طباعة
المجموعة: برنامج دين الرحمة
الزيارات: 2210

عنوان الحلقة:  العلم في الإسلام (2)

 

 

مقدم البرنامج: مستمعينا الكرام السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، نحييكم ونرحب بكم في حلقة جديدة تجمعنا وإياكم وبرنامج دين الرحمة، حلقة اليوم سيكون معكم فيها الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي.

 

مستمعينا الكرام حلقة اليوم سنتناول فيها " العلم في الإسلام "، سنطرق أبوابا عديدة في هذا المضمار.. سنتعرف على إجابات متعددة في تساؤلات عدة، وكذلك سنستقبل مداخلاتكم و مشاركاتكم في هذا الموضوع.

 

*********************

 

بداية نرحب بالشيخ الدكتور كهلان، مرحبا بك دكتور كهلان.

 

الشيخ كهلان: حياك الله، وأنا أرحب بدوري بكم، ونرحب بالإخوة والأخوات الذين يتابعون هذا البرنامج والذين - بمشيئة الله - سوف يشاركوننا فيه خاصة مع كون هذا الموضوع موضوعا شائقا يستحق أن يُتحدث عنه.

 

مقدم البرنامج: الشيخ الدكتور كهلان: العلم أساس الحضارات، وسر التقدم، وسبب الشرف في الدنيا والآخرة.

 

أي علم نتحدث عنه اليوم في حلقتنا من دين الرحمة؟

 

ولماذا نتناول هذا الموضوع طالما أن مكانة العلم ومنزلة العلماء معروفة ومدركة من قبل الناس ؟ - ولا أظن أن أحدا لا يعلم بذلك - فلماذا نطرح هذا الموضوع؟

 

الشيخ كهلان: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.. نبي الرحمة.. النعمة المهداة والرحمة المهداة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..

 

فإن موضوع العلم الذي نتناوله اليوم هو تأكيد لهذا المبدأ الأصيل الذي رسخته هذه الشريعة وهو أن العلم صنو الإيمان، فإن الإيمان إنما يبنى على العلم، والعلم يدعو إلى الإيمان، وبالعلم تتقدم الأمم، وترقى الشعوب، وتُعْمَرُ الحضارات، وتبنى الأوطان، فالعلم الذي نتحدث عنه اليوم هو ليس العلوم الشرعية فقط التي يحسب الواحد منا حينما يقرأ في كتاب الله عز وجل ويجد بيان شرف العلم ومنزلة العلماء والمكانة التي بوئ إياها العلم والمنزلة التي سوف يحظى بها العلماء في الدنيا والآخرة إنما يختص بها أهل العلوم الشرعية أو أهل العلوم الدينية، ما نريد أن نلفت إليه الانتباه صراحة اليوم هو أهمية العلوم التجريبية أو التطبيقية كقيمٍ ومبادئ راسخة في حضارة هذا الدين الحنيف؛ ولذلك فسوف نتحدث عن جوانب من هذه العلوم.. العلوم التطبيقية بشتى فروعها وأنواعها من علوم الطب والفيزياء والكيمياء وعلوم الأرض والفلك، وإلى علوم أيضا تتصل بعلوم الآلة كاللغة والعلوم الإنسانية وغيرها من العلوم والمعارف التي قد لا يبدو أنها متصلة اتصالا وثيقا للوهلة الأولى بالعلوم الشرعية.

 

 هذا لا يعني بطبيعة الحال أن منزلة العلوم الشرعية منزلة هامشية أو منزلة دنيا وإنما كل ما أردنا بيانه هو أنه مع شرف العلوم الشرعية ومع اتفاق الناس على منزلتها ومكانتها وعلو شأنها لما لها من أثر في الدنيا والآخرة؛ ولأنه بها يعبد الله سبحانه وتعالى على بصيرة وبينة، وبها يدعى إلى هذا الدين أيضا بالحكمة والموعظة الحسنة، وبها أيضا يندفع المسلم في هذه الأرض طالباً لعلومٍ ومعارف أخرى.

