طباعة
المجموعة: برنامج دين الرحمة
الزيارات: 1943

الإنفاق ج1

بثت في:

14/ ذو القعدة / 1430هـ

2/ نوفمبر / 2009 م

---------------------------------

 

مقدم البرنامج: بسم الله الرحمن الرحيم.

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الجديد لنتناول قيمةً جديدة من القيم الإسلامية الرائعة الرائقة، والتي يحدثنا فيها كالعادة فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي، نطرح عليه مجموعة من النقاط والتساؤلات والأسئلة المتعددة حول القيمة التي نتحدث عنها، ثم نطلب منكم مشاركةً فاعلة حول الموضوع نفسه.

 

وموضوعنا اليوم عن الإنفاق، والإنفاق قيمةٌ وخصلةٌ وصفة المؤمنين في كل مكان وفي كل زمان، تحقق لهم الكثير من الفوائد، وتقربهم من الله سبحانه وتعالى، ويحققون بها لأنفسهم ولمجتمعهم وللناس أجمعين فوائد كثيرة نتعرف عليها بحول الله تعالى في هذا اللقاء وفي هذا الحوار.

 

*********************

أهلاً ومرحباً بكم فضيلة الشيخ..  

 

الشيخ كهلان: حياكم الله، وأنا أحيي  الإخوة والأخوات الذين يتابعون هذا البرنامج، وأرحب بمشاركاتهم ومداخلاتهم، وأسأل الله سبحانه وتعالى في مستهل هذا اللقاء أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه تعالى سميع مجيب.

 

مقدم البرنامج: آمين..

صار بيننا وبين المستمعين انقطاع ربما استغرق مجموعةً من الحلقات، اليوم عدنا لنتناول موضوع الإنفاق، وكعادتنا نطلب منكم الحديث إلى الإخوة المستمعين عن الموضوعات والعناصر التي يتناولها موضوع اليوم، وما هي المجالات  التي يمكن أن يشارك بها الإخوة في حلقة اليوم؟

 

الشيخ كهلان: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد النعمة المهداة والرحمة المسداة، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإن موضوع الإنفاق-كما تفضلتَ-هو من الموضوعات الهامة في هذا الدين التي تتصل بقيمه ومبادئه كما تتصل بأحكامه وبأصول شريعته فقهاً وعملا، وتظهر آثاره وتتجلى حكَمه في واقع حياة الناس أفراداً وجماعات؛ ولذلك كانت لنا هذه الوقفة مع موضوع الإنفاق.

 

وهو موضوعٌ متشعبٌ طويل؛ لكننا سنحاول أن نركز حديثنا فيه على جملةٍ من العناصر:

سوف نتعرض بمشيئة الله تعالى لتناول القرآن الكريم لموضوع الإنفاق؛ ذلك أن من الموضوعات التي كثر طرحها في كتاب الله عز وجل وتم تناولها في مناسباتٍ عديدةٍ وبأوجهٍ متعددة كان موضوع الإنفاق، ونريد أن نمر سريعاً في قراءةٍ متأنيةٍ لكنها غير طويلة حول تناول القرآن الكريم لموضوع الإنفاق.

 

ثم بعد ذلك سوف نخرج إلى استجابة المسلمين في تاريخهم وفي واقعهم المعاصر لذلكم التوجيه الرباني الذي جاء في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-حاثًّا إياهم على الإنفاق والتصدق والبذل والصلة، لنخرج بعد ذلك إلى نظرةٍ إلى واقعنا وما الذي يمنع بعض الناس في هذا الواقع من التأسي بذلكم السلف وبكثيرٍ-بحمد الله تعالى-من الخلف في الاستجابة لنداء الله سبحانه وتعالى بالبذل والإنفاق؟، ما هي العقبات التي تحول بينهم وبين ذلك؟، وهل الإنفاق خاصٌ بفئة الأغنياء فقط أم يمكن لغيرهم حتى من الفقراء أن يكون لهم أجر وثواب الإنفاق الذي يحبه الله سبحانه وتعالى؟.

 

وبالتالي هذه الوقفة بإطلالتنا على هذا الواقع وبتدارسنا مع الإخوة والأخوات الذين سوف يشاركوننا في هذه الحلقة-بمشيئة الله تعالى-حول هذه المشكلات والعقبات والعوائق التي تحول بين بعض الناس وبين التوجه إلى الإنفاق هي التي سوف نحاول أن نعالجها  لنخرج بعد ذلك إلى أمثلةٍ  من الفرص المتاحة الآن في واقع حياة الناس الذي صار واقعاً مليئاً بعمل المؤسسات الذي يكون أكثر تنظيماً وأكثر دقةً وأكثر إحكاماً، وكيف يمكن أن يكون لهذه المؤسسات دورٌ كبيرٌ في تحقيق مقاصد هذه الشريعة التي وردت في موضوع الإنفاق لنذكر بعض الأمثلة-حينما نصل إلى هذا العنصر-من أبواب الإنفاق التي قد يكون البذل فيها قليلاً في قيمته لكنه يمكن أن يكون كبيراً في أثره وفي نتاجه في الدنيا والآخرة بإذن الله تعالى، لنتناول بعد ذلك جوانب أوجه الإنفاق والصدقات التي تمس الحاجة إليها في عالم الناس اليوم بشكلٍ عام، ثم بعد ذلك سوف نحاول أن نختم بالآثار التي تنتج عن الإنفاق والبذل والصدقة والصلة على الفرد في دينه وفي وجدانه وضميره، وعلى المجتمع في احتياجاته، وعلى عموم الناس في واقع حياتهم.

 

مقدم البرنامج: طيب إذاً هذه هي مجمل العناصر التي نتناولها في حلقة اليوم، وأفهم من كلامك هذا أنك تعني الإنفاق بمعنى الصدقة أي لا نتحدث عن الإنفاق الواجب إذاً؟

 

الشيخ كهلان: نعم، لن نتحدث عن الإنفاق الواجب؛ لكننا سوف نتعرض له-بمشيئة الله تعالى-حينما نتحدث عن تناول القرآن الكريم لموضوع الصدقة الواجبة، وسوف نبين أن الإنفاق يمكن أن يكون على وجهين، وأن في المال حقاً كما قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " إن في المال حقاً سوى الزكاة ". 

