الإصلاح في الأرض ج1

بثت في:

11/جمادى الأول/1431هـ

26/إبريل/2010م

------------------------------

 

مقدم البرنامج: بسم الله الرحمن الرحيم.

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الجديد من برنامجكم دين الرحمة، موضوعنا اليوم بإذن الله تعالى سيكون عن الإصلاح في الأرض.

الإصلاح يقابل الفساد؛ لكن دعوى الإصلاح شعارٌ يرفعه أصحاب المناهج المختلفة، فقوم فرعون يرون أن دعوة موسى-عليه السلام-إفسادٌ في الأرض، والإصلاح يعني أن يُقْتَل، غير أن استعارة هذا المصطلح لتبرير الأعمال السيئة لا يعني سلب مفهومه النظيف، بل غاية ما فيه أنه اُسْتُخْدِمَ من قِبَلِ الأهواء، وعندئذٍ ستتحول مفرداته التطبيقية إلى الفساد، يقول الله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ...} (المؤمنون:71)، ولربما بسبب هذه الاستخدامات الأهوائية للإصلاح جعل الناس يَظُنُّونَ أن الإصلاح في الأرض مهمة أصحاب المناهج من المُنَظِّرِين والعلماء، فهل هذا الظن صحيح؟ وكيف هو الإصلاح في الأرض؟ وما هي الأنصبة الموزعة منه على الناس أفراداً وجماعات؟ وهل يحتاج هو الآخر إلى علمٍ ومعرفة عندما يكون الإصلاح باسم الإسلام؟ وهل الإصلاح يتحقق تلقائياً بترك فساد أم له معنى زائد؟

 

هذا ما سنتعرف عليه اليوم بإذن الله تعالى في حوارنا مع فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام للسلطنة، وسوف يُبيِّن لنا في سؤالنا الأول له العناصر التي يتضمنها هذا الموضوع، وفُرَص المشاركة التي يمكن للإخوة أن يشاركوا بها.

 

*********************

أهلاً ومرحباً بكم فضيلة الشيخ الدكتور..

 

الشيخ كهلان: حياكم الله، وأنا أُحيِّي وأرحب بالإخوة والأخوات الذين يتابعون هذا البرنامج، وأسأل الله عز وجل أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه تعالى سميعٌ مجيبٌ.

 

مقدم البرنامج: آمين..

هذا الموضوع كما يبدو موضوعٌ جديد، ودائرته واسعة، ربما تَنضَمٌّ أو تكون فيها مجموعةٌ كبيرة من القيم؛ ولذلك كما قلنا في البداية نريد منكم فضيلة الشيخ أن تعرفونا بمدلول هذا العنوان، وكذلك العناصر التي ستتحدثون فيها، وما هي الفرص التي يمكن أن يشارك بها الإخوة في هذه الحلقة؟

 

الشيخ كهلان: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن موضوع الإصلاح في الأرض من الموضوعات الجديرة بالعناية التي تستحق منا كل اهتمامٍ ودراسةٍ وبحثٍ وفهمٍ عميق، ولو لم يكن من شأن الإصلاح في الأرض إلا أن كل أحدٍ يدعيه مُبطِلاً كان أو مُحِقّاً.. سائراً في طريق صواب الصلاح أو مُجانِباً لها فإن الجميع يَدَّعي أنه مُصلِحٌ في هذه الأرض.. مُحَقِّقٌ للصلاح فيها، وهذا واضحٌ من خلال ما ذكرتموه من أمثلة وما سوف نتعرض له بمشيئة الله تعالى في هذه الحلقة والحلقات التي تليها من دعاوى كثيرٍ من أصحاب الدعوات والنظريات سواءً كانوا ممن جابه الرسل أو كان ممن ناصَر الرسل، سوف يتبين لنا حقيقة الإصلاح في هذه الأرض.

 

والإصلاح نتعرض له بمفهومه الواسع الشامل، الذي يعني: الصلاح في الأنفس، والصلاح في هذه الأرض التي يحيا فيها هذا الإنسان تشييداً لحضارته، وعمارةً لسبل عيشه فيها، وانتفاعاً بما سخره له ربه تبارك وتعالى في سمواتها كما في أرضها، سبراً لأغوارها، واكتشافاً لأسرارها، وانتفاعاً بكل مقدراتها، واستغلالاً لكل الملكات والطاقات التي أنعم الله عز وجل بها على هذا الإنسان المُكرَّم المخلوق له سبحانه وتعالى حتى يكون صالحاً في نفسه مصلحاً في هذا الكون، سواء من خلال فعله بنفسه فرداً يُسلِّم أمره كله لله عز وجل، ويسير في عيشه في هذه الحياة على هَدي الأنبياء والمرسلين أو كان ذلك من خلال عمل الجماعة من المجتمعات والأمم والشعوب بناءً لحضاراتهم، وعمارةً وإصلاحاً لهذه الأرض، وأداءً لحقوقها عليهم، وأداءً لحقوق الناس الذين يعيشون في هذه الأرض، سواءٌ  من خلال المعنويات التي يشتمل عليها هذا المخلوق الذي هو الإنسان أو من خلال الماديات التي يحتاج إليها أو التي رُكِّبَتْ فيه، كل هذه المعاني والدلالات سوف نتعرض لها بمشيئة الله تعالى..

 

ولذلك فإننا نقرر بدايةً أننا لا نتناول موضوع إصلاح ذات البين؛ لأن هذا موضوع خارج حديثنا مع أنه له صلةٌ غير خفيةٍ بهذا الموضوع إلا أننا سبق أن خصصنا جملةً من الحلقات في هذا العنوان الخاص وهو إصلاح ذات البين أو الإصلاح بين الناس، ما نريد أن نتناوله اليوم هو موضوع الإصلاح العام الذي يتطابق مع هذا العنوان وهو الإصلاح في الأرض، وبالتالي سوف نتناول  ما يُناقِض هذا العنوان وهو الفساد في الأرض، كيف يكون الفساد والإفساد في هذه الأرض؟ كيف يمكن للمسلم الفرد أن يكون وسيلةً مُعينَةً على تحقيق الإصلاح في هذه الأرض؟ وهل لعبادة الإنسان والتزامه بمنهج الله عز وجل أثرٌ في صلاح نظام العالَم والكون والحياة؟ أم أن ذلك هو أمرٌ شخصيٌّ اعتباري، وصلةٌ بين العبد وربه لا يمكن أن يتعدى أثره هذه الصلة لكي يكون مؤثراً في صلاح هذه الأرض أو في علاقاتٍ أخرى من دوائر حياة بني البشر؟

 

وما الذي يترتب على كون الاستجابة لنداء الله عز وجل والانبعاث لنداء الإيمان مُحَقِّقاً للإصلاح في الأرض؟ ما الذي يترتب على هذا المعنى بالنسبة للفرد أو الجماعة؟ وكيف يمكن أن يُحقِّقَ المسلم هذا الإصلاح، ويُجنِّب نفسه وغيره ويُجنِّب الوجود الفساد والإفساد في الأرض؟ كل هذه القضايا والموضوعات والعناصر سوف نتعرض لها بمشيئة الله تعالى في حلقتنا اليوم، ولذلك نرحب بكل ما يتصل بها إضافةً أو تصحيحاً أو تعليقاً أو تنبيهاً أو استفساراً، كما أننا سوف-بمشيئة الله تعالى-إن لم نُوَفِّ الموضوع حقه في هذه الحلقة سوف نواصل حديثنا لحلقةٍ أخرى بمشيئة الله تعالى؛ حتى تكون هذه العناصر واضحة من خلال ما سنتعرض له فيها بإذن الله عز وجل.

