بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)

{ عَمَّ } ما الاستفهامية تحذف ألفها إِذا دخل عليها حرف الجر إِن لم تركب مع إِذا وإِلا ثبت نحو بماذا تجئ وإِنما حذفت قيل لكثرة الاستعمال، وفيه أن ما الموصولة أكثر استعمالاً ولشدة اتصالها بما بعدها، وفيه أن الموصولة أشد اتصالاً بصلتها حتى إِنه لا تحذف الصلة ويبقى الوصول بخلاف مدخول ما الاستفهامية فيجوز حذف ما بعدها مثل أكرم زيداً فتقول بمه، وإِن اعتبرت العامل فالموصول الفاعل أشد اتصالاً بالفعل، وقد تثبت قليلاً نحو على ما قام يشتمني لئيم ويكتب إِلى وعلى معها بلام ألف نحو جئت إِلام جئت وعلام ركبت.

 

{ يَتَسَاءلُونَ } يقع السؤال بينهم فلا مفعول له أو يقدر يتساءل بعض بعضاً أو يتساءلون النبي والمؤمنين أو الناس وهو سؤال استهزاء، والواو لكفار مكة ولو لم يجر لهم ذكر لأَن القرآن فيهم أنسب مع أنه عام حكماً ولحضورهم، ولم يذكروا بالظاهر تنزيهاً للمقام عنهم، وأصل التفاعل وقوع فعل كل واحد على الآخر نحو تضاربوا فكل واحد فاعل ومفعول ورجح جانب الفاعلية فيرفع الاسم ويرجع إِلى هذا قولك تعاطياً الكأَس، ومن تعدى التفاعل قوله:

 

ولما تنازعنا الحديث واسمحت     همزت بغصن ذي شماريخ ميال

 

وقد يستعمل في تعدد التفاعل بلا وقوع من كل على الآخر، فيجوز أن يتعدى نحو تراءوا الهلال، وقد يرجع للقسم الأَول إِذ لا يقال ذلك إِلا على قصد أن يراه كل واحد قبل صاحبه أو دون صاحبه، وقد يكون لتعدد الفعل من واحد نحو{ فَبأَي آلاء ربك تتمارى }[النجم: 55] أي تتعدد المرية، وقد يرجع إِلى الأَول بمعنى تتمارى أنت ونفسك، وقد يكون دون تعدد الثلاثي نحو تبارك وتعالى وذلك للمبالغة، وقيل الواو للمؤمنين والكافرين، المؤمنون يتساءلون ليزدادوا علماً والكفار استهزاء، وهو خلاف الظاهر والسياق يأْباه، والمقام ألا ترى قوله كلا سيعلمون.. الخ فإِنه للكفرة، ولو جاز تخصيص بعض ما يشمله العموم بما يخصه وكيف يقول الله للمؤمنين { عم يتساءلون } بطريق التوبيخ مع غيرهم مع أن سؤالهم عبادة.

عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)

البعث كما مر أو القرآن والصحيح الأَول، وليسوا يتساءلون عن نفس البعث أو القرآن ما حقيقته كما هو شأْن السؤال بما بل عن أحواله وصفاته كما يقال ما زيد والمراد أعالم أم عابد، وعن متعلق يتساءلون لأَن عن الأَول للتعليل والثاني للمجاورة أو كلاهما لها وعن النبأ بدل من عم على تقدير الهمزة أي أعن النبأ وهذا يعنى عن تقدير بعض أيتساءلون عن النبأ وليس كما قيل أن إِعادة الاستفهام تلزم مع الاستفهام الحقيقي فقط ولا في بدل الكل فقط.

 

وقيل عم الأَول متعلق يتساءلون محذوفاً والثاني بالمذكور لدليل قراءة عمه بهاء السكت ولو تعلق بما بعد لم يوقف عليه، وفيه أن هاء السكت في القرآن لا يجب الوقف عليها بل تجرى وصلاً، وقيل يتعلق الثاني بيسأَلون محذوفاً جواباً من الله كقوله تعالى{ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار }[غافر: 16]، وإِيراد البعث أو القرآن بالسؤال والجواب عنه إِعظام له وقد وصفه بالعظيم.

الَّذِي هُمْ فيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)

{ الَّذِي هُمْ فِيهِ } متعلق بقوله: { مُخْتَلِفُونَ } قدم الفاصلة وبطريق الاهتمام وإِن جعلنا التساؤل شاملاً للمؤمنين فاختلافهم مع المشركين، والواضح أن التساؤل بين المشركين والاختلاف بينهم أيضاً فمن منكر للبعث إِن هي إِلا حياتنا الدنيا الخ.. وشاك ما ندرى ما الساعة الخ.. ومنكر لبعث الجسم مثبت لبعث الروح وحده وعليه جمهور النصارى وهو كفر بالله عز وجل وعيسى وسائر الأَنبياء والرسل وبالكتب كلها ومنكر للبعث لإِنكار الله عز وجل ومنكر له بادعاء استحالة المعدوم بعينه مثبت له بالمثل، وقيل مختلفون مع الرسول.

كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4)

{ كَلاَّ } ردع عن التساؤل استهزاء ولو عم التساؤل المذكور المؤمنين المتسائلين استهزاء وزيادة ردع لهم، والسين مستعمل في التقريب والتأْكيد ولم توضع للتقريب ولا مفعول ليعلم، والمعنى سيكون لهم بالحقيقة أو يقدر { سَيَعْلَمُونَ } أي يعرفون ما يلاقونه من فنون العذاب، أو سيعلمون حقيقة الحال، أو يعلمون جزاء التساؤل فيستحيوا، أو يعدى لاثنين أي يعلمون ما قيل لهم حقا.

ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)

عطف على الأَول والمراد بهما واحد وثم للترتيب الذكرى تأْكيداً أو المراد غير الأَول وثم للتفاوت الرتبي لأَن العلم في الموضعين عبارة عن لقاء الموعود، وقيل الأَول ما يكون عند الموت من الشدة والتعنيف وكربة الافتضاح والثاني شدائد يوم القيامة فثم للتراخي في الزمان أو مع الرتبة، وقيل الأَول في البعث والثاني في الجزاء على إِنكاره وثم للتراخي في الزمان يعلمون حقيقة البعث إِذا بعثوا وحقيقة العقاب على إِنكاره إِذا دخلوا النار، وقيل سيعلم الكفار أحوالهم من التعذيب الجسمي ثم سيعلمون أحوال المؤمنين فيغتاظون والغيظ عذاب روحي أو سيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم ويعلم الكافرون عاقبة تكذيبهم.

أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6)

كمهاد أي فراشاً وهذا تشبيه بليغ بسطناها مع وسعها وغلظها ألا نقدر على البعث مع قدرتنا على ذلك وفيها دليل عليه إِذ أخرجنا نباتاً وهو والبعث واحد ولم نخلقها عبثاً بل للتمتع فيها للدين والإٍيمان، وقيل أصل المهاد مصدر واستعمل بمعنى مفعول أو يبقى على المعنى المصدري مبالغة كأَنها نفس البسط وهذا البسط من أول خلقها، وقيل بعد والبسط الظاهر فقط لسعتها وفي نفس الأَمر كرية.

وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)

كالأَوتاد لها مع ما في الجبال من المنافع وهو تشبيه بليغ، وقيل في الموضعين استعارة وهو مختار السعد في نحو زيد أسد، خلقها الله عز وجل فجعلت تميد بالماء تحتها وجوانبها فأَرساها بالجبال فقالت الملائكة هل خلقت يا ربنا أشد من الجبال. فقال: النار. قالوا ربنا هل خلقت أشد من النار. قال: نعم، الماء، قالوا: ربنا هل خلقت أشد منه، قال: الهواء، قالوا ربنا: هل خلقت أشد منه. قال: نعم، ابن آدم يتصدق بصدقة تخفي عن شماله ومن الإِخفاء البيع بالرخص والشراء بالغلاء قصداً للصدقة بلا إِخبار بها ولا إِشارة إِليها، وخلق الجبال بعد خلق الأَرض وهي متفاوتة في الحدوث أول ما خلق منها أبو قبيس، وزعم أنه قد يتلاشى منها بعض ما وجد وأنه قد يحدث بعض تلاع بجمود الماء.

وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8)

{ وَخَلَقْنَاكُمْ } عطف على مدخول الهمزة لا على مدخول لم فهو مثبت انسحب عليه الاستفهام بالهمزة التقريري أو التعجيبي كأَنه قيل أخلقناكم، وقيل على مدخول لم فيكون منفياً بلم مثبتاً بالاستفهام كأنَه قيل ألم نخلقكم ولو كانت لم لا تدخل على الماضي لأَنه قد يغتفر في التابع مالا يغتفر في المتبوع وفي الأَواخر مالا يغتفر في الأَوائل، { أَزْوَاجاً } مزدوجين ذكوراً وإِناثاً للتناسل وانتظام أمر المعاش وأصنافاً في اللون وأصنافاً في اللغة وغير ذلك ويبعد ما قيل كل واحد منكم زوجان ماء الرجل وماء المرأة.

وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)

كسبات أو استعارة على حد ما مر وقس على ذلك ما لم أذكره، والسبات الموت شبه النوم به لأَن فيه انقطاع الحس، ومن معاني السبت القطع، وقيل من السبت بمعنى البسط، امتن الله عز وجل بنعمة النوم الطويل، وقيل النوم الخفيف وهو خفيف ولو طال لأَنه بحيث يبطل به امر المعاش كالموت، وقيل السكون والراحة يقال سبت أي استراح وهو أيضاً من لوازم النوم، ويوم السبت سمى لراحة أهله فيه وفراغهم أو لقطع الله سبحانه الخلق فيه لم يخلق فيه شيئاً، والأَول أصح وأنسب للاستدلال به على بعث الموتى.

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)

يستركم ظلامه عن انكشاف مالا تحبون الاطلاع عليه كالهروب من العدو والنزول عليه وعن امتداد أبصاركم المشغل عن النوم بالحركة والكسب المفوت للراحة فيضعف البدن، وقيل المراد اللباس الذي يجعل للنوم كلحاف فإِن شبه الليل به أكمل ويبعد ما قيل إِنه كاللباس لليوم في سهولة الخروج عنه، وهلك من استدل بالآية على جواز الصلاة ليلاً بلا لباس وقد أَمر من نزلت عليه الآية باللباس في صلاة الليل والنهار ومن خالفه عرى عن لباس التقوى وكانت له ظلمة شديدة يوم القيامة.

وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)

اسم زمان أي وقت عيش أي حياة مطلقاً أو للكسب كالبعث من الموت والتخريج على ذلك لا يتوقف على السماع لأَن اسم الزمان الميمي والمكان الميمي والمصدر الميمي تقاس وما ورد على خلاف القياس فهو مقبول، وقد قيل إِنه مصدر ميمي ناب عن الزمان كجئت طلوع الشمس، وفي الجمع بين ذكر الليل لباساً والنهار معاشاً تلويح إِلى أن النائم معطل الحواس محتاج لما يستره عما يضره وفيه مطابقة لفظية ومعنوية لأَن النهار وقت المعاش واليقظة في مقابلة السبات.

وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)

شبه سبع السماوات بالقبات ورمز لذلك بلازم القبات وهو البناء وإِثبات البناء تخييل واستعارة للخلق واذكر الآن أنهم غلطوا في الاستعارة التبعية ببنائها على استعارة أصلية إِذ لا تلفظ بهذه الأَصلية المدعاة فكيف تتصور بلا تلفظ فإِما أن يراد التبع في المعنى الذي فرعت عليه التبعية أو في التشبيه المقصود، وقيل اختار لفظ البناء للإِشارة إِلى أن خلقها على سبيل التدريج والسماء خيمة لا سطح مستو وذكر في آية بأَنها سقف لا ينافي أنها خيمة فإِن الخيمة سقف على من تحتها.

 

وصح أيضاً أن العرش خيمة وإِنما احتج على المشركين ببنائه تعالى وعز وجل سبع سماوات شداد أي قويات محكمة لا يسقط منها ما يضركم أو يعطلكم عن المعاش مع أنهم مشركون لا يصدقون بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأَنهم سمعوا بثبوتها عن أسلافهم عمن يعتقد أسلافهم صدقه كإسماعيل أو سمعوه من أهل الكتاب وليس مما يعاندون فيه ولا يضرنا في ذلك كون هذا على هذا المقدار والجعلات قبل هذا وبعده وإِنزال الماء من المعصرات على تحقيق عندهم أو لأَنه لا يعتبر إِنكارهم إِن أنكروا، سبع السماوات لصحتها وإِخباره -صلى الله عليه وسلم- بها.