 

مقدم البرنامج: جميل، إذاً هذا الموضوع-موضوع الإنفاق-موضوعٌ مهمٌ بالفعل كما أشرتم، وبالفعل المسلمون يتميزون بموضوع الإنفاق والصدقة والتكافل الاجتماعي الذي يأتي من خلال هذا الإنفاق، إذا كان هذا الموضوع بهذه الأهمية الكبيرة فلماذا تأخرنا نحن في طرحه إلى هذا الوقت وقدمنا قبله مجموعةً كبيرةً من القيم؟

 

الشيخ كهلان: القيم التي نتعرض لها في هذا البرنامج هي حلقاتٌ في سلسلةٍ مترابطةٍ حلقاتها، فالتقديم والتأخير ليس باعتبار الأهمية، وإنما لاعتباراتٍ أخرى لا علاقة لها بأهمية الموضوع، قد يكون يناسب وقتاً ما أن نتعرض لموضوعٍ معين نظراً لأن ظروف ذلك الوقت تتيح أكثر أن يكون الموضوع مقبولاً، وقد يكون احتياج الناس في وقتٍ من الأوقات لقيمةٍ من القيم أو صفةٍ من الصفات النبيلة الإنسانية التي نتعرض لها في هذا البرنامج هو الذي يدعو إلى أن نتناول ذلك العنوان، فالتقديم والتأخير لا يعني مزيد أهميةٍ لموضوعٍ تقدم، ولا  يعني تقليلاً لأهمية موضوعٍ تأخر، وإنما هي حلقات يكمل بعضها بعضاً.

 

وطالما أكدتُ في هذا البرنامج على أن قيم هذا الدين مترابطٌ بعضها ببعض، ولا يمكن أن تُتَنَاول قيمةٌ دون أخذ باقي القيم، وقد أثبتنا في هذا البرنامج كيف أن هذه القيم والصفات النبيلة ذات الطابع الإنساني العام في هذا الدين يُكمِّل بعضها بعضاً، ويساند بعضها بعضاً بحيث إن الأخذ بها سوف يصلنا بمجموعةٍ من القيم، فنحن اليوم-على سبيل المثال-حينما نتحدث عن موضوع الإنفاق إنما نتحدث عن تزكية هذه النفس، وتخليصها من الشح والهوى، ونتحدث عن السخاء والكرم.. نتحدث عن تفقد حاجات المجتمع، والسعي في تلبية حاجات المجتمع.. نتحدث عن لبنةٍ من لبنات بناء مجتمع المسلمين على أساسٍ متينٍ من القيم والأخوة.. بعيداً عن كل ما يمكن أن يكدر صفاء تلك الأخوة من طبقيةٍ أو عصبياتٍ أو مذهبياتٍ أو غير ذلك.. نتحدث عن مواساة.. نتحدث عن تعاون.. نتحدث عن مجموعةٍ من القيم ونحن نتحدث عن موضوع الإنفاق.

 

نحن بالمناسبة اليوم في الحلقة رقم تسعة وتسعين أي الحلقة ما قبل المائة من سلسلة دين الرحمة، ونحمد الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة؛ لكن لا يعني أن الموضوع الذي يرد في الحلقة رقم تسعة وتسعين هو أقل أهمية عن الموضوع الذي تناولناه في الحلقة الأولى من هذا البرنامج؛ لذلك قلَّما نستطيع أن نجرد قيمة واحدةً ونتناولها معالجةً وطرحاً وتفسيراً وحثًّا دونما تعرضٍ لقيمٍ أو مجموعةٍ من القيم الأخرى.    

 

مقدم البرنامج: نعم، إذاً هي مواضيع متكاملة يُكْمل بعضها بعضاً، وكل واحدٍ فيها يحقق للمستمع الكريم فائدةً عظمى، كعادتنا نبدأ بهذه الآية القرآنية ثم ننساح في الموضوع لنسبر أغواره بإذن الله تعالى.

 

*********************

{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } (البقرة:177).

 

مقدم البرنامج: صدق الله العظيم.

طيب فضيلة الشيخ نحن بدأنا الآن بهذه الآية القرآنية الكريمة التي تحدثت عن موضوع الإنفاق في أوجهٍ متعددةٍ، والقرآن الكريم تناول موضوع الإنفاق في مواضع كثيرة وسياقاتٍ عديدة، الآن نريد منكم تلخيصاً لأهم الملامح التي تناول القرآن فيها الإنفاق من حيث الحكمة، والأهمية، والأثر؟

 

الشيخ كهلان: نعم.

هذه قضية لابد أن ننتبه لها؛ لأن فيها خيراً كثيراً: (كيف تناول القرآن الكريم موضوع الإنفاق؟)؛ لأن السياقات والمواضع التي ورد فيها الإنفاق أمراً به وحثًّا عليه وبياناً لحكمته وبياناً له صفةً يتصف بها عباد الله تعالى الأتقياء المؤمنون كثيرةٌ جداً في كتاب الله عز وجل، وسوف أعلق على هذه الآية التي أنصتنا إليها من سورة البقرة، ثم بعد ذلك نأتي سريعاً إلى تناول القرآن الكريم لموضوع الإنفاق.

 

هذه الآية تبين معنى البر، وقد ورد البر في كتاب الله عز  وجل في أربعة مواضع، وفي موضعين من هذه الأربع اقترن البر بالإنفاق، وسوف نأتي إليها:

الموضع الأول هو هذه الآية { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ..} إلى آخر الآية، والموضع الآخر هو قوله تعالى: { لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ...} (آل عمران:92)، والبر هو سعة الإحسان، وهو ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى بأكمل المعاني والخصال؛ ولذلك البر مساوٍ للإحسان الكامل، ولشدة ابتغاء الخير، وإرادة المعروف، والإحسان الشامل.

 

ولذلك توصف بالبر الأفعال ذات المعاني الجزيلة في الإحسان، فيقال مثلاً: بر الوالدين بدل أن يقال صلة الوالدين مع أنه يقال صلة الأرحام؛ لكن نظراً لقوة الإحسان أو شدة الإحسان المطلوب من الواحد تجاه والديه فعُبِّر عن هذه الصلة ببر الوالدين، وكذلك  مثلاً يقال: الحج المبرور؛ نظراً لأن الحج من شعائر هذا الدين التي تصل هذه الأمة بإبراهيم الخليل-عليه السلام-، فإذاً البر هو بهذا المعنى الذي يراد به شدة إحسان العبد لنفسه بابتغاء مرضاة الله تعالى وبتلقي شرائعه وأوامره.

