طباعة
المجموعة: برنامج دين الرحمة
الزيارات: 2890

التواضع

بثت في:

27 / شوال / 1429هـ

27 / أكتوبر / 2008 م

 

مقدم البرنامج: بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم أيها الإخوة الكرام ورحمة الله وبركاته، وأهلا ومرحبا بكم في حلقة جديدة من برنامجكم دين الرحمة.

 

التواضع صفة زكية يرتبط بها علو المرء وبعدمها يهبط، فللمتواضع مكانة عند الله تعالى وعند الناس، بيد أن مفهوم التواضع يحتاج إلى الكثير من التفصيل حتى يتحلى المرء بهذه الصفة خالصة لوجه الله الكريم، وفي عصرنا الحاضر كما في الأزمنة الماضية يحتاج الكثير من فئات المجتمع إلى التواضع خاصة أولئك المتوفرون على حظوظ عالية من الدنيا.

 

وعوداً على موضوع التوضيح حول صفة التواضع فإن عدداً من الناس قد يختلط عندهم مفهوم إظهار النعمة والتجمل في الحياة ومفهوم التقشف والتبذل، ويتعارض عند البعض أيضا مفهوم التواضع مع مفهوم الهيبة والمكانة التي تعد من منازل الناس المأمورين بإنزال بعضهم بعضا فيها.

 

كل هذا - بإذن الله تعالى - سوف يتضح في حوارنا مع فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي.. راجين منكم مشاركة فاعلة حول موضوع التواضع.

 

*********************

 

أهلا ومرحبا بكم فضيلة الشيخ.

 

الشيخ كهلان : وأهلا وسهلا بكم، وأحيي أيضا الإخوة والأخوات الذين يحرصون على متابعة هذا البرنامج والذين - بمشيئة الله تعالى - سوف يشاركون فيه بمداخلاتهم الطيبة، ونسأل الله عز وجل في مستهله أن يوفقنا إلى ما فيه الخير، وأن يجمعنا على طاعته، وأن يهدينا سبل السلام إنه تعالى سميعٌ مجيب.

 

مقدم البرنامج: آمين..

 

كعادتنا فضيلة الشيخ في تعريف المستمع الكريم والمستمعة الكريمة بهذه الصفات وبهذه المواضيع وبهذه القيم التي نتناولها فإننا نحتاج بالفعل إلى أن تعرفوا لنا قيمة التواضع.

 

وما هي العناصر التي ستتحدثون عنها؟

 

كذلك ما هي المجالات التي يمكن أن يشارك بها الإخوة أو يشاركوا فيها؟

 

الشيخ كهلان : بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد النعمة المهداة والرحمة المسداة وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه واهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد..

 

فإن التواضع خلق نبيل وصفة جليلة من خصال هذا الدين الحنيف، فهو قيمة لها شأنها العظيم في منظومة القيم الإنسانية لدين الرحمة ودين الإنسانية، وحديثنا يتعلق اليوم بهذه الخصلة بياناً وتعريفاً وأمثلةً؛ ذلك أن بعض الناس - كما تفضلت في المقدمة - لا يعي حقيقة هذه الخصلة، وحتى نسهل على الناس أمر فهم حقيقة التواضع أريد ابتداءً أن أحدد أننا نقصد بالتواضع تلك القيمة التي تنبعث من القلب، فنقصد بها ما يعتري هذا القلب من خلق نبيل يدفعه إلى أن يتصل اتصالاً وثيقاً بربه وخالقه ورازقه سبحانه وتعالى فيعرف حقيقة وجوده في هذه الحياة، ويعرف مكانته التي أوجده الله سبحانه وتعالى فيها، ويعرف ما يعتريه من نقص وقصور واحتياج إلى الآخرين، ويعرف أيضا مشاركته للآخرين في الكثير من القيم والمبادئ والصفات والخلال والطباع، فتنبعث بعد ذلك جوارحه مستجيبة لمشاعر دافقة من قلبه أي تنغرس في ذلكم القلب فتدفعه إلى أن يتعامل مع الآخرين بانبساط وأريحية، وأن يشكر نعمة الله سبحانه وتعالى عليه، وأن يؤدي حقوق الناس عليه أيضا، فالتواضع الذي نتحدث عنه هو ذلك الذي يتنافى مع الكبر.. هو ذلك الذي يتنافى مع التعالي والتكبر على الآخرين، وهذه الخصال ( التكبر والتعالي والاستعلاء على الناس ) إنما مبعثها القلب ثم بعد ذلك تظهر آثارها على التصرفات.. على الجوارح من كلامٍ وأفعالٍ وأقوالٍ إلى غير ذلك من الأفعال؛ ولذلك كان التواضع أيضا خصلة تلامس شغاف القلب فيظهر أثرها في تعامل هذا الإنسان.

 

فنحن لا نتحدث عن تواضع يظنه الناس مقصوراً على مظاهر معينة.. يظنه الناس محصوراً على المظهر دون المخبر، بل نحن نتحدث عن خلق التواضع - وسوف يأتي له مزيد بيان بمشيئة الله تعالى - عن خلقٍ ينبعث من القلب، وينفي عن القلب صفات مذمومة في هذا الدين الحنيف، وبالتالي نريد أن نُجَلِّيَ حقيقة هذا التواضع وهذا من أهم العناصر التي سوف نتناولها وحبذا لو استقبلنا فيها مشاركات أيضا، كذلك سوف نعرج على الوسائل العملية التي تغرس هذه الفضيلة.. هذه القيمة في نفس المسلم كيف يمكن للمسلم أن يتخلى عن الكبر وعن التعالي على الناس ويتحلى بصفة التواضع الذي نتحدث عنه.

 

هذه الجوانب العملية سوف نركز عليها أيضا سواءً كان من خلال بيان الأدلة الشرعية من كتاب الله عز وجل أو من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القولية والفعلية أو من بيان بعض الوسائل المعينة التي تحدث عنها العلماء المتقدمون والمتأخرون، ثم إننا نريد أيضا أن نعرج على آثار التواضع حينما يكون فهم الناس للتواضع فهما صحيحا وحينما يكون تطبيقهم له أيضا تطبيقا صحيحا بمشيئة الله تعالى.

 

مقدم البرنامج: بإذن الله تعالى، إذاً كل هذه العناصر نطمع من الإخوة الكرام أن يشاركوا فيها ونبدأ بهذه المكالمة.

