بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2)

{ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً } قسم جوابه قوله تعالى { إِنما توعدون لواقع } ، { فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً } طائفتان من الملائكة أرسلهم الله بإِنفاذ أمره على الكفرة نصرة للأَنبياء فعصفن أي أسرعن بإِيقاع العذاب عليهم كالريح العاصفة استعارة من عصف الريح بمعنى إِهلاكها من أرسلت إِليه استعارة كذلك والتجوز إِرسالي على حد إِطلاق المشفر على شفة الإِنسان بطريق الاستعارة أو الإِطلاق والتقييد.

 

روى محبوب عن الربيع عن أبي عبيدة رحمهم الله عن ابن عباس رضي الله عنهما سمعتني أُم الفضل بنت الحارث وهي والدة عبد الله ابن عباس أقرأ والمرسلات عرفاً قالت يا بني لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة، إِنها لآخر ما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في المغرب، وعن ابن مسعود عرفا المعروف من أمر الله ونهيه.

 

وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5)

{ والنَّاشِرَاتِ نَشْراً، فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً، فالْمُلقِيَاتِ } إِلى الأَنبياء { ذِكْراً } تذكيراً أو وحياً وهن ثلاث طوائف نشرن أجنحتهن في المجيء بالوحي أو نشرن الشرائع في الأَرض أو أحيين بالوحى نفوساً موتى بالكفر والنشر بمعنى الإِحياء ففرقن بين الحق والباطل فأَلقين إِلى الأَنبياء ذكراً.

 

وقيل الذكر القرآن وقد علمت أن الوحي غير مختص بجبريل وإِنما هو الغالب ولا كتاب من الله إِلا على يده ولكن قد يجئ الملائكة بآية وقد تشايعه كما جاء الإِنعام مع سبعين ألفاً من الملائكة وأمامهم جبريل وكما تشايع جبريل وكما قرن إِسرافيل برسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلقنه الكلمة والكلمتين في ثلاث السنين الأُولى من النبوة وجبريل هو الرئيس في الوحي وأيضاً تتبعه ملائكة رصدة له إِذا جاء بالوحي وعنه -صلى الله عليه وسلم- نزل إِلىّ ملك بالوكة من ربي أي برسالة فوضع رجلاً في السماء وثنى الأُخرى بين يدي.

 

وعرفا حال على حذف مضاف أي مشابهات عرف في التتابع وهو الشعر المتتابع آخر العنق مما يلى الرأس من الفرس أو الضبع أو نحوهما أو ضمن معنى متتابع أو صار حقيقة عرفية في معنى متتابع يقال جاءوا عرفا واحداً أي متتابعين أو مبالغة كأَنهم نفس العرف والأصل متتابعين كعرف.

 

أو مفعول من أجله من العرف نقيض النكر باعتبار أن الإِهلاك الكفرة إِحسان إِلى الأَنبياء والمؤمنين والمراد الملائكة التي جمعت بين الإِرسال والعصف والملائكة الجامعة بين النشر والفرق وإِلقاء ذكر وذلك تنزيل لتغاير الصفات منزلة تغاير الذوات وعطف العصف بالفاء ظاهر لأَنه بعض الإِرسال وكيف عطف الإِلقاء بالفاء مع أن الفرق بعده فإِن الفرق بين الحق والباطل يتصور بعد الإِلقاء الجواب أن الفرق حاصل ولو قبل الإِلقاء وإِنما المتأَخر العلم به أو يراد بالفارقات مريدات الفرق ورتب الفرق على النشر لأَن المراد نشرن أجنحتهن للنزول فنزلن ففرقن وما لم يقع نزولهن لم يعتبر أنهن فارقات وقيل الفاءات للترتيب الرتبي.

