عنوان الحلقة " الإتقان"

 

 

مقدم البرنامج: قد وعدناكم أن نتحدث اليوم عن قيمة الإتقان، وهي كلمةٌ لذيذةٌ على الأسماع كما أنها عميقةٌ في المعنى.

 

وعندما يسمعها الإنسان ينصرف ذهنه مباشرةً إلى إتقان العمل، بيد أن الإتقان مصطلحٌ له مفاهيمٌ متعددة كما أن له أوجهاً كثيرة نحتاج معها إلى معرفة الكثير من هذه الجوانب، أو هذه الأبعاد التي تحويها هذه الكلمة ؛ ولذلك سوف يحدثنا فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي عن هذه القيمة، وعن  أثرها في حياتنا، وماذا ينبغي لنا كي نصل إليها، وكي تكون ديدناً في حياتنا.

 

فضيلة الشيخ كما اعتدنا نعرِّف بدايةً المستمعين والمستمعات الكرماء بهذه القيمة، ما معنى الإتقان كقيمة من القيم الإنسانية التي دعا إليها الإسلام؟؟

 

كما نحدثهم أيضاً عما نتحدث عنه اليوم بإذن الله تعالى في هذا الموضوع.

 

 

الشيخ كهلان: موضوع الإتقان من الموضوعات البالغة الأهمية؛ لأنه يشتمل على معانٍ ومضامين ينبغي للمسلم أن يتعرف عليها.

 

وهو ذو صلةٍ مباشرةٍ بسلوك هذا المسلم ، وبالقيم التي يرتضيها لنفسه، وبالأسس والمبادئ التي ينبعث منها في حركته في هذا الوجود تعميراً وعبادةً لله سبحانه وتعالى؛ ولذلك كانت هذه القيمة – قيمة الإتقان – هي من القيم التي تتنافس الحضارات لأجل المحافظة والحرص عليها؛ لما يعلمون جميعاً من أهميتها في تمتين أسس الحضارة وقواعدها المتينة.

 

فلذلك الإتقان ليس صفةً عابرةً يمكن أن يُعرض عنها في وقتٍ من الأوقات، أو يمكن أن يُغفل عنها في مرحلةٍ من مراحل التعمير والبناء، كما لا يمكن أن يُتغافل عنها أيضاً في عبادة هذا الإنسان، وفي معاملاته مع الآخرين؛ لذلك فإننا نتحدث عن الإتقان كقيمةٍ ومبدأ تشمل وتغطي كل جوانب سلوك هذا الإنسان، وأخلاقه، ومبادئه التي ينطلق منها في عمارة هذه الأرض بما يرضي الله سبحانه وتعالى، وفي عبادته لله سبحانه وتعالى؛ ذلك أنها قرينة الإحكام، حينما يقال بأن فلانٌ متقن أي أنه حاذقٌ في أمرٍ من الأمور.

 

فكيف إذا كانت هذه الصفة ينبغي أن تكون ملازمةً لعمل هذا الإنسان، ولفكره، ولجهده الذي يبذله، ولأخلاقه التي يتحلى بها؟؟

 

وكيف عندما نتحدث عنها كسمةٍ إيجابيةٍ في البناء الحضاري للأمة في مجموعها؟؟

 

وهذا لا ينفك، ولا ينفصل عن المعنى العام الذي يفهمه الناس من كلمة الإتقان، فإن الإتقان يتصل بالكثير من القيم الأخرى التي سوف نتعرض لها بمشيئة الله سبحانه وتعالى في ثنايا هذه الحلقة - منها ما تعرضنا له سابقاً، ومنها ما سوف نتعرض له- لكننا سوف نجد أن هذا البناء – بناء القيم والمبادئ الإنسانية التي نحرص عليها في هذا البرنامج – هو كلٌ متكامل، حينما نتعرض لجانبٍ منه فإنما نتعرض لزاوية من زواياه لكن لا يمكن أن تنفصل عن الزوايا الأخرى، وعن الجوانب الأخرى في الموضوع.

 

 ويكفي أن الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بهذه الصفة حينما قال: "... صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ..." (النمل:88)  فحينما يصف المولى سبحانه وتعالى نفسه بهذه الصفة فهذا دليلٌ على أهمية هذه الصفة التي اتصف بها ربنا تبارك وتعالى.

 

 

مقدم البرنامج: وأين يكمن موضع الرحمة هنا في موضوع الإتقان؟؟

 

 

الشيخ كهلان: هذه الخصلة التي نتحدث عنها، أو هذه القيمة التي نتحدث عنها وهي خصلة " الإتقان " حينما تغطي سلوك هذا الإنسان فإنها لا تنفصل عن سلوك الرحمة التي دعا إليه هذا الدين.

 

حينما نتحدث عنها في العبادات فإنها أيضاً إنما تنطلق من عبادات يستطيع هذا الإنسان أن يؤديها بإتقان؛ لأن الدين نفسه دين رحمة في عباداته وفي شعائره، هو أيضاً دين رحمةٍ روعي فيه أن يتمكن الفرد من أداء العبادة لا مجرد أداءٍ يُبرئ ذمته، وإنما أداء يبلغه حد الإتقان؛ لأن في ذلك ميدان المنافسة الذي يبلغه الدرجات العليا، ثم سنتبين أن في الأعمال الدنيوية نفسها دعا الله سبحانه وتعالى إلى الإتقان، وهذا من رحمته بعباده ؛لأن بناء أية حضارةٍ كانت إنما يقوم على قيمٍ سليمة ومن هذه القيم الإتقان.

 

ومتى ما كان بناء الحضارة مستقيماً صحيحاً كان في ذلك الرحمة للموجودات جميعاً.

 

 

*********************

 

قال الله تعالى: "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" (التوبة:105)

 

 

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ الدكتور هذه الآية تحدثت عن العمل "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ..." أين نجد الإتقان هنا؟؟

 

أو بصفةٍ إجمالية كيف تحدث القرآن  الكريم عن موضوع الإتقان؟

 

 

الشيخ كهلان: أولاً: هذه الآية التي أنصتنا إليها من سورة التوبة سبقتها آيةٌ يحث فيها الله تعالى المخاطَبين – على وجه الخصوص هذه الآيات أو هذا السياق كان يتعرض للمنافقين – كما يحث الله عز وجل أيضاً عباده جميعاً على الإقبال على التوبة - حينما قال: " أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ.." (التوبة:104) ، ثم بعد ذلك قال: "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ..." الخ الآية.