 

مداخلة متصلة : أردت أن أعرف ما هي أسباب وجود صفات التكبر عند الإنسان؟

 

مقدم البرنامج : شكرا جزيلا، بارك الله فيكِ.

 

فضيلة الشيخ نبدأ الآن بهذه الآية القرآنية، ثم بعد ذلك نبدأ الحوار بإذن الله.

 

*********************

 

 

{ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ {18} وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ {19} وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } (لقمان:18-20).

 

مقدم البرنامج: صدق الله العظيم..

 

أهلا ومرحبا بكم أعزاءنا الكرام في برنامج دين الرحمة، وموضوعنا اليوم عن التواضع - كما استمعتم في بدايته -، وسوف نتناول الكثير من النقاط المتعلقة بهذه القيمة الجليلة وآثارها على حياة الفرد والمجتمع، وكيف يمكن أن يكتسبها الإنسان واقعاً ملموساً في حياته.

 

فضيلة الشيخ هذه الآية التي استمعنا إليها الآن قبل قليل نريد منكم تعليقاً على ما يستفاد منها، وأين نجد التواضع كذلك في القرآن الكريم؟

 

الشيخ كهلان : تعرض القرآن الكريم لصفة التواضع في عدة مواضع وفي عدة سياقات قرآنية، فإما أننا نجد التواضع صريحاً - أي يُتناول بشكل صريح - كما في هذه الآيات التي أنصتنا إليها من سورة لقمان على شكل وصايا يوصي بها لقمان الحكيم ابنه، وبالتالي هي من غرر وصايا القرآن الكريم لهذه الأمة، ووردت أيضاً الدعوة والحث على التواضع والتحلي بهذه الصفة النبيلة في سورة الإسراء في قوله تعالى { وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً {37} كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا } (الإسراء: 37-38) - على ما في قراءة حفص -، نجد أيضا التواضع مُتعرَّضاً له في القرآن الكريم من خلال بيان صفات الأنبياء والمرسلين حتى أن كثير من المفسرين يقول بأن التواضع هو صفة الأنبياء والمرسلين جميعا، لا شك أن التواضع مع كونه من الخصال العالية الشأن في هذا الدين ولكننا حينما نقول إن التواضع هو صفة الأنبياء والمرسلين إنما هو خَصٌّ بالذكر لهذه الصفة فيهم، وهذا يعني علو منزلة التواضع في سلسلة أو في قائمة القيم الإنسانية التي ينبغي للناس جميعا أن يتحلوا بها.

 

حينما نتأمل قصة نوح عليه السلام - ومع ما عاناه من قومه والمعاداة التي كانت منهم والاضطهاد والإيذاء الذي صدر منهم له ولأتباعه؛ لكننا نجد في القرآن الكريم ما يدل على أن نوحاً - عليه السلام - كان قريبا إلى الناس في قومه.. كان قريبا إلى الضعفاء أو من ينظر إليهم الكبراء والسادة في قومه إلى أنهم من الضعفاء الذين لا ينبغي أن يُعبأ بهم؛ لكن القرآن الكريم حينما يقص علينا قصة نوح - عليه السلام - في سياقات متعددة نجد هذا المعنى واضحاً بارزاً.

 

كذلك حينما نتأمل قصة موسى - عليه السلام - مع بني إسرائيل - حتى في تعامله مع فرعون وقد ادعى الألوهية - كان موسى - عليه السلام - وهو الموحى إليه من ربه وهو الذي يحمل الهداية إلى قومه الذين أُرسل إليهم؛ لكنه كان غاية في تواضعه معهم، نجد ذلك في معاملته لهم.. في طريقته في دعوته إياهم إلى طريق الهداية.. في الدعاء الذي كان يدعو به.

 

وهذا أيضا ما نجده في دعاء نوح - عليه السلام -، حَدِّث أيضا عن قصة إبراهيم الخليل - عليه السلام - ولا حرج، وكذلك قصة يوسف ويعقوب.

 

فإذاً حينما نتأمل في هذه الخصلة ونحاول أن نقرأ بها صفات الأنبياء التي قصها لنا ربنا تبارك وتعالى في كتابه الحكيم نجد أنها ظاهرة عامة، وأن الأمثلة التي سيقت لنا كانت أمثلة تؤكد عمق هذه الخصلة وأنها كانت تعني حسن المعاملة.. كانت تعني أيضا اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى والتعلق به وعدم منازعته ثوب الكبرياء الذي يختص به جل وعلا، وتعني أيضا نفي كل صفات التكبر والتعالي والعلو في الأرض.. نجد هذه في قوله تعالى : { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } (القصص: 83) هذه وردت في سياق قصة قارون - أي في سياق قصة قارون وما أوتي من أموال وتبجحه وتكبره على قومه - .. وردت هذه الآية القرآنية التي هي أيضا في صميم موضوع حديثنا عن التواضع.

 

إذاً هذه نماذج من السياقات التي وردت فيها هذه الخصلة في كتاب الله عز وجل في القرآن الكريم الأمر الصريح أو النهي عن أضدادها ومنها { وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ...} هذه إما بالأمر بالتواضع أو بالنهي عن أضداد هذه الصفات ببيان عاقبة المتكبرين على الناس من خلال القصص القرآني للأنبياء والمرسلين ومواقفهم وبيان خصالهم وخِلالهم كل هذه سياقات نجد أننا نأخذ منها الكثير مما يتصل بصفة التواضع، أما الآيات التي أنصتنا إليها - نفس السياق مرة أخرى - نجد أن تعقيب الأمر بما يحقق التواضع بعد الأمر بما هو من أركان الإسلام والاستسلام والإذعان لله عز وجل من إقامة الصلاة ومن النهي عن المنكر ومن الأمر بالصبر وبيان أن هذه الخصال هي من عزائم الأمور يأتي بعد ذلك مباشرة بيان كيف ينبغي للمسلم المؤمن الذي يرتضي الله رباً ويريد الآخرة كيف ينبغي له أن يعامل الآخرين { وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ ... } ونلاحظ كلمة { ... لِلنَّاسِ ...} مرة أخرى فلم يقل القرآن الكريم : للمؤمنين.. للمسلمين.. للأتقياء.. لا، { وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ... } مطلقاً.