 

أو الخطاب يعم الناس وغلب المؤمنين أو اعتبر في الاستفهام التقرير حتى كأَنه إِخبار مجرد هكذا { ألم نجعل الأَرض مهاداً والجبال أوتاداً وخلقناكم أزواجاً.. }[النبأ: 6 - 8] إلى... { وبنينا فوقكم سبعاً شداداً } ، ولا يتعلق فوق ببنينا على ظاهره لأَنها بنيت قبل وجودهم بل بتقدير مضاف أي فوق أرضكم أو فوق جو أرضكم.

وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13)

{ وَجَعَلْنَا } خلقنا.

 

{ سِرَاجاً } شَمْسَاً كالمصباح.

 

{ وَهَّاجاً } مضيئاً يقال وهجت النار أضاءت أو وهاجاً حاراً، يقال وهجت النار بالغت في الحرارة والشمس أحر من النار إِلا أنه لا يصلنا من حرها إِلا ما نشاهد منه ولا يصح جعل سراجاً مفعولاً أولاً ووهاجاً ثانياً لأَنه لا مسوغ للابتداء به والفعل الناسخ إِنما يدخل على النكرة إِذا كان لها مسوغ قبل دخوله اللهم إِلا أن يقال التعظيم بل هو متعد لواحد ووهاجاً نعتاً، وشهر أن الشمس في السماء الرابعة.

 

وعن عبد الله ابن عمرو بن العاص هي في الرابعة إِلينا ظهرها ولهبها فوق ويخسفها عطارد فيما قيل والقمر إِذ هما تحتها، والقمر في الأُولى يكسف زحلا في السابعة والمشترى في السادسة والمريخ في الخامسة والشمس في الرابعة وعطارد في الثالثة والزهرة في الثانية ويكسف سائر الثوابت الجارية في ممر الدراري هذه وقال بعض القدماء الزهرة وعطارد فوق الشمس، وقال لا يكسفانها واعترض بأَنهما لا يكسفانها ولو كانا تحتها لأَن شرط الكسف أن يكون الكاسف على سمت المكسوف وذكر بعض أنه وجدت الزهرة على قرص الشمس مرتين بينهما نيف وعشرون سنة.

وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14)

{ وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ } السحائب اسم فاعل أعصرنا بالبناء للفاعل أي حان أن تكون ذات إِعصار بالريح فتمر كأعصرت الجارية حان أن تحيض أو حان أن تغيث ومنه العاصر المغيث أو صارت ذات إِعصار أي ذات ريح مسماة إِعصاراً كأَيسر صار ذا يسر، أو المعصرات الرياح تعصر السحائب فتمطر.

 

وفسرها بعض بالرياح ذوات الأَعاصير اسم فاعل نسب إِلى الإعصار بالكسر وهي ريح تثير سحاباً ذا رعد وبرق بإِذن الله تعالى وتؤيده قراءة { وأنزلنا بالمعصرات } بباء السبب أو الآلة فإِنه حينئذ الرياح والله يفعل بلا آلة بل عندها أو بدون وجودها فنقول لهذه القراءة من للسببية والمتبادر أنها للابتداء وأن المعصرات السحائب، وقيل المعصرات السماوات وفيه أنه لا يقال أعصرت السماء أي نزل منها بالعصر وأجيب بأَنه ينزل منها الماء للسحاب فكأَن السماوات يعصرن أي يحملن على عصر الرياح السحاب واعترض بأَنه يحتاج إِلى ثبوت معصر بمعنى الحاصل على العصر { مَاءً ثَجَّاجاً } منصباً من ثج اللازم وهو الأَكثر.

لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15)

{ لِّنُخْرِجَ بِهِ } بذلك الماء وذلك بصورة الآلة وليست مرادة ولكن لا مانع من مثل ذلك في العبارة كما تقول أحرق الله الكافر بالنار وباعتبار أنه لا يعمل بآلة لكن يرتب الشيء على شيء، قيل معناه لنخرج عنده ماء ثجاجاً.

 

{ حَبَّا } تقتاتونَ به كالبر والشعير { وَنَبَاتاً } علف الدواب كالحشيش والتبن وقدم الحب مع أنه مؤخر في الوجود لشرفه لأَنه غالب قوت الإِنسان وللفاصلة.

سورة النبأ: الآيات (16-40)

وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ  الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)

{ وَجَنَّاتٍ } بساتين ذات أشجار تجن الأَرض أي تسترها أو الجنة ما فيه النخل والبستان ما فيه الكرم.

 

{ أَلْفَافاً } جمع لف بالكسر كجدع وأجداع قيل أو جمع لف بالفتح والجمهور على الأَول وهو على كل حال بمعنى ملفوف ومن العجيب قول بعض المحققين أنه صفة مشبهة بمعنى مفعول ولا نعرف الصفة المشبهة في معنى مفعول به بل في معنى فاعل، وقال الكسائي جمع لفيف بمعنى ملفوف ودع عنك القول بأَنه جمع لف بمعنى ملتف بحذف الزوائد، وقيل هو جمع لا واحد له كالأَوزاع والأَخياف للجماعات المتفرقة المختلفة وأفعاله تعالى المذكورة تثبت البعث بقدرته تعالى على إِنشائه ما ذكر بلا مثال يحتذي وبقوة علمه وحكمته إِذ أبدع هؤلاء المصنوعات مع ما فيها من منافع الخلق فيستحيل في حكمته أن لا يجعل لها عاقبة وباعتبار نفس الفعل كالإِيقاظ بعد الإِنامة وإِخراج النبات من الأَرض والثمار من النبات وبعد إِثبات البعث ذكر وقته بقوله:

 

{ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ } بين الخلق والحق والباطل.

 

{ كَانَ } في علم الله أو في اللوح أو سيكون خارجاً فعبر بالماضي للتحقق.