 

فإذاً بعد أن دعا ربنا تبارك وتعالى عباده إلى التوبة، وحثهم عليها أمرهم بالعمل، ولو كان الأمر مقتصراً على مجرد العمل - أي بعد قبول التوبة – وكأن في ذلك إشارة إلى أن ما فوته هذا المرء بسوء العمل جبته التوبة فينبغي له أن ينتقل إلى ما يُعرف اليوم بالمرحة الإيجابية – أن يبني، وأن يعمل – وهذا العمل الذي يأمر الله تعالى به في هذا السياق هو عملٌ متصفٌ بالإتقان.

كيف ذلك؟؟

 

من خلال هذا التذييل الذي ورد في الآية حينما يقول الله سبحانه وتعالى : " وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ"

أولاً: بيان أن الله عز وجل مطلعٌ على الأعمال "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ..." هذا الإطلاع هو الذي يولد المراقبة الداخلية.. المراقبة الذاتية التي هي باعث الإتقان.

 

فأساس أن يتقن المر عمله – أياً كان هذا العمل – إنما يكون حينما يستشعر أن الله عز وجل الذي يحاسبه على أفعاله، فيجزيه عليها خير الجزاء في الآخرة إن هو أصلح العمل، أو يحاسبه عليها فيكون جزاؤه عليها من جنس عمله، حينما يستشعر المرء هذه المراقبة في ضميره، وفي كينونته، في داخله فإنه سوف يسعى إلى أن يحسن هذا العمل، ويجوده، ويحذق فيه، ويحكمه وهذا هو الإتقان.

 

فهذا الخطاب الذي يَخِز الضمير الحي في المسلم " فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" يناغي منه هذه العاطفة حتى ينبعث هذا الفرد إلى أن يجود العمل ويتقنه على خير ما يستطيع.

 

بعد أن بين الله تعالى له فيما سبق من آيات أنه يقبل توبته إن كانت توبةً نصوحاً، وحقق شرائطها وأركانها؛ ولذلك ورد بعدها زيادة في الحض لأجل المزيد من البناء، ولمزيد من الإقبال على الله تعالى بالأمر بالعمل، هذا العمل الذي يستشعر فيه المرء مراقبة الله عز وجل.

 

هذه المراقبة هي نفسها التي نصَّ عليها حديث جبريل في الإحسان حينما سأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الإحسان، فقال له عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

 

وهذا ما نصَّ عليه أهل العلم، أن هذا الإحسان هو مبعث الإتقان، إلا أن الإتقان يتعلق بإحكام أداء عملٍ ما، والإحسان أوسع؛ ولذلك استخدم الحديث عبارة الإحسان وإلا فإن ما ورد أيضاً في كتاب الله، وسؤالك تضمن أيضاً كيف تناول القرآن موضوع الإتقان؟

 

تناول أيضاً الإتقان بالإضافة إلى هذه النصوص الصريحة قلنا "وصف الله عز وجل نفسه بأنه أتقن كل شيء".

 

وهذه الآية من سورة التوبة، كذلك الكثير من الآيات التي تعرض فيها القرآن الكريم لموضوع الإحسان، وموضوع الإحسان – كما قلت – قرين الإتقان؛ لأن كلا الصفتين تنبعثان من أساس مراقبة الله عز وجل " فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

 

 هذا الذي تناولته هذه الآية وبالتالي فإن ما ورد أيضاً في كتاب الله عز وجل من بيان عاقبة المحسنين، وأنواع الإحسان، والأمر بالإحسان في المعاملات الاجتماعية "... وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ..." (البقرة:83) الخ الأصناف التي أمر الله تعالى بالإحسان إليه كلها تندرج أو على أقل تقدير يشم منها موضوع الإتقان؛ لأنه لا يمكن أن تتعرض للإحسان ولا تتعرض للإتقان.

 

 

مقدم البرنامج: إذاً الشطر الأول من الإجابة يتعلق بأن العمل إذا كان مُتقناً فإنه سوف يكون موضع رضا من الله سبحانه وتعالى، والإنسان عندما يعمل متقِناً يكون بذلك مراقباً لله تعالى.

 

 

الشيخ كهلان: هذه المراقبة هي نفسها التي وردت في موضوع الإحسان، ولمزيدٍ من التوضيح كلمة الإحسان نفسها أُخذت من العمل الحسن، ومن أحسن الشيء، فعندما نقول: أحسن فعل شيءٍ ما، أو أحسن في فعل شيءٍ ما فإن ذلك يعني أنه قد أتقنه وأداه على أحسن ما يستطيع، وهذا هو الإتقان الذي نتحدث عنه، وهذا هو الإتقان الذي دل عليه حديث جبريل – عليه السلام - ، وهذا هو نفسه أيضاً حينما نجد أن الله تعالى يبين في بعض المواضع من كتاب الله عز وجل نجد أن موضوع الإحسان يأتي ويراد منه فعلاً الإتقان كقوله تعالى في سورة المائدة " لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (المائدة:93)، حينما ننظر في كتب التفسير هنا في ".. ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا.." نجد أن ما يتحدثون عنه هو ما نفهمه اليوم بأنه الإتقان؛ ولذلك كان التذييل أيضاً "... وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" .

 

 

مقدم البرنامج: إذاً يظهر من هذا أن الإتقان يتصل بمبادئ وقيم أخرى في هذا الدين، كلها تجتمع لتحقيق قواعد متينة لهذا المسلم، هل يمكن توضيح هذه المسألة؟؟

وما هي القيم التي يتصل بها الإتقان؟

 

 

الشيخ كهلان: أولاً: الإحسان، والآن صارت الصلة – فيما أظن – بين الإتقان والإحسان جليةً واضحة؛ ولذلك فحديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أيضاً " إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته" هذا في الحقيقة إتقان.

أي كتب الإحسان على كل شيء بحسبه – بحسب ذلك الشيء يكون الإحسان إليه -.

 

الأمثلة التي يمثل لنا بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه حتى في القتل

" فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة.." ويبين كيف يكون ذلك، هذا هو الإتقان الذي نتحدث عنه.

 

يتصل بموضوع الأمانة، موضوع الإتقان لا يمكن أن يُفهم بعيداً عن موضوع الأمانة.

وإذا تذكر معنا الإخوة المتابعون حينما تعرضنا لموضوع الأمانة قلنا: إنها تتناول جانبين:       الجانب المعنوي، والجانب المادي؛ ولذلك كما بينا في الحلقة المخصصة لموضوع الأمانة استخدم الله تعالى في كتابه الكريم للدلالة أو للحث على الأمانة نجد أنه يتعلق بأداء الأمانة.. تحمل الأمانة.

 

حينما يتعلق برد الأمانة فإننا نتحدث عن الودائع التي هي نوعٌ من الأمانات، لكن حمل الأمانة.. أداء الأمانة مما يعني أن الأمانة ليست فقط مجرد وديعة يودع إياها هذا الإنسان، وعليه أن يردها، وأن يحافظ عليها وإنما هي أعم من ذلك.

 

 فحينما يؤمر بالأمانة فإن ذلك يعني أن عليه أن يتقن تحمل هذه الأمانة ، فإن كنا نتحدث عن التكاليف الشرعية فعليه أن يتقن وأن يجود أداءه لهذه الشعائر، وإن كنا نتحدث عن أعمالٍ دنيوية يمارسها فإن هذه أماناتٍ في عنقه عليه أيضاً أن يؤديها بإتقان؛ ولذلك لا يمكن النظر إلى موضوع الإتقان دونما نظرٍ عميقٍ في موضوع الإحسان، وفي موضوع الأمانة.

 

وتقدم أيضاً أن هذا كله إنما يكون أساسه مراقبة الله سبحانه وتعالى.

لا يمكن البتة أن يصل المرء إلى حد الإتقان دونما استشعارٍ من ذات نفسه لمراقبة الله سبحانه وتعالى له، وهذا حتى في أحدث النظريات – لنأخذ مثلاً علوم الإدارة – أحدث النظريات في علوم الإدارة تقول: مهما أوجدت المؤسسة من وسائل لمراقبة الموظف فما لم يكن هناك استشعارٌ من داخل الموظف.. من داخل العامل بمراقبةٍ ذاتية ليؤدي عمله على أكمل وجه فإنه لن يتحقق الإتقان، وهذا مثالٌ فقط.

 

 لكن قضية يقظة الضمير واستشعار مراقبة الله سبحانه وتعالى متصلٌ بموضوع الإتقان ، كما أن موضوع الإتقان متصلٌ بموضوع الأمانة ومتصلٌ بموضوع الإحسان.

 

كذلك موضوع الإخلاص لله تعالى، طالما تحدثنا عن يقظة الضمير، وعن استشعار مراقبة الله تعالى العبد فإن هذا يعني الإخلاص؛ لأنه قد يكون العمل الذي يقوم به الواحد منا ينتظر عليه مكافأةً.. ينتظر عليه أجرةً... لكن مفهوم العبادة ومفهوم العمل في هذا الدين الحنيف مختلف تماماً عن أن يكون مجرد معادلةٍ ماديةٍ رياضية يكون فيها العمل مساوياً للأجرة ، بل هو أبعد من ذلك؛ لأن المسلم مُطالَب بسعيه حينما يسعى في كسب الرزق أن يخلص نيته لله عز وجل؛ لأن ذلك معدودٌ في هذا الدين كالجهاد في سبيل الله.

 

حينما رأى صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رجلاً شديد البنية فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله يا رسول الله.

 

فقال: " إن كان خرج يسعى في ولدٍ له فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى لوالدين ضعيفين فهو في سبيل الله " .

 

كذلك حديث " من بات كالاً من عمل يده - ليس من عبادةٍ ومن قيام، وإنما قال:من عمل يده – بات مغفوراً له".

 

فإذاً مفهوم العمل نفسه في هذا الدين إنما هو يتعدى قضية الأجر الدنيوي؛ لأن صاحبه يبتغي به أيضاً رضا من عند الله سبحانه وتعالى وإن بدا في حقيقته كل نفعه إنما يعود عليه هو، لكن هذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أيضاً في الحديث الآخر يقول: "في بضع أحدكم صدقة" ، وفي اللقمة يضعها في فيّ امرأته يكون له بها أجر.

 

فهذا المفهوم يتصل بما يدعو المؤمن إلى الإتقان؛ ولذلك اتصل مفهوم الإتقان بهذه القيم جميعاً، ومن أهمها ومن أعلاها – لا شك – كسائر الأعمال التي يقوم بها هذا الإنسان اتصل بالإخلاص.

 

 

مقدم البرنامج: أود أن أضرب مثالاً تقريبياً لما ذكرتم من اتصال الإتقان بالأمانة والإحسان ، لو أن موظفاً مثلاً يتقن عمله جيداً ويؤديه على أكمل وجه لكنه في المقابل يأخذ رشوةً لعمله الذي يقوم به، هو في الظاهر يؤدي عمله بإتقان، لكن تكشف الحقائق أنه يسترشي، هذا الشخص لا يعتبر متقناً طبعاً.

 

 

الشيخ كهلان: نعم، نعم، هذا يتنافى تماماً مع مفهوم الإتقان في هذا الدين.

الإتقان يعني التزام بكلما يتعلق بالإتقان من أمانة، أمانة وإحسان وإخلاص لله تعالى وصدق ثم يأتي أيضاً - وأنا أستشف وكنت أصل إلى هذه النقطة وقصتك أيضاً تؤيد هذا - استشعار روح الجماعة، سواء قلنا بأن روح الجماعة تتمثل هنا في الأخوة الإسلامية، أو في الأخوة الإنسانية حينما يكون نفع العمل يعود على الإنسانية بأسرها.

 

هذا أيضاً لا بد منه..هذا الشعور – استشعار روح الجماعة، وأن الفرد غير منبتٍ عن بقية الأفراد – يحقق له الإتقان.

 

كلٌ منا محتاجٌ لا شك إلى أخيه، وإلى زميله، وإلى من يعينه، فحينما يستشعر هذا الاحتياج، وحينما يعمل بناءً على أن روح الجماعة تسري في دماء كل واحدٍ منهم فإن ذلك يؤدي بهم إلى الإتقان.