 

 لكن لما كانت منزلة هذه العلوم الشرعية الدينية معلومة لدى الناس أردنا أن نلفت انتباههم إلى ما يتصل بالعلوم الأخرى، وأن نبين لهم أن ما تحدث عنه القرآن الكريم وما ورد في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ما يدعو إلى العلم ويحث عليه لا يعني فقط ولا يتناول فقط العلوم الدينية، وإنما يقصد بها أيضا ما سوف نثبته نحن اليوم من شتى أنواع العلوم والمعارف التي تعمر بها حياة الإنسان، وتتحقق لهذا الإنسان بواسطتها الحياة الهانئة الآمنة المطمئنة، وبها تعمر الحضارات، وبها يتواصل الناس فيما بينهم بما هو أفضل وأحسن لصالح الإنسان أياً كان هذا الإنسان؛ ولذلك فإن كل المشاركات التي تتصل بهذا الجانب مما يعرفه الإخوة والأخوات المتابعون من إسهام المسلمين في العلوم التطبيقية هو محل ترحاب.

 

لأننا سوف نتعرض - من ضمن ما نتعرض له - إلى واقع المسلمين اليوم في العلوم والمعارف، وكيف يمكن أن نرتقي.. كيف يمكن أن يرتقي المسلمون بعلومهم التطبيقية ومعارفهم التقنية إلى ما هو أفضل لحضارتهم، وإلى ما هو أدعى إلى إعطاء الصورة الصحيحة كما كان للعلوم.. لهذه العلوم الدور الأكبر في إعطاء الصورة الناصعة لحضارة المسلمين، كل هذه المشاركات اليوم في هذه العناصر التي تحدثنا عنها وفي غيرها أيضا مما يتصل - بمشيئة الله - بأمثلة عملية تطبيقية سوف نبينها للناس مما يبين اتصال العلم بالدين.. العلم بالإيمان اتصالا وثيقا بحيث لا يمكن أن ينفكا أبدا سوف يكون من ضمن ما نتناوله بمشيئة الله تعالى.

 

مقدم البرنامج: بمشيئة الله، الشيخ كهلان هناك طبعا بعض التساؤلات المتعلقة بهذا الموضوع؛ ولكن إن شاء الله تعالى نطرحها بعد أن ننصت لهذه الآيات القرآنية المتعلقة بالموضوع.

 

{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ {52}  سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {53} أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ } (فصلت:52-54).

 

مقدم البرنامج: صدق الله العظيم، الدكتور كهلان استمعنا لهذه الآيات الكريمة، طيب ما دلالتها فيما نتحدث عنه؟ أو ما التأصيل الذي يمكن أن تعطيه إيانا هذه الآيات بخصوص هذا الموضوع؟

 

ثم كيف أيضا نجد القرآن الكريم يتناول قيمة العلوم التطبيقية؟

 

الشيخ كهلان: نعم هذه الآية التي أنصتنا إليها فيها.. أو هذا السياق الذي وردت فيه يبين للناس أن الله عز وجل سوف يكشف لعباده جميعا آيات من دلائل إعجازه في هذا الكون.. في الأفاق وفي الأنفس، في الأفاق أي في المحيط الخارجي لهذا الإنسان، وفي الأنفس أي في المحيط الداخلي لهذا الإنسان، حتى يصل إلى غاية الإيمان بالله عز وجل.. حتى يشهد كل ما يحيط بهذا الإنسان - من ما عبرت عنه الآية بالأفاق -، ويشهد كل ما يحتويه هذا المخلوق الذي هو الإنسان من أسرار ومن آيات عجيبة تتصل بخلقته.. بوجدانه.. بتركيبه وتكوينه.. بتقويمه مما يؤدي إلى الإيمان بالله عز وجل.

 

أكثر أهل العلم يصرحون بأن الآيات التي يشير إليها أو تشير إليها هذه الآية هي ليس آيات القرآن الكريم بدليل أن الله عز وجل علق هذه الآيات بأنها آيات مبثوثة في الآفاق وفي الأنفس، وبيَّن أن ذلك سوف يدعو إلى انكشاف الحقيقة، وهنا يكون التحدي للمشركين.. للذين لا يؤمنون بأن هذا التوائم العجيب في كل ما يحيط بهذا الإنسان وما ينطوي عليه هذا الإنسان نفسه إنما يدل على الحق الذي لا مرية فيه وهو أن الله عز وجل هو الخالق المدبر لأمر هذا الكون، ولهذا الإنسان، وأنه وحده المستحق للعبادة، وأنه جل و علا بكل شيء محيط، هذا ما يتصل بهذه الآية.