 

{ مِيقَاتاً } محدوداً بوقت لا يتقدم عنه باستعجالكم كما لا يتأَخر مطلقاً ولا لحبكم تأْخيره إِذا جاء والياء عن واو لأَنه من القوت، وقيل حداً تنتهي إِليه الدنيا أو حداً للخلائق تتميز به أحوالهم، وصحح بعض أن الدنيا انتهت بنفخ الموت.

 

وقيل انتهت بنفخ البعث وهنا حديث موضوع عن البراء بن عازب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن جماعة من الموحدين يبعثون قردة النمامون وجماعة خنازير آكلو السحت وجماعة منكسين أرجلهم فوق رؤوسهم وهم أكلة الربا وجماعة عميا وهم الجائرون في الحكم والمعجبون بأَعْمالهم صماً بكماً والمخالف أقوالهم أفعالهم ماضغين ألسنتهم والمؤذون للجار مقطعي الأَيدي والأَرجل والساعون بالناس أو السلطان مصلبين على جذوع نار ومانعو الحقوق من أموالهم المتمتعون بها أشد نتناً من الجيف والمتكبرون المفتخرون أصحاب الخيلاء لابسين جباباً من قطران لاصقة بجلودهم وضع وفسر به قوله تعالى:

 

{ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فتأْتُونَ أفْوَاجاً } ويوم بدل من يوم أو بيان له وهو تفخيم ليوم الفصل والنفخ متقدم عن الفصل وأخر لأَن ذلك وقت ممتد في بعضه وفي بعضه فصل ووقت النفخ منه وهو مبدأ له والصور مفرد جسم ينفخ فيه إِسرافيل وفيه الأَرواح.

 

أو هو جمع وهو صور الموتى تحيى بنفخ إِسرافيل بل بإِذن الله عز وجل والمفرد صورة ومر كلام في ذلك والمشهور الأَول ويدل للثاني قراءة فتح الواو وفي الكلام حذف إِيذاناً بالسرعة كقوله تعالى: { فانفلق } أي فتحيون فتبعثون فتأْتون إِلى الموقف أفواجاً أي جماعات كل جماعة بإِمامهم يوم ندعو كل أناس بإِمامهم أو جماعات مختلفة بالسعادة والشقاوة وما يترتب عليهما بالأَعمال ومن بعث مقطوع الرجلين أو منكساً أمشاه الله بقدرته على غير الرجلين كما أمشاه عليهما في الدنيا وأيضاً تأْتى به الملائكة مسحوباً ومن صلب على جذوع نار مشت به الجذوع بقدرة الله تعالى أو جرها الملائكة كما تجر العمى فكلهم داخلون في قوله تعالى فتأتون.

وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19)

{ وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ } صيغة الماضي للتحقق مثل نظائره والعطف على ينفخ أو على تأْتون ولو تخالفا مضياً ومضارعة لأَن فتحت في منزلة المضارع أو الواو للحال بتقدير قد أو دونه والشد للمبالغة ومعنى التفتيح التشقيق كقوله تعالى: إِذا السماء انشقت - إِذا السماء انفطرت.

 

{ فَكَانَتْ } أي صارت.

 

{ أَبْوَاباً } بذلك الشق وهي غير الأَبواب التي للملائكة في طلوعهم ونزولهم قبل وشقها لنزول الملائكة كقوله تعالى:{ ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة }[الفرقان: 25] وإِذا شققت لم تحتج إِلى فتح الأَبواب فلا يصح ما قيل فتحت أبواب السماء فصارت كأَنها كلها أبواب وأيضاً فتح الأَبواب ليس من خواص يوم القيامة ويبحث بأَنها تفتح فيه للنزول للموقف فينزلون منها ومن الشقوق.

 

وفي الآية مبالغة بتوسيع الشقوق حتى كأَنها أبواب والأَبواب على هذا غير حقيقية بل تشبيه بليغ ويجوز الحمل على الحقيقة بأَن يشقها الله عز وجل على صفة الأَبواب وقيل تكشف كلها فيصير محلها طرفاً وذلك كله سهل عند الله كسهولة فتح باب موجود وسرعته فيكون هذا نكتة التعبير بالأَبواب.

وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)

{ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ } في الهواء بعد قلعها كما قال وهي تمر مر السحاب { فَكانَتْ سَرَاباً } كسراب بعد تفتتها وتخللها كالعهن المنفوش وتكون كغبار متراكم يبسط وينشر كما قال:{ وبست الجبال بساً فكانت هباءً منبثاً }[الواقعة: 5 - 6] ويسوى الأَرض كما قال سبحانه { ويسأَلونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً يومئذ يتبعون الداعي }[طه: 105 - 108]{ يوم تبدل الأَرض غير الأَرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار }[إبراهيم: 48].

 

وذلك بعد النفخة الثانية وقد قيل اندكاك الجبال وانصداعها بعد النفخة الأَولى، وقيل أيضا تسييرها وصيرورتها سحاباً بعد الأُولى وهو خلاف ظاهر الآية إِذا جعلت الواو للعطف كما هو المتبادر والأَصل فيها ولو جعلت للحال كان ذلك بعد الأُولى أي فتأْتون أفواجاً وقد سيرت الجبال قبل مجيئهم فصارت سراباً وتسوى الأَرض بدونها وقيل تنزل وتسوى الأَرض بها وقيل تجرى كالماء وتنزل نزوله في منظر أهل النار فيزداد شوقهم إِلى الله وهو خلاف الظاهر.

إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21)

اسم لمكان الرصد كالمضمار لمكان إِضمار الخيل ترصد أي ترقب فيه الملائكة الكفار لتعذبهم أو المؤمنين لينقذوهم من فيحها والكفار ليعذبوهم والظاهر الأَول أو اسم آلة أي يرصد الله تعالى أو الملائكة بها الأَشقياء لدخولها والسعداء بالإِنجاء من فيحها بأَن يكون لها عمل في ذلك بإِذن الله تعالى أو صفة مبالغة أي عظيمة الرصد للكفرة بالأَخذ وللمؤمنين بالمباعدة عن ضرهم بفيحها فإِن مفعال حقيقة في مكان الفعل وزمانه والآلة والمبالغة والآلة ومن الزمان ميقات وإِسناد الرصد للنار حقيقة بأَن يخلق الله فيها إِدراكاً وكسباً أو مجاز في الإِسناد أو تشبيه وأجيز أن مرصاداً للنسب أي ذات رصد كلابن لذي اللبن.

