عنوان الحلقة " التفاؤل "                                    

بثت في:

5 / ذو القعدة / 1429هـ

3 / نوفمبر / 2008 م

 

مقدم البرنامج: بسم الله الرحمن الرحيم، أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الجديد من حيث الوقت، برنامجنا دين الرحمة وموضوعنا اليوم عن التفاؤل.

ما أجمل أن يعيش الإنسان في حياته وكله أمل، أمل لتقديم المزيد من العطاء، هذا الأمل مدفوع بالتفاؤل الحسن، بَيْدَ أن الحياة تحيط بها مشكلات متنوعة، ما يشغل الفرد منها غالبا مشكلاته الخاصة، وهذه الأخيرة ربما ستؤدي إلى تباطؤ حركته في الحياة إلى حد الوقوف، فيحتاج إلى إزاحة العوائق كي يمشي، لكن هذه العوائق أيضا نفسية يصعب تحديد حجمها، وقد تذهب لكنها سرعان ما تعود، فما الذي يجعل الإنسان متفائلا في الحياة دائما؟

وما قيمة التفاؤل في حياته؟

وما مدى الحركة التي يدفع بها لكل من يتبناه ويتخذه مبدأ لا يرضى سواه؟

 

هذه المواضيع أو التساؤلات عن التفاؤل وأهميته في الحياة سنحاور فيها فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي، راجين منكم مشاركة فاعلة في الموضوع على اعتبار أن شريحة كبيرة الآن سوف تستمع إلينا من حيث تغييرنا لوقت بث هذه الحلقة، كان الأصل أن تبث من الرابعة إلى الخامسة لكنها الآن كما تستمعون من الثانية والنصف إلى الثالثة والنصف.

أهلا ومرحبا بكم فضيلة الشيخ..

 

الشيخ كهلان: أهلا وسهلا بكم، وأنا أحيي الإخوة والأخوات الذين كانوا حريصين على متابعة هذا البرنامج في وقته السابق، والذين يلتحقون بنا أيضا ضيوفا كراما في هذا الوقت الجديد المخصص لهذا البرنامج، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا جميعا بما يعلمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا إنه تعالى سميع مجيب.

 

مقدم البرنامج: آمين يا رب العالمين، أنتم فضيلة الشيخ اخترتم أن يكون موضوع حلقة اليوم التفاؤل ويبدو أن اختياركم هذا أيضا متناسب مع أولى حلقاتنا في هذا الوقت.

تحدثوننا الآن عن هذا الموضوع؛ لأنكم تناولتموه أو تناولناه معكم في بعض التساؤلات الماضية، والآن عدنا لنتناوله مرة أخرى، ما هي العناصر التي سنتعرض لها في هذه الحلقة الجديدة من البرنامج؟

 

الشيخ كهلان: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد النعمة المهداة والرحمة المسداة وعلى آله وصحبه أجمعين، هذا البرنامج  دين الرحمة الذي انقضى منه الآن حلقات تبلغ السبعين حلقة - لمن التحق بمتابعة هذا البرنامج جديداً - يتناول قيما إنسانية نبيلة.. تعريفاً وتصحيحاً وتذكيراً بها للناس جميعا، فالقيم التي من خلالها نتعرف على دين الرحمة.. على هذه النعمة التي أنعم الله تعالى بها علينا هي مدخل غاية في الأهمية؛ إذ كثيرا ما يُعَرِّف الناس دينهم وشريعتهم من خلال الأحكام أو العقائد، وقلما للأسف الشديد ما يعرفون بدرة تاج ذلك كله، فالقيم تبعث العقيدة الراسخة ومن الإيمان الصحيح، كما أنها مؤطرة بالأحكام والتشريعات والآداب التي نجدها أيضا في شريعة هذا الدين، ولذلك فنحن حينما نُعَرِّف بهذه القِيَّم ونتناولها - وهي كلها قيم إنسانية يحتاج إليها الإنسان أياً كان- فإنما نعرف بهذا الدين.. بشريعته وبعقيدته.

 

 كما أننا نضيف إلى ذلك جوانب تجلت فيها حضارة هذا الدين حينما وفَّى المسلمون هذه القِيَّم حقوقها، وأعطوها ما تستحقه من المكانة اللائقة في واقع حياتهم، وبذلك فإننا نجمع أيضا بالإضافة إلى تعرفنا على الجوانب الإيمانية والتشريعية نضيف إليها جانبا حضاريا مهما تبرز فيه عظمة هذا الدين من خلال هذه القيم الإنسانية، وكثيراً ما نستشهد أيضا بمقالات لحكماء وأدباء وفلاسفة حتى من غير المسلمين ممن تعرف على هذا الدين من خلال قِيَمِه، وموضوع التفاؤل هو موضوع غاية في الأهمية؛ لأنه يتصل بكثير من القيم التي تناولنها، كما أن فيها جوانب إيمانية نريد أن نُعَرِّف بها، فسوف نتعرض اليوم - بمشيئة الله تعالى- للأسس الإيمانية التي ينبعث منها التفاؤل الذي يلامس قلب المؤمن فيفتح أمامه أبوابا واسعة تدفعه إلى مزيد من العطاء والعمل، سوف نتعرض -بمشيئة الله تعالى- على الفهم الصحيح للفأل الحسن والآثار التي تنتج على الفرد وعلى المجتمع حينما يستبشر المسلمون متفائلين، وحينما يحافظون على هذه الخصلة في نظرتهم إلى الحياة، وفي انبعاثهم عاملين كادحين في هذه الحياة؛ حتى يلاقوا ربهم تبارك وتعالى بقلوب سليمة مطمئنة، سوف نتعرف على هدي رسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يخص هذا الشأن، سوف نعالج أيضا - بمشيئة الله تعالى- بعض الظواهر التي لا تتناسب مع هذه القيمة الإنسانية النبيلة، وكيف يمكن للمسلم أن يحقق لنفسه هذه القيمة فيكون مستبشرا.. متفائلا من خلال قواعد صحيحة - بمشيئة الله تعالى -، ونحن نرحب بالمشاركات التي تضيف إلى البرنامج أو تعلق عليه أو تطرح تساؤلا حول شيء من هذه العناصر التي ذكرناها أو غيرها من العناصر المتصلة بهذا الموضوع.