 

عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)

{ عُذْراً } للمحقين، { أوْ نُذْراً } للمبطلين وهو اسم مصدر هو الإِنذار لأَن الفعل أنذر كأَجمل أو مصدر فعل ثلاثي قليل الورود أو اعتبر ولو لم يرد وهو نذر ومعنى عذر أزال الإِساءة ومعنى أنذر خوف أو هو جمع للمعنى المصدري على أن مفرده نذير ونذير بمعنى إِنذار ونصبهما على التعليل أي لأَجل العذر والإِنذار وناصبهما ذكراً أو الملقيات أو على الإِبدال من ذكر أبدل بعض على أن الذكر بمعنى الوحي وبدل كل على أنه بمعنى التذكير، وإِن جعلا بمعنى عاذرين ومنذرين أو نذر جمع نذير بمعنى منذر فحالان من المستتر في الملقيات أو من ال، وأو للتنويع وقيل بمعنى الواو.

 

وقيل المرسلات رياح العذاب يرسلهن الله متتابعات على وتيرة واحدة يعصفن بالسوء والناشرات رياح الرحمة ينتشرن هكذا وهكذا كما جاء في الحديث وتنشر السحاب وتفرقه على البقاع ويلقين العذر للمعتذرين بالتوبة والاستغفار إِذا شاهدوا أثر الرحمة في الغيث وإِنذار الكفار في نسبة الغيث إِلى الأَنواء وإِذا قلعت الشجر أو هدمت بنياناً أو أيبست النبات ألقت ذكر الله في القلوب والخوف فتلجأَ إِلى الله وتذكره تعالى وتستغفره والتجوز في إِسناد الإِلقاء أو تنشر النبات وتفرق أصنافه بالشكل واللون وسائر الخواص ويسببن في عذر الشاكرين وإِنذار الكافرين وقيل المرسلات والعاصفات الرياح والناشرات الخ، السحائب نشرن الموات ففرقن بين الشاكر والكافر كقوله تعالى:{ لأَسقيناهم ماءً غدقاً لنفتنهم فيه }[الجن: 16 - 17].

 

وقيل المراد آيات القرآن المنجمة يعصفن أي يذهبن سائر الكتب بالنسخ وينشرن الهدى في الأَرض ويفرقن بين الحق والباطل فأَلقين ذكر الحق وقيل المرسلات الرسل أرسلهم الله إِحساناً ولو شاء لم يرسلهم فاشتدوا ونشروا الدين وفرقوا الحق والباطل وألقوا الذكر على المكلفين.

 

وقيل المرسلات والعاصفات والناشرات الرياح والباقي الملائكة، وقيل بالعكس، وقيل المرسلات ملائكة الرحمة والعاصفات ملائكة العذاب والباقي الآيات النازلة، وقيل المرسلات الرسل والعاصفات الرياح والناشرات تنشر المطر والفارقات الرسل أو المرسلات الملائكة والعاصفات الرياح والناشرات الملائكة ينشرن كتب الأَعمال والفارقات الملائكة يميزون الحق وهم الملقيات للقرآن، وقيل وقيل ووجه الجمع بين الملائكة والرياح أن كلاً من الملائكة والرياح لطيف سريع.

 

إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)

{ إِنَّمَا تُوعَدُونَ } الذي توعدونه وهو البعث كما قال. { لَوَاقِعٌ }.

 

فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8)

أذهب ضوؤهِا وبعد هذا الإِذهاب تفنى.

 

وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9)

جعلت ذات فروج أي شقوق، ويوم تَشَقَّقُ السماء بالغمام، وإِذا السماء انشقت، وقيل فتحت كما قال الله جل وعلا وفتحت السماء وذلك كله معنى واحد.

 

وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10)

جعلت كالحب الذي ينسف بالمنسف وبست الجبال بساً فكانت هباء منبثاً وكانت الجبال كثيباً مهيلاً فرقت بعد التسيير أو أُخذت من مكانها بسرعة نسفت الشيء خطفته.