 

فإذاً الأخوة هي أيضاً من القيم التي تتصل بموضوع الإتقان.

 

*********************

 

 

روى الطبراني في "المعجم الأوسط"، والبيهقي في "شعب الإيمان" من طريق عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: " إن الله عز وجل يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه".

 

مقدم البرنامج: نريد الآن أن نتحدث فضيلة الشيخ حول ظاهرة توجد لدى فئةٍ من الشباب وهي أنهم يحصرون الإتقان فيما يتعلق بالشعائر الدينية كالصلاة، والصيام...وغيرها، ولكن لا يهتمون بالعمل تقنياً كان، أو إدارياً، أو تعليمياً، أو غير ذلك من المجالات العملية الدنيوية نقول، فما رأيك في هذه الظاهرة؟؟

 

هل هي أمرٌ طبيعي؟ وكيف يكون الفهم الصحيح لموضوع الإتقان؟؟

 

 

الشيخ كهلان: أولاً: لا بد لنا أن نعترف بأن هذا حاصلٌ واقع، وهو أمرٌ يؤسف له؛ لأن هذا يعني أن هناك خللاً في فهم هذه القيم التي يدعو إليها ديننا الإسلامي الحنيف.

 

فهذا الدين حينما يدعو إلى الإتقان فإنه لا يدعو إلى أن يكون الإتقان في أمرٍ على حساب أمرٍ آخر، ولا يدعو إلى أن يكون هناك جهدٌ يُبذل في جانبٍ لكنه بعد ذلك يدعو إلى التراخي والكسل والخمول في جوانب أخرى.

 

وهذا نلمسه في كل الأحكام التي وردت في هذا الدين، نلمسه في أخلاقه..في معاملاته..في سائر تشريعاته.

 

فكثيرٌ من الناس للأسف الشديد يقر بمبدأ الإتقان نظرياً، وحينما نأتي إلى التطبيق نجد أنه يسعى جاهداً في ما يخص الشعائر التعبدية – كما ذكرت – من صلاةٍ..وصيامٍ..وقد يكون أيضاً في إظهار المظهر الإسلامي، لكن يفرط كثيراً في قيمة الإتقان في جوانب أخرى.

 

فلا هو في علاقته مع أهل بيته بمتقن، ولا هو في عمله الذي يقوم به أيضاً يراعي الإتقان، بل إنه قد يكتفي ويحث على الحد الأدنى مما يؤدى به العمل، وكأن هذا العمل ليس داخلاً في قاعدة الثواب والعقاب، والأمر ليس كذلك، فنحن في معاملاتنا مع خاصة عوائلنا وأهلينا، ونحن في معاملاتنا مع غيرنا من الناس مع القرباء منهم والبعداء، ونحن في كسبنا للرزق فيما نطعم به أنفسنا وأهلينا، وفيما نعمر به ونبني ونركب ونسوق ونلبس....وغير ذلك إنما نعيش في كنف نعم الله علينا، وهو الذي سخر لنا ما في هذا الوجود، وهو الذي أمرنا بأن نسعى..وأن نكسب..وأن نكدح في هذه الحياة، وذلك أمرٌ أباحه لنا ربنا تبارك وتعالى، وتفضل علينا بأن جعل ذلك في ميزان حسناتنا، أن جعل ذلك سبباً للكثير من الأجور، والكثير من الثواب عنده يوم القيامة.

 

فإذا أتقنا في هذه الأمور التي قد تبدو للناس على أنها دنيوية فإن ذلك لا شك سوف يكون في رصيدنا عند الله عز وجل.

 

فالحقيقة مناسبة هذا الحديث " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه". وفي رواية " أن يحكمه" كثير من الناس يجهل السياق الذي ورد فيه هذا الحديث الشريف، هذا السياق أن النبي – صلى الله عليه وسلم – رأى فرجةً في جدارٍ بني باللبن – بالطين – فقال: "لتسد هذه الفرجة، إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه".

 

 قد لا تضيف تلك اللبنة شيئاً إلى ذلك البناء لأنه قد اكتمل وهو قائم، لكن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يشير إلى هذا المعنى "إن الله تبارك وتعالى – في بعض الروايات - يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه أو أن يحكمه" .

 

الإحكام الذي هو الإتقان، إذاً سياق هذا الحديث فيما يظن الناس أنه عملٌ دنيوي.

 

وموضوع العمل نفسه في هذا الدين هي من الأولويات التي اشتغل بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.

 

أي الأحاديث التي ذكرتها فيما مضى، حديث "لأن يأخذ أحدكم حبلاً فيحتطب، فيأتي بحزمةٍ من الحطب – في بعض الروايات – على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خيرٌ له من أن يأتي يسأل الناس أعطوه أو منعوه"

 

حديث أيضاً النبي – صلى الله عليه وسلم – للسائل الذي أتاه فقال له: هل معك شيء؟

فقال: لا، ما معي إلا قدوم، فأتى بالقدوم، وقال: من يشتري هذا؟ الخ القصة،هذا تكرر في أكثر من مناسبة، في مناسبة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – شد له خشبةً حتى يذهب فيحتطب.

 

في رواية ما كان له في البيت إلا حلس، فباع النبي – صلى الله عليه وسلم – ذلك الحلس بدرهمين، درهم أطعم به أهله، ودرهم اشترى به فأساً، فذهب فاحتطب، فجاء بعد بضعة أيام ببضع دراهم.

 

وهكذا هو نبي هذا الدين.. ونبي الرحمة يوجه أصحابه إلى العمل وإلى كسب الرزق؛ لأنه يُراد لهذه الأمة أن تكون أمةً منتجة، ولن تكون منتجةً إذا كانت متعلقةً بنظرياتٍ ومبادئ نظريةٍ فكريةٍ فقط، لا بد أن تترجم تلك المبادئ إلى أرض الواقع.