 

بالتالي فحينما نمعن النظر ونسأل أنفسنا من هم القديرون على اكتشاف أسرار هذه الآيات التي يدعو الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة عباده إلى التأمل فيها وإلى اكتشافها؟

 

هل هم علماء الشريعة وعلماء الدين؟

 

أم أنهم العلماء المتخصصون في هذه العلوم والفنون والمعارف التي تكشف لهم أسرار هذه الآيات التي تنطوي عليها الأفاق من أرضين ومن سموات ومن فضاءات والتي ينطوي عليها أيضا هذا المخلوق مما يتصل بوظائفه، ومما يتصل بتركيبه، ومما يتصل بكل ما يتعلق بخلقته؟

 

لا ريب أن الأقدر على الوصول إلى هذه الحقائق هم العلماء المتخصصون في هذه العلوم والمعارف كلٌ في تخصصه ومجاله؛ هناك آية كثيرا ما يحفظها الناس ولكنهم لا يفهمون حقيقة معناها أو يضيَّقون من معناها الواسع وهي قول الله عز وجل: {...إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء...} (فاطر:28).

 

مقدم البرنامج : يتبادر إلى أذهنهم علوم الدين فقط.

 

الشيخ كهلان: علوم الدين فقط، في حين أن السياق الذي وردت فيه هذه الآية الكريمة يدل على أنها في حق غير علماء الشريعة.. غير علماء الدين أولى.. وأنهم بها أولى وأجدر؛ ذلك أن الآيات تتحدث.. أن السياق يتحدث عن الآيات المبثوثة في الكون.. في خلق الجبال.. في خلق الأنفس.. في اختلاف هذه الظواهر من جبال ومن تضاريس الأرض ومن ما هو في الأفاق، من الذي يكتشف.. من الذي يكتشف هذه الآيات؟

 

إن الذين يستطيعون اكتشاف أسرار هذه الآيات المبثوثة هم المتخصصون.. مرة أخرى المتخصصون في هذه الشريعة، لا حرج في أن أتلو سريعا السياق الذي وردت فيه هذه الجملة من الآية الكريمة {...إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء...} وهي قوله تعالى: { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ {25} ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ {26} أَلَمْ تَرَ...} (فاطر:25-26) يبدأ هنا الخطاب بالدعوة إلى اكتشاف أسرار هذا الوجود { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ {27} وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ...} (فاطر:27-28)، ثم يأتي بعد ذلك {...إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ثم يأتي أثر هذا الإيمان { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا...} (فاطر:29) وهذا ما نعرفه.. من أن هذه العلوم والمعارف أيضا تدعو إلى مزيد من الإيمان وبالتالي تدعو إلى مزيد من العمل.

 

مقدم البرنامج: الإيمان المقنع، والإيمان الذي تطمئن به القلوب.

 

الشيخ كهلان: الذي تطمئن به النفس ويدفع فعلا إلى العمل الصالح، فإذاً لا ريب أنَّ علماء الشريعة - الذين يكتشفون جمال هذه الشريعة وأسرار التشريع وجمال الإيمان والاتصال بالله سبحانه وتعالى - يدركون أيضا أكثر من غيرهم فيما يخصهم مما يتعلق بالإيمانيات والإلهيات وغيرها من ما تشتمل عليه هذه الشريعة من جمال ورحمة وسعة وآفاق، إلا أن الذي تتحدث عنه هذه الآيات الكريمة هو نوع آخر من العلماء، هم علماء في هذه العلوم والمعارف التطبيقية التجريبية سواء قلنا بأنهم علماء طبقات الأرض.. هم علماء الفضاء والفلك والأجرام السماوية.. هم علماء الحيوان أيضا؛ لأن الآية تشير إلى الآيات المبثوثة في الدواب والأنعام.. هم علماء الطب؛ لأن الآية تشير إلى الناس.. علماء التضاريس والتقلبات الجوية، كل ما يتصور من أنواع العلوم والمعارف مما أشارت إليه الآية ولو بإشارة عابرة، ثم يختم بعد ذلك {...إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء...}.