 

وهنا تبدأ الآية بنفي أنواع من البر، مع أن منها ما هو من البر كما بينت الآية نفسها، والآية وردت طبعا في سياق الرد على أهل الكتاب الذين عَرَّضوا بالمسلمين إثر تحويل القبلة، ومع أن استقبال القبلة.. استقبال الكعبة هو من البر؛ لكن الآية تنفي أن يكون ذلك هو تمام البر وكماله، إذ هذه وسائل والمقصود هو المقاصد والغايات، فما هذه الوسائل من تحويل القبلة ومن استقبال الكعبة ومما بينه الله سبحانه وتعالى في مواضع أخرى من كتاب الله عز وجل إلا وسائل.. طرق تُبلِّغ العبد إلى غاياتٍ مقصودةٍ لذاتها؛ ولذلك فإن استقبال القِبلة مثلاً يسقط في حالة العجر.. في حالة المرض.. في حالة عدم الإمكان؛ لكن لا تسقط الصلاة.

 

وكذلك الآية فيها ملحظ إلى ما ينبغي الاشتغال به حتى لا ينصرف الاشتغال إلى الوسائل دون المقاصد، فالآية تؤكد على أن من كمال بر الإنسان المسلم أن لا يقصر اشتغاله على الوسائل، فمع اشتغاله بالوسائل لا ينبغي له أن يفوِّت عن ناظريه بلوغ الغايات والمقاصد التي هي تقوى الله سبحانه وتعالى.

 

ثم تأتي الآية بعد ذلك لتبين معاني هذا البر، وهي معاني جليلة، تبدأ من الإيمان بالله تبارك وتعالى، والإيمان باليوم الآخر، وبكل أركان الإيمان: الملائكة والكتاب والنبيين، وعقب تقرير أن البر لا يكون إلا بحسن الإيمان وصدقه يأتي مباشرةً ما يتصل بالإنفاق، لم يأتِ أمر الصلاة ولم يأتِ أمر الفرائض الأخرى وإنما جاء أمر الإنفاق {... وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ ...}، ثم بعد ذلك قال: {... وَأَقَامَ الصَّلاةَ ...} وقال مرة أخرى: {... وَآتَى الزَّكَاةَ ...} فتكرر ذكر المال مرتين؛ ولذلك استنبط كثيرٌ من أهل العلم أن إيتاء المال المقصود في صدر الآية هو غير إيتاء الزكاة، وبذلك استنبطوا أن في المال حقاً سوى الزكاة.     

 

مقدم البرنامج: {... عَلَى حُبِّهِ ...}.

 

الشيخ كهلان: نعم، وسنأتي إلى هذه النقطة  {... وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ...}.

لكن بعد ابتداء ذكر خصال هؤلاء الذين يتصفون بكمال البر وتمامه التي صُدِّرت بعد الإيمان بالإنفاق وكذلك خُتِمت بالإنفاق بالزكاة جاءت صفاتهم الخُلقية الأخرى {... وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ ...}، ثم يقول الله تبارك وتعالى: {... أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }، إذاً هؤلاء الذين اجتمعت فيهم هذه الصفات ومنها إيتاء المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، هؤلاء هم الذين صدقوا وهؤلاء هم المتقون.

 

وهذه المعاني نجدها متكررةً في كتاب الله عز وجل؛ فالقرآن يقر الفطرة التي فطر الله تعالى عليها الناس { وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً } (الفجر:20)، ويقول هنا: {... وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ...}؛ لكن مع إقراره بهذه الفطرة فإنما الذم يكون للشح والهوى، والمطلوب من المسلم أن يتخلص من هذه الخصال، فيعلم بعقيدة الإيمان التي تكون الباعث وراء إنفاقه وبذله في سبيل الله عز وجل أن هذا المال إنما هو مال الله عز وجل وهذا العبد مستخلف فيه، وبالتالي فإنما عليه أن ينفق حيث أمره الله سبحانه وتعالى بالإنفاق، ولو كان ذلك مناقضاً لهوى نفسه ولحبه للمال الحب الجمَّ الكبير، وهكذا يؤجر على إنفاقه، وهكذا يتخلص من هوى هذه النفس، ويتخلص من شحها، وينال الأجر العظيم عند الله سبحانه وتعالى.

 

مقدم البرنامج: طيب فضيلة الشيخ الآن {... وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ...} تَوسَّطَ أركان الإيمان ثم بعد ذلك جاءت أركان الإسلام، هل هذه الصفات على كل حال هي صفاتٌ تكاملية يراد توفرها في المسلم أم أن في تقديم بعضها وتأخير البعض اشتراطات معينة؟

 

الشيخ كهلان: لا شك أن العطف بالواو يفيد لغةً مطلق الجمع؛ لكن كما يقول أهل العلم إن في تقديم الذِّكر إعلاءً للشأن، وبالتالي هذا يدل على أن هذه الخصلة التي يلفت القرآن الكريم المؤمنين إليها دليلٌ على عظيم منزلتها، ولننظر نحن في كتاب الله عز وجل حتى نستعرض سريعاً: أصلاً بداية سورة البقرة ورد فيها موضوع الإنفاق بأسلوبٍ يُفهَم منه أن المقصود هو عدم حصر الإنفاق في موضوع الزكاة الواجبة، فالله تعالى يقول: { الم{1} ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ{2} الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } (البقرة:1-3)، ثم بعد ذلك قال: { والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ{4} أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (البقرة:4-5)، ونجد مثلاً في سورة الأنفال: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ{2} الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } (الأنفال:2-3) لم يذكر إلا هاتين الصفتين بعد ذكر صفة الإيمان وأن قلوبهم وجلة من ذكر الله تعالى، بعد ذلك قال: { أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً ...} (الأنفال:4).

 

مقدم البرنامج: إذاً موضوع الإنفاق حاضرٌ مع أركان الإيمان ومع أركان الإسلام.

 

الشيخ كهلان: أحسنت، ومع  القيم والأخلاق حينما يكون السياق سياق ذكر قيمٍ وأخلاقٍ نبيلةٍ، وكما سنأتي إن شاء الله.

 

مداخلة متصل: لدي بعد النقاط لو تكرمتَ:

النقطة الأولى: عندما يُتحدث عن موضوع الإنفاق كثيراً ما ينصرف التفكير إلى الإنفاق في الأمور العبادية البحتة، أما الإنفاق في الأمور الأخرى والتي يسمونها بالدنيوية فقليل، وإن حدث فيها الإنفاق فيُظَنُّ أن أجرها أقل من الأولى، فأنا أتمنى من الشيخ أن يعلق على هذه النقاط التي أذكرها.

