بمعنى مفعول من إضافة النعت إلى المنعوت أي عذاباً مسوطاً أي مخلوطاً، وقيل مقدرا من العذاب أو شدة عذاب لأَن العذاب قد يكون بالسوط.

 

إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)

صب عليهم العذاب لأنه راصدهم ولغيرهم من الكفار فلا يخفي عنه عملهم فلا يفوته عقابهم فليخف قومك أن يصب عليهم عذاباً لا يطاق فهذا وعيد لهم ومن هو رب لك لا يضيعك بلا انتقام منهم ووعيد للكفرة مطلقاً أو لهم وللفاسق أو وعيد لهم ووعيد للمطيعين وليس كون ذلك شاملاً للوعد لهم مخرجاً لهم عن التهديد والمرصاد الموضع الذي يقوم به الراصد أي المراقب وذلك استعارة تمثيلية.

 

وأجاز ابن عطية أن يكون المرصاد صفة مبالغة كالمضراب لكثير الضرب، ويرده أنه ليس المرصاد من أسماء الله سبحانه وتعالى وأنه لو كان صفة مبالغة لسقطت الباء ولا يصح أن تكون تجريدية إذ لا يقبل في الشرع أن يقال بالغ الله في شيء حتى تولد منه مثله وهذا صفة إشراك جل الله وعز الله وأيضا ليس ذلك مما تدخل فيه باءَ التجريد، وأرى بعض المشارقة البغداديين إذا رأوا لأبى حبان حسنة دفنها أو بغى لها جواباً أو رأي سيئة أشاعها ومتى شاءَ اغتنم منه الفائدة.

فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)

{ فَأَمَّا الإِنسَانُ } قيل لا يطلب الله تعالى إلاَّ السعي للآخرة ولذلك كان الرصد فأَما الإنسان ولو لم يكن كذلك لقال وأما الإنسان بالواو لا الفاء فليس تفريعاً على هذا المحذوف المقدر بل على كونه تعالى بالمرصاد فإنه يتفرع على كونه بالمرصاد بيان أن الإنسان الكافر أو الفاسق ليس على استقامة في أمره يبتهج بما يرضينه ويطغى به ويجزع بغيره والله عز وجل رقيب عليه يعاقبه على عدم الشكر وعلى الجزع.

 

{ إذَا مَا } صلة للتأكيد.

 

{ ابْتَلاَهُ رَبُّهُ } أنعم عليه ليظهر منه خارجاً الشكر أو الكفر كالمختبر به والله عالم الغيب والشهادة { فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ } بيان للابتلاءِ والإِكرام أعم من التنعيم لأَنه بالمال والجاه وصحة البدن وجعله وضيئاً مبتهجاً أو إعطاءِ نعم الرزق ولعمومه اقتصر عليه في قوله عز وجل: { فَيَقُولُ } فخراً لا شكراً أو يقول اعترافاً بفضل الله فيكون الذم في قوله جزعا ربى أهانني.

 

{ رَبِّي أكْرَمَنِ } وليوافق القرينة في وزن أفعل فإن أهان بوزن أكرم وهو أفعل أصله أهون نقلت فتحة الواو إلى الهاءِ وقلبت ألفاً أو يقدر فيقول ربى أكرمني ونعمني والجملة جواب أما وأما إذا فمتعلقة بيقول وهي والإنسان من جملة جواب أما قدما لئلا تتصل أما بالفاءِ كقولك أما اليوم فزيد قائم واليوم متعلق بقائم ولو قيل أما فزيد قائم اليوم لاتصلت أما بفاءِ جوابها ولا سيما أنهم يتوسعون في الظروف.

 

ولم يتقدم هنا زيادة على المبتدأ إلاَّ الظرف وشرطه وما عطف على شرطه وذلك كله كشيءٍ واحد وليس كقولك أما زيد طعامك فأكل لما علمت أن ما في الآية ظرف وإنكار الرضي ما ذكرت غير مرضي، وقيل تبعاً له التقدير فأَما شأن الإنسان إذا ما ابتلاه حتى لا تكون إذاً من متعلقات الجواب وهو قول لا يعتبر له شأن لأن شأناً لا يتعلق به الظرف إلاَّ بتأويل وأيضا يخبر حينئذ عن الشأن بيقول والشأن لا يقول وإن قيل الشأن القول فقد تكلف بحذف حرف المصدر قبل يقول ويرفع الفعل بعد حذفه أو بجعل المضارع بمعنى المصدر بلا تقدير حرف المصدر.