 

 

مقدم البرنامج: إذاً هناك الكثير من العناصر ستتناولونها - بإذن الله تعالى - في هذا اللقاء، وبالأمس كانت حلقة سؤال أهل الذكر تتعلق بالعلاج بالقرآن الكريم، وتناولنا أيضا عددا من الجوانب في هذا الموضوع - موضوع الفأل - والمشكلات التي تصيب الناس، فيلجأون من خلالها إلى العرافين وغيرهم.

 

قبل أن ننطلق في طرح العناصر الأخرى نبدأ أو نقف الآن مع هذا الفاصل الذي يتضمن آيات من كتاب الله سبحانه وتعالى:

 

 { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ {83} وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ {84} قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ {85} قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {86} يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } (يوسف:83-86).

 

.................................................

 

نرجو من الأخوة أن يشاركوا بمداخلاتهم حول موضوع التفاؤل، وما يهم حياة الناس منه، وأن تكون المشاركات - كما نبهنا سابقا - بصورتين الصورة الأولى - وهي الأهم - أن تكون هناك إفادات في هذا الموضوع تتعلق بقصة إنسان أو بموقف أو شيء من هذه الأشياء التي يريد الإنسان أن يبدي وجهة نظره حولها وأن يطرح أفكاره عندها، الصورة الثانية أن يكون على شكل سؤال يتعلق بموضوع التفاؤل، لا يخرج عنه أبداً، وإن كنا نحن نريد منكم أن يكون هناك إفادة وإغناء للبرنامج من خلال مشاركاتكم ومشاهدتكم حول هذه القيمة نفسها.

 

الآن فضيلة الشيخ استمعنا إلى هذه الآية القرآنية الكريمة التي تحكي مشهدا دار بين يعقوب - عليه السلام - وبين إخوة يوسف،

الآن أين نجد التفاؤل عموما في القرآن الكريم؟ وماذا نستفيد من هذه الآيات الكريمة فيما يتعلق بموضوع التفاؤل؟  

 

الشيخ كهلان: نجد التفاؤل في صور وسياقات متعددة من كتاب الله عز وجل إجمالاً.. نجد التفاؤل بصيغة البشرى التي يزفها الله تعالى لعباده الذين يتصفون بصفات معينة خصها الله تعالى بالذكر في سياقات إيراد البشارة لهم وبشر المؤمنين.. وبشر الصابرين.. وبشر الذين آمنوا، إلى آخر ما كان من هذا الجنس.

 

نجد أيضا أن القرآن الكريم تناول موضوع التفاؤل من خلال التحذير من التَّطَيُّر سواء أكان ذلك من خلال قصص الأنبياء والمرسلين السابقين على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وبيان أن من عقائدهم.. أنه كان من عقائدهم أنهم يزعمون أنهم يتطيرون بهؤلاء الأنبياء والمرسلين، وأن شراً أصابهم ببعثتهم، وأن مضرة أصابتهم بسبب ما جاءوا به، ويرد القرآن الكريم على هذه المزاعم وعلى هذه المعتقدات الجاهلية الفاسدة، وكذلك الشأن حينما يقص لنا ربنا تبارك وتعالى أيضا سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما لقاه من قومه أيضا... هذا سياق ثاني، سياق ثالث نجد فيه القصص القرآني الذي يبين لنا مواقف الأنبياء والمرسلين التي كانت مواقف في ذاتها غاية في الصعوبة وكل الظروف تجتمع لكي تجعل من المرحلة التي يمر بها نبي أو رسول من رسل الله - عليهم الصلاة والسلام - غاية في الشدة والصعوبة؛ ولكن نجد أن الله عز وجل يبين موقف هؤلاء الأنبياء والمرسلين في تلك المواقف التي حينما يقلبها الواحد منا بمعاييره البشرية الإنسانية الطينية يجد أنها مواقف لا يستطيع الثبات فيها إلا هؤلاء الصفوة.

 

مقدم البرنامج: قد ينهار مثلا.

 

الشيخ كهلان: نعم، هذا الموقف الذي استمعنا إليه في سورة يوسف - عليه السلام - فهذا نبي الله تعالى يعقوب - عليه السلام - فَقَدَ أولاً ولده يوسف، ثم بعد ذلك فقد أخاه، ثم بعد ذلك - كما قص القرآن الكريم - ابيضت عيناه من الحزن.. من شدة الحزن فقد بصره، ومع ذلك نجد أنه كان يلاقي من باقي أولاده ومن قومه - كما يذكر المفسرون - يجد عتابا ولوما على الحالة التي هو فيها وإذا به هو.. - وهو الصابر.. لا نستغرب أن يكون صابرا وهو رسول نبي مصطفى من عند الله عز وجل؛ لكن الذي يدعو إلى الغرابة أنه هو الذي كان يبعث الأمل والتفاؤل إلى الآخرين في نفوس الآخرين- فإذا به يبين أولا ما تعتريه من حالة الحزن { قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } في ذلك الموقف الحالك الصعب وإذا به يتعلق بما يبعث في نفسه الأمل، ثم يقول لهم: { يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ...} ويبين السبب {...وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ...}.