 

النقطة الثانية: من الناس من يبالغ في الكرم حتى يصل إلى حد الإسراف؛ لكن ما لم يبادله الآخرون ذلك ربما يصفهم بالبخل، كذلك من الناس من يكثر الإنفاق في مجال خيرٍ معين، وعندما لا يرى الآخرين ينفقون في ذلك المجال يعتب عليهم، وربما شكك في نياتهم أو فيهم، وربما هؤلاء كانوا ينفقون في مجالاتٍ أخرى أهم!! و هل يُطالَب من الإنسان أن يكون حسيباً على الناس وكأنه مسؤول عن الناس وفيما ينفقون؟ أم هذا بين الإنسان وربه؟!

 

من ضمن النقاط : بعض الناس يكتسبون المال دون مراعاة للضوابط الشرعية في هذا الكسب؛ ولكنهم ينفقون في مجال من مجالات الخير، ويظنون أن ذلك يقربهم إلى الله زلفى، ويعذرهم من كسبهم المحرم؟!  الإنفاق يحصر في المال ألا توجد مجالات أخرى؟

 

كذلك نرى الكثير من المؤسسات والأشخاص تنفق أموالاً طائلة بلا حساب في أمورٍ قد لا تعود بالنفع على الوطن، بل قد تؤدي إلى الإضرار به وبأخلاقه وقيمه وطاقاته، في حين تضن بالإنفاق ولو بالقليل من هذا المال في مجالات الخير، فما نصيحة الشيخ؟ وكذلك الإنسان بعض الأحيان عندما يملك نعمة-وخاصة المال-ويكون حر التصرف فيها فإذا أنفق فذلك مجرد فقط تفضل منه، كذلك الإنسان عندما ينفق في أمور تتعلق بنفسه لا يجد غضاضة في ذلك بينما لو أنفق في أمور متعلقة بالآخرين أو بالناس الآخرين يجد من أصعب الصعب ذلك، وإن أنفق يسيراً استكثره، كيف يمكن للإنسان أن يعالج هذا الأمر؟

 

مقدم البرنامج: جميل..

هي عادتنا أخي أننا نريد من المتصل أن يشاركنا ببعض رأيه في موضوع الإنفاق، ليس بالضرورة أن تكون المشاركة في شكل أسئلة فقط أي يمكن أن تبدي أنت ملاحظةً معينةً أو وجهة نظرٍ معينة حول الموضوع نفسه؛ لنتشارك نحن وأنتم في هذا الموضوع، فتأتي فائدة منكم يعلق عليها الشيخ كذلك.

 

طيب أردت أن أسألك فقط في النقطة الأولى: الإنفاق في الأمور العبادية وليس في الأمور المادية هل يمكن أن تضرب مثالاً على ذلك؟

 

المتصل: الكثير من الناس ممن أعرفهم كل سنة تذهب إلى الحج؛ لكن لو تأتي تسأله ربما ريالاً واحداً فقط كم يخرج قلبه مع ذلك الريال!! هذه كثيراً ما نراها، كذلك الكثير من الناس لو مثلاً دعي إلى مشروع علمي أو مثلاً دورة تدريبية متعلقة بالأمور والنجاح وهكذا تجده لا يهتم كثيراً؛ لكن لو دعي مثلاً للإنفاق على فطرة صائم.. -وطبعا هذا أمر حسن لا شك فيه-؛ لكن أنا أدعو إلى التنوع .. الموازنة بين الأمور ما تسمى بالدنيوية-إذا صح التعبير-والأخروية، كذلك بعض الأحيان تجد الكثير من الناس ربما ينفق على من يراهم يحتاجون إلى المال؛ لكن مثلاً لشراء كتب ونشرها وتوزيع الأشرطة لا يتشجع كثيراً لذلك، كذلك المراكز الصيفية، نواجه مشكلة في هذا الأمر.

 

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ نحن نتحدث لازلنا في موضوع تناول القرآن الكريم للإنفاق والصور التي جاءت فيه؛ ولكن كما قلنا في البداية نريد ملخصاً فقط.

 

الشيخ كهلان: نعم..

نجد أن الإنفاق يأتي مأموراً به في سياقات تدعو إلى التأمل والنظر، في بعض السياقات حينما تكون الدعوة إلى أهم الأعمال التي تنجي هذا العبد وتبلغه المنازل العالية في الدار الآخرة نجد أن الإنفاق يتصدر الصفات، يقول الله عز وجل: { وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ{133} الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (آل عمران:133-134)، ثم بعد ذلك ذكر بقية صفاتهم، أول ما ذكر من صفات هؤلاء المتقين الموعودين بجنةٍ عرضها السموات والأرض وبمغفرة من ربنا تبارك وتعالى الغفور الرحيم قال: { الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ...}.

 

ونجد مثلاً أن الله سبحانه وتعالى يعتبر الإنفاق في وجوه البر المختلفة-وهذا مما ينبغي أن يُتأمل فيه-يعتبره القرآن الكريم قرضاً لله عز وجل يسميه هكذا، فالله تعالى يقول في كتابه: { إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ } (التغابن:17)، وهذا يقوله في سياق الأمر بالإنفاق: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{16} إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ ...} (التغابن:16-17)، وكثيراً ما نجد هذا المعنى: { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ...} (البقرة:245).

 

نجد هذا السياق  مما يدعو إلى التأمل والنظر، الشيخ سيف وبقية المستمعين أنا أريد أن ألفت  عناية المتأملين إلى معنى لطيف:

آيات الإنفاق في سورة البقرة أكثر ما وردت وتتابعت هي في الآيات من مائتين وستين إلى مائتين وسبعين، الآية رقم مائتين وستين هي قصة إبراهيم الخليل { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (البقرة:260)، الآن بعد هذه الآية مباشرةً يأتي الانتقال إلى الإنفاق.

 

أليس في هذا الانتقال دلالة على أهمية الإنفاق؟!! أي بعد هذا الموقف الذي تتجلى فيه قدرة الله سبحانه وتعالى لخليله إبراهيم-عليه السلام-بتلبية طلبه لكي يزداد طمأنينة بإيمانه فيرى كيف يحيي الله تعالى الموتى ويريه الله عز وجل هذه الآية يأتي موضوع الإنفاق { مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } (البقرة:261) الآية رقم مائتين وواحد وستين.