 

وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)

{ وَأمَّا } أي وأما الإنسان ليكون كالذي قبله ولا يلزم هذا التقدير { إذَا مَا ابْتَلاَهُ } عاملة كالمختبر كالذي قبله هل يصبر وفسر الابتلاءُ بقوله { فَقَدَرَ } ضيق { عَلَيْهِ رِزْقَهُ } والكلام في إذا مثل ما مر { فَيَقُولُ } جزعاً لسوء نظره إذ قد يكون تضييق الرزق صلاحاً للدارين.

 

{ رَبِّي أهَانَنِ } بتضييق الرزق ولم يقل فأهانه وقدر عليه رزقه كما قال فأكرمه ونعمه لأَن تضييق الرزق لا يكون للإهانة بل للتأديب ولما شاءَ الله من الحكمة فالذي أنكره الله عليهم قولهم بطريق الفرح بالدنيا والافتخار ربى أكرمني وقولهم بطريق الجزع وعدم الرضي بالقدر ربى أهانني كما مر وإن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الخير منوعا وإذا مسه الشر جزوعا.

 

ويجوز أن يكون المنكر عليهم قولهم أكرمني لاستحقاق الإكرام النسبي وحسبي قولهم إني لا استحق التضييق، وأجيز أن يكون المنكر نفس الإكرام فإنه استدرجهم بالنعم كما أن المنكر نفس الإهانة وأن يكون المنكر أنه أكرمهم لمرتبتهم عند الله تعالى وأن يكون المنكر قولهم أهانني فقط ولا تعرض في أكرمني للمرتبة ونحوها مما ذكر.

 

كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)

{ كَلاَّ } ردع عن القولتين في جميع الأَوجه إلاَّ الوجه الأَخير فردع عن القولة الأَخيرة والصحيح انسحاب الرجع عليهما مبنياً على انسحاب الإنكار عليهما، وعن ابن عباس لم أبتله بالغنى لكرامته ولم أبتله بالفقر لهوانه على بل للقضاءِ والقدر وهو أحد الأَوجه السابقة إلاَّ أنه قال للقضاءِ والقدر.

 

{ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ } الخ إضراب انتقال عن ذمهم بالقولتين على ما مر إذ ذمهم بما هو أشد منهما وهو إمساكهم المال عن اليتيم ولو وسع عليهم الله عز وجل وعدم رغبتهم في إطعام المسكين حتى إنهم لا يطعمونه ولا يأمرون بإطعامه واختصاصهم بالميراث عمن هو له أو منع الشريك معهم عن نصيبه فيه والحرص على جميع المال والخطاب بعد الغيبة لمزيد التوبيخ كما إذا كنت تذم أحد بلا خطاب وهو يسمع ثم يشتد غضبك فتخاطبه وذلك حكمة صورة الالتفات فإن المراد بواوات الجمع هو المراد بالإنسان لأَن المراد به الجنس.

 

وأجيز أن يقدر قل بل الخ فلا التفات وقد لا يسلم أن انتفاءِ الإكرام وما بعده أشد من القولتين بل هما سواء أو دون القولتين إلا إن اعتبر أن انتفاء ما ذكر لجحود البعث فيكون أشد من القولتين وأحاديث إكرام اليتيم وما بعده مشهورة في كتب الرقائق وكتب الفقه والحديث كوفاءِ الضمانة وجامع الشمل منهما قوله - صلى الله عليه وسلم - " أحب البيوت إلى الله تعالى بيت فيه يتيم مكرم ".

 

وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)

{ وَلاَ تحاضُّونَ } لا يحض بعضكم بعضاً أو أنفسكم أو أهليكم أو أحد كما قرئَ ولا تحاضون بصيغة المفاعلة الموضوعة لما بين متعدد، وكما قرئ تحاضون بفتح الياءَ وحذف تاءِ أخرى بصيغة التفاعل الموضوعة لذلك { عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } اسم للمصدر الذي هو الإطعام كالعطاءِ بمعنى الإعطاء أو هو ذات المأكول فيقدر مضاف أي على إطعام الطعام كقوله تعالى{ ويطعمون الطعام }[الإنسان: 8] أو على بذل الطعام.

 

وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19)

{ وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ } أصله الوارث بالواو قلبت تاء كالتخمة من الوخم والتهمة من الوهم والمقصود المال الموروث لا المعنى المصدري.

 

{ أكْلاً لَّمَّاً } أي جمعاً أي ذا لم أو لاماً أو هو نفس الجمع مبالغة يجمعون الحلال والحرام يأكل نصيب من ورث معهم كامرأة وضعيف ومجنون وغائب وطفل، أو يأكلون الكل ولا نصيب لهم فيه، وكانوا لا يورثون النساءِ والأَطفال من لا يقاتل، والسورة ولو كانت مكية قبل نزول الميراث لكن قد علموا من شرع إسماعيل جدهم عليه السلام بعض المواريث وأما لتحسين والتقبيح بالعقل فهو مذهب المعتزلة.