 

وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11)

وقتت قلبت الواو المضمومة همزة وهو مطرد وقد قرئ بالواو أي أبلغها الله وقتها الذي تنتظره وهو يوم القيامة أو عين لها وقت تنتظره للشهادة على الأُمم ووقت تعيين البعض قبله متصل به وذلك بعض من يوم القيامة كقولك إِذا كان يوم الجمعة وكان وقت الظهر نزلت الرحمة.

 

لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12)

مفعول لجواب إِذا المحذوف أي فإِذا النجوم طمست قيل لأي يوم أُجلت والاستفهام تعجب من الخلق والقول لساني أو حالي ولا جواب لإِذا في المواضع الثلاثة الأَخيرة على حدة بل كفي جواب واحد لهن أي إِذا كان كذا وكان كذا قيل وقع التأخير لهذه الأُمور العظام يعذب الكفار ويهانون ويكرم المؤمنون ويعظمون والضمير في أُجلت لتلك الأُمور المعلقة للرسل من التعذيب والتنعيم أو للأُمور المذكورة من الطمس والتفريج والنسف وتأقيت الرسل أو للرسل أو جواب إِذا محذوف أي وقع الفصل أو وقع ما توعدون.

 

لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13)

بين الظالم والمظلوم أو بين السعيد والشقي أي أُجلت ليوم الفصل أو بدل على تقدير الهمزة أي أليوم الفصل.

 

وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14)

ما صيرك دارياً ما يوم الفصل وعلق عن المفعول الثاني والثالث بالاستفهام وأظهر لزيادة التهويل والأَصل وما أدراك ما هو، ويجوز التعليق عن الثاني نحو علمت زيداً من هو فلا تهم.

 

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)

{ وَيْلٌ } هلاك عظيم. { يَوْمَئِذٍ } نعت لويل أو متعلق به أو باستقرار للمكذبين للتوسع في الظروف أي يثبت يومئذ. { لَلْمُكَذِّبِينَ } والمراد يوم إِذ جاء يوم الفصل.

 

أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16)

لتكذيبهم بالرسل والبعث كقوم نوح وقوم هود وقوم صالح.

 

ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ (17)

بالإِهلاك كقوم لوط وقوم شعيب وقوم موسى ومن مسخ من قوم موسى وقوم عيسى فإِن هؤلاء آخرون بالنسبة إِلى من قبلهم والعطف على لم ومدخولها فهو مثبت سلط عليه الاستفهام ولو عطف على مدخول لم لكان منفياً مجزوماً وليس كذلك وذلك كقولك أجاء زيد فتكرمه غداً أو عطف على الهمزة ومدخولها عطف إِخبار على إِنشاء فلم يتسلط الاستفهام عليه والاستفهام للتقدير ولو قصد به التهديد وهو كالإِخبار فكأَنه قيل أهلكنا الأَولين ثم نتبعهم الآخرين.

 

كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18)

كفار قريش لجريانهم في التكذيب على طريق هؤلاء المكذبين وقد أهلكهم الله يوم بدر وذكر بعض أن الأَولين كل من تقدم على كفار قريش من المهلكين والآخرين قتلى بدر فيكون قوله تعالى: { كذلك نفعل بالمجرمين } تعميما بعد تخصيص حتى إِنه يشْمل من يخسف بهم في البيداء آخر الزمان ومن تقوم عليهم الساعة، أو المراد بالمجرمين من لم يتقدم ذكرهم خاصة.

 

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)

{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ } يوم إِذ أهلكناهم أو يوم جاء الفصل. { لّلْمُكّذّبِينَ } بآيات الله تعالى وأنبيائه والمكذبون المذكورون قبل هم من كذبوا يوم الفصل فلا تكرير ولو اتحد الماصدق والويل الأَول لعذاب الآخرة والثاني لعذاب الدنيا فلا تكرير أيضا وهكذا تعتبر ما يخرج به الكلام عن التكرير مع أن التكرير حق لا بد منه في مقام التأْكيد لحكمة التأَكيد يكرر الشيء لحدوث شيء كما تقول لم عصيتني وقد أطعمتك وألبستك ولم عصيتني وقد زوجتك وهكذا وأيضا من أسباب التكرير بين السورتين أو السور أنه لا يلزم المكلف قراءة القرآن كله ولا إِتمام السورة ولزم الفاتحة تامة وثلاث آيات فتحصل المنفعة لمن حفظ سورة فيها تكرير لما في الآخرة ولو لم يحفظ الأُخرى التي فيها المكرر.