 

مقدم البرنامج: كما أني أردتُ أن أنبه الإخوة الذين يودون أن يشاركوا بأننا لا نتحدث عن المناهج الموجودة في الأرض الآن ومناقشتها من حيث الصواب والخطأ، إنما نتناول الإصلاح في الأرض من منظورٍ إسلامي.. من خلال فهم الناس للإسلام، ومن خلال ما هو عليه من الواقع، ونبقى الآن مع هذه الآيات القرآنية.

 

*********************

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ{8} يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ{9} فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ{10} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ{11} أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة:8-12).

 

مقدم البرنامج: صدق الله العظيم.

فضيلة الشيخ من خلال ما أنصتنا إليه الآن من هذه الآيات الكريمة ما أوجه الإصلاح في الأرض التي جاء الإسلام بالدعوة إليها؟

 

الشيخ كهلان: يتبين جواب هذا السؤال من خلال نظرنا بدايةً في مفهوم أو بعض مفاهيم هذه الآيات الكريمات التي أنصتنا إليها من سورة البقرة، فإن هذه الآيات نصٌّ صريحٌ يُبيِّن أن دعوى الصلاح والإصلاح كانت قائمة من قِبَلِ أولئك الذين توجه إليهم خطاب هذا الدين، سواءً كانوا ممن أنكر الألوهية وأنكر الاستجابة تماماً لدعوة خاتم الأنبياء والمرسلين أو كان ذلك ممن أظهر الاستجابة والاستسلام وأبطن الكفر والإشراك بالله عز وجل كما هو شأن المنافقين المُعَرَّضِ بهم في هذه الآيات التي أنصتنا إليها من سورة البقرة، وكون ما يدعو إليه الأنبياء والمرسلون هو الصلاح لأنه من عند الله عز وجل، ولأن الله تعالى حكيمٌ عليمٌ خبيرٌ أراد لهذا الإنسان أن يهتدي في هذه الحياة بما يحقق له المنفعة والمصالح في دنياه، وما يُبلِّغُهُ السعادة والرضا في أخراه؛ فإن الاستجابة لدعوة الأنبياء والمرسلين التي تَحمِلُ هذا الهدى وذلكم النور لا شك هي الصلاح بعينه.

 

وبالتالي فإن الإصلاح والصلاح في هذا السياق بمعنى واحد، فقد يكون الإصلاح الذي هو جَعْلُ الشيء صالحاً لِمَا هو صالحٌ في ذاته، كما أنه يمكن أن يكون بمعنى تحويل الشيء الفاسد إلى صالح، فكلمة الإصلاح تُستَعمل في المعنيين أي ما هو صالحٌ في ذاته أو ما كان فاسداً ثم يُحوَّل إلى أمر صلاح، وسوف نأتي على جملةٍ من الأدلة من كتاب الله عز وجل التي استخدم فيها الإصلاح في الأرض بكلا المعنيين، لكنه-كما تفضلتم-هو ضد الفساد، فالصلاح ضِدُّ الفساد، وكما أننا نجد آياتٍ كثيرة في كتاب الله عز وجل تدعو إلى الإصلاح وتُبيِّن أن منهج الأنبياء والمرسلين ومن سار على هداهم هو منهج صلاحٍ وإصلاحٍ في هذه البسيطة فإننا نجد طائفةً من آيات كتاب الله عز وجل تُحذِّر من الفساد والإفساد، وتُبيِّن أن مخالفة أمر الله عز وجل والتنكب عن الاستجابة لداعي الإيمان والاهتداء بدعوة الأنبياء والمرسلين هو الفساد في عينه وهو الإفساد في الأرض؛ ولذلك أَوجُهٌ سوف نأتي لذكرها.

 

لكن بدايةً نقول بأن هذه الآيات التي أنصتنا إليها صريحةٌ في كون ما يدَّعيه أهل النفاق الذين لا يؤمنون حقاً بالله عز وجل، ولم تستجب بواطنهم لدواعي الإيمان بالله واليوم الآخر إنما هم مفسدون؛ لكن ذلك لا يَفُتُّ في عضد أهل الخير والصلاح ممن لبى نداء الإيمان لأن هذه الدعوى-دعوى المنافقين أنهم أهل صلاحٍ وإصلاح-هي دعوى قديمة، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى يرد عليهم ويبين أنهم لا يمكن لهم أن يخدعوا الله سبحانه وتعالى، وأن ما يدَّعونه إنما هو زَيْفٌ وباطل، وما يُدْعَوْنَ إليه من الاستجابة لداعي الإيمان هو الصلاح والإصلاح وما كان على خلافه فإنما هو فسادٌ، بل إنه إفسادٌ في الأرض، بدءًا من الإشراك بالله عز وجل وعدم الاستجابة لداعي الإيمان، ثم ارتكاب الموبقات والضلال والبعد عن منهج الله سبحانه وتعالى فلذلك قال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ}.

 

مقدم البرنامج: طيب فضيلة الشيخ قبل أن تُكمِل: هذه الآية تشير هنا إلى أنهم لا يَشعُرون، هل يمكن أن يكون الإنسان مصلحاً وهو لا يَشعُر؟ متى يصل الإنسان إلى مثل هذه المرحلة؟

 

الشيخ كهلان: الآية بهذا التذييل في آخرها لا تعني أنهم بإفسادهم وبضلالهم وعدم استجابتهم أنهم لا يشعرون بذلك، وإنما لا يشعرون بإعلام الله عز وجل لرسوله وللمؤمنين بخفايا هؤلاء الذين يُظهِرُون ما لا يُبطِنُون، ويَدَّعون ما لا يفعلون أو يقولون ما لا يفعلون، فهذا هو المقصود بهذا الختام أو بعض المفسرين يقول بأنه {... وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} بالعاقبة التي سيؤول إليها أمرهم وأمر المؤمنين من أن نصر الله تعالى سوف يكون للمؤمنين، وأن الدائرة سوف تكون عليهم وعلى المشركين.