 

إذاً القرآن يتناول هذه الإشارات اللافتة فعلا لكي يدعو عباده إلى أن يسعوا.. إلى أن يصلوا إلى الغاية التي يريدها منهم وهي مزيد من الإيمان مع مزيد من اكتشاف أسرار هذه الحياة واكتشاف أسرار هذا الوجود، والسعي نحو ما هو أفضل لهذا الإنسان في حياته وعلاقاته مع الآخرين.

 نجد كذلك أن الله سبحانه وتعالى حينما يقول: {...وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ } (العنكبوت:43) يتحدث عن مجموعة من الآيات في السموات.. في الأرض.. في المخلوقات، ثم بعد ذلك يقول: {...وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ فالذين يعقلون هذه الآيات هم أولئك الذين يتسمون بالعلم الذي يمكنهم من معرفة الأسرار التي تنطوي عليها الآيات التي يتحدث عنها القرآن الكريم.

 

أيضا آية الشهادة { شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (آل عمران:18) هنا منزلة أولوا العلم منزلة عامة لا يمكن أن يقال.. - بعدما بينا أيضا منزلة أصحاب هذه العلوم والمعارف فيما تقدم من آيات قرآنية - لا يمكن أن يحصر مفهوم هذه الآية في الشهادة لله تعالى بأنه لا إله إلا هو وأنه تعالى قائما بالقسط.. لا يمكن أن يحصر مفهوم أولي العلم المنصوص عليه في هذه الآية في حاملي العلوم الشرعية فقط؛ لأن ذك لا دليل عليه، بل الآية عامة في كل أولي العلوم التي تُوَصِّلُهُم إلى هذه الحقيقة.

 

مقدم البرنامج: شتى أنواع العلوم دون التخصيص لعلم معين.

 

الشيخ كهلان: وكم رأينا من علماء متخصصين في هذه العلوم التطبيقية كانوا أقرب إلى حمل هذه الشهادة وأدائها - الشهادة لله تعالى بأنه لا إله إلا هو -؛ لأنهم أدركوا أنه لا يمكن أن يتقن هذه الصنعة.. ولا يمكن أن يودع كل هذه الأسرار فيما يعالجونه من صنائع وظواهر أو يفسرونه من ظواهر وموجودات إلا خالق هذه الموجودات.. خالق هذه الصنعة وهو الله سبحانه وتعالى.

 

وهذا أيضا يذكرنا بقصة بلقيس كيف أن الله سبحانه وتعالى رفع منزلة الذي عنده علم من الكتاب، ما العلم الذي استطاع به أن ينقل عرش بلقيس من اليمن إلى حيث سليمان - عليه السلام -؟ أي في تلك المدة القصيرة بأي علم استطاع ذلك؟

 

هذه الإشارة العابرة تدل على منزلة هذه العلوم التي يُرى أثرها، وقد لا تصل حتى علومنا المعاصرة إلى تفسيرها، وقد تتيح هذه الاكتشافات المتلاحقة ما يعين على تفسير مثل هذه الظواهر ويبين للناس منزلة هذه العلوم التي يحتاج إليها الإنسان فعلا.

 

مقدم البرنامج: نعم، والإنسان العَالِم قد يكون أقرب ما يكون إلى الله سبحانه وتعالى بإدراكه لأسرار الخلق.. وبدائع صنع الله سبحانه وتعالى في هذا الكون.. كيف والله سبحانه وتعالى سخر هذا الكون لخدمة البشرية كلها.. وكيف أودعه هذه الأسرار.. وكيف على الإنسان أن يكتشف هذه الأسرار.. وأن يتعرف على بدائع صنع الله سبحانه وتعالى.. يترسخ الإيمان فيه أكثر وأكثر.

 

الشيخ كهلان: أحسنتم نعم هذا صحيح تماما؛ ولذلك كان هذا الدين دين علم، وكانت حضارته - حينما وعاها المسلمون - حضارة علم وتقدم، وبالتالي حضارة صناعة وزراعة وحرف وإنتاج؛ وبذلك تحقق الرخاء للمسلمين، وتحققت الرفاهية لهم وسوف نأتي - بمشيئة الله تعالى - إلى ذكر أدلة أخرى، وأيضا أمثلة تطبيقية وشواهد أخرى سواء كان ذلك من كتاب الله عز وجل أو من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

 

مقدم البرنامج: لعل هناك الشيخ كهلان آيات كثيرة من القرآن الكريم تدعو المسلمين إلى النظر والتأمل { قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ...} (يونس:101)، { أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ {17} وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ } (الغاشية:17-18)، وآيات عديدة من الكتاب العزيز تصب في هذا المصب ( دعوة المسلمين إلى هذه العلوم ).