 

أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20)

قذر محتقر هو النطفة فاعرفوا حقارة شأْنكم ولا تتكبروا عن عبادة الله واشكروا نعمة الإيجاد والإِبقاء واعلموا أنه كما خلقكم يبعثكم.

 

فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22)

{ فَجَعَلْنَاهُ فِي قرَارٍ } موضع ثبات { مَّكِينٍ } هو الرحم { إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ } مقدار معلوم عند الله تعالى تسعة أشهر أو اقل إِلى ستة أَو أكثر فولدتم أحياء صحاحا سالمين وعشتم.

 

فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)

{ فَقَدَرْنَا } قدرنا ذلك تقديراً دالاً على كمال القدرة والفاء للترتيب الذكرى كأَنه قيل فأَقول قدرنا كقوله تعالى من نطفة خلقه فقدره. { فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ } نحن على ذلك الجعل وعلى ذلك التقدير.

 

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)

{ وَيْلٌ يَوْمَئذٍ } يوم جاء الفصل أو يوم أهلكناهم وكأَنه يوم ماض للتحقق وهو يوم دائم. { لِّلْمُكَذِّبِينَ } بقدرتنا على ذلك أو على البعث الشاملين لكم.

 

أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً (25)

الكفات ما يجمع الشيء ويضمه كالصرة والصندوق ووعاء الأَمتعة وهو اسم جنس أو اسم آلة أو جمع كفت بالكسر كقدح وأقداح أو جمع كافت كصائم وصيام وأجرى على الأَرض مع إِفرادها باعتبار أقطارها أو مصدر أجرى عليها مبالغة.

 

أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا (26)

حال من كاف محذوفة، أي الم نجعل لكم الأَرض الخ، أو ألم نجعل الأَرض كفاتاً لكم أحياء وأمواتا، أو مفعول المحذوف أي تكفت أحياء منكم على ظهرها وأمواتا في بطنها أو تكفتهم أي المكذبين أحياء وأمواتا أو تكفت الجن والإِنس أحياء وأمواتا أو مفعول ثان بعد مفعول ثان أي ذات أحياء وأموات بتقدير مضاف كما رأيت أو أحياء وأمواتا بمعنى الأَرض المنبتة وغير المنبتة بلا تقدير مضاف كما رأيت، والآية تشير إِلى وجوب دفن الميت وهو ظاهر وإِلى أَن السارق من داخل القبر يقطع لأَنه وعاء.

 

وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27)

{ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } جِبالاً رواسي أي ثوابت. { شَامِخَاتٍ } مرتفعات نكر للتعظيم أو للإِشعار بأَن في الأَرض جبالاً لم تعرف ومنها جبل النَّار في إِيطاليا وهو أبداً متقد كالجمر وقد يشتعل وتطير منه جمرات نحو ميل وهو في البر الكبير ولا خير فيه من الإِسلام لا نبي منهم والأَنبياء كلهم في برنا هذا وفيه بيت المقدس والمسجد النبوي والمسجد الحرام وليس في البر الكبير ما يشبه ذلك.

 

{ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتاً } عذباً خزناه في الأَرض وجبالها وأنبعناه عيوناً ووفقناكم إِلى استخراج ما لم يظهر منه بالحفر ومن الأَمطار التي تشاهدونها والتي لا تشاهدون لبعدها كماء النيل، والآية شاملة لذلك كله بطريق الامتنان ومن اعتبر الوعظ بالإِخراج حملها على ماء الأَرض، وكذا نسقى حيوانكم وحرثكم وشجركم.