 

أما ما يتصل بالإصلاح-حتى نحدد المصطلحات والمفاهيم والأوجه التي سألتَ عنها-فباختصارٍ شديد: أوجه الإصلاح التي نتحدث عنها أولاً إصلاح الباطن، وإصلاح الباطن إنما يكون بالإيمان بالله سبحانه وتعالى، فأول الإصلاح في هذه الأرض يبدأ بالاستجابة لنداء الإيمان، ويستتبع ذلك تنقية هذا الباطن من الأدواء النفسية والقلبية من الرياء ومن الشرك ومن العُجْبِ ومن الكِبْرِ ومن البطر والأشر والحقد والحسد والغل وكل الصفات القلبية المعنوية الذميمة التي جاء هذا الدين لكي ينفيها عن المؤمن بالله واليوم الآخر حق الإيمان، ولكي يُجرِّد قلبه-أي قلب المؤمن-لكي يكون قلب مخلصٍ.. قلباً سليماً من هذه الآفات.. بعيداً عن هذه الشرور والأدواء النفسية القلبية، وهذا وجهٌ آخر للإصلاح، ثم بعد ذلك يكون الإصلاح بإيقاظ هذه الضمائر لفعل الخيرات وتوجيهها نحو عمل الصالحات، وذلك من خلال ما افترضه الله تعالى على عباده من الشعائر، وما نهاهم عن ارتكابه من المحظورات، وما وسَّع لهم فيه من دائرة المباحات، سواءً كانت هذه المباحات من ما يتصل بمندوباتٍ هي أقرب إلى العبادات أو كانت مما يتصل بدائرة العادات الواسعة التي طالما تحدثنا عنها، إلا أن هذا الدين أراد درجةً أعلى للمتدينين بحيث تكون عاداتهم مما يؤجرون عليه حينما يُحسِنون نيتهم ويُخلِصون قصدهم لله تبارك وتعالى.

 

ثم من أوجه الإصلاح التي جاء بها هذا الدين تحرير العقل من الأوهام والخرافات والأساطير، ومن آثار الانغلاق، وعدم الإعمال والجمود؛ لذلك نجد أن الله تعالى يدعو عباده إلى الإيمان به، وإلى التفكر في آياته، والنظر في ملكوته، والتدبر في كل ما بثه في هذا الكون للوصول إلى الإيمان الحق الصحيح الذي يكون ناشئاً عن رضاً وطمأنينة، ويدفعهم  إلى مزيدٍ من الإخلاص والعمل، وإلى تسخير الملكات التي وهبهم إياها ربهم تبارك وتعالى التسخير الصحيح حتى يتمكنوا بعد ذلك من عبادة الله عز وجل، ومن عبادته التي أُمروا بها عمارة هذه الأرض بما يرضي الله سبحانه وتعالى، وبالتالي هذا وجهٌ آخر، فإن المسلم حينما يؤمن حق الإيمان بالله تبارك وتعالى ويسير في هذه الحياة فإنه يسير وفقاً لمبادئ وأصولٍ وقواعد كلها إنما تُستَمَدُّ من طاعة الله عز وجل وتقواه ومن خشيته، لكنها في ذات الوقت تحقق عماراً في هذه الحياة؛ لأن تَدَيُّنَهُ وعبادته تعني أن لا ضَرَرَ ولا ضِرار. 

 

مقدم البرنامج: طيب فضيلة الشيخ مثل هذه النقاط تحتاج إلى مزيدٍ من التوضيح، لو تحدثنا عن موضوع تحرير العقل من الخرافات والبدع وغيرها المعرقلة لمسيرة الحياة هذه لكي يَفهَمها المستمع نحتاج إلى بعض الصور أو الأمثلة التي تُبيِّنُ من خلالها أنه بالفعل هذه الأمور مُعرقِلة؟

 

الشيخ كهلان: في هذه الآيات التي أنصتنا إليها هؤلاء الذين ألِفوا عاداتٍ وتقاليد، وكانت من عاداتهم وتقاليدهم أنهم يعبدون الأصنام التي يصنعونها بأيديهم، لما كانوا في موضع حِجاج من قِبَلِ المؤمنين يدعونهم إلى الخير.. يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر كانوا يَحتجُّون بأنهم مُصلِحون، وكانوا في دعواهم يقولون بأنهم مصلحون بمحافظتهم على ما ورثوه من آبائهم وسلفهم؛ ولذلك نعى عليهم القرآن أنهم لا يستخدمون عقولهم.. يُعطِّلون الملكات التي وهبهم إياها ربهم تبارك وتعالى من آلات السمع والبصر والفكر والنظر، وهم يُعطِّلون كل ذلك، ويقلدون آباءهم في عبادتهم للأصنام، وفي إشراكهم بالله تبارك وتعالى، مع أنهم لو استعملوا عقولهم لما أمكن لهم إلا الإيمان الحق بالله تبارك وتعالى؛ إذ هو الخالق لهذا الكون، وقد بثَّ لهم من الآيات التي تؤكد هذه الحقيقة ما لا يخفى على عاقل في سمواته وفي أرضه.. في الجبال.. في الأنعام التي خلقها، ودعاهم إلى التأمل فيها، وإلى النظر، وإلى استخدام عقولهم، وبيَّن لهم أنهم لا يمكن لهم إلا أن يَصِلوا إلى نتيجةٍ واحدةٍ وهي أن الله تعالى هو الخالق المدبر الإله الحق المستحق للعبادة.

 

وكانت هذه هي دعوة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-إليهم، لكنهم عطلوا كل هذه الملكات، وأَرِزُوا إلى ما أَلِفُوه من معتقداتٍ باطلةٍ مبنيةٍ على تعطيلٍ للعقول والملكات، هكذا  كان شأنهم في مؤاخاتهم للشياطين وفي تقربهم إلى الخرافات وإيمانهم بها؛ ولذلك كانوا لا يَعقِدُونَ سَفَراً إلا بعد أن يزورون الطير.. لا يَعقِدُونَ لواء حربٍ إلا بعد أن يضربوا بسهام القداح.. لا يقومون بشيءٍ إلا بعد أن يذهبوا إلى العرَّافين والكهنة يسألونهم عن الإِقدام أو الإِحجام.. عطلوا كل ملكاتهم وسَلَّموا أنفسهم وحركتهم في هذه الحياة لهذه الخرافات والأساطير، ولذلك جاء هذا الدين لكي يُصحِّحَ العقيدة، ولكي يُبيِّنَ للإنسان أن إصلاح هذا الكون لا يكون بمثل هذه الأوهام والخرافات، وإنما يكون بصدق الإيمان الداعي إلى استخدام العقول.. المهتدي بنور الوحي.. الذي يرنو إلى تحقيق الصلاح والإصلاح في واقع الحياة.

 

ومن أوجه الإصلاح -نعود إليها لأننا لم نُكمِلها بعد-من أوجه الإصلاح التي دعا إليها هذا الدين الأخلاق والقيم؛ ولذلك ما من تشريعاتٍ من تشريعاته من أوامر أو نواهٍ إلا وهو مُكتَنَفٌ بتشريعاتٍ خُلُقِيَّةٍ تُزَكِّي هذا الإنسان، وتسمو به في مراتب الكمالات الإنسانية فوق حظوظ النفس، وفوق قبضة الطين التي خُلِقَ منها لكي يكون بعد ذلك سلوكه وخُلُقُهُ سلوكاً متناسباً مع نفخة الروح التي أكرمه الله عز وجل بها خُلُقاً يتسامى فوق أغراض هذه الحياة الدنيا، ويترفع عن السفاسف والدنايا، فيَظهَر أثره في هذه الحياة رِفْقاً، وحسن خُلُقٍ للآخرين.. وحسن معاملة للآخرين، ورحمةً تتجلى في كل معاملةٍ من معاملات هذا الفرد، وتعاوناً على البر والتقوى، وتآلفاً بين القلوب، واستلالاً لكل أسباب الحقد والبغضاء والعداوة التي يمكن أن تنشأ بين الناس، وتآلف صَفٍّ وجمع كلمةٍ يعززها  جملةٌ من الأوامر، وجملةٌ من التشريعات التي جاءت صريحةً في كتاب الله عز وجل، وفي هدي رسول الله-صلى الله عليه وسلم-.