 

وقيل تأكلون ما جمع الميت من الحرام قلت لعل الآية تجمع، وأخطأَ من رخص في أخذ الإرث ولو من حرام إذا كان دنانير أو دراهم أو عروضاً، وأما تفسير الآية بالزجر عن التوسعة في الحلال بالتلذذ والإسراف فلا يناسب ما قبل لأن ما قبل في الزجر للمشركين عن المحرمات بالذات لا في الوعظ بهذا إلاَّ أنه لا مانع من وعظهم ولا سيما أن تلذذهم وإسرافهم مبنى على إنكار البعث، والمراد بالأَكل في الموضعين الانتفاع إطلاقاً للمقيد على المطلق.

 

وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)

كثيراً على حرص من حلال أو حرام وتجمعونه من حلال وحرام وتمنعون حقوقه.

 

كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)

{ كَلاَّ } ارتدعوا عن ترك إكرام اليتيم والحض على طعام الطعام وأكل التراث أكلاً جماً وكثرة حب المال.

 

{ إذَا دُكَّتِ } عند النفخة الثانية { الأَرْضُ } دقت كما يدق الشيء بالهاون فيصير مفتتاً رقيقاً يفعل ذلك بوجه الأَرض وما فيها من جبال وشجر وبناءَ حتى إنه يصير ذلك هباءَ منبثاً وتصير ملساءِ مستوية كاللوح وقال المبرد الدك حط المرتفع، يقال اندك سنام البعير إذا لم يرتفع وجمل أدك وناقة دكاء.

 

{ دَكَّاً دَكَّاَ } ليس ذكرهما توكيداً بل يفيد التكرار كما تقول جاءوُا اثنين اثنين وعلمته الحساب باباً باباً وتقول زيد يأكل مرة بعد أخرى تريد كثرة أكله وقد تغنى التثنية عن ذلك كما هو وجه في قوله تعالى{ ثم ارجع البصر كرتين }[الملك: 4].

 

وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)

{ وَجَاءَ رَبُّكَ } أمر ربك أو قضاؤه أو لا حذف لكن تمثيل لظهور آيات قدرته وآثارها تعالى الله عن التحيز والانتقال { وَالْمَلَكُ } جنس الملك أو المراد كلهم وهو أولى { صَفّاً صَفّاً } مثل دكاً دكاً أي مصطفين أو ذوى صفوف صفاً وراءَ صف ثمانية صفوف كل واحد يحدق بما يليه والثقلان داخل الحدقة، وجاءَ الحديث بذلك إلاَّ أنه لم يذكر فيه ملائكة ما فوق ملائكة السابعة وقيل يصطفون بلا تحديق على قدر مراتبهم عند الله كصفوف الصلاة.

 

وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)

{ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ } يوم إذ دكت أو يوم إذا دكت { بِجَهَنَّمَ } ينقلها الله تعالى من موضعها على بعد موضعها ويحضرها لأهل الموقف ثم يردها لموضعها، قال ابن مسعود قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يجاء بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعين ألف ملك يجرونها " ويروى حتى تنصب عن يسار العرش لها تغيظ وزفير.

 

وروي أن جبريل عليه السلام ناجى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام منكسر الطرف فسأله علي فقال أتاني جبريل بهذه الآية: كلا إذا دكت... الآية فقال: كيف يجاء بها؟ فقال: صلى الله عليه وسلم - " تقاد بسبعين ألف زمام على كل زمام سبعون ألف ملك فتنفلت من أيديهم فلولا أنهم يدركونها لأحرقت من في الجمع " ، ويروى لولا أن الله يحبسها لأحرقت السماوات والأرض.

 

{ يَوْمَئذٍ } يتعلق بقوله عز وجل { يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ } وقدم للحصر ولم يتقدم له تذكر قبل وهو الإنسان المشرك عموماً، وقيل المراد أمية ابن خلف وقيل أبى خلف وقيل بدل من إذا دكت ولم يجعل توكيداً لفظياً للاختلاف بين إذا وإذا فإذا للاستقبال وإذ للمضي لتحقق وقوع ذلك المستقبل.