 

مقدم البرنامج: مطلب إنساني..

 

الشيخ كهلان : لأن هذه قيمة ثابتة لا تتغير.. لا تخضع لردود الأفعال بل هي بفهمها الصحيح.. بحقيقتها.. بمعناها الصحيح الذي هو بعيد كل البعد عن الهوان وعن قبول الذل وعن قبول الضيم .. لا، هذه ليست من التواضع في شيء- كما سوف يأتي الحديث بمشيئة الله تعالى -؛ لكن تأتي هذه النواهي في هذه السورة الكريمة - سورة لقمان - : { وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ... } إذاً حتى لو لم يكن هناك طرف آخر تريد أن تُظهِر له سلوكك وأخلاقك في المعاملة حتى مع عدم وجود الناس {... وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ... } فهو أمر بالتزام التواضع التي تعني السكينة والوقار مع الهيبة والعزة بالإيمان وعدم قبول الذل والهوان؛ لكن ليس للإنسان أن يسير في هذه الأرض وهو مرحٌ.. متكبرٌ.. متعالٍ.. يعيث فيها الفساد ويغتر بما أوتي من صحة أو مال أو جمال أو قوة أو غيرها مما يرزقه الله تعالى عباده ابتلاءً في هذه الحياة الدنيا، ثم يأتي بعد ذلك هذا التذييل { ... إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } هذه من الصفات التي لا يحبها الله تعالى، وحينما تختم جملة من الوصايا بمثل هذه الخاتمة { ... إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } ونجد في سياقات أخرى { ...كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } (غافر:35) هذا مما تقشعر منه الأبدان، كيف لهذا الإنسان الضعيف أن يكون ممن لا يحبهم الله تعالى؟!

وماذا يكون مسير ومصير من لا يكون في دائرة من يحبهم الله عز وجل؟!

كيف يمكن له أن يهنأ في هذه الحياة ؟!

كيف يمكن أن يسعى إلى تحقيق أمل في هذه الحياة؟!

وكيف يمكن أن ينجو أيضا في الآخرة إن كان ممن لا يحبهم الله تعالى؟؟!!.

 

ثم تأتي توجيهات أخرى في هذه الآية غاية في الأهمية مما تعلم الناس آدابا حقيقية للتواضع { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ... } والقصد هنا معروف أي - بما في معناه - التوسط والاعتدال في المشية -، { ... وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } هذه مكملات لبيان ما ينبغي للمسلم من صفات.

 

طيب هو لا يصعر خده للناس ولا يمشي في الأرض مرحا كيف يعاملهم؟ كيف يسير في الأرض؟ { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ... }، كيف يعامل الآخرين؟ { ... وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ... ثم بيان هذه الصورة.. هذا المثال الذي يبين أن رفع الصوت وعلوه ليس من شيم الإنسان ذي الخلق السوي المستقيم.

 

هذا المعنى تأكد - كما قلت - في سورة الإسراء في قوله تعالى : { وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً }، ثم كل ما تقدم في هذه الآية وما قبلها من صفات نهى عنها ربنا تبارك وتعالى ختمت بقوله : { كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا }.

 

هناك { ... إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } وهنا { كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا }، هذا مما يدعو الإنسان إلى أن يقف مع نفسه وقفات في طريقة معاملته للآخرين.

 

مقدم البرنامج: نعم.. إذاً من مجموع كل هذا أن الإنسان على كل حال مطالب أن يتواضع وأن يقتدي في ذلك بأنبياء الله الكرام على اعتبار أن الله تعالى جعلهم صفوة الخلق ومع ذلك أمرهم أن يختلطوا بالناس وأن يتواضعوا لهم.

 

الشيخ كهلان : نعم.

 

مقدم البرنامج: طيب أنتم  ذكرتم الآن فضيلة الشيخ مجموعة طيبة من التعريفات للتواضع نحتاج الآن تحديداً وتقريباً للمعاني الصحيحة للتواضع، كما - ذكرتم أنتم في بداية الحديث أن التواضع ينافي التكبر وينافي صفات أخرى تذهب من حياة الإنسان إذا وجدت صفة التواضع - الآن ما هي الخصال التي ينفيها التواضع عن الإنسان؟

ثم ما مدى تناسق هذه القيمة مع سائر القيم والأخلاق في الدين؟

 

مداخلة متصل آخر: سؤالي للشيخ حول موضوع التواضع والتكبر في آن واحد، أحيانا نستدل من الآية في سورة الكهف - صاحب الجنة الذي كان يتكبر على صاحبه - ويقول : { ... أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا } (الكهف:34) التكبر معروف أنه عادة ذميمة ومحرمة عندما يظهرها الإنسان؛ لكن أحيانا الإنسان في ذاته قد لا يُظهِر التكبر في تعامله مع الآخرين ولكن في ذاته قد يقول : أنا أكثر تدينا عن شخص أو أكثر أماناً عن شخص ويعجب بذلك، فهل هذا يذنب عليه الشخص وهو في باب التكبر أيضا؟ والحديث يقول : " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر "، فهل هذا أيضا يعتبر من التكبر إذا كان معجباً بنفسه في ذاته ولم يُظهِر التكبر سلوكاً أمام الآخرين؟

 

مقدم البرنامج: طيب أخي إذا كانت هذه المسألة قلبية - كما تفضلت - أو أمور داخلية عند الإنسان هل تتبدى في شيء من حركاته وتصرفاته كما تظن؟

 

المتصل : إذا كان يحاول أن يكتمها أو هو إنسان ملتزم بطبيعته ولكن ينتابه الشعور أحيانا بأنني أقوى من فلان أو أُعجب بما أفعله أحيانا وأنا أقوى من هذا أو ذاك، فهل هذا من باب التكبر أيضا؟

 

مقدم البرنامج: طيب أخي شكرا على مشاركتك الطيبة، بارك الله فيك.

 

مجموعة من الأسئلة..، أولا سؤالنا الذي طرحناه قبل قليل في موضوع تحديد وتقريب المعاني الصحيحة للتواضع..