 

 فالمكروب والحزين والذي ابتلي بشيء من الابتلاءات.. الذي أصيب في نفسه.. في رزقه.. في ولده.. في صحته.. في عقله.. فيما نتصور من الابتلاءات التي يمكن أن يبتلي الله تعالى بها عباده تمحيصا لهم ولإيمانهم إنما هي بتدبير وتقدير من الله عز وجل، ولا يجوز بحال من الأحوال أن تُخْرِجَ الإنسان إلى دائرة اليأس والقنوط؛ لأن هذا ليس من شِيَمِ أهل الإيمان فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، فهذا الموقف.. هذه القصة.. هذه الحكاية التي فيها من العظات والدروس الشيء الكثير تعلمنا متى يكون التفاؤل حقيقةً، وتعلمنا مبعث التفاؤل والسبب الذي يدعو الناس إلى أن يتعلقوا بأذيال رحمة الله عز وجل وأن ينبذوا عن أنفسهم كل أسباب اليأس والقنوط، حتى في مثل هذه.. بل في أقسى الساعات حلكة ينبغي لهم أن يتعلقوا.. بل يجب أن يتعلقوا بأهداب رحمة الله عز وجل وبألطافه وأنعامه؛ لأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.

 

مقدم البرنامج: الآن السؤال قبل أن ننتقل إلى الموضوع الآخر، في هذه الآية هل يفهم البعض أن يعقوب - عليه السلام - كان يعلم من الله سبحانه وتعالى بمصير يوسف وأن ما صنعه معهم ليس فقط من باب التفاؤل إنما من باب أن أمراً آخر يريد الله تعالى أن يقضيه من خلال هذه المعرفة؟

 

 

الشيخ كهلان: كثير من المفسرين بينوا أن الخيط أو بصيص الأمل الذي تعلق به يعقوب - عليه السلام - في موقفه الثابت هذا هو الرؤيا التي قصها يوسف عليه حينما كان طفلا صغيرا، فهو أدرك أن هذه رؤى وفسرها ليوسف - عليه السلام - وأمره أن يكتمها عن إخوته مخافة الحسد وأن يبطشوا به إلى غير ذلك، فذلك الخيط الرفيع ظل ملازما ليعقوب - عليه السلام -.. متعلقا به مع تقادم السنوات والأعوام وتكاثر المصاعب أيضا عليه - عليه السلام - فذلكم الخيط الرفيع - كما يذكر المفسرون - هو الذي جعل الأمل حياً في قلبِ يعقوب - عليه السلام -، ونحن هنا لا نتحدث - من باب التنبيه - .. فلا يعني كلامنا هذا أن التفاؤل أن لا يحزن الإنسان فالحزن فطرة في الناس، وقد أصاب الحزن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - حينما قال: "...وإنا على فراقك لمحزونون..." في وفاة ولده إبراهيم.

 

مقدم البرنامج: ليس حزنا محبطا.

 

الشيخ كهلان: لا، بل هو الحزن البشري الذي هو انكسار القلب، وقال: "إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون"، الحزن أيضا أصاب يعقوب - عليه السلام - وهكذا سائر الأنبياء والمرسلين كانوا يحزنون من المواقف التي تصيبهم في أنفسهم.. في ولدهم.. في أقوامهم أيضاً، فالحزن فطرة في الناس؛ لكن الحزن هذا هو المقدار البشري الإنساني ويبقى أمامه الرجاء يبقى التفاؤل والأمل والرجاء والتعلق برحمة الله عز وجل نافية عن ذلكم الحزن أن يسيطر على نفس هذا الإنسان فتدفعه إلى ما لا يرضي الله عز وجل.

عودة إلى هذه السياقات التي نجدها في كتاب الله عز وجل نجد ما يربو.. ما يقترب من مائة موضع نجد فيها في كتاب الله عز وجل استخدام كلمة أو مشتقات الفعل مشتقات التبشير.. بَشَّر وبَشِّر.. استبشر.. فاستبشروا، نجد أنها تتكرر كثيرا في كتاب الله عز وجل وفي هذا ما فيه من الدلالة على أن الاستبشار والتعلق بالأمل والرجاء الموصول بالله سبحانه وتعالى والمنبعث من الإيمان به هو مقصودٌ في هذا الدين.. مقصودٌ ليكون مما يعين هذا الإنسان على تخطي هذه الحياة بما فيها من كدح وبما فيها من مصاعب وملمات.

 

مقدم البرنامج: جميل طيب نحن على كل حال من مجموع كل هذا الذي تحدثتم عنه نريد أن نؤكد على موضوع الأسس، نفهم من هذا الموضوع الذي طرحتموه قبل قليل فضيلة الشيخ أن للتفاؤل أسساً إيمانية تتحقق بها هذه الخصلة بين الناس، الآن ما هي هذه الأسس التي يمكن أن تجعل الفرد إنسانا متفائلا بالفعل؟ يعني المسألة تحتاج إلى صناعة نفسية كاملة.

 

الشيخ كهلان: نعم أحسنت لهذا التعبير وهي فعلاً كذلك؛ ولكن هذه الصناعة أيضا هي سهلة مقدور عليها، الأساس والأصل في أن يتمكن الإنسان من أن تنبعث في نفسه أنوار التفاؤل والاستبشار والرجاء هو صدق الإيمان بالله عز وجل، كيف ذلك؟

لأن هناك جملة من أركان الإيمان تدعو المسلم المؤمن الصادق إلى أن يتحلى بالتفاؤل والرجاء والأمل، أولاً هو يؤمن بالقضاء والقدر وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، الأمر الثاني هو يؤمن بالآخرة وإيمانه بالآخرة يعني أن الحياة الدنيا مهما عظمت فيها المصاعب ومهما اشتدت فيها الكروب ومهما توالت فيها الأزمات ما هي إلا مرحلة عبور يبتلى فيها الإنسان ثم تكون بعد ذلك الحياة السرمدية الخالدة في الآخرة، ثم يعلم مهما طالت أيامها ومهما اشتدت ساعات الكربة والضيق عليه أنها منتهية لا ريب؛ لأن الحياة بأسرها منتهية وينتقل بعدها إلى الحياة الآخرة ولذلك فهو في حقيقته يصوب نظره اتجاه الحياة الخالدة الأبدية؛ لأنه يوقن أن حياته هنا إنما هي حياة قصيرة.