 

ويجوز جعله توكيداً لفظياً ليومئذ بمعنى إذ جيء بجهنم ويجوز تقدير يوم إذا في الموضعين فنون إذا وحذفت ألفه وكسر داله للساكن، ويناسب ذلك قوله إذا دكت ويتذكر الإنسان جواب إذ فيتذكر هو العامل في إذا وفيما أبدل منها أو أكد به والإنسان الكافر.

 

والتذكر الاتعاظ لما يرى من آيات الله عز وجل حين لا ينفعه الاتعاظ إذ ضيعه زمان التكليف وهو زمان حياته قبل المشاهدة وقيل التذكر عن النسيان إذ سمع بيوم القيامة في الدنيا ولم يؤمن به وزال عن حافظته أو يتذكر أعماله وقد نسيها يحضرها الله تعالى في قلبه أو يتذكرها بمشاهده آثارها والمذهب أنه لا تتجسم الأَعمال كما قيل إنها تتجسم بصور قبيحة وصور حسنة.

 

{ وَأنَّى لَهُ الذِّكْرَى } من أين له التذكر وقد فات أوانه إما على أن قوله تعالى يتذكر الإنسان بمعنى التذكر من النسيان فلا تعارض وإما على أنه بمعنى الاتعاظ فيقدر هنا أنى له الذكرى النافعة أو أنى له نفع الذكرى لئلا يناقض قوله يتذكر أو يراد هنا ما هو تذكر في نفس الأمر فيصح الكلام بلا تقدير مضاف أو نعت وأنى اسم استفهام مكاني بمعنى أين.

 

وقيل من أين يتعلق بمحذوف خبر مقدم وله يتعلق بما تعلق به أنى والذكرى مبتدأ وإذا قيل معناه أين، فكأنه قيل في أي مكان التذكر فيتناوله وإنما تقبل التوبة حين التكليف وبعد الموت لا تكليف وقبول التوبة النصوح زمان التكليف فضل من الله تعالى ولا واجب عليه ومن أين أن توبتهم نصوح ولا تقبل ولو فرضنا أنها نصوح وإنما تكون نصوحاً بقصد صاحبها وتذكر هؤلاءِ غير توبة في اعتقادهم ألا ترى إلى قوله تعالى:

 

{ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } وفيه أنهم يعتقدونه توبة ولما علموا أنها لا تنفعهم تمنوا أن يكونوا قدموها في الدنيا ومفعول قدمت محذوف واللام بمعنى في أي قدمت التذكر في حياتي الدنيوية أو قدمت الأعمال الصالحة فيها، وقيل المراد بالحياة حياة الآخرة فتكون اللام للتعليل أي يا ليتني قدمت الأعمال الصالحة أو قدمت الذكرى لأجل حياتي هذه الآخرة الدائمة لا تنفع بما فيها، قيل أو لأَنتفع بحياتي هذه فلا تكون كلا حياة إذ ينشب قلبه أو نفسه في حلقه، والجملة بدل اشتمال من يتذكر أو جواب سؤال ماذا يقول في تذكره.

 

فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)

{ فَيَوْمَئِذٍ } يوم إذ يكون ما ذكر من الأقوال والأحوال متعلقا بيعذب قدم للفاصلة وطريق الاهتمام بذكر يوم الهول الشديد ويقدر مثله { لاَّ يُعَذِّبُ } أحداً { عَذَابَهُ } أي تعذيبه مفعول مطلق { أحَدٌ وَلاَ يُوثِقُ } أحداً.

 

{ وَثَاقَهُ } إيثاقه مفعول مطلق { أحَدٌ } أو قدر المفعول به بعد أحد أي لا يعذب عذابه أحد أحداً ولا يوثق وثاقه أحد أحداً أي لو وجد معذب لأَهل النار وموثق لهم بالأَغلال غير الزبانية لم يعذبهم ولم يوثقهم عذاباً وإيثاقاً مثل العذاب والإيثاق اللذين يفعلهما الله تعالى على أيدي الزبانية بل يكون فعلة دون فعل الله في القوة والهاءَان لله تعالى أضيف إليهما اسم المصدر إضافة إلى العامل وإن رجع الهاءَان إلى الإنسان فإضافة للمفعول والعذاب اسم التعذيب كالسلام بمعنى التسليم والوثاق اسم للإيثاق كالعطاءِ بمعنى الإعطاءِ.

 

ويجوز أن يكون المعنى لا يتولى عذاب الله تعالى ووثاقه أحد سواه، ويجوز أن يكون العذاب والإيثاق بمعنى الإنسان المعذب والموثق فيكونا مفعولاً به فالهاءَان لله تعالى والمراد جنس الإنسان وسائر الجن وأما إبليس فعذابه ووثاقه أشد من عذاب كل أحد ووثاقه.