 

الشيخ كهلان : نعم.. أقرب المعاني للتواضع - وأنا كنت في الغالب في ثنايا هذا البرنامج أميل إلى تقريب صورة القيم التي نتناولها سواء كان بتعريفها أو كان ببيان ما ينفي أضدادها وأجد نفسي مضطرا اليوم إلى أن يكون تعريف التواضع بنفي بعض الخصال.. ببيان أنها ما ينفي خصالا معينة؛ لأن الواضح أن هذا هو الأقرب إلى أن تبين حقيقة هذه القيمة للناس - فالتواضع يعني (نفي الكبر والتعالي على الناس وعن الحق ) قد يتعالى إنسان على الحق فلا يقبل حقاً فهذا ليس من التواضع.. قد يعامل إنسان غيره بتعالٍ وينظر إليه على أنه أقل منه منزلة وأنه أحقر شأنا فإذا به يتغطرس عليه وإذا به يتكبر وإذا به يغمطه حقوقه، هذا كصاحب الجنتين – كما ذكر الأخ المتصل -.

 

 فإذاً التواضع ( هو عدم التعالي والتكبر على أحد من الناس ولا على الحق مطلقا )، هذا يعني أن مصدر التواضع هو القلب - كما قلت -؛ لذلك بعض الناس يظن أن التواضع هو في الرضا بالدون والرضا بالقليل - كما تحدثنا عن القناعة الرضا بالدون والرضا بالمذلة والمهانة – .. لا، أولا المسلم مطالب بأن يكون معتزاً بدينه وأن يكون شاكراً لنعم الله تعالى عليه.. متحدثا بنعمة ربه عليه { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } (الضحى: 11)، ثم أيضا هو منهي.. المسلم منهي من أن يعامل غيره بغلظة أو بشدة أو بتعالٍ؛ لأن هذه ليست من صفات أهل الإيمان، هي من صفات من ذمهم الله تعالى من أمثال قارون وفرعون الذين تكبروا وتغطرسوا في هذه الحياة الدنيا وظلموا الناس، فهؤلاء هم الذين يتصفون بصفات التكبر والتعالي وظلم الناس، وقد بيَّن الله تعالى لنا مصائرهم في الآخرة.

 

أما المسلم فإنه يقتدي بالأنبياء والمرسلين.. يقتدي بالقدوة الحسنة الصالحة، وحينما يُقلِّب صفحات التاريخ – كنا قد أشرنا إلى خُلق الأنبياء والمرسلين فيما مضى – حينما يُقلِّب صفحات التاريخ يجد أن شرفاء الناس في المجتمعات الإسلامية من أدنى الأرض إلى أقصاها كانوا يَتَّسِمُونَ بالتواضع حتى أن الواحد منهم.. أي حتى أن الحكماء تصفهم بأن شرف تواضعهم أعظم من الشرف الذي هم فيه ذاته، فتواضعهم للناس هو شرف آخر فوق الخصال التي يتمتعون بها والمنزلة التي بوأهم الله إياها، فإذاً الفيصل في حقيقة التواضع هو ما يتملك القلب من الرغبة في قبول الحق وفي معاملة الناس بالحسنى في الأقوال والأفعال وفي ما يبديه لهم في سائر معاملاته لهم مما ينفي عنه التعالي والكبر والترفع عن قبول الحق.

 

مقدم البرنامج: نعم.. ولا يتخذ المنزلة - كما تفضلتم - التي هو فيها فرصة للتعالي على الآخرين.

 

الشيخ كهلان : نعم.

 

مداخلة متصل ثالث : عندي بعض النقاط :

النقطة الأولى : كيف يوازن الشخص بين تمثله لخلق التواضع وبين حفاظه على هيبته؟ - طبعاً أشرت أنت إلى هذا الموضوع في المقدمة -.

 

النقطة الثانية : في بعض المواقف قد لا يستطيع الإنسان أن يكون لديه منزلة لدى بعض الأشخاص إلا إذا عاملهم معاملة المتكبر وعندها يحترمونه ويسمعون منه.

 

النقطة الثالثة : كيف نوفق بين الأمر بالتواضع وبين القول ( أن التكبر على الشخص المتكبر عبادة )؟

 

النقطة قبل الأخيرة : توجد الآن بعض العلوم التي تبعث في الإنسان الثقة بالنفس، وقد يعتقد البعض على أن في كثير من مبادئها ما ينافي التواضع، ما هو الموقف الوسط في هذه المسألة؟

 

النقطة الأخيرة : قد يترك بعض الفضلاء سد فراغ أو يتركون أمراً ليقوم به من هو أقل منهم كفاءة من منطلق التواضع، فكيف يوفق الإنسان بين عدم تزكيته للنفس - أقصد بالتزكية الاغترار بها - وبين قيامه بالواجب؟

 

مقدم البرنامج: تضرب لنا مثالا على هذه الأخيرة.

 

المتصل : مثلا قد يكون هناك شخصا لديه اطلاع على علوم الشريعة الإسلامية فمثلا يدعى لإلقاء محاضرة فيأبى ويقول : أنا لست أهلا لذلك، فيأتي من يلقي وهو أقل منه علماً.

 

مقدم البرنامج: هل برأيك هذا من التواضع؟

نريدك أن تشركنا بشيء من أرائك حول هذه النقطة بالذات، هل تعتبر هذا تواضعا؟

لنقل أستاذاً في جامعة أو نقل مثلا شخصية كلفت بعمل معين تتركه تواضعاً ويأتي من هو أقل منها شأنا لينال نصيبه من ذلك الأمر، هل تعتبر هذا تواضعا؟؟!!

 

المتصل : هذه نظرة أكاد أجدها عند الكثير من الأشخاص، وهي أنه يحقر من نفسه كثيرا، فيترك القيام ببعض الأعمال، هو لا يقصد أن يستشعر في نفسه أنه متواضع ومتمسك بخلق التواضع؛ لكن يبالغ في تحقير نفسه حتى أنه لا يرى نفسه أهلا للقيام بذلك العمل.

 

مقدم البرنامج: إذاً أنت تطلب معالجة هذا الموضوع؟

 

المتصل : نعم، أبسط مثال هناك كثير من البرامج يا حبذا لو قام بها من هو مؤهل أكثر بحيث إن هذه البرامج يستفيد منها كثير من الناس، فلابد أن يكون الشخص الذي يُقدم شخص.. ماذا أقول..

 

مقدم البرنامج: على كل حال تعني شخصا يستطيع أن يوصل المعلومة.. يستطيع أن يستفيد من ذلك...