 

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)

{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ } يوم إِذا جاءكم يوم الفصل. { لِّلْمُكَذِّبِينَ } الذين لم يشكروا هذه النعم وأمثالها.

 

انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)

{ انطَلِقُوا } مفعول به لحال محذوف من المكذبين أو من ال أي مقولاً لهم توبيخاً. { إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ } إِلى العذاب الأخروي الذي كنتم به تكذِّبونَ في الدنيا وقدم به للفاصلة وطريق الاهتمام.

سورة المرسلات: الآيات (30-50)

انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30)

{ انطَلِقُوا } هذا انطلاق مخصوص وليس هو الأَول فإِن الأَول انطلاق إِلى ما وعظوا به قبل من عذاب النار ولا علم لهم بظل ذي ثلاث شعب ولا شعور ولا سماع وعلى فرض أنهم علموا بذكره قبل، أو فرض أنهم كذبوا به في عموم التكذيب بعذاب الآخرة وأريد بما كانوا يكذبون ظل ذي ثلاث كان مجموع انطلقوا إِلى ظل الخ بدلاً من مجموع انطلقوا إِلى ما كنتم به تكذبون، وإِن شئت فانطلقوا توكيد لفظي للأَول وقوله: { إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ } بدل من قوله إِلى ما كنتم به تكذبون.

 

أو الأَول عام والثاني بدل إِضراب انتقالي والظل دخان جهنم كظل من يحموم استعارة تهكمية وكان ذا ثلاث شعب فتظلهم حتى يفرغ من حسابهم والمؤمنون في ظل العرش وعدد الثلاث لأَن المانع عن الحق ثلاث الخيال والوهم والحس أو القوة الوهمية الشيطانية في الدماغ والقوة الغضبية السبعية عن يمين القلب والقوة الشهوية البهمية عن يساره كما قيل شعبة فوق الكافر وشعبة عن يمينه وشعبة عن يساره أو تكذيب العذاب وتكذيب الله وتكذيب رسوله

 

لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31)

{ لاَ ظَلِيلٍ } عطف على محذوف أي ضار أو حار لا ظليل، أو لا اسم مضاف لما بعده نعت ثان لظل تصريح بما ينافي الظل النافع المتهكم به وإِزالة لما قد يتوهم أن فيه نفعاً ما.

 

{ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ } لا يبعد من حر اللهب ولا يصح ما قيل أن الآية تشير إِلى أنه لا ظل للشكل المثلث ولا نسلم أنه لا ظل له بل له ظل مشاهد وظل المؤمن غير ظل الكافر.

 

إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)

{ إِنَّهَا } أي إِن النار التي دل عليها الكلام أو إِن الشعب. { تَرْمِي بِشَرَرٍ } الواحد شررة وهي ما يطير من النار سمى لاعتقاد الشر فيه. { كَالْقَصْرِ } الدار الكبيرة، كل شررة كالدار الكبيرة كما يدل له قراءة ابن عباس شرار بكسر الشين وبأَلف بعد الراء وهو جمع كرقبة ورقاب قسم عليه جمع فلكل واحد من الجمع فرد واحدة كالقصر وكذا قراءة فتح الشين وثبوت الأَلف بعد الراء لأَن مفرد شرارة، وقيل القصر الغليظ من الشجر وواحده قصرة كجمرة وجمر وقيل قطع من الشجر كالذراع وفوقه وتحته تعد للشتاء.