 

وعن ابن عباس سبعة محابس يسأَل في الأُولى عن شهادة أن لا إِله إِلا الله فإِن جاء به سئل في الثاني عن الصلاة فإِن جاء بها تامة سئل في الثالث عن الزكاة فإِن جاء بها تامة سئل في الرابع عن الصوم فإِن جاء به تاماً سئل في الخامس عن الحج فإِن جاء به تاماً سئل في السادس عن العمرة فإِن جاء به تامة سئل في السابع عن المظالم فإِن نجا منها دخل الجنة ويكمل في ذلك كله فرضه بتطوعه.

لِلطَّاغِينَ مَآَبًا (22)

{ لِّلطَّاغِينَ } شامل للموحد الفاسق متعلق بكانت أو بمحذوف خبر ثان أو نعت مرصاداً أو حال من قوله. { مَآباً } أو متعلق بمرصاداً على تضمين معنى معدة ومعنى مآباً موضع أوب لهم أي رجوع وهو خبر آخر لكانت أو بدل من مرصاداً.

لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)

{ لاَّبِثِين } مقيمين.

 

{ فِيهَا أحْقَاباً } جمع حقب بضمتين أو بضم فسكون زمان غير محدود، وعن ابن مسعود وعلى وابن عباس وابن عمر وأبى هريرة موقوفاً، الحقب ثمانون سنة كل سنة اثنا عشر شهراً وكل شهر ثلاثون يوماً وكل يوم ألف سنة من سنى الدنيا، وعن ابن عمر مرفوعاً بضع وثمانون سنة كل سنة ثلثمائة وستون يوماً واليوم ألف سنة مما تعدون، وعن عبادة بن الصامت مرفوعاً أربعون سنة، وقال بعض اللغويين سبعون ألف سنة وقيل الحقب الواحد سبعة عشر ألف سنة.

 

وعن ابن مسعود لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار كذلك لفرحوا ولو علم أهل الجنة أنهم يلبثون ذلك في الجنة لحزنوا وعلى كل حال المراد أحقاباً بعد أحقاب بلا تناه لدلالة آيات الخلود وقوله وما هم منها بمخرجين، ويروى أن طائفة تخرج حتى تشاهد الجنة وتريح ريحها فينادى ردودهم إِلى النار لا نصيب لهم في الجنة وذلك كذب مناف لعموم الخلود وعدم الخروج وعدم تمتع الشقي بشيء من الجنة ولا سيما بعد دخول النار ويجبر ذلك بما روى أنهم يتحسرون بهذا الرد حسرة ما رجع الأَولون والآخرون بمثلها إِذ لا يخرج عما ثبت إِجماعاً بما لا حجة فيه ولا يجبره أن ذلك زيادة تعذيب اشد من تعذيب اللبث في النار.

 

والحقب مأخوذ من الحقيبة وهو ما يشد خلف الراكب مستتبعاً من طعام أو شراب أو منفعة، وقيل جمع حقب بفتح فكسر من حقب الرجل إِذا أخطأَه الرزق وحقب العام إِذا قل مطره وخيره أي هم محرومون من الخير وأحقاباً متعلق بقوله لابثين وأجيز تعليقه بيذوق، وقيل الأَحقاب لأَنواع العذاب، وقيل متناهية ونسخ تناهيها بقوله تعالى فلن نزيدكم إِلا عذاباً ويرده أنه لا نسخ في الأَخبار لأَنه يوجب بدو البدوات والجهل تعالى الله عن ذلك، وعن كل نقص ولعل القائل بالنسخ لم يرد النسخ المعروف بل أراد أن الله قضى كذا لزمان وقضى كذا لزمان بعده.

لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24)

{ لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا }... الخ... مستأْنف أو حال من المستتر في لابثين وهي غير قيد لمدة بل هم دائماً لا يذوقون... الخ، وقيل قيد للبث أي لابثين فيها أحقاباً ذائقين إِلا حميماً وشراباً وبعد تلك الأَحقاب لبث على نوع آخر من العذاب وكذا إِن علق أحقاباً بيذوق فيه القولان وفيه بعد وهاء فيها للنار وأبعد منه جعل لا يذوقون نعتاً لأَحقاباً على القولين معاً وها فيها للأَحقاب.

 

{ بَرْداً } شيئاً ينفس عنهم ما هم فيه من الكرب العظيم ولا راحة لهم في الزمهرير بل هو عذاب يلتجئون منه إِلى النار، وقيل البرد الشراب البارد المستلذ فذكر الشراب بعده تعميم للشراب النافع بعد تخصيص بأَفضله، وقال الكسائي البرد النوم لأَنه يبرد شدة العطش وهو لغة هذيل.

 

{ وَلاَ شَرَاباً } نافعا ماء أو لبناً أو عسلا أو غير ذلك.

إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)

{ إِلاَّ حَمِيماً } ماء شديد الحرارة إِذا أدناه من فِيهِ سقط ما في وجهه وبقيت عظامه كما في الحديث والاستثناء منقطع لظهور أن المراد بالشراب النافع.

 

{ وَغَسَّاقاً } الزمهرير أو ما يقطر من جلود أهل النار من الصديد ولا وجه لكونه مستثنى من برد آخر للفاصلة، لما علمت أن الاستثناء منقطع فلا خصوصية له ببرد.

جَزَاءً وِفَاقًا (26)

جوزوا بذلك جزاء موافقاً أي مطابقاً لأَعمالهم في الشدة والضعف النسبي والأشدية والمصدر بمعنى اسم الفاعل كما رأيت أو يقدر مضاف أي مصاحب وفاق أو مبالغة كأَنه نفس الوفاق والجملة مستأْنفة أو وفاقاً مفعول مطلق لمحذوف هو نعت جزاء أي جزاء وافقها وفاقاً.

إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27)

{ إِنَّهُمْ } أي لأَنهم وهو تعليل جملي لجوزوا جزاء أو لوافق وفاقاً أو لانتفاء الذوق ولم يقل من ربك كما قال بعد لأَن هذا خذلان لهم وما يأْتي لتربية الله عز وجل للمؤمنين وإِرشاده.