 

الشيخ كهلان: أحسنتم نعم، وهي سياقات كثيرة حينما يتأمل فيها الواحد منا يجد أنها من الكثرة بحيث لا يجد مناصا من الاعتراف والتسليم بهذه المنزلة العالية الرفيعة التي أعطيت لهذه العلوم والمعارف التي اصطلح على تسميتها بعلوم تطبيقية وعلوم تجريبية، نحن نتحدث عن كل العلوم والمعارف.

 

مقدم البرنامج: نعم، وكفانا بذلك قول الله سبحانه وتعالى في أول آية نزلت { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } (العلق:1-2)، دعوة أيضا إلى العلم وإلى البحث في أسرار هذا الكون.

 

الشيخ كهلان: حتى هذه الإشارات التي فيها أوجه من الإعجاز العلمي هي من ما يبين أهمية هذه العلوم؛ فمن الذي يستطيع أن يتصور أوجه الإعجاز في هذه الآيات الكريمة؟

 

لا ريب أن من أوتي حظا ونصيبا من هذه العلوم والمعارف هو الذي يستطيع أن يصل إلى إدراك حقيقة أوجه الإعجاز في هذه.. مع أن القرآن هو كتاب هداية وكتاب إرشاد وتشريع إلا أن الله سبحانه وتعالى أودع فيه آيات لكي يزداد الناس إيمانا، ولكي يظل هذا القرآن معجزا عبر توالي العصور وانقضاء الدهور، هذه الآيات تشتمل أو تنطوي على الكثير من ما تحدث عنه أهل العلم في  كل العصور من الإعجاز العلمي سواء كان ذلك في علوم البحار.. في علوم الأرض.. في علوم الأفلاك.. في علوم الطب.. في العلوم الرياضية .. في مختلف أنواع العلوم والمعارف، هذه كلها هي التي يدعو الله سبحانه وتعالى إلى التأمل والنظر فيها.. حتى يحقق القرآن غايته بأن يدعو الناس إلى الإيمان به، وإلى الإيمان بمن أنزله تبارك وتعالى، والعمل بما فيه من تشريعات وأحكام وأخلاق وهدايات ومواعظ ومراشد.

 

مقدم البرنامج: الشيخ الدكتور كهلان: بالتأكيد نفهم من هذه العلاقة بين الدين والعلم أن هذه العلاقة هي علاقة انسجام وتوافق، هل يمكن أن نُذكِّر ببعض الأمثلة التطبيقية التي نجد فيها هذا التآخي بين العلم التطبيقي والإيمان الديني؟ أي نوضح للمستمع الكريم بعضا من هذه الأمثلة، ونرجو أن تشرحوها وتوضحوها.

 

الشيخ كهلان: نعم لعل أوضح ما يتجلى فيه هذا الانسجام وذلكم التواؤم هو ما يتصل بالعبادات التي يقوم بها الإنسان المسلم، لنأخذ مثلا أمر الصلوات والصيام والحج، هذه عبادات وهي شعائر تعبدية يتقرب بها المسلم إلى ربه تبارك وتعالى؛ امتثالا لأمره واحتسابا للأجر والثواب.

 

لكن كيف يؤدي المسلم هذه العبادات؟

 

ما هي أوقاتها الصحيحة شرعا التي بأدائها فيها يتحقق الجزاء والأجر والثواب لهذا المسلم؟

 

أوقات هذه العبادات علقت بمظاهر طبيعية.. بحركة الشمس والقمر، فمثلا فيما يتعلق بالصيام كلنا يعلم أن الله سبحانه وتعالى افترض على عباده صيام شهر رمضان، ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - بيَّن أن على الناس أن يتحروا رؤية هلال رمضان؛ فلذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته".