 

ومع كون الإصلاح  ظاهراً جلياً في هذا الوجه في ما يتصل بالأخلاق والقيم التي يدعو إليها هذا الدين فإن الإصلاح في الأرض  ظاهرٌ جليٌّ في أحكام هذا الدين، فإن كل أحكامه إنما تدعو إلى الإصلاح؛ لأنها تَقصِد إصلاح النفوس، وتهذيب الطباع، وتزكية الأخلاق، وأن يكون سير الإنسان في هذه الحياة الدنيا على علمٍ وبصيرةٍ، وأن يكون موافقاً لحركة هذا الوجود بأسره الذي يُسبِّح بحمد الله عز وجل {... وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} (الإسراء:44)، فإذاً كل أحكام هذا الدين حينما يَلتَزِمُ بها المسلمون إنما تُحقِّقُ لهم الصلاح في أنفسهم، والإصلاح في هذا الكون؛ لأنها سوف تَنفِي عنهم الفساد والإفساد، وسوف تجعلهم مراقبين لله سبحانه وتعالى.. راغبين في نيل ثوابه.. مبتعدين عن كل ما يؤدي إلى الأذى والضرر والإضرار.. متمسكين في ذلك بنور الله عز وجل الذي أكرمهم به؛ الذي هو القرآن الكريم، ومسترشدين بهدي الوحي الذي خاطبهم به نبيهم محمدٌ-صلى الله عليه وسلم-في سنته القولية والفعلية والتقررية، لأنه مُتَمّمُ الرسالات السابقة، وما من رسولٍ أو نبيٍّ قبله إلا وقد دعا إلى الإصلاح في الأرض.

 

مقدم البرنامج: إذاً هذا كله يحققه الإيمان بالله سبحانه وتعالى، ونحن نرغب  من الإخوة أن يشاركوا في هذا الموضوع، قد تكون هذه المعلومات منضغطة في شكل نقاط، لكن يمكن أن يتم نشرها من قِبَلِ الإخوة الذين يداخلوننا بمداخلاتهم، وخاصةً فيما يتعلق بالفرق بين الإصلاح والصلاح هل هو ترادفٌ أو تقاطع، يمكن  أن يشارك الإخوة في موضوع مُكبِّلات العقل.. العراقيل التي وضعها الإنسان أمام مسيرته في هذه الحياة، وحَرَمَتْهُ بذلك الكثير من الطيبات.. يمكن أن يضرب الإخوة مجموعةً من الأمثلة التي تكون إضافةً في هذه الحلقة.

 

الآن فضيلة الشيخ-وهذا الموضوع في الحقيقة يحتاج إلى الكثير من التفصيلات-هل تقتصر دعوة الإيمان بالله سبحانه وتعالى..-نحن قلنا إن كل مظاهر الإصلاح التي تحدثتم عنها يحققها الإيمان بالله سبحانه وتعالى-طيب الإيمان بالله سبحانه وتعالى هل هو دعوةٌ إلى الإصلاح في الأرض على جانب تصحيح التصورات أو العقائد؟ أم أنها تمتد لتشمل تشريعات أخلاقية واقعية إنسانية؟ أو أنها  تُركِّز على سلوك الفرد بِغَضِّ النظر عن معتقده وتصوره؟

 

الشيخ كهلان: في الحقيقة هي كل ذلك، هي إجماع تصحيح التصورات من خلال الإيمان الحق بالله سبحانه وتعالى واليوم الآخر، وهي  مجموع ما أنزله الله تعالى من تشريعاتٍ تتصل بمعاملات الناس لبعضهم البعض أو بعبادة الفرد لله تبارك وتعالى الخالق الواحد أو كانت من خلال سلوك الفرد خُلُقاً وقِيَماً؛ لكنها لا يمكن أن تكون سلوكاً وقِيَماً أو أحكاماً وتشريعاتٍ دون الإيمان بالله تبارك وتعالى.. حتى تكون الأمور واضحة؛ لأننا قد نجد من يدَّعي أنه يُصلِح في الأرض ويتمظهر بمظاهر الخُلُقِ الرفيع القويم لكنه مشركٌ بالله عز وجل، هذا سوف يمكن أن يقوم ببعض إصلاح لكنه بسبب شركه بالله عز وجل سوف يكون إصلاحه ناقصاً حتى مع سعيه الحثيث، فكيف إذا كان الإشراك بالله عز وجل في حقيقته يكون سبباً للانحراف ولسوء السلوك ولابتعاد الفرد عن الطباع الحسنة الإنسانية الرفيعة التي تَقْبَلُهَا الطباع السليمة! إذ يندر أن يكون صاحب سلوكٍ قويم لكنه مشركٌ بالله سبحانه وتعالى؛ لأن للشرك ظلماتٍ تظهر في سلوك هذا الإنسان لأنه ساعتها سوف تكون وجهته-نقول تكون عبادته في هذه الحالة تَجَوُّزاً-إنما هو لأهواء نفسه ولمصالحه في هذه الحياة الدنيا، ومهما كان له من سعيٍ في إصلاحٍ في هذه الأرض فإنما هو سعيٌ لمصلحته أو لمصلحةٍ خاصةٍ يبتغيها.

 

أما المسلم فإنه يسعى إلى إصلاحٍ عام ولو من خلال إصلاحٍ بسيطٍ في هذه الأرض إلا أنه يَعْلَمُ أن في إصلاحه.. أنه في سعيه في هذه الحياة الدنيا يرضي ربه تبارك وتعالى؛ لأنه يستجيب لنداء الإيمان، ويُسلِّمُ أمره لله تبارك وتعالى، ويُنَفِّذُ تعاليم هذا الدين؛ فلذلك يَظهَر أثر صلاحه لكي يكون بعد ذلك عامّاً، وهذا متصلٌ  بشمولية هذا الدين وعالميته.

 

مقدم البرنامج: هل يمكن أن يكون هذا الإصلاح من المشرك-كما قلتُم يُحقِّقُ بعض الإصلاح-هل يمكن أن يكون مقبولاً مع وجود هذا الشرك؟

 

الشيخ كهلان: أما من حيث قبوله عند الله تعالى فلا شك أنه غير مقبول، أما هو في واقع حياة الناس فإنه لا شك من كان داعياً إلى إصلاح لا شك أنه خيرٌ مِن مَن كان مشركاً لكنه يدعو إلى فسادٍ وإفسادٍ وضررٍ وأذى، ونحن سوف يمكن لنا أن ننظر في الآيات التي وردت مما يؤكد هذا المعنى..