 

فحتى الآيات التي فيها الأمر بالإنفاق – كما قلنا في هذا البرنامج – تعني أن هناك ما يُنفق منه، وهذا الذي ينفق منه إنما تَحَصَّل بالكسب الذي أباحه الله سبحانه وتعالى من خيرات هذه الأرض؛ ولذلك ما كان من زراعةٍ، ومن تجارةٍ، ومن مصادر للرزق متنوعة دعا إليها هذا الدين لأنه أراد للمجتمع أن يكون مجتمعاً منتجاً.. قوياً.. متماسكاً.. عاملاً، وهكذا فهم المسلمون هذا الفهم، فتجد أن أورعهم وأتقاهم كان من أغناهم كما كان شأن أبي بكر الصديق، وكما كان شأن عبد الرحمن بن عوف، وشأن عثمان بن عفان...الخ صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.

 

المشكلة فعلاً أن بعض الناس يتوهم أن الإتقان إنما يكون في جانب العبادات فقط، ويُهمل جانب العلم مثلاً لا تجد أنه متقناً مع قدرته – فنحن لا نتحدث عن الإتقان الذي هو فوق قدرة كل واحدٍ منا – فلذلك تجد طالب العلم مثلاً لا يهتم بدراسة اللغة الإنجليزية، وإنما يهتم - على سبيل المثال – بدراسة التربية الإسلامية، طيب جيد، إتقانه للثقافة الإسلامية.. ولمواد التربية الإسلامية..لعلوم الشريعة أمرٌ محمودٌ إيجابيٌ، وعلامةٌ طيبة، لكن أيضاً لا ينبغي له عندما يكون قادراً على أن يهمل في المواد الأخرى، عليه أيضاً أن يُتقن فيها طالما أنه مستطيعٌ لذلك.

 

كذلك في العمل تجد أن من الناس من هو- على سبيل المثال – حريص على إتقان الصلاة بخشوعها..بأركانها..بحركاتها..بأقوالها وأفعالها وهذا أمرٌ مطلوب، لكن إذا خرج من مسجده وعاد إلى مكتبه تجد أن الناس يشتكون من تقصيره، ويشتكون من إهماله مع أنه مستطيعٌ أن يُتقن، هذا ليس من خلال الدين، بل عليه أيضاً أن يتقن في العمل، وفي المسئولية التي كُلِّف إياها، مع التزامه – لا شك – بالشرائط والأركان والضوابط التي تكتنف العمل الذي يقوم به.

 

عليه أن يتقن كذلك في سائر الأمور لنقل سواءً كان في – كما ذكرت في سؤالك – عملاً تقنياً يدوياً، أو كان عملاً ذهنياً، أو كان عملاً إدارياً...أو غير ذلك من الأعمال.

 

وما ضر الناس في الحقيقة اليوم إلا هذا الإهمال، والتراخي، والخمول الذي أصابهم، والواحد منهم شعاره " مشي الحال" وهو راتب آخر الشهر.

 

فليس الأمر كذلك،أي - قد يتحقق له من النتائج في دينه وفي دنياه ما لا يتصور حينما يكون الإتقان مبدأه وشعاره في الحياة -.

 

 

*********************

 

مقدم البرنامج: هناك موضوع أرى أنه لا بد أن يُذكر، عندما ذكرتم موضوع الإتقان في الجانب العلمي سيكون الحديث جيداً عن موضوع الرسالات – الرسائل العلمية – التي يحرص الطالب على أن يقدم فيها نسبة بسيطة جداً حتى يحصل على الشهادة المرجوة، الآن سؤالي : هل نحن مطالبون شرعاً على سبيل الوجوب أن يكون هناك إتقان، أم أنه على سبيل الاستحباب على اعتبار أن الإتقان موضوعٌ نسبي، وأن الإنسان قد لا يصل ولو اجتهد إلى مرتبة الإتقان؟

 

 

الشيخ كهلان: لا ريب أن الإتقان معناه واسع، ومفهومه واسع، أي إحكام عمل أمرٍ ما..وتجويده..وتحسينه يتفاوت بحسب ظروف داخلية وخارجية – ظروف تكتنف الفرد الواحد من ذاته بحسب تغير الظروف، والأحوال، والأوقات.... وغير ذلك، وظروف أيضاً تأتي عليه من الخارج – لكن في كل الأحوال ينبغي له أن يكون حريصاً على أن يتقن ما في يده، نعم لا ريب أن الأمور تتفاوت بحسب الأولويات ، ما كان أهم هو أولى أن يُتقن مما كان مهماً، وهذا أولى أن يُتقن مما كان غير مهم.

 

 لا ريب أن هناك أولويات ينبغي أن تراعى، لكن ما يؤسف له أن يظن الناس أو بعض الناس أن الإتقان أمرٌ مطلوبٌ في الشعائر التعبدية .. في الطقوس الدينية فقط، وأن ذلك يشفع لهم في الإهمال في الجوانب الأخرى وهذا فهم خاطئ كما سوف يتبين .

بعض الناس يظن أن هذا من الزهد في الدنيا، أو أنه يتصور أن ذلك لا صلة له بالثواب في الآخرة، ولا يرفع منزلته عند الله سبحانه وتعالى، كل هذه مفاهيم خاطئة ينبغي أن تُصحح، طبعاً لا شك (لا إفراط، ولا تفريط).

 

ينبغي للمسلم أن يتقن ما في يديه مما تترتب عليه آثارٌ فيها نفعٌ عامٌ للناس.

 

أنا سأستشهد بسؤالكم في سؤال أهل الذكر في الحلقة الماضية حينما طرحتم موضوع من لديه أموال ولكنه لا يُثَّمرها، وإنما يدخرها مخافة الدخول في مغامرات التجارة.

 

سماحة الشيخ – حفظه الله – لما أجاب على السؤال نعى على هذا الذي يفعل ذلك، وأمره بالسعي فيما فيه مصالح الأمة.

 

إذاً حتى في قضية ادخار المال ينبغي أن يكون بإتقان، مع إنه مدخر، أي - يترك ماله، ويدخره – لكن حتى هذا ينبغي أن يكون بإتقان، حينما يتعلق بهذا المال مصالح للأمة، ومصالح للمجتمعات تعود عليه هو أيضاً بالنفع والخير ومزيد من الثروة والنماء لماله فلا ينبغي له أن يتقاصر، بل ينبغي له أن يخوض غمار هذه الحياة؛ لأن موضوع العمل متصل كثيراً بالإتقان، بل الإتقان أساسه هذا العمل الذي نتحدث عنه.