 

مقدم البرنامج: ويعد نفسه لتلك الحياة.

 

الشيخ كهلان: ويعد نفسه لتلك الحياة الآخرة فما فاته من نعيم في هذه الدنيا سوف يسعى إلى أن يحصل إليه خالصا في الحياة له الآخرة وبالتالي يُحْسِنُ عمله في هذه الحياة الدنيا ويقوي صلته بربه تبارك وتعالى ويكون حيث أمره الله عز وجل وينتهي عما نهاه ربه تبارك و تعالى.

 

مقدم البرنامج: هذا الأساس الأول؟

 

الشيخ كهلان: هذا الأساس الثاني، قلنا الأساس الأول هو الإيمان؛ لكن قلنا فيه أنه أساسه الإيمان باليوم الآخر والإيمان بالقضاء والقدر طبعاً مع الإيمان بالله وأنه هو المتصرف في هذا الكون ويبتلي عباده بما شاء وما من صغيرة ولا كبيرة تحصل في هذا الكون إلا وهي بتدبير من الخالق جل وعلا، ثم كذلك المؤمن يعلم أن طبيعة الحياة أنها لا تصفو لأحد، ما من أحد ويمكن له أن يقول بأن الحياة صفو عفو له وأن حياته لا يكدرها شيءٍ من التعب وشيءٍ من المشقة وشيءٍ من الهموم والأحزان والآلام إدراكه بحقيقة الحياة هذه تمكنه من أن يتغلب وأن يستنبط من حالات الضيق والشدة ما يبعث في نفسه الأمل فيخفف عنه الألم ويدعوه إلى مزيد من العطاء والعمل، هذه الأسس كلها تعين الإنسان على أن يحقق لنفسه حقيقة التفاؤل، كذلك هناك أيضا بعض ما نفهمه من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن الأدلة الشرعية من ذلك مثلاً نفس معرفته بما لاقاه الأنبياء والمرسلون الذين هم صفوة الناس وخير البشر وهم في تلك المواقف التي أصابتهم من أمراض وبلايا ورزايا ونكبات كانوا يتعلقون بالأمل وكانوا يتصلون بالله سبحانه وتعالى وكانوا يستبشرون من الشيء القليل الذي يمكن أن يتحقق له وهم يَدْعُونَ إلى الخير ويهدون الناس إلى البر والصلاح، فإذاً نفس التعرف على قصص هؤلاء الأنبياء والمرسلين وعلى قصص الصالحين هو باب آخر يُمَكِّنُ الإنسان من أن يتملك حقيقة التفاؤل والاستبشار.

 

مقدم البرنامج: نعم؛ لكن قبل أن تنتقل إلى العنصر الآخر.. حول هذا العنصر بالذات تساؤلان، التساؤل الأول أنا كثيرا ما أسمعه - ربما على أسئلة الناس - وهو أن ما تعرض له الأنبياء الكرام هو شيء اختاروه بأنفسهم أي طريق اختاروا أن يخوضوا فيه وأن يواجهوا مشكلاته ومصاعبه؛ لأنهم رأوا أن واجبهم أن يقوموا بهذه الدعوة التي كلفهم الله تعالى بها؛ لكن هناك من الناس من تصيبهم مشكلات تعيق حياتهم وهم لم يختاروا ذلك الطريق أصلا، فكيف يمكن أن يفهم الإنسان أن ما يصيبه إنما هو في نفس الإطار الذي أصاب الأنبياء عليهم السلام؟

 

 

الشيخ كهلان: هو كذلك أولاً الأنبياء والمرسلون هم أيضا حُمِّلُوا هذه الأمانة.. اختارهم الله عز وجل لأداء هذه الأمانة؛ لكن ما لاقوه من مصاعب ومشاق لا ريب أنهم لم يختاروه بأنفسهم لكن صاروا أصحاب رسالة وأصحاب مبدأ وبالتالي أصحاب دعوة حق يبلغونها للناس وبالتالي فإن تبليغهم وأدائهم لهذه الأمانة وحملهم لهذه الرسالة سوف لا ريب يكتنفه الكثير من المشاق وهنا يكون الإيمان الحقيقي الذي نتعلمه وهم بشر وهم قدوة الناس ولذلك كانوا من البشر وجعلهم الله تعالى قدوة للعالمين نتعلم منهم أن نلجأ إلى روح التفاؤل وإلى الرجاء والأمل الذي - كما قُلْتُ - يكون دائما موصولا بالله عز وجل في كل ما نلاقيه نحن الآن، وثق تماما بأن كل أحد حتى صاحب الدعوة الباطلة أو صاحب المأرب والأهداف التي يريد أياً كانت أهدافاً دنيوية.. أهدافاً فكرية أياً كانت الأهداف التي يريد أن يصل إليها فهو لا ريب سوف يلاقي في طريقه تلك المصاعب والمشاق فإن أُحْبِطَ وركن إلى الخمول وترك ما يسعى إليه بسبب المشاق والمصاعب التي يواجهها ولم يجد في خبايا الأزمات التي يواجهها ما فيها من بواعث تقوده.. تسوقه إلى أن يحقق هدفاً فإنه لن يستطيع أن يصل إلى شيء وأن لا يؤدي الرسالة مهما كانت هذه الرسالة، - نحن نتحدث عن الطريقة الآن -

إن الله سبحانه وتعالى بَيَّنَ لعباده أن حياتهم هي هكذا { يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ } (الانشقاق:6)، هذا الكدح.. هذا التعبير بأن هذه الحياة هي كدح حتى يلاقي العبد ربه تبارك وتعالى هي دليل على أن الحياة لا يمكن أن تخلو - مهما كانت الطريق التي يختارها الإنسان لنفسه في هذه الحياة - لا يمكن أن تكون صافية.. لا يمكن أن تكون سليمة خالية مما يكدرها، وبالتالي تبقى حقيقة الإيمان التي تبعث في نفس هذا المؤمن أن يجدد رجائه وأن يستلهم من المواقف - نحن نتحدث عنها؛ لأن هذه متصلة بالأمل وبالرجاء وبتفريج الكروب وبكثير من أيضاً القِيَّمِ التي تعرضنا لها؛ لكننا نتحدث عن أن يجد في وسط تلك المصاعب ما يدعوه إلى التفاؤل والاستبشار -.