 

{ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً } لا يتوقعون حساباً على الإِشراك والمعاصي لعدم إِيمانهم بالبعث فاستعمل المقيد وهو لفظ الرجاء في المطلق وهو مطلق الانتظار واستعارة للخوف لعلاقة التضاد أو علاقة الترتب على مطلق الانتظار وفسره بعض بلا يخافون أو المعنى لا يرجون ثواباً على عمل صالح لو عملوه أو على ما عملوا من عبادة كاستغفار، وفك الأَسير، وإِطعام اليتيم والأَسير، والطواف لإِنكارهم البعث فلا يبالون أيضاً بالكفر.

وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا (28)

{ وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } أي ما يتلى عليهم وكل حجة، { كِذَّاباً } تكذيباً مفرطاً أو مصدر فعل بالشد على فعال بالكسر والشد مطرد في كلام الفصحاء ونسبها الفراء إِلى أهل اليمن ولأَهل اليمن لغة أُخرى بالتخفيف، سأَل أعرابي عالماً وهما على جبل المروة أألحلق أحب إِليك أم القصار بكسر القاف وشد الصاد أي التقصير، وقال ابن مالك ذلك قليل يعنى فصيح قليل استعمالا، وقيل هو للثلاثي وضمن كذبوا بالشد معنى كذبوا بالتخفيف لأَن تكذيب الحق كذب وقدر له بعض فعلا ثلاثياً هكذا وكذبوا بآياتنا كذبوا كذاباً بتخفيف الفعل الثاني كما قيل بذلك في قراءة تخفيف كذابا.

وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)

{ وَكُلَّ شَيءٍ } مطلقاً وقيل مما يتعلق به الثواب والعقاب.

 

{ أحْصَيْنَاهُ } النصب على الاشتغال وقيل بالعطف على هاء إِنهم فأَحصيناه عطف على خبر إِن.

 

{ كِتَاباً } مفعول مطلق لأَحصينا لتضمنه معنى كتبنا أو تضمن كتابا معنى إِحصاء فإِن كلا بمعنى الضبط أو كتابا بمعنى مكتوب فهو حال وكَتْبُ ذلك في اللوح أو صحف الحفظة حقيقة لحكم تقصر عنها العقول ومنها أن يشاهد المكلفون ما فعلوا بلا زيد ولا نقص لا لاحتياج الله تعالى إِلى ذلك وقيل الكتب كناية عن ضبط الأَمر والصحيح الأَول والأَخبار جاءت به.

فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً (31)

{ فَذُوقُوا } بسبب كفركم بالحساب الخطاب تقريع بالتشديد بعد الإِعراض عنهم بالغيبة على طريق الالتفات.

 

{ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } هذه الزيادة لا تنافي كون الجزاء موافقاً للعمل فإِنها من طبعه لأَنهم مصرون حتى إِنهم لو ردوا لعادوا وعصيان كل وقت أشد قبحا من الذي قبله ومن نيتهم أن لا ينقطعوا عن ذلك، وقيل لما كان كفرهم أشد عوقبوا بأَشد عذاب وهو زيادة عذاب كل يوم، وزعم بعض أن الزيادة لحفظ الأَصل وأنه لولاها لأَلفوا العذاب وهو ظاهر الفساد إِذ لا يتصور إِلفه إِلا إِن شاء الله تعالى ويحتاج في ذلك قائله إِلى نقل من نحو حديث وشرع في ذكر حال المؤمنين بعد ذكر حال الكافرين بقوله عز وجل:

 

{ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ } المجانبين الشرك والإِصرار على المعاصي.

 

{ مَفَازاً } أي فوزاً فهو مصدر ميمي بمعنى مفعول أي مفوزاً به وما بعده بدل كل لا باق على حاله لأَن الحدائق وما بعدها ليست فوزاً وليس اسم مكان لأَن ما بعده ليس موضعاً يستقرون عليه إِذ لا يستقرون على الحدائق والأَعناب والحوادق والكأس ولا اسم زمان لأَنها أعنى الأَحداق وما بعدها ليسن أزماناً ويجوز إِبقاؤه على أصله من المصدرية فيكون حدائق وما بعده اشتمال على حذف الرابط بعد دهاقا أي له أي ثوابت لذلك الفوز وليس عدم انحصار الفوز بما ذكر موجباً لأَن يكون بدل بعض فإِذا قلت جاء إِخوة زيد بكر وخالد وعمر فبدل كل باعتبار ما أُريد ذكره لا بدل بعض باعتبار أن له إِخوة آخرين.

حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)

{ حَدَائِقَ } جمع حديقة وهو بستان فيه أنواع الشجر المثمر قيل والرياحين والزهر، وقيل بستان فيه ماء وشجر.

 

{ وَأعْنَاباً } شجر العنب أو نفس العنب عطف على حدائق قيل أو على مفازا وعلى كل حال فيه ذكر الخاص للفاصلة على طريق الاعتناء بعد العام فإِن الحدائق شامل للأَعناب وإِذا عطف على مفازا تبعه ما بعده فلا يحسن عطف ما بعده على حدائق والواضح عطف الكل على حدائق.

وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)

{ وَكَوَاعِبَ } جمع كاعب وهي التي تكعب ثديها واستدار مع ارتفاع يسير.

 

{ أتْرَابا } مساويات بعضهن لبعض أو لأَزواجهن كأَنهن أو كأَنهم ولدوا في وقت واحد في الدنيا ولو تفاوت السن في الدنيا ولو كانت فيهن الحور وهن لم يولدن كأَنهم وإِياهن وقعوا من البطن في التراب في وقت واحد أو أُريد التماثل بالترائب وهي ضلوع المصدر وقيل نساء الجنة كلهن على صورة ذات ستة عشر عاماً ورجالها على صورة أبناء ثلاثة وثلاثين ولو كن وكانوا طوال الأَجسام وعريضيها كستين ذراعاً طولا وسبع عرضاً.

وَكَأْسًا دِهَاقاً (34)

ممتلئة عند الجمهور وهو أصح وقيل ممتلئة متتابعة وهما روايتان عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال ربما سمعت العباس أبى يقول يا غلام اسقنا وادهق لنا أي املأ لنا أو املأ وتابع لنا وعن عكرمة صافية وهو قول فيه كدر.