 

 

وأستشهد هنا بآية أخرى من كتاب الله عز وجل من سورة الملك – سورة تبارك – ".. فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ" (الملك:15).

 

 الآن هذا المشي الذي يأمرنا الله تعالى به هل هو المشي أن نمشي على قدمينا؟؟

 

هل نحتاج إلى أن يأمرنا الله تعالى أن نمشي على قدمينا في مناكب هذه الأرض؟!!!

 

وما صلة المشي على القدمين بـ " وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ " ؟!

إذاً فالمشي هذا لا يقصد به هذا المشي الحسي الذي نفهمه، وإنما يقصد به السعي لما يمكننا بعد ذلك من أن نأكل من رزق الله تعالى.

 

وهذا التذييل أيضاً "... وَإِلَيْهِ النُّشُورُ" ؛ ولذلك المسلم إذا أصبح كان مما يؤمر به أن ينتشر ليبتغي من رزق الله تعالى في هذه الأرض.

 

 

*********************

 

 

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ دعنا ننتقل إلى الجوانب التطبيقية في هذا الموضوع. كيف نغرس في المجتمع هذه القيمة؟

وهل هناك خطوات تعين على الإتقان؟؟

 

 

الشيخ كهلان: قبل أن أجيب على هذا السؤال أريد أن أعلق أيضاً على النقطة السابقة إذا تكرمت.

 

هناك صورة معاكسة أيضاً – هناك من الناس من يحصر الإتقان في الأعمال التي بين قوسين (هي أعمال دنيوية) وإذا به في جانب العبادات وما أمره الله به من فرائض وشعائر إذا به مبدأ "مشي الحال" يطبقه في العبادات -.

لا، لا ينبغي ذلك، ولذلك قلنا إن الإتقان مبدأ أصيل، وهو ليس فقط خلقاً عارضاً لا،هو مبدأٌ أصيل .

 

أيضاً الإتقان حتى في الصلاة نفسها لا يكون فقط في ظاهر الصلاة، بل في باطنها..في روحها وجوهرها بالخشوع لله تعالى، وبالتفكر فيما يقول، وبتمثل مراقبته سبحانه.

 

 هذا مثال حتى لا يعتب علينا بعض الإخوة، نحن نقول: "لا إفراط، ولا تفريط ".

 

أما موضوع الخطوات التي يمكن أن تعين على الإتقان، وسوف أبدأ بآخرها.

نحن كثيراً الآن خطابنا للفرد، ليكن خطابنا الآن للمجتمع.. للمؤسسات..لنقل وللشركات، نحن نريد أن يكون المجتمع منتجاً، وأن يكون إنتاجه مبنياً على إتقان فإذاً ينبغي أن يُحث الناس على الإتقان.

 

المتقن ينبغي أن يُكرَّم، المتقن ينبغي أن تهيأ له الظروف، أن يشعر أنه بإتقانه تميز عن غيره، وفضل عن غيره، وهكذا كان في العهود الإسلامية الأولى كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما كان من بعده الخلفاء الراشدون، كانوا حريصين على أن يُغنوا أصحاب الولايات العامة، أي – من يتولى أعمالاً عامة – على أن تكون أرزاقهم أرزاقاً وفيرة حتى يتمكنوا من أداء أعمالهم بإتقان؛ حتى لا تحدثهم نفوسهم – وهم بشر – بالوقوع في براثن الارتشاء ، والفساد..وغير ذلك.

 

وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حريصاً على ذلك، كان حريصاً أشد الحرص.

 

إذاً لا يمكن لنا أن نخاطب المعلم – مثلاً – الذي يربي الأجيال ويعلمها، ليس من الإنصاف أن نخاطبه هو بالإتقان ومع ذلك مضيقٌ عليه في رزقه، ينبغي أن يُوسع له في رزقه.

 

كذلك العامل في مؤسسةٍ تنتج، مؤسسة إنتاجها ينفع الناس، ينبغي هذا العامل أيضاً أن يُكرَّم، وأن تهيأ له الظروف المادية والمعنوية حتى يستطيع أن يتقن في عمله.

 

فإذاً حتى لا يظن الإخوة أننا نطالبهم كأفراد فقط بالإتقان لا، هو خطابٌ للجميع.

 

نحن نخاطب أنفسنا، وهناك منا من له مؤسسة، وشركة، وغير ذلك فينبغي له أن يكون حريصاً على ما يدعو إلى أن يتقن الأفراد في أعمالهم.

 

 

مقدم البرنامج: والواقع فضيلة الشيخ أن المتقن يطلبه الأفراد لصالحهم، فالمقاول مثلاً الذي يتقن بناءه يطلبه الناس ليبني لهم بيتاً.

 

لكن لنتحدث عن المجتمع، ألا ينبغي للمجتمع أن يقوم بتكريم هذا الإنسان، ليس من خلال طلب الأفراد لمصالحه، وإنما من خلال اعتباره نموذجاً راقياً؟

 

 

الشيخ كهلان: نعم، وهذا ما ينبغي أن يكون لأن في هذا أيضاً إعطاء لقدوةٍ حسنةٍ في المجتمع.

 

حينما ترى الأجيال أن هناك متقناً يُكرَّم ، وأن الإتقان ذاته مكرمٌ في المجتمع سوف يكون في ذلك دافعٌ ومحفزٌ كبير للناشئة حتى يتقنوا.

 

أيضاً لا بد لنا أن نغرس هذه القيمة في نفوس الناشئة، وغرسها يكون بمثل هذه القيم والمبادئ التي تحدثنا عنها مما ورد في سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وفي سيرته القولية والفعلية.

 

إذا كان هو وهو – عليه أفضل الصلاة والسلام - نبيٌ.. مرسلٌ.. موحى إليه من عند ربه قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لكن حينما تقلب صفحات حياته تجد أنه كان حريصاً على الإتقان في كل شيء.

 

في العبادة تجد أنه – عليه أفضل الصلاة والسلام – متقن، حينما كان يعمل في رعي الغنم أو في التجارة إنما اشتهر لإتقانه بتطبيقه كل مبادئ الأمانة، والإخلاص، والإحسان، وحسن المعاملة، وروح الجماعة، وما ذكرناه.