 

الصلوات الخمس.. صلاة الفجر لها وقت محدد شرعا يتصل بظواهر طبيعية.. بطلوع الفجر الصادق ويمتد حتى وقت ما قبل طلوع الشمس، وقت صلاة الظهر هو عند زوال الشمس بمعنى أنه يتصل بحركة الشمس، ووقت العصر هو ما إذا صار ظل كل شيء مثله أو مثليه، وقت المغرب هو من ما يلي اكتمال غروب الشمس، وقت العشاء الآخرة هو وقت العتمة إذا غاب الشفق، هذه الأوقات وملاحظتها - إن في الصيام أو في الصلوات - تستدعي من المسلم أن يتعرف على هذه الظواهر الطبيعية، وأن يرصد حركتها؛ لكي يضبط بها عباداته، وبالتالي فلابد له من مكنة تضبط له أداءه لهذه العبادات من خلال ضبطه لهذه الظواهر الطبيعية التي علقت العبادات عليها.

 

كذلك الحال بالنسبة للحج، فالله سبحانه وتعالى بيَّن أهمية هذه الظواهر الطبيعية فيما يتصل بمناسك الحج حينما قال: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ...} (البقرة:189)، {... مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ...} كلمة الناس كلمة عامة، و كلمة مواقيت أيضا كلمة وردت في سياق الجمع المنَكَّر مما يعني عمومها فيما تدل عليه، فإذاً علقت بها منافع للناس ليس فقط فيما أشير إليه من أمر الحج وإنما في سائر شؤون حياتهم من معاملاتهم المالية.. من الأحوال الشخصية.. من نكاح وطلاق وعدد وما يستتبع ذلك.. وحضانة ورضاع وعِدد وفاة وعدد طلاق إلى آخرها.

 

أيضا مما يتصل بأحكام معاملات الناس فيما بينهم من أحكام التعامل المالي أو أحكام المعاملات في حالات السلم والحرب أو ما يتصل بجانب الشعائر التعبدية من صلاة وصيام وحج نُصَّ عليه في هذه الآية الكريمة؛ ولذلك كان لزاما على المسلمين أن يتحروا هذه العلامات التي بها يستطيعون معرفة الأوقات الصحيحة التي يستطيعون أداء عبادتهم فيها، وبالتالي يجعلهم يتعلمون العلوم التي تضبط لهم حركة هذه الأجرام السماوية، والظواهر الطبيعية التي علقت عليها هذه العبادات، هذا العلم اصطلح على تسميته بعلم الفلك؛ ولذلك تجد أن حظا ونصيبا من معرفة هذه العلوم.. من معرفة علم الفلك هو مقدار مشترك للمسلمين جميعا .

 فمثلا رجل يريد أن يصلي، ويريد أن يعرف جهة القبلة.. ويريد أن يعرف وقت الصلاة - ولا نتصور الناس بحسب ما هيأ لنا نحن الآن من الآلات ووسائل، لا، نحن نتحدث عن شريعة جاء بها رسولنا - صلى الله عليه وسلم - منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام - فإذاً سوف يتعلم كيف يتحرى الاتجاه الصحيح للقبلة.. سوف يتعلم كيف يعرف الوقت الصحيح للصلاة التي يريد أن يؤديها، وهذا دفع بعلماء المسلمين أو بواقع المسلمين إلى أن يكون عندهم تطور ونمو ورقي فيما يتعلق بهذا العلم الذي هو علم الفلك، وفعلا وصلوا إلى مراحل تمكنوا من خلالها حتى من تصوير الكرة الأرضية، أقدم تصوير للكرة الأرضية يوجد في متحف تاريخ العلوم الذي يتبع جامعة أكسفورد في المملكة المتحدة.. أقدم تصوير صحيح للكرة الأرضية هو لعلماء المسلمين، وأقدم مجسم للكرة الأرضية بما فيها من خرائط ومواقع هو أيضا لعلماء المسلمين، هذا إنما هو ناشئ عن هذا الامتزاج الذي نتحدث عنه بين العلم والدين.. العلم الذي يُحْتَاج إليه لإقامة الدين.. والدين الذي يدفع إلى مزيد من العلم والمعرفة.. العلم الذي يدعو إلى مزيدٍ من خشية الله عز وجل.. والدين الذي يُوجِد الباعث لدى الناس حتى يتعلموا؛ لأنه بهذه العلوم والمعارف يزدادون إيمانا ويتمكنون من أداء عبادتهم، وبالتالي يتحقق الرخاء والتطور، وتبنى الحضارة حينما نجد هذا الانسجام وهذا التوائم.