 

المتصل : يوصل المعلومة ويفيد الناس بحيث إن الناس لما يستمعون إلى مثلا وقت لمدة نصف ساعة يشعرون بأنهم يستمعون لشيء يستحق ذلك الوقت.. على كل دقيقة أو كل لحظة يمضيها ذلك المحاضر تكون هناك فائدة وليس فقط مجرد دوران أو كما يقولوا : ما محصِّل كلام فيقضيه في تمضية الوقت.

 

مقدم البرنامج: واضح.. جميل أخي.. شكرا جزيلا لك.. بارك الله فيك..

على كل حال هذا سيتداخل معنا في موضوع آخر ربما سنزيده توضيحاً إن شاء الله في حوارنا.

نستمع الآن إلى هذا الفاصل ثم نعود إلى الحوار ونبدأه بسؤال الأخت المتصلة.

 

*********************

 

عن عبدالله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْر " قال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، قال : " إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بَطَرُ الحق، وغمط الناس ".

 

مقدم البرنامج: هذا الحديث يوقفنا على الخصلة المضادة التي تحدثتم عنها، وقد سئلت قبل ذلك الأخت المتصلة عن أسباب وجود التكبر في حياة الناس؟.. توضحوا لنا..

 

الشيخ كهلان : تأذن لي أن نعلق قليلا على هذا الحديث الذي أنصتنا إليه يبين لنا حقيقة هذه الخصلة التي نتحدث عنها اليوم، ويقرر أيضا ويقر جملة من الصفات التي تنفي الفهم الخاطئ لهذه القيمة - للتواضع - فبعض الناس يظن أن التواضع هو في المظاهر، ونحن نقول هنا بأن التواضع إنما هو في المخبر.. في الجوهر.. في ما يغشى القلب من صفات تدفعه إلى أن يقبل الحق وإلى أن يتعامل مع الناس ضعيفهم وقويهم.. غنيهم وفقيرهم.. مع كل الناس.. مع من هم من قومه أو من غير قومه؛ ولذلك فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما قرر " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر " فظن بعض الصحابة بأن الكبر هو في المظهر الحسن، وإذا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يؤكد عكس ذلك.. يبين أن ظهور المسلم بالمظهر الحسن هو من صميم هذا الدين؛ لأن ذلك من الصفات التي يحبها الله عز وجل؛ فلذلك حينما قال الصحابي : إن الرجل فينا يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مباشرة بيَّن أن هذه الصفات مما ينبغي أن يتحلى بها المسلم.. ومن المظاهر التي ينبغي أن يحرص عليها المسلم؛ فلذلك قال : " إن الله جميل يحب الجمال "، ثم قال- مُبيَّناً حقيقة الكبر - فقال : " الكبْرُ بَطَرُ الحق ... " - هكذا بفتح الطاء - " الكبْرُ بَطَرُ الحق وغمط الناس " أي التعالي عن قبول الحق وظلم الناس، فهو لا يخلو إما أن يكون مترفعا ذا جبروت عن قبول الحق والصواب فيأنف من قبول الحق؛ لأنه في الحقيقة سبب ذلك أنه لا يرى غيره أهلا لأن يقول له بأنك أخطأت أو أن الصواب في كذا أو أن الأفضل في حقك كان كذا.. لا يرى غيره من الناس أهلاً لذلك.

 

مقدم البرنامج: إذاً هذه النقطة الأولى في تصحيح المفاهيم، بعض الناس يظن أن ملابسه الرثة واستخدامه لمركبة - مثلا – لا تليق بوضعه المادي.

 

الشيخ كهلان : وهذا فهم خاطئ، هو يظن أن ذلك هو التواضع وهو ليس من التواضع بل إن هناك أبياتاً تروى للإمام مالك، وقد حذر العلماء من ذلك وبيَّن هنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وفي القرآن الكريم يقول الله تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ...} (الأعراف:31)، ويقول : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ }؛ لكن الكبر بطر الحق، وغمط الناس.

 

 أيضا أن يظلم الناس، والظلم يكون في الماديات كما في المعنويات أي أن يحتقر الناس هذا ظلم معنوي.. حينما يحقر المسلم أخاه.. حينما يحقر الآخرين فإنه بذلك يظلمهم ظلماً.. يظلم إنسانيتهم.. يظلم صفات الفطرة التي فطرهم الله تعالى عليها.

 

مقدم البرنامج: إذاً التعسف في استخدام مثلا سلطة بعض الأفراد على بعض يعتبر هذا من الكبر، باعتبار أنه يتبطر على الناس بهذا الذي آتاه الله تعالى إياه.

 

الشيخ كهلان : هو كذلك نعم، وهذا يقودنا نعم للسؤال الذي ذكرته - سؤال الأخت المتصلة - عن أسباب التكبر.

نقرأ من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن للتكبر أسباباً وله بواعث، فحينما يبالغ المرء في الإعجاب بنفسه ويزهو بنفسه فإن ذلك يورثه الكبر، فيتكبر على الآخرين، فهي مغالاة في النظر إلى النفس وفي إعطائها أكثر من مزاياها وفضائلها، إما أن يكون مبعث ذلك العلم أو أن يكون المال أو أن يكون الجاه أو الولد أو القوة وإلى آخره، مما هي من رزق الله تعالى لعباده التي يمنحها من يشاء ويمنعها عن من يشاء، الواجب على هذا المُنعَم عليه أن يقابل ذلك بالشكر وبالثناء على هذه النعمة.. الثناء على الله عز وجل بما وهبه من هذه النعم من خلال حسن معاملته للآخرين.. من خلال إعانته للآخرين فيما خُوِّلَ إياه.

أو قد يكون مبعث الكبر صفات سلبية.. الحسد هو من أبلغ ما يأكل قلب المتكبر بنار الحسد فإذا بها تشتعل ويريد أن يطفئها بتكبره على الآخرين.

أو أن يكون ذلك بحب المباهاة.. التقليد ومباهاة الآخرين فيبعثه ذلك أيضا إلى التكبر.

 

مداخلة متصل رابع : بالنسبة للتواضع.. حاليا ما يظهر في المجتمعات مثل لبس الملابس الطويلة أو مثلا في نفس الوقت حمل العصا.