لَا يَسْمَعُونَ فيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35)

{ لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا } في الجنة والظرفية على ظاهرها وقيل في الكأس والمراد في شأن الكأس أو مع الكأس أو بسبب الكأس كما يسمع اللغو مع كأَس الدنيا إِذا كانت من خمر يشرب فيعربد. { لَغْواً } كلاما ساقطاً لا نفع فيه كاللعب أو كلاماً قبيحاً.

 

{ وَلاَ كِذَّاباً } تكذيباً أو كذبا على ما مر.

جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)

{ جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ } مفعول مطلق لمحذوف أي جوزوا بذلك جزاء من ربك على أعمالهم ومن متعلق بجوزوا أو بمحذوف نعت لجزاء وفي إِضافة الرب إِلى الكاف تعظيم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختار لفظ الرب قيل إِشارة إِلى أن ذلك بتربية الله وإِرشاده.

 

{ عَطَاءً } بدل من جزاء ومعناه تفضلا عليهم ولا واجب على الله تعالى فمعنى قوله تعالى جزاء أن الله عزَّ وجل قضى أنه من فعل كذا فله كذا فضلا لا على سبيل الوجوب.

 

{ حِسَاباً } مصدر بمعنى كافيا أُقيم مقام الوصف نعت عطاء أو يقدر مضاف أي مصاحب حساب أي كفاية أو مبالغة كأَنه نفس الكفاية يقال أعطاه حتى أحسبه أي قال له حسبي وقيل منصوب على نزع الجار أي على حساب أعمالهم.

رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)

{ رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ } رب مبتدأ والرحمن خبر أو خبر لمحذوف أي هو رب والرحمن خبر ثان أو نعت لرب أو بدل منه أو الرحمن مبتدأ ثان وقوله عز وجل: { لاَ يَمْلِكُونَ } أي أهل السماوات والأَرض وقيل المشركون.

 

{ مِنْهُ خِطَاباً } خبر الثاني والجملة خبر الأَول أو الجملة خبر لهو المقدر أو لرب أو رب مبتدأ والرحمن نعت أو بدل والجملة خبر رب والمعنى أنهم لا قدرة لهم أن يتكلموا لله عز وجل كلما شاءُوا وفي كل ما أرادوا من إِزالة العذاب أو نقصه أو جلب منفعة أو أن يكون لهم منه خطاب لهم أو أن يأذن لهم أن يتصرفوا بكلام في غيرهم أو أن يخاطبوه بمعارضة على ما فعل ومن للابتداء متعلقة بيملك أو بمحذوف حال من خطابا وظاهر الآية وقوله { ولا تخاطبني في الذين ظلموا }[هود: 37، المؤمنون: 27] جواز أن يقال خاطبت الله ومنعه أصحابنا صاحب السؤالات وغيره لعدم وروده ولخروجه عن الأَدب ولا دليل في الآيتين لأَن حاصلهما لا يملكون أن يتكلموا وليس فيهما إِجازة أن يقال خاطبت الله ولو قال أبوك لا تأمرني بكذا لم يجز أن تقول أجاز لي أبي أن أقول أمرت أمرت أبي.

يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)

{ يَوْمَ } يتعلق بيملك قبله أو بيتكلم بعده.

 

{ يَقُومُ الرُّوحُ } نوع من الملائكة أشرف من سائرهم عند الله عز وجل حفظة عليهم، وعن ابن عباس مرفوعا جند ليسوا ملائكة يأكلون ويشربون لهم أيد وأرجل ورءوس، وعن ابن مسعود الروح ملك أعظم من السماوات والأَرض والجبال وهو في السماء الرابعة يسبح الله تعالى كل يوم اثنى عشر ألف تسبيحة يخلق الله تعالى من كل تسبيحة ملكاً وذلك الملك الأَعظم يكون صفاً وحده ومعنى كونه في السماء مع أنه بتلك العظمة أنه فيها منبسط إِلى فوق وخارج عنها أو ينطوي.

 

وعن ابن عباس موقوفاً الروح جند لا ينزل ملك من السماء إِلا معه واحد منهم على صورة بني آدم يقومون صفا والملائكة صفا وقيل سماطان سماط منهم وسماط من سائر الملائكة وقيل ملك ما خلق الله ملكاً أعظم منه إِلا العرش يقوم صفاً والملائكة صفاً فوه يسع الملائكة أو ملك يولج الأَرواح في الأَجساد بنفسه وذلك بإِذن الله عز وجل، وعن ابن عباس جبريل يقوم يوم القيامة ترتعد فرائصه من عذاب الله تعالى يقول سبحانك لا إِله إِلا أنت ما عبدناك حق عبادتك، وقيل ملك بين منكبيه ما بين المشرق والمغرب أما سمعت قول الله عز وجل: يقوم الروح والملائكة صفا، وقال البيهقي أرواح الناس تقوم مع الملائكة بين النفختين ولا صحة له وهو مناف للآية، وقيل القرآن وقيامه ظهور أثره عن تصديقه وتكذيبه.

 

{ وَالْمَلائِكَةُ } عموم بعد تخصيص إِذا فسر الروح بملك أو ملائكة يذكر الخاص تشريفا قبل العام كما يذكر بعده.

 

{ صَفًّا } حال من الروح والملائكة أي مصطفين فهو حال ولا يلزم من كونهم مصطفين كونهم صفاً واحداً بل هو قابل لتعدد الصفوف كما أفصح به قول الله عز وجل { والملك صفاً صفاً }[الفجر: 22] فالملائكة صفوف متعددة والروح صف { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ } أي أهل السماوات والأَرض ومنهم الروح أو الروح والملائكة قال ابن عباس أو الناس.

 

{ إِلاَّ مَنْ أذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ } في الكلام أن يتكلم.

 

{ وَقَالَ } بعد الإِذن.