 

ثم يتسلسل الحديث عن صفات هؤلاء الذين ينفقون، وما هي النفقة المقبولة، والتحذير من المن والأذى، ثم يتكرر موضوع مضاعفة الله سبحانه وتعالى لمن ينفق ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى، وتشبيه من ينفق ابتغاء مرضاة الله بالجنة ذات الربوة، وضَرْب المثل ببقاء ثواب هذه الصدقات وهذا الإنفاق بالحرز والوقاية لهذا المتصدق ولذريته من بعده بهذا المثل { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } (البقرة:266).

 

ويأتي التأكيد مرة أخرى على الإنفاق { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ{267} الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } (البقرة:267-268)، ليكون ختام الآيات هذا السياق { يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } (البقرة:269).

 

هذا الربط بين الإيمان في صدر الآيات ثم الإنفاق ثم إيتاء الحكمة له دلالة عميقة أن هذا التجرد من شح هذه النفس ومن أثرتها ومن حبها الجم للمال ببذل هذا المال موقناً هذا الباذل وهذا المنفق أن هذا المال إنما هو هبةٌ من الله سبحانه وتعالى وأن ربه تبارك وتعالى قادرٌ أن يسلبه إياه إن لم يؤد حقوقه فيه في أي وقت كان ليكون كمن ترك ذريةً ولها جنانٌ وأنهارٌ لكن أصابها إعصارٌ فاحترقت فما انتفعوا به.

 

وهذا الذي يصل إلى هذه المرحلة هو الذي يورَث الحكمة.. هو الذي يفتح الله سبحانه وتعالى له أبواب الحكمة والعقل والأناة وكل الخصال الحميدة التي يحبها الله سبحانه وتعالى ليأتي السياق بعد ذلك مؤكداً لهذا المعنى أي بعد هذه الآية يأتي { وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ ...} (البقرة:270) مرة أخرى يعود إلى موضوع الإنفاق { وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ{270} إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ...} (البقرة:270-271)-إلى آخر الآيات التي يمكن أن يُرجع إليها من الآيات مائتين وواحد وستين إلى مائتين وأربعة وسبعين من سورة البقرة-؛ لتتأكد هذه الحقيقة أن الإنفاق في سبيل الله عز وجل هو من الخصال التي يحبها ربنا تبارك وتعالى، والتي تنجِّي صاحبها في الآخرة، والتي يظل ثوابها وأجرها ممتداً، والتي يحرز الله عز وجل بها حتى ذرية هذا المنفق وخلفه من بعده، والتي تورث هذا المنفق من الخصال أكملها وأجملها وهو إيتاء الحكمة بحيث يضع الشيء في موضعه، ويدرك حقيقة هذا المال الذي أعطاه إياه ربه تبارك وتعالى، ويتخلص من أشد ما يمكن أن يطغى بهذه النفس حينما تستغني.  

 

مقدم البرنامج: طيب فضيلة الشيخ كأن الآية إذاً-كما قلتم-تقول للناس: أنفقوا فأنتم مبعوثون، لا يوجد هناك الآن شكٌ في مسألة البعث؛ لأن مثال إبراهيم-عليه السلام-وقبله عزير إذاً فلقاء الله تعالى يحتاج إلى هذا القدر الكبير من الإنفاق.

 

فضيلة الشيخ بقي هنا سؤالٌ مهمٌ في هذه القضية: السلف الصالح-رضي الله عنهم-كانوا يضربون أروع الأمثلة في الإنفاق، ويستجيبون لمثل هذه الآيات-التي وضعتَ أنت بعض حِكَمِها للمستمع الكريم من خلال ملاحظتك في توسط الإنفاق بين موضوع الحكمة وموضوع البعث-، كانوا يستجيبون لهذه الأوامر وتمتد أيديهم في كل لحظةٍ للفقراء والمساكين وأوجه الخير، كيف كانت هذه الاستجابة؟ وكيف هيأوا أنفسهم لمثل هذه الاستجابة قبل كل شيء؟!

 

الشيخ كهلان: أولاً لما علموا أن الله سبحانه وتعالى هو رازقهم، وأنه مالك كل شيء، وأن بيده الإعطاء والسلب.. بيده الإعطاء والمنع، وبيده الرفع والخفض-جل وعلا-، وأن سعادتهم في الدنيا ونجاتهم في الآخرة إنما تكون بامتثال أمر الله تبارك وتعالى، فهذه الشحنة الإيمانية وهذا الفهم الصحيح الواعي لحقيقة الدنيا وحقيقة ما يورثه الله تعالى لعباده هو الذي مكنهم من أن يبادروا ويستجيبوا لنداء الله تبارك وتعالى.

 

وقبل أن أستشهد بالسلف لأستشهد بالخلف؛ حتى أجيب على  النقطة التي ذكرها الأخ المتصل-بارك الله فيه-وهي مسألة أن يظن بعض الناس أن الإنفاق إنما هو في الأمور التعبدية البحتة كبناء المساجد أو ما يتصل بكتاب الله عز وجل أو ما يتصل بالذهاب لأداء نوافل الحج وغير ذلك من وجوه العبادات دون غيرها مما فيه إعمارٌ للدنيا، أنا سأذكر لكَ أمثلةً من أوقاف أهل عمان.. الأحباس التي أوقفها أهل عمان.

 

مداخلة متصل آخر: دكتور حقيقةً قضية الإنفاق قضية مهمة جداً، والذي أرى أنه من الأهمية بمكان أن يركَّز عليه وهي قضية أن الناس يتعارفون فيما بينهم بالتعارف الدنيوي أن الإنفاق هو نقصٌ للمال، فلو أنني لدي عشرة آلاف وأنفقت منها ألف ريال بقي تسعة آلاف؛ لكن في معنى الإنفاق ومعنى إنفاق المال عند الله سبحانه وتعالى هو ليس تسعة آلاف وإنما عشرة آلاف وألف أي أحد عشر ألف ريال عماني-بالريال-، إذاً النقص في الإنفاق لا يعتبر نقصاً، إنما هو يعتبر زيادةً ونماء، وهذا هو الذي يضع الناس في الموضع المادي الدنيوي-للأسف الشديد-أنهم يتعارفون أن الموضع المادي هو النقص وليس الزيادة، أرجو من فضيلة الدكتور أن يركز على هذه النقطة، وبارك الله فيكم.

 

مقدم البرنامج: شكراً جزيلاً أخي على الإضافة القيمة، والتي-بإذن الله تعالى-سيمتد فيها تعليق من فضيلة الشيخ، الآن تضربوا لنا مثالاً عن بعض أنواع الأوقاف.