 

حينما يجاهد في سبيل الله كان متقناً، كل تصرفاته – عليه أفضل الصلاة والسلام – تجد أن تتجلى فيها هذه القيمة، فما بالك أيضاً بأحاديثه القولية ، وبتقريره أيضاً لما كان من صحابته الكرام – رضوان الله عليهم -.

 

إذاً نحتاج إلى هذه النماذج أيضاً حتى نغرسها في نفوس الناشئة، طبعاً مع ما يبعث في النفس من الإتقان ومن مراقبة الله عز وجل، والتذكير دائماً بمراقبة الله تعالى، وحث الناس على العمل، وتشجيع الشباب أيضاً على العمل، بإيجاد فرص العمل وتحفيزهم من خلال محفزات الإتقان التي تحدثنا عنها.

 

كل هذه جوانب تطبيقية فضلاً عن المبادئ الفكرية التي ينبغي أن تُغرس، أي – أهمية الإتقان، آثار الإتقان على مستوى الأفراد والمجتمع والأمة بأسرها – .

 

 ينبغي للأمة بأسرها الآن أن تتعدى مرحلة التنظير إلى مرحلة التطبيق، وأن تري الناس إتقانها فيما تقوم به.

 

مقدم البرنامج: إذاً الشاب الذي يتقن استغلال وقته يكون متقناً، ثم إذا عمل وصار متقناً أيضاً فقد اجتمعت لديه صفات الإتقان في كل شيء.

 

 

الشيخ كهلان: نعم.

 

 

*********************

 

يقول العلامة السيد محمد رشيد رضا في مجلة "المنار":

فإذا علمت هذا ظهر لك خطأ بعض الجهلاء المتسمين بسمة العلماء، الذين يزهدون الناس في الانشغال والأعمال، ويثبطون هممهم عن العمل بحجة أنهم يزهدونهم في الدنيا الفانية، ويقربونهم من الآخرة الباقية، وأن الساعة على وشك القيام، فلا حاجة إلى هذا الاهتمام، يحسبون بذلك أنهم يحسنون صنعاً، ألا ساء ما يعملون.

 

فإن الدنيا مزرعة الآخرة، والشرع الإسلامي لم يحظر على أحدٍ الكسب والارتزاق بالوجوه المشروعة، وما ورد في التزهد في الدنيا إنما يراد به الزهد بما في أيدي الناس، وأما احتجاجهم على وشك قيام الساعة، فالساعة علمها عند الله سبحانه وتعالى كما جاء في الكتاب، وما يعنينا إن كانت قريبةً أم بعيدة، إن علينا أن نعمل بتلك القاعدة الذهبية التي وضعها أحد الفضلاء، وتربى أولادنا عليها وهي: ( إذا أخبرنا ملكٌ من السماء بأننا سنموت غداً فيجب أن نتم واجباتنا اليوم ونموت غدا).

 

 

مقدم البرنامج: أظن أن هذه الحكمة هي التي وردت في قول النبي – صلى الله عليه وسلم – " إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها".

 

 نريد تعليقاً فضيلة الشيخ على النص الذي ورد للعلامة السيد محمد رشيد رضا.

 

 

الشيخ كهلان: ماذكره السيد رشيد رضا في مجلة "المنار" كلامٌ قيم، غايةٌ في الأهمية؛ لأنه فعلاً بعض الناس يتوهم أن من الزهد في الدنيا أن يهمل المرء في الأعمال.

 

وهو يتحدث هنا نصاً – بالمناسبة – كان يتحدث عن الزراعة والتجارة، أي – السياق الذي اقتبس منه هذا النص كان يتحدث فيه عن أعمالٍ دنيويةٍ - فعلاً فبعض الناس يفهم خطأً أن الزهد إنما يراد به الإعراض عن هذه الأعمال، وليس الأمر كذلك – كما يبين -.

 

كما أن قرب الساعة في دعوى البعض لا يعني أن يهمل المرء في هذه الأعمال، بل - كما أشرت بارك الله فيك – إلى رواية " إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها".

 

لتقم الساعة متى ما قدَّر الله سبحانه وتعالى، لكن على المرء في كل أحواله.. في كل أوقاته أن يعمل لله عز وجل، وأن يكون في عمله هذا متقناً، وأن لا يتعلق بأوهام لا أساس لها من الصحة.

 

 

مقدم البرنامج: وهذا يعني أن يكون الإنسان متقناً في عمله الذي أراده الله تعالى له أن يكون عليه..في عبادته.. في غيره من الأعمال حتى إذا ما قامت الساعة يكون مطمئناً على الأقل من أنه قد أدى عمله جيداً.

 

 

الشيخ كهلان: نعم أحسنت، وهذا ما أشار إليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في حديث " اعملوا فكلٌ ميسرٌ لما خُلق له" فنفس السياق الذي ورد فيه هذا الجزء من الحديث هو أيضاً هذا المعنى الذي نتحدث عنه " اعملوا فكلٌ ميسرٌ لما خُلق له".

 

 

*********************

 

 

مداخلة متصل: بالنسبة لموضوع الإتقان أحب أن أضيف نقطة، وهي: "إتقان التربية"

الإنسان مطالب أن يربي أبناءه منذ البداية ، منذ أن يختار الأم التي وضع الرسول – صلى الله عليه وسلم – المعيار لاختيارها، وهو معيار "فاظفر بذات الدين تربت يداك"، كذلك للزوجة فالمعيار " إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه" ، وأيضاً عندما يرزق الإنسان بمولود لا تكون التربية مقتصرة على المرأة حتى يشب هذا المولود، وبعد أن يصبح شاباً يكون على الرجل، وإنما تكون التربية مشتركة حتى يسيرا في خطين متوازيين متفقين مع بعضهما البعض، فينشأ الشاب وهو متعلقٌ بأبيه، ومتعلقٌ بأمه، لا يرى الأب كشخص غريب فقط ينفق عليه.

 

فينبغي للإنسان أن يتقن التربية؛ لأن بإتقانه للتربية سوف يكون متقناُ للأسرة، وبإتقان الأسرة سوف يساهم في إتقان المجتمع، وبإتقان المجتمع سوف يساهم في إتقان الوطن وكذلك تتقن الأمة جميع أعمالها.