 

مقدم البرنامج: جيد..

ولكنني أردتُ منك فضيلة الشيخ أن توضحوا هذه النقطة لأنني وجدتُ هذا الموضوع مطروحاً في موقعٍ من المواقع: قام أحدهم بعمل خير وهو غير مسلم؛ لكن العمل الإنساني الذي قام به جعل الناس يتناولونه بشكلٍ واسع ويرون أن العمل الذي قدمه يستحق التقدير وبالتالي يستحق الأجر من الله سبحانه وتعالى، كيف يفهم المسلم أن الأعمال التي يقوم بها غير المسلم يُنظَر إليها فقط من زاويةٍ دون أخرى؟

 

الشيخ كهلان: الأعمال التي يقوم بها من لم يرتضِ بالله تعالى ربّاً لا تنفعه في الآخرة؛ لأنه قصَّر في الأساس الذي تقوم عليه هذه الحياة فظلم نفسه هو بما أودع الله تعالى فيه من ملكات وبما ركَّب فيه من فطرةٍ هذه الملكات وتلك الفطرة تدعوه إلى أن يكون مؤمناً موحداً بالله تبارك وتعالى، فإن لم يؤدِّ حق نفسه عليه بإيمانه بالله تبارك وتعالى فإنه لا يمكن أن يَنتَفِعَ بذلك في الحياة الآخرة، وهذه حقيقةٌ ثابتة دعا إليها سائر الأنبياء والمرسلين، والحقيقة أن كل المتدينين أي حتى العلماء في المِلَلِ الأخرى إنما يقولون بهذا فكلٌّ يدَّعي أنه من لم يؤمن بما جاء به نبيه ورسوله فإنه لا يمكن له أن يكون مرضياً مقبولاً عند الله تبارك وتعالى، لكن هذا لا يُنافِي أن يجعل الله عز وجل لمصلحة الناس أسباباً، ومن أسبابها أن يُسخِّرَ بعض هؤلاء لكي يكتشفوا ويخترعوا ويُبدِعوا في العلوم والمعارف التي يَنتَفِعُ منها سائر الناس، لكن ما يتصل بأمر الإيمان بالله عز وجل في ما يُحقِّقُ لهم الرضا من الله تبارك وتعالى والسعادة في الآخرة فلا شك أن الإيمان شرطٌ باتفاق، ولا يمكن لأي أحدٍ أن يحضى بهذه المنزلة إلا إن كان مؤمناً موحداً لله تبارك وتعالى.

 

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ هل تلاحظون أن هناك مشكلة في فهم المسلم عندما يَنظُر إلى مثل هذه الأعمال الإصلاحية، فبدلاً من أن يَنظُر إلى وجود نوازع الخير ووجود رغبة عند هذا الرجل في الخير يَنظُرون إلى العمل نفسه وما يحققه لصاحبه من فائدة، أنا أَضرِبُ على ذلك مثالاً وأطلب منكم التعليق، أم سلمة-رضي الله عنها-عندما أرادت الهجرة لم تجد إلا أبا طلحة، جاء بجمله وأناخ الجمل واستطاع أن يوصلها إلى المدينة دون أن يمسها بسوء، وكان يَغُضُّ طَرفَهُ عنها، فقالت عندئذٍ رجوتُ إسلامه منذ ذلك اليوم، ما رأيكَ؟

 

الشيخ كهلان: هذا يؤكد ما كنا نقوله بأن أيَّ أحدٍ كان لا يَنتَفِعُ من عمله حتى ولو كان عملاً صالحاً إلا بإسلامه.. باستجابته لنداء الإيمان وتلبيته لنداء الإيمان، والله سبحانه وتعالى يبين أن الإشراك به لا يمكن أن يُقبَل معه أيُّ عمل، والله سبحانه وتعالى يقول: {... إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان:13)، فالشرك في ذاته مع أنه يتصل بالنفس لكنه ظلمٌ عظيم، فهو ظلمٌ للنفس وظلمٌ للإنسانية.

 

مداخلة متصل: ذَكَرَ فضيلة الدكتور عن قضية المشرك الراغب في الإصلاح من ناحية قبول العمل أو غيره أو عكس ذلك؛ لكن أطلب من فضيلة الدكتور أن يُوضِّح القضية هذه في حالة المسلم الراغب في الإصلاح ولكن لا يجد في نفسه القدوة الجيدة أو القدوة الحسنة للإصلاح بحيث تنتابه وساوس بأنك أنت غير قدوة وبالتالي لا تَصلُح لأن تكون في عداد المصلحين، كثير من الراغبين في الإصلاح تنتابهم مثل هذه الوساوس.. هي قضية النقص في القدوة.. مُتَلَبِّس بمعاصي أو غيره والعياذ بالله؛ ولكنه ينقطع عن الإصلاح تماماً بهذه الحجة، ويتوارى عن طريق الإصلاح بحجة أنه هو ليس قدوة لأجل أن يُصلِح الآخرين، فإذا يمكن لفضيلة الدكتور أن يُوضِّح أهمية هذا الجانب أو مثلاً تعزيز الجانب النفسي أو الوساوس الداخلية عند المسلم لأجل أن يَنتَصِر على هذا الجانب.

 

مداخلة متصل آخر: الناس ينقسمون إلى قسمين، قسم صالحٌ في نفسه ومصلحٌ لغيره، والقسم الآخر صالحٌ في نفسه غير مصلح لغيره، فالإنسان المصلح للغير هو الإنسان الفعَّال في المجتمع.. الذي ينتفع به مجتمعه وتنتفع به أمته وينتفع به من حوله، فهذا يحتاج إلى إعداد، طبعا الإنسان لا يكون مبدعاً في كل المجالات لكن ينبغي أن يتخصص في شيءٍ معين.. إصلاح اجتماعي.. مرشد.. أو في أي جانب من جوانب الإصلاح الاجتماعي الذي يعود بنفع المجتمع كاملاً؛ حتى يُحَقِّق الغاية المرجوة من الإنسان في الإصلاح والإعمار، والناس تتفاوت في قدراتها وتتفاوت في إمكانياتها؛ لكن بعض الناس يجهل إمكانياته، ويجهل مثلاً قدراته، ففي هذه الحالة يغيّب دوره في المجتمع نتيجة هذا الجهل.