 

يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)

استئناف في ذكر أحوال النفس المطمئنة إلى الله تعالى بعد ذكر المطمئنة إلى الدنيا، والتقدير يقال بعد الفراغ من الحساب يا أيتها النفس.. الخ والقائل الله تعالى بخلق كلام في الهواءِ أو في أسماعهم أو القائل الملك والنفس الذات واطمئنانها إخلاصها الإِيمان بالله والعمل له ولم ترتب وذلك في الدنيا أو اطمئنانها عدم خوفها في الآخرة لإِيمانها وعملها في الدنيا وتناسبه قراءَة أبى يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة، إِلاَّ أنه يحتمل أن المعنى الآمنة من الخوف الآن المطمئنة في الدنيا إِلى الإِيمان وإِخلاص العمل.

 

ولا يجوز أن يفسر الاطمئنان بالإِعراض عن كل ما سوى الله واستغنائها به للتنقل في المعارف لأن الآية في عموم السعداءِ وليسوا كلهم بتلك الصفة قال- صلى الله عليه وسلم - " اللهم إِني أسأَلك نفساً مطمئنة تؤمن بلقائك وترضي بقضائك وتقنع بعطائك ".

 

ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)

{ ارْجِعِي } اذهبي وهذا استعمال للمقيد في المطلق فإن الرجوع ذهاب الشيء إِلى ما كان فيه أو عنده قبل فاستعمل في مطلق الذهاب ولو حيث لم يكن قبل أو الرجوع على ظاهره لكنه عقلي فإِنها كانت في الدنيا عند الله بالأَعمال وانفصلت عنه باعتبار الأَعمال عند الموت فترجع إِليه بإِكرامه في الجنة، وقيل كان السعداءِ في موضع مخصوص لهم بكرامة أو كل واحد في موضع مخصوص كذلك ثم ينادون منه للحساب فيرجعون إِلى كرمه بالجنة ولو اختلف الكرمان.

 

ويجوز أن يكون المعنى ارجعي عما أنت فيه من خوف الشقاءِ وخوف رد الأَعمال وخوف مناقشة الحساب أو ارجعي إِلى جنة ربك بعد كونك في ظهر آدم وهو فيها على أن جنة آدم دار السعادة، لا على أنها جنة في الدنيا أو ارجعي إِلى كرم في الجنة بعد أن كنت فيها بالروح أو في القبر بالخير، لأَن خير القبر انقطع بالبعث وبموت الموتى في قبورهم أربعين عاماً يليها البعث، وقيل النفس الروح وربها جسدها.

 

وقيل ارجعي أيتها الروح إِلى الله بعد أن كنت عنده وهذا عند الموت على أن الأَرواح خلقت قبل الأَجساد أو ارجعي أيتها الروح إِلى الجنة الآن بعد أن كنت ترعين فيها وأنت في حواصل طير خضر كما شهر في الحديث، وفي بعض الآثار إِذا مات المؤمن أعطى نصف جنته، وقيل ارجعي إِلى جسدك لسؤال ملكي القبر ذلك بعد الموت { إِلَى رَبِّكِ } إِلى محل كرمه وفي ندائها بذلك تلذيذ لم يسبق بها مثله إِذ نوديت باسم الاطمئنان وإِضافة الرب إِليها مع ما بعد ذلك.

 

{ راضِيةً } بما تؤتيه من النعم التي لا تنتهي فهو حال مقدرة، وقيل راضية بم نلت من خفة الحساب وقبول الأَعمال أو راضية عن ربك فهو حال مقارنة.

 

{ مَّرْضِيَّةً } عند ربك اسم مفعول أصله مرضوية بضم الضاد قلبت الواو ياء وأدغمت الياء وكسرت الضاد للياءِ بعدها وذكر المرضية بعد الراضية ترق لأَن رضي الله أكبر ورضوان من الله أكبر وكذلك جاءَ على الترقي في قوله تعالى:

{ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي } فإِن دخول الجنة أعلى من الدخول في عباد الله الصالحين، وبالكون منهم والانتظام في سلكهم، وقيل ذلك في الدنيا، أمر الله الرحمن الرحيم المؤمن أن يرجع عن كل ما يشغل عن الرب إِلى الرب تعالى أو يرجع إِليه في كل أُموره وأن يدخل في المطيعين بالكون منهم قولاً وعملاً واعتقاداً وأن يدخل الجنة بالقوة وإِذا كان المدخول ظرفاً محققاً فالغالب تعدى الدخول إِليه بنفسه أو غير محقق فالغالب التعدي بفي والله أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .