87- سورة الأعلى مكية وآياتها 19

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)

نزه أسماءِ ربك الأَعلى الإضافة للاستغراق نزه أسماءَه كلها التي اختص بها عن أن تسمى لها غيره كلفظ الجلالة ولفظ الرحمن وان تذكرها حين الاستنجاءِ بالحجارة أو بالماءِ أو في الخلاءِ أو عند كشف العورة وإن تفسرها لا يجوز كتفسير الرحمن بما يتضمن رقة القلب وكثرة الحلف بها ولا يجوز أن تكتب في شيءٍ نجس أو بشيءٍ نجس وإن تذكرها وقلبك غير حاضر قيل ولا يجوز أن تكتب بريق وكما ينزه الله تعالى ينزه أسماءه.

 

ولما نزل فسبح باسم ربِّكَ العظيم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اجعلوها في سجودكم " رواه أبو داود عن عقبة بن عامر، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ قوله تعالى سبح اسمَ ربك الأَعلى قال سبحان ربى الأَعلى.

 

وكان علي بن أبى طالب إذا قرأه في الصلاة قال: سبحان ربى الأعلى فقيل أتزيد في الصلاة، قال: أمرت بشيءٍ ففعلته ولعل ذلك في صلاة النفل لكن في الفروع جواز زيادة الذكر في النفل ومنعه قولان والثالث جوازه في النفل والفرض وذلك على حد ما فعله - صلى الله عليه وسلم - والإمام على وفي الحديث المذكور وكلام على الأمر بأَداء ما أمر بقوله مثل أن تقول يوماً في غير الصلاة هو الله أحد...الخ، وأعوذ برب الفلق...ألخ، وأعوذ برب الناس... الخ ونحو ذلك بما يتجه أن نقوله لا ما لا يتجه أن نقوله مثل أوحى إلى أن استمع.. الخ.

 

وأمرنا أن ننزه أسماءَ الله تعالى لكن لا نقول سبحان اسم ربى الأَعلى ولا نقول سبحان اسم الله وما أشبه ذلك، وإذا كان الإمام يطيل القيام قبل الإحرام فللمأموم إذا وجه أن يكرر سبحان الله أو سبحان ربى الأعلى أو الله أكبر فإذا كبر الإمام للإحرام كبر عقبه وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب هذه السورة ويسميها أفضل المسبحات وعن عائشة رضي الله عنها كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الوتر في الركعة الأُولى سبح وفي الثانية قل يا أيها الكافرون وفي الثالثة قل هو الله أحد والمعوذتين.

 

وعن النعمان بن بشير كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العيدين ويوم الجمعة سبح اسم ربك الأَعلى وهل أتاك حديث الغاشية وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعاً وعن عبد الله بن الحارث آخر صلاة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغرب فقرأ في الركعة الأُولى سبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية قل يا أيها الكافرون، والأعلى صفة لربك ولا دليل على أنه نعت لاسم ولو جاز في الحكم وعلى كل حال المراد علو الشأْن إذا كان نعتاً لله تعالى فالمراد ذلك والقدرة والغلبة.

 

وعن ابن عباس صلى باسم ربك ومما يناسب الآية ما ذكره في السؤالات من أنه إذا أردت ذكر الصواب وغير ما هو الصواب فاذكر ما هو صواب من نفي أو إثبات ثم اذكر غيره بنسبته إلى قائله بتعيين أو بغير تعيين مثل أن تقول لا تصح الرؤية عندنا وأثبتها الأَشعرية والقرآن مخلوق عندنا وقال الأَشعري بقدمه وصفاته تعالى هو وقال الأَشعري غيره ولا يقتصر على ذكر ما للأَشعري وتنسبه إليه لأَن ذلك لا يكفي لأَنه لا حصر في ذلك وذكر الاسم ذكر للقب ولا مفهوم للقب على الصحيح المشهور إذا قلت جاءَ زيد لم يفد أن غيره لم يجيءِ وإذا قيل لا يجالس ورع في البلد فسالبة تصدق بنفي الموضوع بأَنه لا ورع فيه فضلاً عن أن يجالس.

 

الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)

{ الَّذِي خَلَقَ } كل شيءٍ من الأَجسام والأَفعال وسائر الأَعراض وهذا مما يقوى أن الأَعلى نعت لربك فإن الاسم لا يتصف بأَنه خالق ولا يجوز رأيت غلام هند العاقل الحسنة بنصب عاقل نعتاً لغلام وجر الحسنة نعتاً لهند فلو جعل الأَعلى نعتاً لاسم كان مثل هذا والأصل في النعت أن يكون نعتاً لما يليه وفيه رد الضمير لأَقرب مذكور لأَمر مرجح أو موجب أن يكون نعتاً لما قبله وحذف مفعول خلق للعموم والله خلق كل شيءٍ، وأخطأَت المعتزلة في دعوى أن الفاعل خالق لفعله وما يغنى عنهم قولهم إن الله تعالى أقدر الفاعل على خلق فعله وهو شبيه بقول النصارى إن الله حاشاه أعطى عيسى بعض الأُلوهية أو أعطاه إياها كلها ثم استردها.

 

{ فَسَوَّى } كل ما خلق على ما اقتضته الحكمة ذاتاً وصفة أو جعل الأَشياء سواءَ في الحكم والإتقان، وعن الكلبي خلق كل ذي روح فسوى بين يديه وعينيه وأذنيه ورجليه وهكذا وعن الزجاج خلق الإنسان فعدل قامته ولم يجعله منكوساً كالبهائم ولعلهما أرادا التمثيل فإنه خلق كل شيء وسواه والفعل مسوى كغيره.

 

وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)

{ وَالَّذِي قَدَّرَ } جعل لكل شيءٍ قدراً في ذاته وصفته وفعله وأجله وكل ماله وجعل رزقاً لمن يأكل وجعل ذكورة وأنوثة، { فَهَدَى } كل واحد إلى ما يصلح له طبعاً واختياراً وطلب الأَرزاق ويسره لما خلق له ونصب له الدلائل وألهمه مصالحه ومن ذلك رضاع الولد ثدي أمه ومعرفة الذكر من كل نوع كيف يأتي الأنثى والجنين كيف يخرج بعدما قدر له في البطن تسعة أشهر أو أقل أو أكثر والإنسان كيف يستخرج المنافع مما قدرها الله له:

 

دواك فيك وما تشعر  ...   وداؤك منك وما تبصر

وتزعم أنك جرم صغير  ...   وفيك انطوى العالم الأكبر

 

 

قالهما علي، وقيل قدر السعادة لأَقوام والشقاوة لأَقوام وهدى كل فريق إلى ما يعمل على الاختيار لا الجبر، وقيل قدر الخير والشر وهدى إليهما وقدر بعض فهدى وأضل على أن الهداية هداية توفيق أو هدى بين الهدى وأضل بين الضلال.

 

وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)

ما تأكله الدواب والطير من النبات.

 

فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)

{ فَجَعَلَهُ غُثَاءً } يابساً شبيهاً بما يلقيه السيل على جانب الوادي من حشيش ونبات، وقيل وأصل الغثاءِ ما اجتمع من أجناس والعرب تسمى الناس المجتمعين من قبائل شتى غثاءَ ولا دليل على ذلك ولعلهم سموهم غثاء تشبيهاً بغثاء السيل.

 

{ أحْوَى } شديد الحمرة يميل إلى السواد وقيل أسود وهو نعت غثاءِ، وأجاز بعض أنه حال من المرعى على أن يكون شديد الخضرة حتى مال إلى السواد ويرده أنه ليس المرعى من أول أمره أسود ولا كله بعد ذلك ولا خضرته تشبه السواد بخلافه بعد كونه يابساً فقد يسود، وأن الأصل عدم الفصل بين الحال وصاحبها ولو كان الفاصل هنا ليس أجنبياً محضاً لأَن الجعل غثاء يعاقب الإخراج لأَوانه وهو أوانٌ مخصوص يتم فيعقبه الجعل غثاء والترتيب في كل شيءٍ كما قال ابن هشام بحسبه أو يقدر ومضت مدة فجعله غثاء أحوى، وذكر بعض الهداية المذكورة بقوله تعالى:

 

{ سَنُقْرِئُكَ } القرآن { فَلاَ تَنسَى } لا تنساه فإن إقراءَه القرآن هداية له ولأُمته والسين للتأكيد والمضارع للحال المستمرة قبل وبعد أو للاستقبال بمعنى نقرئك بعد ما لم نقرئك قبل والمقرىءَ له - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه السلام ولكن أسنده إلى الله تعالى لأَنه أمر جبريل بالإقرار وفيه تلويح إلى قوة قراءَته إذ كانت بإقراءِ الله فلا يتعقبها نسيان مع أنه أمي لا يقرأ كتابة فيكون قوة حفظه معجزة أخرى وراءَ معجزة بلاغة القرآن ومعجزة إخباره بالغيوب.

 

وعن جعفر الصادق كان - صلى الله عليه وسلم - يقرأ الكتابة ولا يكتب وهو خلاف الصحيح المشهور من أنه لا يكتب ولا يقرأ كتابة ثم إن فسر الآية بأَنه يقرأ كتابة بمعنى سنجعلك تقرأ الكتابة نافاه التفريع بالفاءِ، وقيل لا تنسى العمل به، ويجوز أن يراد النهي واللفظ خبر والحكمة في هذا أنه يؤثر فيه النهي حتى أنه أثر فيه حال النهي فيكون النسيان الترك للفظ أو للعمل أو لهما لأًن النسيان بمعنى الزوال عن الحافظة ضروري فلا ينهي عنه اللهم إلا باعتبار أسبابه فيكون النهي عنها ومن أراد أن لا ينسى العلم فليعمل به والمعصية من أسباب النسيان:

 

شكوت إلى وكيع سوءٍ حفظي  ...   فأرشدني إلى ترك المعاصي

فقال اعلم بأن العلم نور  ...   ونور الله لا يعطى لعاصي

 

 

وعن ابن عباس خمس يورثن النسيان أكل التفاح يعنى الحامض وكذا كل حامض، والبول في الماء الراكد، والحجامة في نقرة القفا، وإلقاءِ القملة في الأَرض، وشرب سؤر الفأَر وأكله وزيد قراءَة ما كتب على القبور وأكل الكزبرة والمشي بين الجملين المقطورين والمشي بين المرأتين.

 

إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفي (7)

{ إلاَّ مَا شَاءَ اللهُ } لا تنسى شيئاً من الأَشياءِ إلا ما شاءَ الله أن تنساه أو في وقت ما إلا وقت مشيئة الله تعالى لأَن تنسى وذلك بأَن ينسخه ويذهبه عن حافظتك فلا يبقى حكمه ولا تلاوته أو يبقى حكمه في آية أُخرى قبل المنسوخ أو توحي بعده وأما النسيان بعد التبليغ أو قبله إجباراً من الله تعالى بلا كسل منه - صلى الله عليه وسلم - فلا مانع منه لأَن لله أن يفعل ما يشاءَ ثم يذكره بعد وكأَنه قيل له إلا ما شاءَ الله ثم تذكره بعد وكأَن يتعجل قراءَته قبل فراغ جبريل فنزلت الآية لذلك ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه.

 

ولا يخفى أن ما شاءَ نسيانه هو القليل، وفي البخاري أنه أسقط آية في صلاة الفجر وقال أُبي هل نسخت فقال لا ولكن نسيتها، وفي البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها " سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا يقرأ في ركعة بالليل فقال يرحمه الله تعالى لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أنسيتها من سورة كذا " وفي رواية كنت أسقطتهن من سورة كذا ولا يقره الله تعالى على النسيان.

 

وقيل المراد بالاستثناء القلة المعبر بها عن النفي البتة كما قال الفراء ما شاءَ الله تعالى أن ينسى النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً إلا أن المراد لو شاء الله تعالى لصار ناسياً ومنعه الإمام أبو حيان لأَن مثل هذا يكون مع أداة الشرط مثل:{ لئن أشركت ليحبطن عملك }[الزمر: 65]{ ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك }[الإسراء: 86] لما كان التسبيح لا يتم إلا بقراءَة القرآن وكان يخاف النسيان حتى قيل له لا تحرك به لسانك لتعجل به ونحو هذا أزال الله عنه ذلك بقوله سنقرئك فلا تنسى.

 

ومثل هذا جائز لا يبحث فيه بأَنه لم يجر له ذكر في اللفظ ثم إنه لا مانع أن يريد أن يقوله تعالى سنقرئك.. الخ تعليل جملة لقوله عز وجل سبح كما أنه علل سنقرئك.. الخ بقوله تعالى: { إنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ } ما ظهر من قول وفعل بدليل أنه قابله بما يخفي من قول أو فعل ففي الجهر مجاز مرسل لعلاقة الإطلاق والتقييد فإن الجهر موضوع لإظهار القول.

 

{ وَمَا يَخْفي } يعلم ما ظهر لكم وما بطن عنكم من الأمور التي منها حرصك على حفظ الوحي ليس الأمر إليك بل إلينا فننسك ما شئنا لمصلحة وفي ذلك أيضاً تأكيد لما قبل وما بعد والعموم المذكور أولى من تفسير بعضهم الجهر بجهره - صلى الله عليه وسلم - بالقراءَة مع جبريل خوف النسيان وتفسير ما يخفي بما دعاه إلى الجهر من مخافة النسيان.

 

وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)

عطف على سنقرئك وكلاهما تكلم ولا يعطف على يعلم لأَنه خبر عن ضمير الغيبة عائد إلى الله ولو عطف عليه لكان كقولك إن الله سنقرئك وهو لا يجوز إلا أنه يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأَوائل والأَصل ترك ذلك نعم إن جعلنا الهاء للشأن صح العطف على يعلم إلا أن المتبادر أنها لله عز وجل والوجه ما ذكرته أولاً وإنما قال نيسرك لليسرى ولم يقل نيسر اليسرى لك مع أن الأَصل تعليق التيسير بالأُمور المسخرة للذوات لا تسخير الذوات للأُمور للإِشارة إلى معنى قولك نجعلك راسخاً في اليسرى كأَنك مالك لها ضابطاً لها كأَنها طبيعة لك واليسرى الطريقة اليسرى السهلة تعلمها من جبريل عليه السلام وتعليماً لغيرك وإهداءِ وهداية وإحاطة بأَمر الدين، وقيل اليسرى الشريعة السهلة الخالية عن الشدائد التي كلفت بها الأَمم قبلك، وقيل الأُمور المرغوب فيها مثل النصر وعلو المرتبة والرفعة في الجنة وأمر الدين.

 

فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)

{ فَذَكِّرْ } أي الناس أي دم على التذكير بما تيسر لك من أمر الدين بعد ما استقام لك الأَمر وقد قال الله تعالى فذكر إنما أنت مذكر.

 

{ إن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى } أي لا يخفي أنها نفعت في بعض وكأنه قيل إن رأيت الذكرى نفعت فدم على التذكير فيقول رأيتها نفعت في بعض فلزمه الدوام عليها أو استعمل النفع في إمكانه مجازاً بحسب نظره وإذا أيس من أحد بحسب الظاهر والعلم عند الله تعالى لم يلزمه، أو ذكر الناس إن نفعت الذكرى تحقيقاً أو رجاءَ وطمعاً في النفع.

 

أو المعنى إن رجوت النفع فمن كان لا يزيده التذكير إلا كفراً لم يلزمه تذكيره، أو لا يجوز تذكيره لأَنه يؤدى إلى تجديد كفره، قال الله تعالى:{ فأَعرض عمن تولى عن ذكرنا }[النجم: 29]، فمن عينه الله تعالى بأنه مطبوع على قلبه لا يتعرض له بالتذكير وذلك بعد ما بالغ في التذكير ولم يترك في قوس التذكير منزعاً { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد }[ق: 45] وتذكير خائف الوعد ليزداد إيماناً وحذراً، وقيل التقدير إن نفعت الذكرى أو لم تنفع.

 

سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)

{ سَيَذَّكَّرُ } بتذكيرك. { مَن يَخْشَى } من يخشى الله حق الخشية فيزداد ويدوم أو يخشى في الجملة فيحصل له تحقيقها أو كتب الله أن يخشى.

 

وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11)

{ وَيَتَجَنَّبُهَا } أي الذكرى { الأَشْقَى } هو الكافر المصر مشركاً كان أو فاسقاً، فاسم التفضيل خارج عن بابه، وقيل المراد الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وأبو جهل ونحوهم ممن توغل في الكفر، وقد قيل نزلت في الوليد وعتبة، وقيل المراد مشركوا هذه الأُمة فكما أن نبيهم أفضل الأَنبياء وكتابهم أفضل الكتب كان العقاب عليهم أشد إذ كان كفرهم أشد والفاسق دون المشرك وهو في نار فوق النيران لا أسفل واسم التفضيل في هذه الأَقوال باق على التفضيل.

 

الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12)

الكبيرة وهي نار الآخرة ونار الدنيا صغيرة بالنسبة إليها أو الكبرى باق على التفضيل وهي أكبر من نار الدنيا فنار الدنيا هي الصغرى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ناركم هذه جزء من سبعين جزءَاً من نار جهنم " كما في البخاري ومسلم، ويروى من مائة جزء فإما أن تتفاوت أهلها أو يرد السبعون إلى حديث المائة كما شاع التعبير بالسبعين عن الكثرة وقيل النار السفلى لمن اشتد إشراكه وعناده كما هي لمن نفاقه بإضمار الشرك.

 

ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)

{ ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا } فيستريح { وَلاَ يَحْيَى } فيها حياة نافعة ولا تقل حياة كاملة لأَنه غير نص في أنها لا تنفع فإن الشيء قد يكون غير كامل وفيه نفع وثم لتراخى الرتبة فيما قيل لأَن كونه لا حيا ولا ميتاً تعلق روحه في حلقه لا تخرج فيموت ولا ترجع لمحلها أفضل من الصلى ولا نسلم أنه أفظع بل الصلى أفظع إلا إن أريد أن الله تعالى شدد عليه العذاب بتعلقها في الحلق أكثر من الصلى ونقول الخلود فيها أعظم من دخولها وصليها دون خلود وقوله تعالى لا يموت فيها ولا يحيى عبارة عن الخلود فثم لتراخى الرتبة.

 

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)

{ قَدْ أفْلَحَ } فاز بالنجاة من العذاب وبنيل النعيم الدائم { مَن تَزَكَّى } تطهر من الشرك والإصرار بالاتعاظ بالتذكير كما قال ابن عباس، وعنه - صلى الله عليه وسلم - " من تزكى هو من قال لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله " أي قال ذلك عاملا بمقتضاه من العمل الصالح ومجانبة الإصرار كما قال بعض تزكى تكثر من التقوى والخشية من الزكاء وهو النمو في الخير.

 

وقيل تزكى تطهر للصلاة والمراد أدى الفرائض فعلاً تركا ومثل بالصلاة أو أشار إلى أن الصلاة تنهي عن الفحشاءِ والمنكر، وعن قتادة وأبى الأَحوص وجماعة وأبى سعيد الخدري وعلي بن أبى طالب أعطى الزكاة إلاَّ أنهما قالا زكاة الفطر ولعله لا يصح ذلك إِذ لا يقبل في العربية أن يكون تزكى بمعنى أعطى الزكاة بل عالج الطهارة عما يضر، وأما قوله تعالى:{ يؤتي ماله يتزكى }[الليل: 18] فمعناه كما هنا يتطهر من الذنوب بماله والزكاة إنما هي قوله يؤتى ماله مع أنه لا يلزم من إيتاء المال أنه الزكاة المفروضة.

 

وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)

{ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ } بلسانه وقلبه أو بقلبه لأَن ذلك كله وارد في الشرع فشملته الآية وأما الذكر باللسان دون القلب فلا ثواب فيه ولا مدح بل يذم ذلك ويقال لم يسبح اسم ربه والله تعالى يقول سبح اسم ربك الأَعلى إلاَّ أن هنا لي شيئاً لعله حق وهو أن يدخل في الذكر باجتهاد وإخلاص فتغلبه غفلة في بعض الذكر فلا يحضر قلبه فإنه يكتب له ثواب ما غفل لأن غفلته كالضرورة لا عن كسل، وقيل المراد في الآية الذكر بالقلب ولا يصح إذ لا دليل على تخصيصه وإن أراد أن المعتبر ذكر القلب سواءَ معه اللسان أو لم يكن معه صح الحكم ولا يترجح أن تفسر الآية به.

 

وعن ابن عباس ذكر وقوفه بين يدي ربه وهو مثل القول قبله وذلك أن للذكر باللسان حظاً وافراً لمن أخلص لأَن فيه إقامة شعائر الإسلام والدعاء إليه وهو حقيقة في اللسان مجاز في القلب وقد يقال حقيقة عرفية، وقال بعض الحنفية المراد تكبيرة الإحرام كأَنه تقوى بقوله تعالى: { فَصَلَّى } أي الصلوات الخمس كما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - وكما روى عن ابن عباس موقوفاً، وقيل الخمس وما أمكن من النوافل ولا دليل في الآية على جواز تكبيرة الإحرام بغير لفظ الجلالة لأَن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بين أنه بلفظ الجلالة.

 

وعن علي وأبى سعيد الخدري تزكى أعطى زكاة الفطر وذكر اسم ربه كبر يوم العيد وصلى صلاة العيد وبه قالت جماعة وهو مشهور في المذهب وفيه البحث السابق آنفاً في تفسير تزكى وفيه أيضاً أن الزكاة مؤخرة في القرآن عن الصلاة وأن السورة مكية ولا زكاة فطر ولا عيد فيها ويجاب بأَن تأخيرها إذا ذكرت باسمها أما إِذا ذكرت بالفعل فقد قدمت في قوله فلا صدق ولا صلى ويبحث بأن الكلام في لفظ الزكاة لا فيما يشمل لفظ الصدقة وبأن صدق ليس في معنى الصدقة بل في معنى التصديق ضد التكذيب.

 

وقد يقال على أن المراد زكاة الفطر أنها قدمت هنا كما تقدم على صلاة العيد فعلا وأداءَ وقد قيل إن السورة مدنية فلا تنافي زكاة الفطر وزكاة العيد وعلى أنها مكية يحتمل أن صدقة الفطر وصلاة العيد مما تأَخر حكمه عن نزوله قدم ليقدموا الإيمان به ويستعدوا وليس ذلك من تأخير البيان عن وقت الحاجة ومن ذلك قوله تعالى:{ وأنت حل بهذا البلد }[البلد: 2] نزلت قبل الهجرة والمراد الحل يوم الفتح ومن ذلك{ سيهزم الجمع ويولون الدبر }[القمر: 45] قال عمر نزل في مكة قبل الهجرة والمراد هزيمة بدر وما علمت ذلك إلا يوم بدر رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر يثب في الدرع ويقول سيهزم الجمع ويولون الدبر ولا مانع من الجري على طريق أن الله علم شيئاً فأَخبر به قبل وقته وعلمه سبحانه وتعالى قديم.

 

وقيل التزكي التطهر من الشرك وذكر اسم ربه قول لا إله إلاَّ الله والصلاة الصلاة المفروضة، وقيل التزكي إيمان القلب وذكر اسم الرب النطق باللسان والصلاة العمل بالأركان لأنها داعية إلى العمل وناهية عن المنكر وأنها عماد الدين.

 

بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16)

الخطاب للمشركين تشديد عليهم بعد الغيبة في قوله تعالى:{ ويتجنبها الأَشقى }[الأعلى: 11] والإضراب على محذوف أي أنتم لا تفعلون ما ذكر من التزكي وذكر الله تعالى والصلاة بل تختارون الحياة الدنيا وتطمئنون إليها بالكلية{ إن الذين لا يرجون لقاءَنا ورضوا بالحياة الدنيا.. }[يونس: 7] الآية أو هو إضراب عن قد أفلح..الخ أي لا تفلحون بل تؤثرون أو التقدير هذا البيان لا ينفعكم بل تؤثرون وقيل الخطاب للمشركين والمؤمنين لأَن المؤمنين لا يخلون عن إيثار الدنيا في أحوالهم إلا أنهم لا يخلون بالفرائض وإن أخلوا منها تابوا وتداركوا وإلاَّ هلكوا.

 

وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)

{ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ } في ذاتها ونعيمها وعدم كدرته من الدنيا ونعيمها ولا تخلو عن كدر.

 

{ وَأبْقَى } الدنيا ولو بقيت مدة طويلة لكن لا بد لها من فناء، ويجوز أن يكون أبقى بمعنى باقية والدنيا فانية والجملة حال من واو تؤثرون قال ابن مسعود بعد ما قرأ الآية أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة قالوا لا قال لأَن الدنيا أحضرت وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذتها وبهجتها وأن الآخرة تغيبت ورويت عنا فأَحببنا العاجل وتركنا الآجل.

 

إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)

{ إنَّ هَذَا } ما ذكر من كون الآخرة وأبقى أو إلى قوله قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى، قال أبو ذر قلت " يا رسول الله هل أنزل عليك شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى قال يا أبا ذر نعم قد أفلح من تزكى وقرأ إلى وأبقى " ، وعن الضحاك الإشارة إلى القرآن كقوله تعالى:{ وإنه لفي زبر الأَولين }[الشعراء: 196]، وعن ابن عباس إلى ما في السورة جميعاً ولا يتبادر.

 

{ لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إبِرَاهِيمَ } له منها عشر كلها أمثال أيها الملك المسلط لم أبعثك لتجمع بعض الدنيا إلى بعض بل لترد دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر وعلى الإنسان ما دام عاقلاً ساعة يناجى فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة لمباحة يستعين به على الطاعة وأن يكون بصيراً بزمانه مقبلاً على شأنه حافظاً للسانه ومن حسب كلامه من عمله أقله إلاَّ فيما يعنيه.

 

{ وَمُوسَى } له من الصحف عشر نزلت قبل التوراة كانت عبراً كلها عجباً لمن أيقن بالموت ثم يفرح ولمن أيقن بالنار ثم يضحك ولمن يرى الدنيا وتقلبها بأَهلها ثم يطمئن إليها ولمن أيقن بالقدر ثم يغضب ويروى ثم ينصب ويروى ثم يحزن ولمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل ويروى في ذلك كله كيف بدل ثم ومعنى عجباً تعجبوا أيها المكلفون، ويروى عجبت ومعناه استعظمت لأَن الله لا يتعجب ويروى عجباً لمن أيقن بالحساب كيف يغفل، ويروى يذكر عجباً في كل، وأنزل على شيت خمسين صحيفة وعلى إدريس ثلاثين وذلك مع التوراة والزبور والإنجيل والقرآن مائة كتاب وأربعة كتب أسأل الله الرحمن الرحيم بها أن يقضى حوائجنا.. وصلى الله عليه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع القبس 1435هـ/2014م