 

مداخلة متصل ثالث: لدي نقطتان لو تكرمت الشيخ:

النقطة الأولى: من عادة الناس أنهم يفرحون عندما يريد شخص أو جهة أو مؤسسة إصلاح أمورهم في أي مجالٍ من المجالات الدنيوية، ويحترمون من يقوم بذلك، ويُقدِّرون له جهده، مثل الأطباء الذين يحاولون نشر التوعية وما شابه نجدهم سرعان ما يُسَلِّمُون لهم وغيرهم على سبيل المثال، لكن في الجانب المقابل نرى فئة من الناس عندما يريد شخص أن يصحح لهم مسارهم غير الصحيح في الفكر أو القول أو العمل أو الدعوة يعتبرون ذلك تدخلاً في خصوصياتهم، ويقولون بأن الدين لم يجعل لأحد رقابة على أحد وحُسْبَة، فيكابرون ذلك المُصلِح ويرددون شُبُهاً يوحيها إليهم هواهم وشيطانهم ويُناقِشون ويُمارُون كثيراً بغير علم، طبعاً انتصاراً لهواهم، فلو كان الدين عند هؤلاء غالياً كغلاء بعض الأمور الدنيوية لما فعلوا ذلك، ولما كابروا من أكبر منهم علماً وأصح منهم فهماً وأعظم منهم منطقاً وأقوى استدلالاً، فما نصيحة الشيخ لهؤلاء الذين يفعلون ذلك بدعوى التجديد والتغيير والإصلاح ومن أجل الضعف الحضاري ومن أجل إزالة مثلما ذكرتَ أنتَ المعوقات التي تقف وراء إبداع العقل وتَقَدُّم الأمة وما شابه ذلك؟

 

النقطة الثانية: توجد آية تتكلم عن الإصلاح وهي قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود:117)، فبعضهم عَلَّق قال: المصلحون لا الفاضحون، فنرجو من فضيلة الشيخ-حفظه الله-أن يركز الحديث حول هذه الآية.

 

مقدم البرنامج: موضوع الأخ المتصل الأول متعلق بالموضوع الذي طرحناه قبل: المشرك الراغب في الإصلاح وتحدثنا عنه، وبينتم التفاصيل المتعلقة به؛ لكن هناك مسلمٌ راغبٌ في الإصلاح لكنه لا يجد في نفسه قدوة، وبالتالي يضطرح كل عمل مُصلِح بدعوى أنه ليس مؤهلاً أصلاً لأن يخرج إلى المجتمع بهذه الأنواع من الإصلاحات.

 

الشيخ كهلان: هنا لطيفة ينبغي الوقوف عندها، وأنا كنتُ لعلي لم أشرحها شرحاً جيداً في أول الحديث، حينما نقول الإصلاح في الأرض فإن ذلك لا يعني أن الإصلاح في الأرض يقتصر على دعوة الآخرين إلى الخير والصلاح، وإنما يبدأ بالنفس، فحسن استقامة الفرد لأوامر الله عز وجل هي في ذاتها إصلاحٌ في الأرض، هي ليست صلاحاً فقط بل هي إصلاحٌ في الأرض؛ ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم يأمر بالاستقامة، والاستقامة في حقيقتها هي الاستسلام لأمر الله عز وجل والانقياد لأوامره والوقوف عن نواهيه، والرسول-صلى الله عليه وسلم-لما جاءه رجل يستنصحه قال: "قل ربيَّ الله ثم استقم"، والله تعالى يقول: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ ...} (هود:112).

 

إذاً استقامة الإنسان في نفسه صلاحٌ وإصلاح، نعم يُطلَب منه أن ينشر هذا الإصلاح.. أن ينشر هذا الخير والهدى، وأن يدعو إليه، وأن يُبلِّغَه للناس، لكنه إن لم يستطع ذلك لأي سببٍ كان فلا أقل من أن يكف أذاه عن الناس، وهذا يؤيده حديثٌ من أحاديث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-في الرجل الذي جاء يسأله عن خير ما يقربه إلى الله تبارك وتعالى، فلما قال له: "إيمان بالله" قال: ثم ماذا؟ قال: "جهادٌ في سبيله" قال: ثم ماذا؟.. حتى إذا ما وصل قال: فإن لم يجد؟ قال: "يكفّ أذاه عن الناس"، والرسول-صلى الله عليه وسلم- يقول: "بحسب امرئٍ من الشر أن يَحْقُرَ أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"، ويقول: "المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده".

 

فإذاً دَعُونَا نتحدث عن هذا الحد الأدنى الذي-للأسف الشديد-لا يعيه اليوم كثيرٌ من الشباب ومن الفتيات فإذا به بسبب تخليه عن إصلاح نفسه يكون سبباً لإيذاء الآخرين، ولجلب الشر للمجتمع، والضرر لأفراد هذا المجتمع، وما كان ذلك بسبب دعوته إلى رذيلةٍ وإنما بسبب وقوعه في الرذيلة، ولذلك كانت الصورة المقابلة هو أن من كان صالحاً في نفسه فإن صلاحه يسري إلى غيره؛ لأن من صلاحه الذي يتحقق به إصلاح هذه الأرض أن يكفَّ أذاه، وأن يَسلَم الناس من شره-من شر يده ولسانه-، وأن يكون مستقيماً على الصراط المستقيم، وعلى ما يدين به لله سبحانه وتعالى، ولا شك أنه إن تخطَّى بعض العقبات وتَمكَّن من أن يدعو إلى هذا الخير وأن ينشر هذا الصلاح فإن ذلك مزيد خيرٍ، ومزيد إصلاح، لكن نحن لنبدأ بدايةً بهذا الحد الأدنى الذي يتحقق بصلاح الفرد في نفسه بحسن استقامته وبكفِّ أذاه عن غيره وبعبادته لله عز وجل-وهذه قضية مهمة -عبادته لله تعالى بالعلم وبالحكمة والبصيرة، مما يعني أن عليه أن يتعلم، وأن يعبد ربه تبارك وتعالى، وأن ينفي عن نفسه الجهل الذي يمكن أن يؤدي به إلى إفسادٍ في الأرض.

 

ولذلك نجد أن الله تعالى في سورة محمد يربط بين عملٍ ونتيجة ونحن نستغرب من هذه النتيجة {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (محمد:22)، هذه العلاقة بين الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم، إذاً هذا جانبٌ عمليٌّ يمارسه الواحد منا ولا يتصور أن صلته للرحم التي هي من استقامته ومن حسن استقامته هي صلاحٌ وإصلاحٌ في هذه الأرض ولذلك كانت قطيعته للرحم إفسادٌ في الأرض.

 

هذه الآصرة التي تكون بين المسلمين.. بين المؤمنين والمؤمنات والله تعالى يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ...} (التوبة:71) ثم يقول: {... إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} (الأنفال:73) إذاً حتى سلوك الفرد الواحد في نفسه يمكن أن يكون باستقامته مجلبةً للصلاح والإصلاح أو ببعده عن الاستقامة وعدم التزامه بمنهج الله سبحانه وتعالى سوف يكون مجلبةً للفساد والإفساد في الأرض؛ ولذلك نحن لا نَقْصُر حديثنا هنا على مسألة الدعوة إلى الآخرين، صحيح أن من معاني الإصلاح في الأرض دعوة الآخرين إلى الخير؛ لكنني قلتُ بدايةً إننا نتحدث عن الإصلاح بمفهومه الواسع العام الشامل، وإنما استثنينا فقط خصوص موضوع الإصلاح بين الناس مع أنه من ضمنه بل هو من أسس الإصلاح في الأرض لكن لأننا خصصنا له حلقتين أو ثلاث فيما أذكر.