 

{ صَوَاباً } حقاً من الشفاعة لمن ارتضى أي لمن قبله الله عز وجل وإِذا لم تملك الملائكة وأشرافهم القول إِلا بالإِذن مع الصواب فكيف يملكه غيرهم والملائكة من حيث إِنهم لا ذنب لهم ومن حيث إِنهم يأتون بالوحي ويتلقونه من اللوح المحفوظ ويتلون الأُمور الإِلهية ولا يفترون عن العبادة أفضل من البشر المؤمنين والبشر المؤمنون أفضل لتعبهم في العبادة وترك الشهوات والصبر على المصائب وهذا الجانب أفضل وكثير ممن ليس وزيرا للملك ولا يباشر أحواله أفضل من وزرائه ومباشر أحواله وترى خدماً أخساء لهم ادلال عليه والدخول على حرمه ولا يجد ذلك من هو أعز منهم.

 

كما روي أن عابداً رأى رجلاً يدخل على أهل السلطان فسأَل عنه فقالوا خصي فقال سبحان من وعظني فيه بترك الشهوات ونيل المراد بتركها وإِذا كان الأَمر هكذا فكيف يملك المشرك أو كل من أراد منه خطابا وقد قيل وقال صوابا في الدنيا وهو كلمة الشهادة مع توابعها وقيل من أذن له الرحمن في شأَنه أن يتكلم عليه غيره والواضح ما مر وقال عطف على أذن وتجوز الحالية أي وقد قال صواباً في الدنيا وأظهر لفظ الرحمن للإِيضاح وأن مناط الإِذن الرحمة البالغة إِذ لا يستحقه أحد.

ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا (39)

{ ذَلِكَ الْيَوْمُ } يوم قيامهم على الوجه المذكور واسم إِشارة البعد تعظيم له وهو مبتدأ خبره قوله عز وجل.

 

{ الْحَقُّ } أو اليوم عطف بيان أو بدل والحق خبر بمعنى الثابت المتحقق الكائن ولا بد.

 

{ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ مَآباً } إِذا كان الأَمر ما ذكر من التحقق فليتخذ المكلف بالتوحيد والعمل مآبا إِلى ربه لأَنه من شاء اتخذه إِذ لا حجر فيه بل فيه الدعاء إِليه وتسهيل الاتخاذ أو من شاء اتخذه بالتوحيد والعمل بدون أن يتوهم أن يتخذه بغيرهما وإِلى متعلق بمآباً لتضمنه معنى رجوعا وإِفضاء أو بحال محذوفة وصاحبها مآباً أي موصلاً إِلى ربه أي إِلى ثوابه أو يعلق بمآبا وعلى كل حال قدم للحصر والاهتمام والفاصلة وللعبد اختيار في الطاعة والمعصية لا إِجبار ولا طبع وذلك الاختيار أيضا فعل للعبد كسائر أفعاله ولا إِجبار في ذلك لوجود كل عاقل من نفسه أنه لو شاء فعل ولو شاء لم يفعل فاختار أحدهما.

إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)

{ إِنَّا أنذَرْنَاكُمْ } بما في هذه السورة وما نزل من غيرها.

 

{ عَذَاباً قَرِيباً } لتحققه كأَنه وقع لو كان بعيداً وهو عذاب النار ما أبعد ما فات وما أقرب ما هو آت أو قريبا عند ربك وإِن يوماً عند ربك كأَلف سنة أو البرزخ من يوم القيامة وهو مبدأه وفيه نوع قرب فالعقلاء يعدون الموت قريبا وعن قتادة عقوبة الذنب وهو أقرب العذابين وليس كذلك ولا قتل بدر كما زعم بعض لأَنه ينافيهما قوله تعالى:

 

{ يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } فإِنه يوم القيامة وهو متعلق بمحذوف نعت لعذابا أو متعلق بعذابا قيل أو بدل من عذابا وفيه أن اليوم غير العذاب وغير بعضه وإِن كان اشتمالا فلا رابط قيل أو متعلق بقريب والمرء المؤمن والكافر أو الكافر فذكره بعد ذلك وضع للظاهر موضع المضمر تصريحاً بموجب العذاب، والمرء المؤمن يرى ما قدم من خير وذكر أن الكافر بعد ينظر أي يشاهد في صحيفته ما قدمت يداه من الأَعمال أو يشاهد جزاء ما قدم يداه والمراد ما قدم فعبر عن الكل بالجزء المشهور في العمل مطلقا وهو اليدان وما اسم موصول أي الأَعمال التي قدمتها يداه أو موصوف أي ينظر أعمالا قدمتها يداه أو استفهامية مفعول لما بعده معلقة للنظر.

 

{ وَيَقُولُ الْكَافِرُ } المشرك أو العام لكفر النعمة ويقال له كفر الجارحة وقد مر أن الكفور في إِما شاكراً وإِما كفوراً صالح لذلك وإِذا أُريد بالمرء ما يعم السعيد والشقي كان ذكر الكافر بعد تخصيصا لذكر بعض ذلك العام.

 

{ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً } كنت الآن ترابا في هذا اليوم فلم ابعث أو صرت ترابا بعد البعث كما روى أن الله تعالى يبعث البهائم فتتقاص حتى تقص الجماء من القرناء ويقول الله تعالى سخرتكن لبنى آدم فأَطعتمنهم كما أحب ويردها ترابا فيقول الكافر يا ليتني عدت ترابا مثلها وكذلك يقتص الصبيان بعض من بعض ثم يدخلون الجنة وكذلك المجنون من المجنون ومن الصبي والصبي من المجنون أو المراد ليتني كنت في الدنيا ترابا لم أخلق أو يا ليتني كنت في الدنيا على صورة هذه البهائم ولم أكلف فأَكون اليوم ترابا.

 

وقيل الكافر إِبليس يرى ثواب آدم والمؤمنين وفوزهم فيتمنى أن يكون من التراب الذي احتقر آدم به إِذ قال خلقتني من نار وخلقته من طين فلا أفتخر بالنار فلا أعصى. قال أبو هريرة فيقول التراب لا ولا كرامة لك من جعلك مثلى وهذا صحيح في نفسه إِلا أنه لا دليل على خصوصية في الآية لأَنها عامة، وقيل المراد بالكون ترابا الاتضاع بالإِيمان والعمل وترك التكبر وهو صحيح إِلا أنه لا يتبادر تفسير أو هو أحسن من القول قبله لبقائه على العموم - وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.