 

متصل آخر: نرى أن العمل في الحقيقة عبادة، فكيف يفصل بعض الإخوة العمل الدنيوي عن العبادة إذا كان العمل في الأصل عبادة؟؟! فعمر بن الخطاب – رضي الله عنه - عندما رأى رجلاً يتعبد في المسجد، ولا يفارق المسجد، فسأله من أين تنفق على نفسك؟ قال: أخي ينفق علي، فقال له: أخوك خير منك.

   

 

مقدم البرنامج: نريد تعليقاً فضيلة الشيخ على مكالمات الإخوة المتصلين.

 

الشيخ كهلان: المتصل الأول تحدث عن الإتقان، وهذا دليل على أن الإتقان في كل شيء، بالمناسبة حتى نجد أن كلمة الإتقان ترد في العلم مثلاً يقال: فلانٌ متقن حينما يكون فعلاً مجوداً لفنٍ من الفنون..لعلمٍ من العلوم، وكانوا حريصين على بلوغ هذه المترتبة مثلاً في العلوم، كذلك نجد جملةً من الكتب عناوينها تبدأ بالإتقان في كذا..وكذا.

 

مثل كتب السيوطي وغيره..

 

مقدم البرنامج: الإتقان في علوم القرآن مثلاً.

 

 

الشيخ كهلان: نعم.نعم، لماذا؟؟

لما يفهمونه من أن الإتقان يكون في كل شيء، يكون في التربية – كما قال -، والإتقان في كل شيء يؤدي إلى نتائج إيجابية في كل شيء، وليست نتائج الإتقان محصورة على الفرد المتقن، وإنما على عموم المجتمع والأمة بأسرها.

 

فما ذكره من موضوع إتقان التربية هو في محله، وهذه إضافة يُشكر عليها.

 

كذلك العمل عبادة – إن لخصنا مداخلة المتصل الثاني – وهو ما تحدثنا عنه نحن، في كل شيء، وأركز على قضية حتى الإتقان في الأخلاق..في معاملة الآخرين، حينما يأمرنا الله تعالى بالإحسان.. بالقول الحسن "...وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا..." (البقرة:83) وقلنا إن الإحسان قرين الإتقان.

 

هذا يعني أنه مطلوبٌ منا أن نحسن في معاملتنا مع الآخرين أي – أن نتعامل معهم بإتقان -.

 

 

*********************

 

خاتمة الحلقة

 

مقدم البرنامج: من أين ينشأ عدم الإتقان؟؟

من أي إديولوجية ينطلق عدم الإتقان؟ لأنه في مفهوم بعض الناس – وهذا ما يؤسفني – أنهم عندما يتحدثون عن مسلمٍ عامل يقولون بأنه يقصر في عمله، وعندما يتحدثون عن رجلٍ غير مسلم يقولون بأنه متقن في عمله؛ ولذلك تجد في بعض الأحيان تفضيلاً بين هؤلاء من هذا النوع.

 

قضية التقصير في العمل، أو عدم الإتقان من أي ناحيةٍ تأتي إلى الإنسان؟؟

 

 

الشيخ كهلان: هي جملةٌ من العوامل، ومن ضمن العوامل التصور نفسه – حينما لا يتصور أهمية الإتقان فإنه بطبيعة الحال سوف تكون النتيجة التقصير -، أيضاً عدم الفهم الصحيح لأهمية الإتقان، والوعي بأهمية إتقان العمل..بأداء العمل والإتقان فيه.

 

ثالثاً: يمكن أن يكون ذلك أيضاً منشأه عدم معرفته بما يقوم به، نحن أيضاً لا نتهم الناس في نواياهم، منهم من يريد أن يتقن لكنه لا يعرف كيف يتقن، لماذا؟؟

 

لأنه يعمل في غير عمله، وهذا لا ينبغي أن يكون، ينبغي أن يحرص المرء أن يكون عمله فيما تتدرب وتعلم وتعرف عليه، لا أن يكون عمله بعيداً عن مجاله واختصاصه وعلمه، فإن اضطر إلى ذلك فليتعلم كيف يعمل، هذا أمر غاية في الأهمية.

 

ثم بعد ذلك مجموع حال الأمة، في الحقيقة أيضاً سبق الآخرين علينا في مجالات التقدم العلمي، والمعرفي، والإبداع في مجالات عديدة أدى إلى هذه النتيجة.

 

فهي أيضاً جزء من حالةٍ عامة لا ينبغي لنا أن ننكر ذلك.

وما ندعوا إليه الآن من خلال هذه القيم..من خلال هذا البرنامج هو دعوةٌ إلى صحوة أيضاً.

 

دعوةٌ إلى شيء من تصحيح هذه المفاهيم لدى الناس لأنها جزءٌ من بناءٍ إنسانيٍ حضاريٍ ينبغي أن تقوم عليه هذه الأمة.

 

 

 

مقدم البرنامج: هل يمكن أن يكون الإنسان داعياً إلى الإسلام من خلال الإتقان فقط؟؟

 

الشيخ كهلان: نعم، وهذا مما صرح به أهل العلم، وحصل هذا حتى في تاريخ العمانيين، فإبداعهم في التجارة وفي ركوب البحر كان مدعاةً للآخرين إلى أن يقتدوا بهم ، وأن يسلموا بعد ذلك.

 

هذا ثابتٌ، وأقر به حتى باحثون، أنا استمعت إلى باحثٍ صيني يذكر عن أسباب دخول أقاليم في الصين في الإسلام فقالوا: من خلال ما رأوه من أخلاقٍ عاليةٍ رفيعة، ومن حرصٍ من التجار العمانيين الذين وصلوا إلى إقليم الصين على الأمانة، وعلى معاملة الآخرين بإتقان فكان ذلك من أسباب دخولهم في هذا الدين.

 

 

مقدم البرنامج: وهذا الذي تنبه إليه يوسف – عليه السلام – عندما وجد السجناء أنه يتقن تأويل الرؤيا، وأنه مُحسن قال "... ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي..." (يوسف:37) أشار بالفعل إلى أصل هذا الموضوع.

 

 

انتهت الحلقة