 

مقدم البرنامج: طيب نحن قبل أن ننتقل لازلنا في موضوع التشريعات، مكالمة الأخ المتصل الثاني مداخلته تُبيِّن أن الإنسان عندما يكون صالحاً في نفسه فلابد أن يكون مُصلِحاً لغيره وإلا تعطلت ملكاته وجعل المجتمع محروماً من هذا النشاط الذي يمكن أن يقوم به في أمر الإصلاح.

 

الشيخ كهلان: نعم..

نحن نشكره على ما ذكره، وفعلاً مفهوم الإصلاح لا يعني أن يقتصر سعي الإنسان في هذه الأرض على جانبٍ واحدٍ؛ لأن أنواع الإصلاح واسعةٌ شاملة، نحن حينما نتحدث-وكنا نريد أن نصل إلى هذه النقطة-عن الإصلاح في الأرض فإننا نتحدث عن مفردات البيئة التي يعيش فيها هذا الإنسان.. نتحدث عن الموارد الطبيعية التي يحيا بها هذا الإنسان.. نتحدث عن النسل، والمحافظة على النسل الإنساني.. نتحدث عن العِلم الذي يرتقي به هذا الإنسان.. نتحدث عن وسائل المعيشة التي تُسهِّل الحياة لهذا الإنسان، كل هذه هي جوانب مما يدعو إليه هذا الدين لكي يكون فيه الإصلاح والخير والتعاون عليه؛ لأنه من التعاون على البر والتقوى؛ ولأن عكس ما يدعو إليه هذا الدين حينما يتنكب هذا الإنسان عن طريق الهدى والصلاح ويجانب منهج الإيمان بالله سبحانه وتعالى وطريق الأنبياء والمرسلين فإنه لا شك سوف يَنْشُرُ الظلم والبغي والجُوْرِ في هذه الأرض،

 

وأثر هذه الطباع.. أثر الجُوْرِ ومجاوزة الحدِّ من البغي ومن ظُلْمِ الآخرين لا يقتصر أثر هذه المذمومات من الخصال والصفات لا يقتصر على بني البشر فقط مع عظيم خطورة ذلك على بني البشر إلا أن ذلك سوف ينال البهائم العجماوات.. سوف ينال النباتات وكل الأحياء على هذه الأرض، بل سوف يَظْهَرُ الضرر البالغ على الموارد الطبيعية التي يحيا بها الناس، وعلى مفردات هذه البيئة التي يعيشون فيها، وعلى النُّظُم السكانية التي يحيون بها، وعلى المناهج التعليمية وإلى آخره مما تتسع به الدائرة؛ ولذلك كان سعي كل أحد فيما يتصل بأمر الإصلاح إنما هو بحسب ملكاته، وبحسب تخصصه، وبحسب ما يمكن أن يبدع فيه، وما على هذا الإنسان إلا أن يُخلِص قصده لله تبارك وتعالى، وأن يتزود من العلم النافع الذي يعينه على أداء رسالته، وأن يَعلَمَ أن جهده مهما كان صغيراً لكنه بحسن استقامته هو سوف يكون بإذن الله تعالى سبباً للإصلاح في الأرض.

 

وهذا سوف يُذكِّرنا بحادثة في عهد رسول الله-صلى الله عليه وسلم-أي بعض الأعمال التي يمكن أن يرى الناس أن في ظاهرها مَضَرَّةً لكنها تُحقِّقُ مصلحةً أعم أباحها الشارع لأجل تلك المصلحة الأعم لأن فيها إصلاحاً لنظام الكون، نحن نَعلَم في غزوة بني النضير فالله سبحانه وتعالى أَذِنَ لهم قال: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ ...} (الحشر:5) فأمر رسول الله-صلى الله عليه وسلم-بتقطيع النَّخل-وفي رواية بحرق بعض النَّخل-حتى لا تكون سبباً لتقوِّي اليهود الذين نكثوا العهود على المسلمين في حربهم معهم؛ ولذلك أمر رسول الله-صلى الله عليه وسلم-بقطع النَّخل مراعاةً لإصلاحٍ أعظم، فكان ذلك، أما أبو بكر الصديق-رضي الله تعالى عنه-فإنه نهى عن قطع النَّخل وعن التحريق إلا بمقدار  ما يندفع به أذى المُحارَبين.

 

فإذاً قد يبدو في بعض التشريعات-حتى لا يُعتَرَض علينا-بأن في بعض نظام العقوبات في الإسلام شُرِعَ نظام العقوبات لأجل حفظ أمن المجتمع، فأمن المجتمع أولويةٌ أعلى مرتبةً، فلذلك كانت لها التقدمة والأولوية على حساب إيقاع هذه العقوبات بالجُنَاة الذين خالفوا أمر الله سبحانه وتعالى ونشروا في الأرض الفساد، وهكذا يقاس على ذلك جملة من الأحكام الشرعية ومنه استَنْبَطَ أهل العلم قولهم إن شرع الله يكون حيث توجد المصلحة، وقصدهم من ذلك أن في شرع الله مصلحةً وحِكَماً عَلِمْنَاها أو لم نَعْلَمْهَا، فحيث وُجِدَ شرع الله تبارك وتعالى فلنوقن أن هناك مصالح متحققة وما علينا إلا أن نُقِيمَ شرع الله تبارك وتعالى حتى تقام تلك المصالح فينتشر الصلاح والإصلاح في هذه الأرض.

 

مقدم البرنامج: ظهرت لنا المصلحة أو لم تظهر..

 

الشيخ كهلان: ظهرت أو لم تظهر نعم.

 

مقدم البرنامج: نبقى الآن مع هذا الفاصل، ثم نعود لمواصلة الحوار بإذن الله.

 

*********************

{ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ{55} وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف:55-56).

 

مقدم البرنامج: صدق الله العظيم.

فضيلة الشيخ قبل أن نتحدث عن موضوع الإفساد في الأرض وهو المقابل للإصلاح طبعاً نريد تعليقاً على مكالمة الأخ المتصل الثالث، وهو أمرٌ تحدثتم عنه في البداية من موضوع ادعاء الإصلاح من قِبَلِ أصحاب المناهج؛ فالأخ المتصل الثالث يقول: قد يكون أحد الدعاة يأمر آخرين بالإصلاح.. يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ولكنهم يواجهونه ويقولون: إن الإسلام لا يُكرِه أحداً على شيءٍ ولا إكراه في الدين ونحن نأتي بمنهجٍ إصلاحيٍّ من أجل أن يتحرر الناس.. من أجل أن تكون لديهم القابلية في استيعاب معطيات العصر وغيرها، كيف يكون التعامل مع مثل هذه المتناقضات؟

 

الشيخ كهلان: الحقيقة أن هذه الدعوى إما أن تكون من عالمٍ أو من جاهل، فإن كانت من جاهلٍ فإن جهله كافٍ في بيان أنها دعوى باطلة، وإن كانت من عالمٍ أو ممن يدَّعي العِلم فإن من القواعد المتقررة عند أهل العلم أن الأَولى في حق من اتخذهم الناس مصادر لدينهم يتعرفون من خلالهم على أحكام هذا الدين ويُرَدُّ بعلومهم على شبهات الذين يبثون وينشرون الشبهات حول الدين وتشريعاته الأصل فيهم أن يكون حاديهم الأول وواعزهم الذي يَدْعُونَ الناس إليه هو ما هو خيرٌ لهم.. أي ما هو خيرٌ للناس، وما هو أبعد عن الشبهات، وأحوط لهم في دينهم، وأنزه لهم عن الوقوع في محارم الله عز وجل، وأوفق بالأدلة الشرعية التي إليها يستندون، فهي أمانة.