 

كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ (33)

{ كَأَنَّهُ } أي الشرر وما مفرده بالتاء يجوز إِفراد ضميره وتذكيره ولو كان مؤنثاً. { جِمَالاَتٌ } جمع المؤنث السالم لجمع التكسير وهو جمال جمع جمل زوج الناقة أو جمالات بأَلف وتاء جمع جمالة الذي هو اسم جمع وقيل جمع جملة على جمال ثم جمال على جمالات وقيل الجملة حبال السفينة لأَنه طاقات وقيل الحبال التي تشد بها الجسور إِذا جمعت مستديرة جاء منها أجرام عظام وهو عن ابن عباس وعنه أيضا قطع النحاس الكبار { صُفْرٌ } جمع صفراء وأصفر والصفرة لما فيها من النارية والهوائية وقيل الصفر السرد لأَن سواد الإِبل يضرب إِلى الصفرة فالشرر حين ينفصل من النار كالقصر في العظم وحين يرتفع وينشق عن أعداد كثيرة كالجمال في الحركة والكثرة والصفرة.

 

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)

{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ } يوم إِذ جاء الفصل. { لِّلْمُكَذِّبِينَ } بهذا الوعيد أو مطلقاً.

 

هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35)

يوم دخول النار لا ينطقون بشيء لعظم الدهش وسينطقون بعد فيها وقيل لا ينطقون بما ينفع وعدم النطق بما ينفع كعدم النطق ويوم بالرفع خبر والإِشارة إِلى اليوم وفي قراءة الفتح هو إِعراب ونصب على الظرفية والإِشارة إِلى العذاب وعلى قول الكوفيين بجواز بناء الظرف المضاف للجملة ولو كان فعلها مضارعاً معرباً تجوز الإِشارة إِلى اليوم ويوم في محل رفع والفتح بناء.

 

وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)

{ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ } في النطق أو في الاعتذار. { فَيَعْتَذِرُونَ } فلا يعتذرون، فالنفي بلا منسحب عليه وذلك تارة ويؤذن لهم تارة في النطق والاعتذار والمنفي الاعتذار النافع ويقال لو نصب في جواب النفي لدل على عدم اعتذارهم لعدم الإِذن فيه فيتوهم أن لهم عذراً لم يؤذن لهم في النطق به فرفع تصريحاً بأَنه لا اعتذار لهم ولا يعتذرون وأيضا رفع للفاصلة وصرح الأَعلم بأَنه قد يرفع على معنى النصب، وقد قال الله تعالى: { يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم }[غافر: 52] فهم يعتذرون ولا ينفع اعتذارهم وهو ظاهر الآية هذه وذلك تارة.

 

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)

{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ } يوم إِذ جاء الفصل أو إِذ لا ينطقون ولا يؤذن لهم وإِذ تستعمل في الاستقبال مجازاً. { لِّلْمُكَذِّبِينَ } مطلقاً أو بعدم النطق وعدم الاعتذار على فرض البعث.

 

هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38)

{ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ } بين الحق والباطل للجزاء. { جَمَعْنَاكُمْ } فيه لبيان المحق والمبطل بالمشاهدة. { وَالأَوَّلِينَ } الأُمم السابقة فالخطاب لكفار هذه الأُمة والعطف على الكاف.

 

فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39)

على قضائي وفعلي فقد اجتمعتم أنتم وآباؤكم الأَولون الذين اقتديتم بهم والأُمم السابقة الذين اعتمدتم عليهم وكاثرتم بهم والخطاب هذا لكفار هذه الأُمة أو لهم وللأُمم السابقة للتغليب وهذا تقريع لهم في ذلك اليوم وتسلية للمؤمنين ونصرة للمؤمنين في الدنيا وفي ذلك اليوم وإِظهار لعجز الكفار.

 

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)

{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ } يوم إِذ جاء الفصل أو يوم إِذ ظهر عجزهم. { لِّلْمُكَذِّبِينَ } مطلقاً أوبيوم الفصل.