 

ويتحقق العكس.. يحصل العكس من تأخر.. من تخلف.. من إهمال لهذه العلوم والمعارف.. أيضا حينما تحصل فجوة بين العلم والدين، على خلاف ما يوجد من نظريات أخرى وما يوجد لدى ثقافات أخرى نجد أن واقع الحال عند المسلمين أن قدرة المسلمين على أداء عبادتهم تكون أفضل حينما يكونون في ازدهار علمي، وأيضا العلاقة علاقة طردية بين العلم والدين لدينا؛ ولذلك أيضا كان المسلمون حريصين وجديرين على أن يوائموا بين العلوم والمعارف وبين ما يستطيعون به – أيضا - إقامة شعائرهم الدينية في مختلف العصور والأزمنة، فإذا كان مثلا علوم الفلك الآن قد تطورت وصارت علوما غاية في الدقة والضبط فإنه لا ينبغي أن تهمل هذه العلوم والمعارف.

 

حينما نريد أن نستطلع أهلة الأشهر القمرية على سبيل المثال؛ لأن الأشهر القمرية علقت عليها عبادات - كما قلنا – الحج.. الصيام، وليس الحج والصيام.. ليست الفرائض فقط، أي هناك أيضا الكثير من أوقاف الناس.. من عدد النساء.. من أحكام الدماء.. أحكام الرضاع.. من أحكام القضاء أيضا علقت على هذه الأشهر؛ لذلك قالت الآية: {...مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ...}، وبالتالي متى ما أمكن التعويل على هذه العلوم والمعارف واستخدامها فيما يؤدي إلى طمأنينة هذا المسلم لأمر عبادته التي يؤديها أياً كانت هذه العبادة إن كانت صياما أو كانت حجا أو كانت نوافل يتقرب بها في العشر الأولى من ذي الحجة أو كانت صيام يوم عرفة أو كانت وقفة عرفة أو كانت أيام التشريق أو كانت بالكف وعدم صيام يوم العيد.. بما يتعلق بالأضاحي التي يقربها المسلم قربانا لله عز وجل يبتغي بها وجهه ورضاه.

 

 كل هذه وغيرها من الأعمال علقت ونيطت بهذه الظواهر، فالوضع الصحيح هو أن يوائَم بين هذه العلوم.. بين هذه الحقائق العلمية وبين أيضا الأدلة الشرعية، وهذا يدفع بحركة العلم ذاته، كما يدفع أيضا بحركة الفقه - وهذا ما نتحدث عنه -؛ لذلك كنا نجد في تاريخ المسلمين فيلسوفا طبيبا.. نجد أيضا فقيها فلكيا.. عالما في الرياضيات، وأسماء مشهورة، بل يكاد كثير من الناس الآن لا يتصورون أنهم معددون من المبدعين في مجال العلوم التطبيقية ويظنون أنهم من علماء الشريعة فقط، خذ ابن رشد مثلا.. خذ الرازي على سبيل المثال.. خذ أسماء كثيرة في علوم غاية في الدقة، كما تلاحظون مثلا بين يدي الآن هذا الكتاب الضخم الذي تربو عدد صفحاته على الألف صفحة، هذا الكتاب وهو من المخطوطات النادرة التي يحتفظ بها في مكتبة وأرشيف الدكتور فؤاد سيزكين في فرنكفورت في ألمانيا، هذا الكتاب هو من القرن السادس أو السابع الهجري أي نتحدث عن ألف ومائتين للميلاد، هذه الأوقات التي كانت تسمى في غير العالم الإسلامي بالعصور المظلمة، عنوان هذا الكتاب ( الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل، لبديع الزمان أبي العز إسماعيل ابن الرزاز الجزري )، والمحقق يرى بأن تاريخ تأليف الكتاب هو في نحو ستمائة هجرية أي ألف ومائتين ميلادية، هذا الكتاب من عنوانه يظن بعض الناس ( في صناعة الحيل ) أنها أيضا حيل فقهية، لا، هي في الحيل الميكانيكية..