هل نبدي أو نُظْهِر فكرة على أساس أنه أنا مثلا تركت حمل العصا في مجتمعي - ولو كان من العادات - لكن أنا مثلا توحي لي أنها هي نوع من التكبر، هل هذا يعتبر رأي من الأخطاء الشائعة كمفهوم مثلا؟

 

مقدم البرنامج: أي أنت تقصد أن حمل العصا يعتبر تكبراً؟.. أو تركه تكبرا؟

 

المتصل : مثلا كمفهوم عند هذا الشخص أن حمل العصا يعطيه زينة، ولكن وصل إلى حد التكبر.

 

مقدم البرنامج: أنا كما قلت في المقدمة فضيلة الشيخ وكما بينتم أيضا أنتم في حديثكم الواسع هذا أن هناك خلطا عند الناس بين التواضع وبين بعض الصفات والعادات والتقاليد، الآن أنتم عالجتم قضية مهمة جدا في موضوع التكبر، الآن قضية أخرى أيضا تحتاج إلى معالجة في الموضوع - وقد طرحها الأخ المتصل الثالث طبعا في سؤاله نحن أشرنا إليه في البداية - كيف يوازن الإنسان بين هيبته ومكانته عند الناس التي يرغب أن ينزلوه فيها كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أنزلوا الناس منازلهم " وبين صفة التواضع التي يُطالَب بها أساساً.

 

الشيخ كهلان : الموازنة.. المنهج الوسط في ذلك هو قبول الحق، والحقيقة أن الهيبة هي ليست هدفاً في ذاتها أي هي ليست هدفاً يُسعى إليه.. لم يأت دليل في كتاب الله عز وجل أو في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن على المسلم أن يبتغي الهيبة عند الآخرين.. أن يكون مهاباً عند الآخرين، فهي ليست قيمة مثلا يَسعى إليها أو هدفا يسعى إلى تحقيقه - حسب ما أعرف من الأدلة الشرعية -؛ لكن حينما ننظر في عموم الأدلة الشرعية ونقول بأن من أخلاق المسلمين أن يحترم بعضهم بعضاً.. أن يعامل بعضهم بعضا على أساس من الأخوة والإنسانية والخلق النبيل والقيم العالية الرفيعة فإن هذا يعني حقوقا وواجبات.. يعني كما أن على الإنسان واجبات للآخرين فإن له حقوقا من قبل الآخرين، أن يعامله الآخرون بمثل ما يعاملهم هو هذا هو الأساس؛ لذلك طالما ذكرنا في أكثر من مناسبة ( عامل الآخرين بمثل ما تحب أن يعاملوك به ) طبعا شريطة أن يكون ذلك في إطار الضوابط الشرعية.. أن لا تكون خارجة عن حدود لا يصح للإنسان أن يرتضي سلوكاً بعيداً عن أخلاق المسلمين ويقول أنا أرتضيه لنفسي وبالتالي فأنا أعامل به الآخرين.. لا، هذا خارج عن هذه الأخلاق.

 

مقدم البرنامج: طيب.. يوجد سؤال حول هذا الموضوع فضيلة الشيخ لكن بعد هذه المكالمة.

 

مداخلة متصل خامس : الحقيقة الكبر - اللهم صلى على سيدنا محمد - سلوك بغيض وغير مقبول في ديننا إلا لله وحده سبحانه وتعالى، لكن أريد أن أسأل الشيخ كهلان توجد مقولة - أنا الحقيقة سمعتها منذ زمن طويل جدا - تقول : ( الكبر على أهل الكبر صدقة ) فالحقيقة أنا لا أعرف صحة أو خطأ هذه العبارة؟

 

مقدم البرنامج: هذا أيضا وارد في سؤال الأخ المتصل الثالث..

 

طيب.. الآن فضيلة الشيخ سؤال - قبل أن نأتي إلى هذا الموضوع - هذه الهيبة التي تحدثتم عنها قبل قليل قد يحتاج إليها المعلم بين تلاميذه مثلا أو قد يحتاج إليها المربي أو الأب مع أبنائه ليحافظ على طاعتهم له وامتثالهم له..

 

الشيخ كهلان : نعم.. أنا كنت سآتي عليها.. إن التزام المسلم بهذه القيم والأخلاق يورثه مهابة واحتراماً، يعني لما قلت بأن المهابة ليست هدفا في ذاتها؛ لكن هي مما يورثه الله تعالى العبد حينما يلتزم بالقيم والأخلاق وحينما يسير على الصراط المستقيم؛ لأنه ساعتها يألف ويؤلف.. يحظى بالاحترام من الآخرين.. حينها يكون محبوباً لدى الآخرين، التزامه وتطبيقه هو لهذه الأخلاق الرفيعة ولهذه القيم النبيلة في نفسه وفي معاملته للآخرين هي التي تورثه محبة الآخرين.. تورثه أن يهابه الآخرون.. لماذا؟!

 

لأنه في المقابل وقَّاف عند الحق.. يسعى إلى أن يكون نصيراً للحق.. نصرته للحق هي من قيمه وأخلاقه - كما تحدثنا في قيمة العزة أيضا قررنا هذا المبدأ -، إذاً مجموع هذه الخصال سوف تجعله يحظى من الآخرين بالقبول.. بالمحبة أو بالهيبة أو بكل ما يبتغيه هو من صفات تحقق له القبول عند الآخرين، وهذا ما نأخذه أيضا من مثل قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من تواضع لله رفعه " – قد ورد أيضا هذا الحديث بعدة ألفاظ وفي عدة مصادر – فهذه الرفعة التي نتحدث عنها هي الرفعة المقبولة شرعا.. هي الرفعة التي تكون في الدنيا وفي الآخرة.. لماذا؟؟

 

لأنه مثلا: كم نجد نحن في الواقع حينما يكون هناك - حاشا السامعين - من السفهاء يقول لك : لا.. أنا لا أعامل هذا لأنه على مستوى من الأخلاق والقيم، فلا يرضى السفيه أن يُعامِله في كثير من الأحيان - وإن كان هذا ليس للاستشهاد طبعاً - وهكذا كان عمر بن الخطاب ما كان هدفه أن يسعى إلى أن يكون مهابا؛ لكن هو بالتزامه بأخلاق هذا الدين وبحسن معاملته للآخرين هابه الناس، العدل الذي نشره وهو على ما آتاه الله تعالى من منزلة رفيعة.. تقيده بالعدل في نفسه وحرصه على ذلك ونشره وبسطه للعدل والأمن في المجتمع أورث الناس محبته ومهابته في آن واحد؛ لكن ننظر إلى عمر بن الخطاب.. المرأة التي كانت ما تجد من ينفخ لها النار وعمر بن الخطاب - وهو أمير وهي لا تعرفه - يقوم فينفخ لها النار ويرجع وكله رماد ودخان.. هذا عمر بن الخطاب.