 

 

مقدم البرنامج: يعني معنى هذا أن حياة الإنسان فيها فرص سعادة كثيرة جداً، الإنسان بنفسه يصنع حياته لكي يصل إلى تلك الفرص من خلال الطريق الذي يختار.

 

الشيخ كهلان: نعم ما يخفف عنه ألآم المصاعب التي يواجهها حتى ولو لم تكن - كما تفضلت - لو لم تكن أسباب سعادة لكن هي من المخففات التي تعينه على مواصلة الطريق والتي تريه أيضا حسب التعبير المعاصر(الجوانب الإيجابية) في وسط تلك الشدائد التي يمر بها أو تمر به.

 

مقدم البرنامج: التساؤل الثاني يقول البعض: هؤلاء  مؤمنون، اختارهم الله تعالى وهم صفوة من خلقه، وأعطاهم من الإيمان ما يستطيعون به أن يواجهوا به هذه المشكلات، والبعض عندما يتحدث عن الأنبياء يتحدث معهم أيضا عن الصحابة ويقول: أولئك الصحابة فأين نحن منهم؟، فكيف يفهم الإنسان أن الإيمان الذي لديه يمكن أن يتغلب به على مشكلات الحياة؟

 

الشيخ كهلان: نعم؛ لأن الإيمان هو ذاته الإيمان.. في ذاته هو نفسه ما طولب به.. وما خوطب به.. ما أمر به الأنبياء والمرسلون وما خوطب به صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو نفس الإيمان الذي يخاطب به أو خوطب به الناس جميعا وبالتالي ما في هذا الإيمان من فرائض ومن حدود ومن آداب كما ما فيه من قِيَمٍ ومن خصال خير ومن بشائر

 

الله سبحانه وتعالى حينما يقول: { وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ...} (البقرة:25) لم يقل وبشر الأنبياء والمرسلين.. وبشر الصحابة لا، قال: { وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ...}، فإذاً هذا الدين هو مما يشترك فيه الناس جميعا؛ لأنهم خوطبوا به، وبالتالي كل ما فيه أيضا من محفزات ومن بواعث على الخير ومن قيم تزكوا بهذا الإنسان وتهذب له ضميره ووجدانه وترتقي أصلا بإنسانيته هي كلها مما يشترك فيها الناس جميعا.

 

مداخلة متصل: أستاذي الكريم شدني كثيرا موضوعكم القيم وهو عن التفاؤل، فطالما أن الإنسان في مصاعب الحياة ينبغي حقيقة أن يسوقه التفاؤل لأشياء كثيرة فالتفاؤل من الإيمان - كما تفضل فضيلة الدكتور - والتشاؤم من الشيطان أو التفاؤل من الرحمن والتشاؤم من الشيطان، فحقيقة التفاؤل شيء رائع جدا وهو أن الإنسان يرسم صورة ذهنية في ذهنه بأن الذي يصيبه أو الذي يمسه من سوء هو من عند الله سبحانه وتعالى فهي ملازمة كثيرا للإيمان بقضاء الله وقدره، كم من إنسان صالح ذُكر في التاريخ كان يصاب بأسوأ الأشياء وكان يبتسم، ما السر في ذلك؟ أنه يؤمن بأن الذي أصابه كله من عند الله سبحانه وتعالى، فالتفاؤل إذاً ربط بقضاء الله وقدره وبالإيمان بقضاء الله وقدره، تجد أن فعلاً أن المؤمن ينبغي أن يكون التفاؤل سمة من سمات المؤمن الحق، وإذا كان العكس بالعكس فالتشاؤم يكون

 

حتى أنه ورد في بعض الروايات - أرجو أن أكون صحيحا فيما أقول - وهو أنه ( قدر الله و ما شاء فعل ) إذا جاءت للإنسان مصيبة فليقل: ( قدر الله و ما شاء فعل ) حتى أنه لو أقدم على  أمر ما لكن بعد دراسة لقرار ما معين في حياته ينبغي أن يقرر على أسس معينة ثم بعد ذلك يتفائل أن الله سبحانه وتعالى لن يخيبه فلو حدث عكس ما يريد أيضاً هو تفاؤل؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد يكون قدر له خيرا في غير ذلك، أطلب من الدكتور ومنكم أن تربطوا ربطاً كبيراً جداً بين التفاؤل وبين الإيمان بقضاء الله وقدره، فأنا أرى أساساً كبيراً جداً يربطهما، فالإنسان الذي يؤمن بقضاء الله وقدره إيماناً قوياً عميقاً حقيقة هو الإنسان المتفائل، وأذكر موقفا هو قد يسوقه إلى الإيجابية أو إلى التفاؤل، النبي - عليه الصلاة والسلام - في غزوة الخندق عندما ضرب المشركون المسلمون عن قوس واحد في غزوة الأحزاب وتهافت عليهم الكفار من كل حدب وصوب عندما كانوا يحفرون الخندق ما الذي حدث؟

حدث أنه اعترضتهم صخرة كبيرة فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم- وضربها بيده الشريفة، وهو يضربها كان يبشرهم بفتح كسرى وقيصر، ما هو السر في ذلك؟

هو قمة التفاؤل؛ لأنه يرسم صورة ذهنية عميقة وهي أنكم ولو كنتم ما كنتم فهناك تفاؤل.. هناك بصيص من الأمل، لماذا؟

لأنه يؤمن بأن نصر الله وفتحه قريب مهما بلغت الشدة، وكل الأنبياء الذين ذَكَرَ قصصهم الدكتور وغيرهم أنه كان في الشدة والمحنة كان نوح - عليه السلام – في عمر دعوته وهي تسعمائة وخمسون سنة كان يجاهد بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى فماذا كان بعد ذلك؟ عندما صنع السفينة كان متفائلا بعد ذلك، وأشكركم جدا على البرنامج وأتمنى لكم التوفيق.   