 

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42)

{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ } بالتصديق والعمل. { فِي ظِلاَلٍ } حيث لم يكن الشمس فإِن الظل يطلق على ما لم تسبقه شمس كما هنا ولكن هنا مجاز وعلى ما كانت قبله وهذا مخصوص بالفئ بمعنى الرجوع كان ظل فزال بالشمس فزالت فرجع وذلك هنا على ظاهره قابل به حال الكفرة من الإِحراق ومن ظل ذي ثلاث شعب، ويجوز أن يراد بالظل التنعم والعزة وانتفاء السوء والأَول أظهر للمناسبة واشتماله على هذا المعنى أيضا لكان قوله:{ وَعُيَونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ } ينافي ما ذكر فإِنهم لا يكونون في داخل عيون وفي داخل الفواكه فترجح جانب أن المراد بالظل التنعم وما ذكر معه وإِلا لزم استعمال في على ظاهرها في جانب الظلال وعلى غير ظاهرها في العيون والفواكه فيكون من استعمال الكلمة في حقيقتها أو مجازها أو من عموم المجاز.

 

كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)

مفعول به لحال من ضمير الاستقرار أي ثبتوا في ظل الخ مقولا لهم كلوا الخ بسبب عملكم من التوحيد والعبادات واجتناب المحرمات.

 

إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44)

{ إِنَّا كَذَلِكَ } لا كغيره. { نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } أي نجزيهم أي المتقين وأظهر ليصفهم بالإِحسان إِلى أنفسهم وشبه ما بالإِنجاز بما بالإِخبار.

 

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)

{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ } يوم إِذ جاء الفصل أو إِذ كانوا في ظلل الخ، وقيل لهم كلوا الخ. { لِّلْمُكَذِّبِينَ } مطلقاً أو بهذا الوعد يعذبون دائماً وأعداؤهم المؤمنون يتنعمون دائماً.

 

كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46)

خطاب للكفار في الدنيا مستأَنف لتحسيرهم وتهديدهم أو مفعول لحال محكية ماضية أي ثبت لهم الويل في الآخرة مقولاً لهم في الدنيا كلوا.

 

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48)

{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ } إِذ جاء الفصل أو خافوا. { لِّلْمُكَذِّبينَ وَإِذَا قِيلَ } قال الله أو رسوله أو المؤمنون. { لَهُمُ ارْكَعُوا } أطيعوا وانقادوا لله تعالى وتواضعوا بالتوحيد والإِيمان والعمل. { لاَ يَرْكَعُونَ } لا ينقادون بل يتعاصون ويتكبرون أو اركعوا صلوا ولا يركعون لا يصلون وسميت الصلاة باسم جزئها قال وفد ثقيف لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - نؤمن على أن تحط عنا الصلاة فإِن ذلك الانحناء الذي في الصلاة مسبة علينا فقال - صلى الله عليه وسلم - " لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود " فهذا أنسب بأَن الركوع الصلاة خصوصاً ولا يلزم ذلك لأَن الانقياد لله تعالى شامل لها ولغيرها.

 

وعن ابن عباس يدعون يوم القيامة للسجود فلا يستطيعون لأَنهم لا يسجدون في الدنيا فالركوع بمعنى السجود والآية دليل على أن الأَمر للوجوب إِذ قطع عذرهم بمجرد القول لهم اركعوا وأن الكافر مخاطب بالفروع إِذ عذبوا بترك الصلاة وقطع عذرهم فيها كما بالتوحيد.

 

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)

{ وَيْلٌ } الويل في السورة كلها واحد أو كل واحد نوع من الهلاك { يَوْمَئِذٍ } يوم إِذ جاء الفصل أو يوم إِذ قرعوا على ترك الصلاة أو عليها وعلى سائر العبادات { لِّلْمُكَذِّبِينَ } مطلقا أو بيوم الجزاء ويوم التقريع { فَبِأَيِّ حَدِيْثٍ } إِذ لم يؤمنوا بالقرآن فبأي حديث أو عطف على قوله إِذا قيل لهم اركعوا لا يركعون { بَعْدَهُ } أي غيره أي غير القرآن المدلول عليه بالمقام الناطق بما لم ينطق به كتاب وهو في أعلى رتبة من الفصاحة والبلاغة والإِعجاز لا يساويه شيء ولا يفوقه، فالبعدية للتفاوت في الرتبة { يُؤْمِنُونَ } والله أعلم - صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.