عمر بن الخطاب تستوقفه امرأة وتقول له : ( يا عمر كنا نعرفك وأنت صغير بعمير، ثم ما لبثت أن صرت عمرا، ثم ما لبثت أن صرت أمير المؤمنين )، فبكى عمر بن الخطاب ، فقال لها رفيقه: حسبك، قد أبكيت أمير المؤمنين،  فقال عمر لرفيقه : أعرفت من هذه؟ إنها خولة بنت حكيم التي سمع الله تعالى قولها من فوق سمائه -.

 

فهذه المنزلة التي حظي بها عمر بن الخطاب ما كانت – حاشاه طبعا - بسبب الكبر والغطرسة والتعالي، وإنما كان بسبب قبوله للحق ونشره للعدل وبسطه للأمن والحق والعدل في المجتمع وعند الناس وبحسن معاملته للآخرين؛ ولذلك لما قيل له : اتقِ الله يا عمر، قال : لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نقبلها منكم.

 

مقدم البرنامج: يأتي معنا الآن سؤال ملح طرحه الأخ المتصل الثالث وقال فيه : ( التكبر على الشخص المتكبر عبادة )، وقال الأخ المتصل الخامس : ( الكبر على أهل الكبر صدقة )، نريد توضيحاً حول هذه النقطة.

 

الشيخ كهلان : نعم.. هذه من الألفاظ والجُمل التي استخدمها بعض من كتب في الأخلاق وفي السِّير؛ لكنها - حسب علمي - ليست بحديث صحيح مرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتعبير بكلمة الكبر هنا من باب المشاكلة فقط، أي ينبغي أن تحمل على ذلك من باب المشاكلة اللفظية { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ ... } (آل عمران:67) و { ... نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ... } (التوبة:67)، أما الكبر هنا على أهل الكبر أو التكبر على المتكبرين - كما ذكر الأخ المتصل الثالث – هذه الألفاظ إنما هي من باب المشاكلة؛ لكن المقصود منها هو عدم الرضوخ لظلم الظالمين ولتعاليهم على الناس والصدع بالحق هذا هو المقصود، الصدع بالحق وعدم الاستخذاء والاستكانة للمتكبرين هو من العبادات، لا شك بأنها من العبادات ومن القربات التي يتقرب بها العبد إلى ربه عز وجل؛ لكن لا يفهم منه أن هناك ( كِبْراً محموداً ) ويقصد به الوقوف في وجه المتكبرين.. كذلك النهي عن المنكر بحسب آدابه وشروطه وضوابطه فإن هذا إن سمي كبرا محمودا فهذا هو المقصود به، ومع ذلك فهو يُحمل أصلا على أنه مشاكلة وهذا من الصدع بالحق ومن النهي عن المنكر والأمر بالمعروف -.

 

مقدم البرنامج: هل يدخل هذا في معنى قوله تعالى في صفات المؤمنين : { ... أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ... } (المائدة:54)؟

 

الشيخ كهلان : نعم ويدخل في قوله أيضا تعالى { وَاخْفِضْ ... } مخاطباً رسوله - صلى الله عليه وسلم – أي أمره بالتواضع { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } (الشعراء:215).

 

مقدم البرنامج: جميل..

 

الشيخ كهلان : ما لم يكن هناك اتصال.. في موضوع الأخ المتصل الثاني هو أشار أيضا إلى نقطة مهمة، أظن هو قال أو غيره؛ لكن هي نقطة مهمة فعلا نشكره عليها – قال : بعض الناس قد يكون معجبا بنفسه؛ لكن لا يظهر أثر ذلك في تعامله مع الآخرين، هو في تعامله مع الآخرين ملتزم.. على هدي من الأخلاق الرفيعة، هذا يسميه أهل السلوك ( الكبر الكامن ) أي إذا بالغ المرء في الإعجاب بنفسه - وإن كان في مراحله الأولى لم يظهر في تعامله مع الناس وكان مؤطرا علاقته بالآخرين بإطار الخلق الحميد - فهذا يُخشى عليه من أن يتمادى فيصل بعد ذلك إلى المذموم من الكبر الذي نتحدث عنه مما يتنافى مع صفة التواضع، وأشار إليها الأخ المتصل الثالث أيضا لما قال : هناك علوم ومهارات جديدة تغرس الثقة في نفس المؤمن، هذه الثقة التي نتحدث عنها هي تعني إدراك نعم الله تعالى على هذا العبد ثم شكر هذه النعم، فإن كان الله تعالى قد وهبه عقلا و فكرا أو صحة و مالا أو طمأنينة أو شيئاً من الملكات وهو تعرف عليها.. وجد من نفسه ذلك هذا لا حرج فيه؛ لكن على أن يكون استخدامه لها في طاعة الله عز وجل.. على أن يستغل هذه الملكات وهذه النعم في طاعة الله تعالى، ونحن نتحدث عن الطاعة هنا بمفهومها الواسع التي هي عمارة الأرض في هذه الحياة بما يرضي الله عز وجل – العمارة المادية والمعنوية -.

 

مقدم البرنامج: إذا هذا لا يدخل في موضوع الغرور؟.. أو يدخل فيه؟

 

الشيخ كهلان : هو يُخشى عليه، هذا يسمى ( كبر كامن ).. هناك كبر كامن في نفسه يُخشى عليه أن يتمادى وبعد ذلك يتحول إلى أن يكون تكبرا فعلا يظهر أثره في معاملة الآخرين فينبغي له أن يعالج نفسه، معالجة النفس هنا بحملها على التواضع.. بالنظر أيضا إلى جوانب النقص والقصور.. بالاتصال بالله سبحانه وتعالى لأجل أن يستمد منه العون والهداية والتوفيق وأن يسأله الثبات { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ } (آل عمران:8) هذا ما علمنا إياه ربنا تبارك وتعالى.