 

الشيخ كهلان: كما قلنا مثال من الخلف قبل أن نعود إلى السلف، وكثيراً ما يستشهد بالسلف بعد أن يستشهد بالخلف، من الأوقاف التي وُجدت عند أهل عمان ما هو أوقافٌ للطيور.. لتربية الطيور، ليس فقط في عمان بل مثلاً لحَمَام الحرم هناك أوقافٌ خاصةٌ من نتاج الحبوب في مزارعهم التي وقفها أصحابها لكي تكون غذاءً لحَمَام الحرم، الآن هذا إنفاقٌ لبهيمةٍ عجماء، هذا إنفاقٌ في وجهٍ لا يتصور الواحد فيه الجانب التعبدي المحض الذي يظنه كثيرٌ من الناس.

 

توجد أوقاف هنا مثلاً جبر خواطر الغلمان الذين يكسرون الآنية، هناك أوقاف لهذا الغرض.. هذا الملحظ النفسي!! كيف كان التنافس على الخير والتسابق إليه أنهم يتفقدون حتى مثل هذه الاعتبارات النفسية التي يحتاج إليها المجتمع، هناك أوقاف لاحتياجات الفقراء في المجتمع، إذا جاءهم ضيوف، هناك أوقاف ما نسميه نحن بـ(المراجل) واللوازم لإعداد الطعام لضيوف الفقراء في البلدة؛ بحيث إذا أتى ضيفٌ على فقير ولا يجد هذا الفقير ما يُكرِم به ضيفه فإن له حقاً في هذه الأوقاف، ثم هناك أوقاف لصيانة هذه المراجل أي هذا أوقف مراجل ومواد غذائية للفقراء وإذا بالآخر يوقف لصيانة هذه المواد وصيانة هذه الأدوات (القدور التي يُعَدُّ فيها الطعام)، هناك أوقاف ما هو أشبه بالفنادق الآن-نُزل لعابري السبيل-، هناك أوقاف لإنارة عموم طرقات المسلمين، بعض الناس يقول لإنارة المساجد فقط أو إنارة المقابر فقط.. لا، لعموم طرقات المسلمين.

 

مقدم البرنامج: هذا كان في عمان؟

 

الشيخ كهلان: الأوقاف هذه موجودة وموثقة.

هناك-طبعا هذه كثيرة-الأحواض التي تستقي منها البهائم في الصحراء، أحواض بأوقاف لأجل البهائم فقط!! إذاً الإنفاق لا يقتصر على وجوهٍ معينةٍ، طبعا ما يتصل بالمستشفيات والمرضى وطلبة العلم وطباعة الكتب والزيت الذي تضاء به المدارس والمساجد ودور العلم هي غايةٌ في الروعة.

 

موضوع المستشفيات في التاريخ الإسلامي عموماً كانت المستشفيات في أغلبها قائمةً على الأوقاف أي طُوِّرت هذه الفكرة، كانت المدارس وحلقات العلم قائمةً على الأوقاف، كان تمويل طلبة العلم-ليس العلم الشرعي-أولئك الذين يَدرُسون الرياضيات ويَدرُسون الفلك ويَدرُسون الطب وغيرها من العلوم كانت لهم أوقاف تكفيهم، هناك مجالات-كما قلنا-للمحتاجين في المجتمع كعصي العميان، تجد نماذج رائعة من الأوقاف التي بادر إليها المسلمون، وهذا موجود في سائر المجتمعات، قصر الأوقاف التي هي من أبرز وجوه الإنفاق التي يدوم نفعها ويستمر ثوابها لأنها من الصدقات الجارية نجد أمثلةً كثيرةً جداً، وكانوا يتسابقون إلى أن يكون الإنفاق من أحسن أموالهم.. من أفضل أموالهم، وفي هذا تأسي؛ لذلك نعود الآن إلى السلف مثلاً قصة أبي طلحة.

 

مداخلة متصل ثالث: فقط عندي نقطة ذكرها الشيخ على مسألة ذِكر جميع أنواع الإنفاق: يركز الناس على أن إنفاقك في المسجد أو في غير ذلك من الأمور التعبدية أكثر أجراً وثواباً، فهل هناك تساوٍ في الأجر والثواب أم أن الأمر مطلق؟

السؤال الثاني: ما الحكمة بأن القرض ثوابه وأجره ضِعْفَ الإنفاق؟

كذلك السؤال الثالث: في قصة أبي بكر الصديق عندما سُئِلَ لماذا أنفقت مالك كله-في غزوةٍ غزاها الرسول-فقالوا له: ماذا تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله، فهل إنفاق المسلم لماله بهذا الشكل فيه إسراف؟ والأمر الآخر: إذا اقتدى بسيدنا أبي بكر الصديق على أنه ينفق جميع ماله ولا يترك لأهله شيئاً فهل يوجد بأس في ذلك؟

 

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ أنت تذكر الآن قصة أبي طلحة، وبعد ذلك سنتناول أسئلة المتصلين.

 

الشيخ كهلان: طيب-إن شاء الله تعالى-سنختصر نعم..

كان أبو طلحة أكثر الأنصار مالاً بالمدينة من نخلٍ.. من زرعٍ، وكانت له مزرعة هي من أحب ماله إليه اسمها بيرحاء، وكان النبي-صلى الله عليه وسلم-يدخلها ويشرب من مائها؛ لأنها كانت مستقبلةً مسجد رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، قال أنس-راوي الحديث-: (لما نزلت هذه الآية { لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ...}  قال أبو طلحة: إن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها لصدقةٌ لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال له رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " بخٍ بخٍ، ذلك مالٌ رائح، يروح بصاحبه إلى الجنة، وقد سمعتُ ما قلتَ، وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين "، قال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه).

 

هكذا كانت استجابة هؤلاء لتلكم النداءات الربانية فور نزول هذه الآية: { لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ...} اختار أحب أمواله إليه، وإذا برسول الله-صلى الله عليه وسلم-يقبل منه صدقته تلك ويبشره بالجنة، لا ريب لا مقارنة بين مزرعةٍ حبيبةٍ إلى النفس يدفعها صاحبها صدقةً لوجه الله تعالى لينال بها بعد ذلك الجنان العالية؛ لكن هذا الإخلاص وهذا التوجه وهذه الطاعة.. هذا الإقبال والمبادرة هي التي أهلت أبا طلحة لكي يبشره رسول الله-صلى الله عليه وسلم-بهذه البشارة " بخٍ بخ، ذلك مالٌ رائحٌ، يروح بصاحبه إلى الجنة ".