 

مقدم البرنامج: بارك الله فيك، نشكرك نحن أيضا على مشاركاتك القيمة.

هذه مسألة ثانية التي طرقها الآن الأخ المتصل قضية التفاؤل واستشراف المستقبل، قد يقول قائل: ان النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما ضرب الحجر واستشرف المستقبل القادم كان يعلم من الله سبحانه وتعالى ذلك، فكيف يفهم المسلم أن حياته أساسا بإذن الله تعالى ستتجه في طريق الخير وحتى ولو لم يوحِ إليه بذلك.

 

متصل آخر: أنا أردت أن استشهد بكلام الشيخ أحمد الخليلي، سُئِلَ ذات مرة عن واقع المسلمين اليوم فقال: "أنا الحمد لله دائما متفائل، وأنه ينبغي للإنسان أن يتفائل في كل الأمور"، والنقطة الأخرى هي أنني استمعت إلى شريط (أسباب منسية) للشيخ للدكتور خالد الجبير حلقات كثيرة استفدت منها والحمد لله، فينبغي للإنسان أن يقول: ( قدر الله وما شاء فعل ) عندما تواجهه أي مصيبة أو ما شابه.

 

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ السؤال الذي طرحناه قبل اتصال الأخ.

 

الشيخ كهلان: نعم، هناك جملة من الأمور التي تتفق مع الحادثة التي أشرت إليها وذكرها الأخ المتصل (الأول)، أولاً أنا أشكره على إضافته فإضافته فعلاً قَيِّمَةٌ؛ لأنها في صلب الموضوع، وقد تحدثنا عن موضوع أن مبعث الإيمان.. مبعث التفاؤل هو صدق الإيمان، والأوجه التي يتحقق بها التفاؤل من صدق الإيمان؛ لكن الحادثة التي أشار إليها بعض المحدثين له فيها كلام؛ لكن هناك مثلا حادثة هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

 

 

مقدم البرنامج: طيب فضيلة الشيخ نحن الآن نتحدث مرة أخرى عن موضوع التفاؤل في ما قاله في اتصال الأخ (المتصل الأول) بين مجموعة من المواقف كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - بَيَّنَ فيها لأصحابه أن عليهم أن يتفاءلوا حتى في أحلك الظروف؛ لأن قلنا أن البعض يتصور أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك عن طريق الوحي لأنه يعرف المستقبل من الله سبحانه وتعالى.

 

الشيخ كهلان: أنا كنت أريد أن أَعْدِلَ عن التمثيل برواية.. حادثة الخندق لما فيها من كلام عند أهل العلم والمحدثين خصوصاً، لكن لنأخذ حادثة الهجرة.. حادثة هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والنبي في الغار ومعه أبو بكر الصديق وهم في تلك الظروف الصعبة كانوا في الغار وهذا الرصد من خلفهم والمشركون يتبعونهم ويقتربون.. يصلون إلى موضع الغار، ويحكي لنا القرآن الكريم الحالة التي كان فيها أبو بكر الصديق ثم نجد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول له: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" هنا انقطعت كل الأسباب الدنيوية المادية التي يمكن أن يتصورها الناس ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لصاحبه.. لأبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - ما نعرفه نحن وما نؤمن به أنا وأنت والمستمع والمستمعة من أن نصر الله تعالى مع المؤمنين: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" ويحكي لنا القرآن الكريم {...إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ...} (التوبة:40) فإذأً استشراف الخير وتأميل الخير- وهذه هي النقطة التي كنت أريد أن أضيفها إلى بواعث التفاؤل في نفس المؤمن بالإضافة إلى جوانب إيمانية التي ذكرناها حسن الظن بالله عز وجل في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي عبدي ما شاء" - فإذاً ينبغي على هذا العبد أياً كان هذا العبد أن يحسن ظنه بربه، وأنه ما أراد له إلا الخير، حسن الظن هذا طبعاً لا يتأتى إلا لمن كان صحيح الإيمان وأن يحسن عمله وأن يتعلق..

طيب ماذا بالنسبة لمن له طبيعة كطبيعة البشر يرتكب أخطاء وقد يرتكب شيء مما لا يرضي الله عز وجل؟   

هنا أيضا نجد أن هؤلاء أتتهم البشارة فالله تعالى يقول في كتابه الكريم: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (الزمر:53)، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يؤكد هذا المعنى حينما يقول: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"، فإن كان هو لن يرقى إلى هذه المرحلة ويجد من نفسه أن هناك تقصيرا فأبواب التوبة مفتوحة وليستغفر ربه تبارك وتعالى ويؤدي ما عليه من حقوق وليثق بالله عز وجل ويتوكل عليه؛ لأن أيضا حسن الرجاء وحسن الظن متصل بالتوكل على الله تعالى.  