 

مقدم البرنامج: طيب تدخل معنا في هذه النقطة نقطة أخرى طرحها الأخ المتصل الثالث :

بعض فنون تنمية المهارات الحديثة تتعلق أو تتحدث عن موضوع الثقة بالنفس وأن الإنسان عندما يثق في نفسه ويكسبها هذه الصفة فإن ذلك سوف يدفعه إلى تقديم المزيد من العطاء، هل يصطدم هذا مع التواضع.

 

الشيخ كهلان : لا، لا يصطدم، هذا الذي نقوله نحن بأنه يعرف الملكات أو يتعرف على الملكات والمواهب التي أنعم الله تعالى بها عليه وأن يستغلها في كل ما فيه خير وطاعة وقربى لله عز وجل، وبالتالي هذا ينفي عنه صفة الانكفاء على الذات، والتقصير عن فعل ما يمكن أن يؤديه مما فيه صلاح نفسه وعياله وصلاح المجتمع والناس من حوله.

 

مقدم البرنامج: طيب، إذاً هذا على غرار ما تحدثتم به في الحلقة الماضية موضوع أن الإنسان لديه صفات معينه يسعى إلى تصحيحها.

 

الآن نقطة أخرى أيضا نريد أن نطرحها تقدم بها الأخ المتصل الرابع موضوع العادات والتقاليد والأعراف التي عند الناس، قد يبالغ بعض الناس في إظهارها إلى حد الكبر، ربما الأعراف والتقاليد والظروف الاجتماعية تقتضي من الإنسان أن يحمل معه عصا في مناسبة من المناسبات؛ ولكن في بعض الأحيان تكون هذه العصا عند الناس فرصة للتباهي، هذا يدخل في دائرة التكبر..؟

 

الشيخ كهلان : لنتحدث عن القاعدة ولنترك بعض الفروع الآن، أولا هناك – كما قلنا – مبعث الكبر والتواضع هو القلب، فحينما يكون القلب نقيا.. حينما يكون المرء ساعيا إلى أن يزكي قلبه بخصال الخير وأن يكون منقاداً للحق.. محسنا في معاملته للناس فإنه على خير كثير.

وكذلك في المقابل أيضا مبعث الكبر ومبعث التعالي إنما هو القلب، حينما يشعر هذا القلب بأنه أعلى من غيره وأنه متفوق عليهم وأن الآخرين ينبغي بل يجب عليهم – هكذا ينظر – أن يخدموه وأن يعينوه وأن يقدموا إليه وأن يسمعوا له وإلى آخره فهذا من التكبر.

 

لكن من حيث العمل والتصرف أيضا هناك ضوابط شرعية، أي هناك بعض الأعمال والتصرفات التي نص عليها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ونصت عليها أدلة شرعية على أنها هي في ذاتها من علامات الكبر من ذلك مثلا قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا ينظر الله إلى من يجر إزاره بطرا " - هذه الرواية أيضا وردت بعدة ألفاظ متعددة – هذه الأدلة الشرعية اعتبرت ذات جر الإزار من علامات البطر.. من علامات الكبر.

 

مقدم البرنامج: هو في نفسه مخيلة..

 

الشيخ كهلان : نعم هو في ذاته مخيلة، أما ما دلت عليه مثلا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم – القولية أو الفعلية أو التقريرية أنه من السنة فلا ريب أن الاقتداء به بحسب درجات تلك السنة.. بالاقتداء والتأسي به عليه أفضل الصلاة والسلام الخير الكثير، يبقى أن على الناس أن يحملوا بعضهم بعضا على حسن الظن.. أي لا ينبغي للمجتمع حينما يرى سلوكا ما أن يَحمل ذلك السلوك فوراً على أنه من علامات الكبر أي أن يحمله على محمل سوء، بل الواجب أن يحمله على محمل خير؛ لأن حسن الظن في المجتمع هو من علامات قوة هذا المجتمع، وهي من لوازم الأخوة الإيمانية فيه.

 

مقدم البرنامج: ما لم تظهر فيه صفات بطر الحق وغمط الناس، إذاً هو فقط مجرد مظهر.

 

الشيخ كهلان : لكن - كما قلت – ما لم تكن هناك أيضا سُنة تدل عليه، وأما ما سوى ذلك فهي اختيارات شخصية لا ينبغي أن تحمل هذه الاختيارات الشخصية على أنها علامة على خلقٍ سيئ – كما قلنا – ما لم يقترن ذلك بسلوك ما، فهذا السلوك هو الذي يُحكَم عليه المرء من خلاله من قول أو فعل أو تعامل مع الآخرين.

 

مقدم البرنامج: إذاً ما وردت فيه سُنة تنهى عنه لا يمكن أن نعده مظهراً مقبولا..

 

الشيخ كهلان : وفي المقابل أيضا ما ورد من سُنة أيضا مقرة شرعا فإن التزامه لا ينبغي أيضا أن يُفسَّر على أنه من علامات الكبر.

 

مقدم البرنامج: كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم – عندما يستقبل الوفود يلبس لهم أحسن ملابسه ويتجمل.

 

الشيخ كهلان : نعم.. يتجمل .. كان يتجمل لهم نعم.

 

مقدم البرنامج: نمتع الإخوة المستمعين بهذه الحكم وبهذه الوقفات الأدبية حول موضوع التواضع.

 

*********************

قال الشاعر :

 

تواضع تكن كالنجم لاح لناظر *** على صفحات الماء وهو رفيع
ولاتك كالدخان يعلو بنفسه  ***  إلى طبقات الجو وهو وضيع

 

وقال غيره :

 

حسن التواضع في الكريم يزيده *** فضلا على الأضراب والأمثالِ

يكسوه من حسن الثناء ملابسا  *** تنبي عن المترفع المختالِ

إن السيول إلى القرار سريعة *** و السيل حرْب للمكان العالي

 

مقدم البرنامج: أهلا ومرحبا بكم أيها الإخوة الكرام في برنامج دين الرحمة وقد وصلنا بالفعل إلى نهاية هذه الحلقة اليوم، نشكر فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي..

 

شكرا لكم فضيلة الشيخ..

 

الشيخ كهلان : شكرا لكم وبارك الله فيكم.

 

مقدم البرنامج: نشكركم أعزاءنا المستمعين على المتابعة والإنصات والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

انتهت الحلقة