 

وهكذا نحن نبشر كل من تجود نفسه ويسخو بما في يده مما يحب فيجعله صدقةً لله عز وجل ينتفع بها أقاربه.. ينتفع منها المجتمع فإن هذه البشارة لا ريب بالإخلاص لله سبحانه وتعالى سوف تطاله ، وهكذا كان من الجميع عمر بن الخطاب نعرف قصته في الأحباس التي أوقفها ، وكذلك إنفاق أبي بكر الصديق الذي أشار إليه الآن الأخ المتصل الثالث، وهكذا كان صحابة رسول الله، السيدة عائشة كانت تتصدق بالأموال الطائلة ويقال إن في ثوبها خمسين رقعة.

 

مقدم البرنامج: الآن نأتي إلى الأسئلة هكذا على وجهٍ سريع: الأخ المتصل الأول يقول هناك من يبالغ في الكرم حتى يصل إلى حد الإسراف-كما يقول-، بل إن أولئك الذين يكرمهم ويبالغ معهم في موضوع الكرم عندما لا يبادلونه ذلك يقتر عليهم فيما بعد؟

 

الشيخ كهلان: نعم، أولاً هو نقطتان ذكر: الإنفاق الذي نتحدث عنه لابد أن يكون بعيداً عن الإسراف كما أنه لابد أن يكون بعيداً عن التقتير، فالله تعالى يقول: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } (الفرقان:67)، هذا هو منهج الإسلام هو اعتدالٌ ووسطيةٌ حتى في أمرٍ حبيبٍ إلى الله سبحانه وتعالى فلا إسراف ولا تقتير.

 

لكن النقطة التالية التي ذكرها وهي تتصل بسؤالٍ كنا قد أعددناه: وجوه الإنفاق كثيرة وهي غير محصورة ولا يمكن حصرها؛ لأن الناس يتفقدون حاجات المجتمع، والمسلم ينبغي له أن يتحسس احتياجات المجتمع فيسعى لملء هذه الاحتياجات قدر المستطاع بما تجود به نفسه، وبالتالي لا ينبغي أن يعتب بعضنا على بعض في اختيارنا لوجوهٍ من وجوه البر والصدقات التي يحتاج إليها المجتمع بحيث يطلب الواحد من أخيه أن يكون إنفاقه في وجهٍ واحدٍ يرى هو أنه الأفضل والأصوب-ونحن نحمله على ذلك-قد يرى هذا غير ذلك، فلا حرج في ذلك، ولا ينبغي أن يكون هناك عتبٌ خاصةً في فضائل الأعمال، بل ينبغي أن تبنى على السعة، فهذا ينفق مثلاً في بناء المساجد وتعميرها، وهذا ينفق في تعليم طلبة العلم، وهذا ينفق في خدمة كتاب الله عز وجل، وذلك في إصلاح الطرقات، وهذا في المستشفيات وعلاج المرضى، وهذا في سائر مناحي ووجوه متطلبات المجتمع التي تحتاج إلى إنفاق.

 

مقدم البرنامج: طيب الأخ المتصل الأول  في سؤاله الرابع يرى ازدواجيةً عند بعض الناس في كسب المال وإنفاقه.. يكسب المال من دون مراعاةٍ للضوابط الشرعية؛ ولكنه ينفق!

 

الشيخ كهلان: نقول بأن ما كان فيه من خصال الخير ينبغي أن ينمَّى عند أي أحدٍ كان، وما كان من خصال سوء فينبغي أن يُنْصَح لكي يَتَخَلَّصَ منه، وإذا كان عبدٌ من العباد يشوب في كسبه مالاً حراماً فينبغي له أن يتخلص من ذلك الكسب المحرم؛ لكنه لا يُمنع من الصدقة إن كان من كسبٍ آخر، أما إن كان من المال الحرام فإن سبيل المال الحرام أن يُرَدَّ إلى أصحابه، فإن كان أصحابه غير معلومين فإنه ينبغي أن يُدفع إلى الفقراء بنية التخلص لا بنية الصدقة، هذا خلاصة جواب هذه المسألة.

 

مقدم البرنامج: جميل..

ليس صحيحاً إذاً ما يظنه بعض الناس أن هذا المال وإن كان جاء من طريقٍ غير مشروع لكن إنفاقه يغفر موضوع الكسب الحرام.

 

الشيخ كهلان: لا، ليس كذلك؛ لأن الكسب المشروع "إن الله لا يقبل إلا طيباً"، وينبغي أن يكون الكسب مشروعاً حتى يُنفَق منه، أما المال غير الطيب كما ورد في بعض الروايات "الخبيث" فهذا ينبغي أن يُتخلص منه، الآن سبيل التخلص منه إن كان هذا المال مغصوباً أو كان سرقةً أو كان أكلاً للربا ينبغي أن يرد إلى أصحابه إن كان أصحابه معلومين، فإن كان أصحابه غير معروفين ولا يُعرَف ورثته فإنه ينبغي أن يُتخلص منه بدفعه إلى الفقراء بنية التخلص لا بنية الصدقة والنفقة.

 

مقدم البرنامج: نعم.

ركز في نقطته الأخيرة على موضوع بعض المؤسسات التي تنفق أموالاً في أمورٍ ليست ذات جدوى أي لا تحقق نفعاً للمجتمع، كأن يكون إنفاقاً مثلاً على حفلةٍ ساهرةٍ لا تحقق للحاضرين ولا تحقق للمجتمع شيئاً من النفع.

 

الشيخ كهلان: لا، هذا يغضب الله سبحانه وتعالى، وقد يُعرِّض صاحبه-والعياذ بالله-لغضب ربنا تبارك وتعالى؛ لأن هذا من إضاعة المال، والنبي-صلى الله عليه وسلم-نهى عن قيل وقال، وعن إضاعة المال، فهذا مما يغضب الرب تبارك وتعالى، ولا نفع فيه لا لصاحبه ولا للمجتمع، وإنما فيه-والعياذ بالله-محاربة لله ورسوله، وفيه حمل للأوزار، فينبغي للمسلم أن يتجرد من ذلك، وأن يُخلص قصده لله عز وجل، وأن يختار المواضع التي ترضي الرب تبارك وتعالى.