 

مقدم البرنامج: طيب نحن نريد أن نطرح سؤالا يتعلق في الحقيقة بموضوع التفاؤل بين المثالية والواقعية، كيف يتحول المرء بالتفاؤل من مثاليات يستمع إليها من القصص.. يستمع إليها من ما يسمع على كل حال إلى واقع ملموس في حياته؟

 

الشيخ كهلان: بعض الناس يظن بأن التفاؤل هو أن يعيش المرء فترة من الخيالات والأحلام الوردية وأن يكون بعيدا عن واقعه وأن يرسم واقعا مثاليا مختلفا أي أن ينأى.. أن ينعزل.. أن يهرب من الواقع الذي هو فيه أيضاً بأحلام وأوهام يتصورها، وهذا في الحقيقة ليس من التفاؤل بل هو من الوهم والخيال، كما أن بعض الناس أيضا يُغْرِقُ أو يوغل في النظر في المسببات.. في الحوادث التي تحيط به وتلم به وينسى مسبب هذه الأسباب.. ينسى أن هناك مدبرا لهذه الحوادث ولهذه الأزمات، التفاؤل الصحيح الذي نتحدث عنه هو النظر إلى الواقع بحسب ما هو عليه، ومعرفة كل ما يكتنف هذا الواقع من إيجابيات ومن سلبيات.. منافع ومضار.. من خير وشر، ثم استلام.. استخراج.. استنباط ما يدعو إلى الأمل والرجاء بذلك الواقع، فهو إذاً تفاؤل إيجابي نفس هذا التفاؤل هو التفاؤل الصحيح لا أن يحلم.. أن ينتقل إلى الأحلام، وأن يعيش في الخيال لا، وأن يكون بعيداً أيضاً عن الواقع فهذا ليس بالتفاؤل الصحيح الذي نتحدث عنه، بعض الناس يشبه بمسألة التمييز بين المتفائل والمتشائم بنظرية نصف الكأس المملوءة ونصف الكأس الفارغة لكن الكثير من النظريات المعاصرة نقول لا يهم كيف ينظر هل النظر إلى الفراغ أو إلى الممتلئ وإنما أن يعرف أن ذلك الفارغ يمكن أن يملأ وأن يستنبط  من الواقع حوله ما يتمكن به إن كان المقصود أن يملأ الكأس فإذاً أن يجد من حوله ما يدعوه إلى مزيد من العمل و أن يدرك  الواقع كما هو هي نتيجة أنه نصف فارغ ونصف مملوء

 

مقدم البرنامج: الرضا وحده لا يكفي وإنما أيضا تتبعه حركة عمليه تدفعه.

 

الشيخ كهلان: يبدأ من الإدراك الصحيح للواقع أن لا يُفْرِط في أيضا المضار والمساوئ والسلبيات ويعدها عدا ويهول من شأنها على حساب أيضا الخير كما يقول كثير من أهل العلم و كثير من المجربين "كم من منحة في طي محنة" إذاً هو ينظر أيضا إلى المنح التي تأتي مع المحن التي يبتلي الله تعالى بها عباده هكذا يكون النظر الصحيح لقضية التفاؤل.

 

*************

 

فاصل:

روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا طيرة وخيرها الفأل، قال: وما الفأل يا رسول الله؟ قال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم ".

 

 

مقدم البرنامج: طيب فضيلة الشيخ هنا النبي - صلى الله عليه وسلم- قد سئل عن مجموعة أشياء ربما لم ينص الحديث الآن على ذكرها يقول: " لا طيرة وخيرها الفأل " ما هي هذه الأشياء التي وردت في سؤال هذا الحديث؟

 

الشيخ كهلان: نعم، أولا الطيرة هي التشاؤم وهي بمعناه بمعنى واحد الطيرة هي التشاؤم وهذه من عادات أهل الجاهلية أنهم كانوا يزجرون الطير إذا أرادوا أن يحدثوا سفر أو يقدموا على أمر ما فكانوا يزجرون الطير فإن مرت الطير يمنة أقبلوا وإن مرت يسرة تركوا وتخلوا فيبين رسول - الله صلى الله عليه وسلم - أن عادات الجاهلية هذه لا صلة لها بالإسلام وأن الطيرة والتشاؤم الذي يدعو إلى ترك العمل وإلى التعويل على هذه الحوادث العادية التي هي بيد الله سبحانه وتعالى تقديرا وتدبيرا لا ينبغي أن تكون من شأن المسلم ولذلك قال: " وخيرها الفأل " و سئل عن الفأل فقال: " الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم ".

 

 وهكذا كان هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستبشر من الكلمة الحسنة.. من الكلمة الصالحة الطيبة حينما يسمعها، هذا لا يعني أنه كان أيضا في المقابل - حتى ندخل أيضا صراحة في بعض ما يفهمه الناس خطأ - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم- كان يتشاءم من بعض الأسماء لا، الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يكره بعض الأسماء.. يستقبح بعض الأسماء ولذلك كان يريد لأصحابه ما هو أفضل لهم وما هو أحسن؛ لأن في ذلك الخير لهم ولمن يسمع منهم هذه الأسماء، ونجد هذا في سياقات متعددة غيَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسماء بعض من كانت أسمائهم مستقبحة وكانت غير طيبة حينما تُسمع في سياقات مختلفة.

 وتكرر ذلك منه عليه أفضل الصلاة والسلام في مقابل أيضا أنه كان يفرح ويستبشر حينما يسمع اسما طيبا اسم علم أو مكان أو جملة حسنة فكان يستبشر بها - صلى الله عليه وسلم -، فهذا المعنى الذي هو يكون قدرا حينما يسمع المرء مثلا كلمة حسنة فتبعث في نفسه الأمل والرجاء.. حينما يسمع اسما حسنا فيبعث في نفسه أيضا الأمل والتفاؤل هذا هو المقصود الذي حدده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

 

مقدم البرنامج: نحن نريد أن نصل إلى واقع حياة الناس الآن وهي نقطة مهمة فيما أظن بعض الناس تصيبهم مشكلات في الحياة ولا يفهمون حقيقتها ولا يدركون أيضا مغزاها وإنما يبحثون مباشرة عن بصيص أمل وسبب تفاؤل هذا البعض يُلجأ بعضهم  إلى العرافين، ومنهم من يلازم ما ينسب إلى الأبراج على كل حال من نصائح والبعض يلجأ إلى التواصل عن طريق شبكة المعلومات العالمية الانترنت أو قنوات فضائية المخصصة لقراءة الطالع على كل حال الكل الآن من هؤلاء المخصصين قلنا في حديثنا من يبحث عن بصيص أمل ماذا تقول لهؤلاء؟

 

الشيخ كهلان: نعم لا ضير في أن يبحث عن بصيص أمل يبعث في نفسه الرجاء والفأل الحسن لكن أن يكون بحثه صحيحا، وأن يطرق الأبواب الصحيحة السليمة لذلك من الذي يلجأ إلى مثل هذه الطرق إما أن يكون ضعيف الإيمان، وبالتالي عليه أن يقوي الإيمان، وأن يجدد الهمة والعزيمة في نفسه أو أن يكون أيضا أصيب.. ابتلي بشيء من الابتلاءات أيا كانت أنواع الابتلاءات التي تصيب الناس فأول ما يبدأ به هو أن يذكر ربه تبارك وتعالى: {...إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ...} .