 

ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى قد نعى كثيراً في كتابه الكريم على علماء بني إسرائيل حينما كتموا ما أنزل الله تبارك وتعالى، ونحن حينما نبحث لِمَ كانوا يكتمون ما أنزل الله تعالى من الآيات البينات نجد أنهم ما فعلوا ذلك إلا لأهواء شخصية ومصالح، وما فعلوا ذلك إلا لأجل أن يأكل الناس أموال بعضهم بعضاً بالباطل؛ ولذلك أخذهم الله عز وجل بذنوبهم.. أخذهم بكتمانهم للعلم وعدم بيانهم للحق، أما حقيقة المصلحين فإنهم يُبيِّنون أحكام الله سبحانه وتعالى للناس، ويدْعونهم إلى طريق الهدى والرشاد، ويختارون لهم-وهذه مسألة غاية في الأهمية-ما هو أصلح لهم وأفضل عند الله تبارك وتعالى، أما مسألة أنه يختار لهم ما هو أوفق لرغباتهم ولأهوائهم وشهواتهم فإن هذا لن يكون من أهل العلم المصلحين، إنما إصلاح أهل العلم يكون باختيار ما هو-كما قلتُ-أوفق بالأدلة الشرعية، وأقرب إلى الحزم والاحتياط ولو كان رأي ذلك العالِم أو طالب العلم على خلاف ما يدعو إليه طالما أن الذي يدعو إليه هو الذي يتجلى فيه الصلاح والبعد عن الشبهات والتنزه عن الوقوع في الحرام والابتعاد عن مواضع الخِلاف.

 

ولهذا نهى العلماء عن التلفيق في الدِّين؛ لأن الدِّين هو ما يدين به هذا العبد لربه تبارك وتعالى، وهي أمانة، والعبادة إنما يُقصَد بها وجه الله سبحانه وتعالى المطَّلع على خفايا الأنفس، ولهذا استثنى كثيرٌ من أهل العلم أنه يجوز للعالِم المُفتي المجتهد أن يُفتِي على خلاف ما يراه إذا كان الرأي الآخر أقرب إلى التقوى والصلاح والزهد، وأقرب إلى الورع للناس؛ لأن غايته إنما يريد إصلاح الناس، ولذلك فالذي يمايز بين هذه الدعوات جميعاً إنما هو أولاً لا شك الدليل الشرعي الذي يستندون إليه، من آيةٍ محكمةٍ من كتاب الله عز وجل أو حديثٍ صحيحٍ عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، فإن لم يوجد شيءٌ من ذلك فإما أن يكون من إجماعٍ يُعْتَدُّ به أو أن يكون ذلك من نظرٍ وقياسٍ صحيحٍ مبنيٍّ على أصولٍ صحيحة، وأن يكون ذلك من خلال سلوك هذا العالِم نفسه.

 

فإن العلم لا يؤخذ من العلماء غير العاملين، لأن العلم أمانة كما قلنا، والناس تُسْنِدُ ما يتصل بديانتها من أمر الفروج والأموال والدماء والعُرُوضِ وغيرها إلى أهل العلم، فإن لم يكن عاملاً.. إن لم يكن تقياً في نفسه.. ورعاً بعيداً عن مواضع الشبهات فكيف يُؤمَن على دين الناس؟! فلذلك هذا مقياس لا يمكن أن يُتَغافَلَ عنه، وكثيراً ما أكَّدَ عليه أهل العلم من مختلف المذاهب الإسلامية إن لم يكن العالِم ورعاً في نفسه تقياً صالحاً جعلوا ذلك من خوارمه ومن أسباب جرحه ومن أسباب اضطراحه وعدم أخذ العلم عنه؛ لكن الناس اليوم للأسف الشديد تساهلوا في ذلك، لماذا؟ لأنهم يريدون ما يوافق هواهم، ولو أنهم اختاروا ما يُحقِّقُ لهم الصلاح، لكنهم وجدوا صعوبةً في تَقبُّلِه وفي تطبيقه وتنفيذه فخالفوه، لنفترض جدلاً أنهم خالفوا ذلك لكان الأَولى مع ذلك في حقهم أن يتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى ويستغفروه، وأن يعودوا بعد ذلك إلى سبيل الرشد والصواب، لا أن يُبَرِّروا أفعالهم وأهواءهم وشهواتهم بهذه التبريرات الباطلة التي يُلتَمَسُ لها..

 

مقدم البرنامج: من أنهم يُقَدِّمُونَ منهجاً جديداً..

 

الشيخ كهلان: نعم حتى لا يُفهَم  كلامنا على أنه لا حاجة إلى إعادة النظر في بعض القضايا وإلى تجديد الاجتهاد في ما يواجه المسلمين اليوم من جملةٍ من القضايا الفكرية.. قضايا الحياة اليومية بشتى أنواعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وإلى آخرها والتعليمية والتربوية والنفسية، لكن هذه حينما تُبنَى على الأسس الصحيحة فإنها بإذن الله تعالى سوف تكون محققةً للإصلاح في هذه الأرض، وإذا بُنِيت على تغريرٍ وزيفٍ فإنه لا يلبث أن يزول، وسوف يتحمل هؤلاء الذين يَدْعُونَ الناس إلى هذه الدعوات ويبررون لهم أهواءهم وشهواتهم سوف يتحملون أوزار هذه التصرفات، ويكونون والعياذ بالله ممن يفسدون في الأرض، ونجد أمثلةً من كتاب الله عز وجل {... كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ...} (الأعراف:176)، وما ضربه الله تعالى {... كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ...} (الجمعة:5) إلى آخر هذه الأمثلة.

 

مقدم البرنامج: والحقيقة كما تفضلتم فضيلة الشيخ سيكون هذا العمل وهذا الإصلاح مقبولاً لو كان في إطار المتغيرات؛ ولكن بعض الناس لديهم ولعٌ في موضوع الثوابت والنظر فيها وإعادة النظر فيها.

 

شكراً جزيلاً لكم فضيلة الشيخ على هذا العطاء في موضوع الإصلاح في الأرض، وإن شاء الله تعالى سنواصل هذا الموضوع، ولكن بشكلٍ أوسع، وسنتطرق إلى الكثير من جزئياته وتفصيلاته خاصةً فيما يتعلق بتطبيق الفرد وممارسة الجماعات في المجتمعات، شكراً لكم، ونلقاكم بحول الله تعالى في الحلقة القادمة، إلى ذلك الحين نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

انتهت الحلقة