 

مقدم البرنامج: النقطة التي ذكرها الأخ المتصل الثاني نقطة مهمة جداً.

 

الشيخ كهلان: باختصارٍ نعم كلامه في محله، وأنا أحيل المستمعين الأكارم إلى التأمل في قول الله تبارك وتعالى: { يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ...} (البقرة:276)، وإلى قول رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " ما نقص مالٌ من صدقة "، وإلى قوله: " ادفعوا البلاء بالصدقات "، وإلى قوله-صلى الله عليه وسلم-: "داووا مرضاكم بالصدقة".

 

مقدم البرنامج: نعم.

ونحن نريد ضرب مجموعة من الأمثلة والقصص التي تجعل المستمع على بينة في هذا الموضوع عندما نتناوله في الحلقة القادمة التي نكمل بها المائة إن شاء الله تعالى.

 

الشيخ كهلان: بإذن الله تعالى.

 

مقدم البرنامج: الأخ المتصل الثالث يقول : هناك من يظن-إذا كان هذا الظن صحيحاً-أن الإنفاق على المسجد مثلاً أو الإنفاق على الأمور التعبدية فيه أجرٌ أكثر من الإنفاق على الأمور الأخرى؟

 

الشيخ كهلان: لا ليس ذلك باضطراد، لا يظن ظان بأن الإنفاق في هذه الوجوه التي-كما قلتُ-وجه التعبد فيها ظاهر هو أولى وآجر عند الله تعالى من الإنفاق في الوجوه الأخرى؛ لأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال، إذا كانت حاجة المجتمع مثلاً إلى إنشاء مدرسة فإذاً الإنفاق لإنشاء مدرسة أولى من الإنفاق في بناء مساجد إذا كانت المساجد موجودة، إذا كان لا يوجد في قريةٍ من القرى مثلاً من يَصلُح أن يؤم الناس فإذاً الأولى أن يُعلَّم من يمكن أن يؤم الناس، كذلك إذا كان هناك حالاتٌ من الفقراء والمحتاجين الذين هم بغير حاجةٍ إلى طعامٍ وإنما هم بحاجةٍ إلى مساكن وإلى مأوى؛ بل الأكثر ثواباً وأجراً إنما يكون بحسب ما يَتَحَصَّلُ منه من مصلحةٍ عامةٍ لعموم المسلمين، " الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله ".

 

مقدم البرنامج: نعم.. جميل..

نحن نختم بهذا الفاصل، ثم نتناول بعد ذلك سؤالاً للأخ المتصل الثالث، فاصلٌ قصير نستمع فيه إلى حديثٍ نبويٍ شريفٍ، ثم بعد ذلك نعود للمواصلة بإذن الله.

 

*********************

قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " يا نساء المؤمنات لا تحقرن إحداكن أن تهدي لجارتها ولو كراع شاةٍ محروقة "، وفي حديثٍ آخر أن رجلاً جاء إلى النبي-صلى الله عليه وسلم-فقال: يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجراً؟ فقال-صلى الله عليه وسلم-: " أما وأبيك لتنبأن أن تَصَّدَّقَ وأنت صحيحٌ شحيحٌ تخشى الفقر وتأمل البقاء ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلانٍ كذا ولفلانٍ كذا وقد كان لفلان  "

 

مقدم البرنامج: نختم إذاً بهذا السؤال فضيلة الشيخ، ثم نتناول إن شاء الله تعالى في الحلقة القادمة بقية الأسئلة والعناصر.

الآن في هذا العصر الحديث هل هناك أوجهٌ سريعةٌ نقول للإنفاق ولاكتساب الأجر من خلال عمليةٍ سهلةٍ مثلاً يستطيع الإنسان أن يحقق بها حتى ولو كان قليل المال؟

 

الشيخ كهلان: أحسنت، نعم هناك الكثير من الوجوه، وكما قلنا الميدان مفتوح؛ لكن بحمد الله تعالى لما صارت الكثير من المسؤوليات تسند إلى مؤسسات تقوم بتنظيمها وترتيبها كان ذلك أكثر سهولة للناس.

 

وأنا هنا مثلاً أذكر مثالاً: مشروع السهم الوقفي الذي تقوم به وزارة الأوقاف والشؤون الدينية هذا مشروع يُمكِّن حتى الفقير الذي يجد مبالغ بسيطة يمكن له-حتى ولو كان ريالاً واحداً-يمكن له أن يُشارك به مع باقي الذين يشاركونَ في هذا المشروع-مشروع السهم الوقفي-؛ لكي يكون مجموع مالهم وقفاً يُستثمر في شيءٍ من المشاريع ذات المردود المستمر، ويظل له أجر تلك النفقة الصغيرة القليلة التي نستلهمها حتى من قول رسول الله-صلى الله عليه وسلم-في الحديث الأول الذي أنصتنا إليه: " يا نساء المؤمنات لا تحقرن إحداكن أن تهدي لجارتها ولو كراع شاةٍ محرقة "، فإذاً حتى ولو كان عشرة ريالات أو كان ريالاً واحداً يمكن لمن يجد هذا الريال ويرغب في الثواب والأجر يمكن له أن يشارك في مثل هذا المشروع.

 

وحينما يشارك غيره  بما يجدون وما يستطيعون فإن مجموع هذه الأموال سوف يقام بها مشروعٌ وقفيٌّ، وهو بطبيعة الحال هؤلاء الذين ساهموا أجرهم وثوابهم لهم، وريعه يذهب إلى جهةٍ من جهات البر كالفقراء والمساكين والمشاريع التي يحتاجها المجتمع مما فيها خيرٌ وصلاحٌ ظاهر، إذاً هذا مثال، ومع ذلك فكما قلتُ الميدان مفتوح والمجال فسيحٌ للتنافس على الخير وفق الضوابط الشرعية والأسس والآداب التي سوف نتعرض لها بمشيئة الله تعالى في حلقتنا القادمة .

 

مقدم البرنامج: بإذن الله تعالى، شكراً لكم فضيلة الشيخ.

 

الشيخ كهلان: بارك الله فيكم.

 

مقدم البرنامج: شكراً لكم أعزاءنا الكرام على الاستماع والمتابعة، ونتناول موضوع الإنفاق في جزئه الثاني إن شاء الله تعالى في يوم الاثنين القادم، نرجو منكم أن تستمعوا، وأن تشاركوا بمثل هذه الأسئلة التي استمعنا إليها اليوم وأكثر منها بحول الله تعالى، شكراً لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

انتهت الحلقة