وقد أشار بعض الأخوة المتصلين إلى ما ينبغي أن يقال كأن يقول: " قدر الله و ما شاء فعل ".. أن يقول: " اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يذهب السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك "، ينبغي له أن يحرص على أن يردد هذه الجملة، ثم بعد ذلك لا بد أن يستحضر العقيدة الصحيحة الصافية التي تدفعه إلى أن يتعلق بأمله بالله تعالى خالقه والقادر على أن يبدل ضراءه إلى سراء، والسوء الذي هو فيه إلى نعم وأن يجعل عاقبة أمره رشدا، فالذي يلجأ إليه هو الله سبحانه وتعالى، أما أن يلجأ إلى الدجالين وإلى العرافين وإلى المشعوذين الذين يتكسبون من مثل هذه المواقف التي هي في حقيقتها مواقف كان ينبغي أن يعين المسلم فيها أخاه بالكلمة الطيبة بالمواساة.. بالدعاء له.. بمحاولة أيضا الخروج به من حالته تلك إلى ما يبعث ويجدد في نفسه.. الأمل والرجاء.

 

 هؤلاء لا يستغلون هذه المواقف الإنسانية - للأسف الشديد – ويدّعون مثلا علم الغيب، ويدّعون أيضا.. يلجأون إلى أمور من الشعوذة والدجل تتعارض وتتنافى مع حقيقة الإيمان، ويزدادون رهقا، وإذا بهم أيضا يصبح الوضع حتى كالإدمان بالنسبة لهؤلاء، وبالتالي فنحن ننبه الإخوة والأخوات إلى ضرورة أن يلجأوا إلى الطريق الصحيحة التي يواجهون بها هذه المصاعب وهي في ذاتها لا تحتاج إلى عامل خارجي في الحقيقة وإن كان هو المواساة والتعاون على البر والتقوى والكلمة الطيبة صدقة وغير ذلك لكنها ما لم تكن أيضا منبعثة من جوانب من جوارح القلب المؤمن بالله عز وجل الموصول به فإن المؤثرات الخارجية قد لا تجدي نفعا.

 

*****

فاصل:

حضر أعرابي سفرة سليمان بن عبد الملك فجعل يمر إلى ما بين يديه فقال له الحاجب: مما يليك فكل يا أعرابي، فقال: من أجدب انتجع، فشق ذلك على سليمان، فقال للحاجب: إذا خرج عنا فلا يعود إلينا، وشهد بعد ذلك سفرته أعرابي آخر فمر إلى ما بين يديه أيضا، فقال له الحاجب: مما يليك فكل يا أعرابي، قال: من أخصب تخيَّر، فأعجب ذلك سليمان فقربه وأكرمه و قضى حوائجه.

 

وقال ضابي بن الحارث:

وما عاجلات الطير تدني من الفتى  ***  نجاحا ولا عن ريثهن يخيب.

ولا خير فيمن لا يوطن نفسه *** على نائبات الدهر حين تنوب.

ورب أمور لا تضيرك ضيرة *** وللقلب من مخشاتهن وجيب.

 

 

مقدم البرنامج: أنا قبل أن أسألكم فضيلة الشيخ سؤالا أخيرا وتجيبون عنه باختصار عن آثار التفاؤل على الفرد والمجتمع من خلال قصة الأعرابيين مع سليمان ابن عبد الملك، هل يطالب الإنسان أيضا أن يأتي بالألفاظ التي من شأنها أن تساعد صاحبها نفسيا وتبعثه على التفاؤل؟   

 

الشيخ كهلان: نعم، ولذلك هذا الفارق بين الموقفين - موقفي الأعرابيين - أي التصرف نفسه ذلك كانت تطيش يده في الصحفة.. في المائدة ، لذلك نصح r بعض أصحابه قال في رواية " لا يقل أحدكم خَبُثت نفسي، وإنما ليقل لقست نفسي " حينما أصابه التخمة الشديدة وأمراض المعدة؛ لأنه r  لا يريد أن يصنف المرء نفسه من ضمن الخبيثين حينما يقول: خبثت نفسي، حتى في هذه كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّم أصحابه بها ولذلك قال الكلمة الحسنة.. "الفأل" حينما سئل عنه قال: "الكلمة الحسنة يسمعها أحدكم"، كذلك الشأن في اختياره هو ذاته - عليه الصلاة والسلام - لأسماء صحابته على طريق الندب أيضا واختيار ما هو أفضل وأحسن لهم في طريقه في مخاطبة الآخرين فإذاً القول الحسن الطيب

هؤلاء لا ريب من الآداب التي ينبغي لنا أن نتعلمها مما يتصل بموضوع التفاؤل.

 

مقدم البرنامج: على كل حال كنا نتمنى أيضا أن يزيد لقائنا لنتحدث عن آثار التفاؤل على الفرد والمجتمع ولكن دخل هذا على كل حال ضمن كلامكم ويستفاد من جملة الحديث التي ذكرتموه هكذا هو موضوع التفاؤل يؤدي إلى الخير.. إلى زيادة العطاء في هذه الحياة.

شكرا لكم أعزائنا الكرام على المتابعة والإنصات والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

انتهت الحلقة