 

الكتاب أيضا مليء بالأشكال: أشكال هندسية وبالألوان وغاية في الدقة حتى موضوع ما كنا نتحدث عنه من علم الأفلاك هناك دائرة للبروج والأفلاك، وأنا بنظرة سريعة أجد أنها متوافقة مع ما رأيت أيضا من خرائط حديثة تتصل بعلم الفلك إلى حد أن المحقق نفسه أثنى على هذا الكتاب، ونقل أيضا ثناء العلماء لهذا الكتاب بشكل يدعو فعلا إلى العجب حتى أنهم - من الملاحظات السريعة العابرة - أنهم يظنون أنه كان مِن مَن فكَّ رموز اللغة الهيروغليفية التي كان يستعملها المصريون، وهذا ينفي النظرية الشهيرة بأن شامبوليون هو الذي اكتشف في القرن التاسع عشر، وائذن لي أن أقرأ أسطرا بسيطة؛ لأن الكتاب غاية في الأهمية، و يتحدث عن السؤال الذي ذكرته - من الأمثلة التطبيقية - يقول: ( ختاما نقول إن كتاب الجامع بين العلم والعمل هو أجمل وأشمل ما وصل إلينا من تراث التكنولوجيا العربية ) استعمل هذا التعبير ( العربية الإسلامية فالمؤلف ينطلق من المبدأين الأساسيين للتكنولوجيا من العلم ومن العمل أي من النظرية والتجربة.

 

 في الواقع يعطي لنا الجزري أفضل النماذج للتفاعل المشترك بين هذين المبدأين الأساسيين المشتركين للعلم ) ثم يقول: ( إن تقييما حقيقيا للكتاب أو قريبا من الحقيقة ليس ممكنا إلا بإقامة تاريخ التكنولوجيا العربية الإسلامية على أسس صحيحة، والتعريف بمكانته في إطار التاريخ العام لهذا الفضل، مع أن الجزري لم يكن فيلسوف طبيعة ولا فيزيائيا وإنما كان مهندسا بحتا يهتم بصناعة الآلات وتركيب أجزائها وإصلاحها والتعريف بها )، إلى آخر ما ذكره عن الكتاب الذي كما رأيتم مليء بالرسوم التوضيحية لهذه الأشكال الهندسية الميكانيكية التي يثبتون بها.. يجربون بها النظريات العلمية إن إثباتاً أو عدمه.

 

مقدم البرنامج: بل الشيخ حتى نلاحظ أن الفقهاء العمانيين أسهموا إسهاما واضحا في هذا المجال، مثلا لدينا كتاب ( الماء )، وكتاب ابن رزيق في الطب، وكذلك إذا أتينا على المستوى العربي مثلا.

 

الشيخ كهلان: رسائل أحمد بن ماجد أيضا في علوم البحار هي من الرسائل المعتمدة في هذا الفن أيضا.

 

مقدم البرنامج: ومن العلماء العرب بشكل عام من المغاربة قطب الأئمة كتبه الفقهية الموسوعية ومع ذلك له كتب حتى في الفلك ألف.

 

الشيخ كهلان: نعم.. نعم وفي الطب كذلك، وأسماء مشهورة، هذا التمازج كان موجودا، تاريخ العمانيين.. عائلة كعائلة ابن مداد المشهور أنهم أطباء؛ لكنهم في ذات الوقت أيضا هم فقهاء مشهورون، هذه الأسماء تتكرر ، هذه أمثلة بسيطة - كما قلت - مما يتعلق بعلم الفلك الأصل في المسلمين أن يستفيدوا من دينهم في أجل الارتقاء العلمي، وأن يستفيدوا أيضا من العلوم من أجل ترسيخ مكانة الإيمان وصحة الإيمان في نفوسهم.

 

مقدم البرنامج: ولعل الشيخ هناك أيضا علوم الحيوان أو علم البيطرة - كما يقال - له ثقة بمعنى علاقة ووثيقة الصلة بهذا المجال، مثلا في مسألة الهدي هناك أسنان معينة، ومسألة حكم يحكم به ذوا عدل منكم أيضا له صلة وثيقة بهذا المجال، وكذلك في الفدية في الحج.

 

الشيخ كهلان: نعم أحسنتم؛ أنا ركزت على مثال جانب الفلك؛ لأنه مما يشترك يكاد فيه الناس جميعا في أداء الصلوات.. في تحديد بدايات الأشهر القمرية، وهذا أمر غاية في الأهمية أن اعتماد المناهج العلمية الموافقة أيضا للأدلة الشرعية هو أمر غاية في الأهمية وهو الذي يؤدي إلى طمأنينة الناس.

 

مقدم البرنامج: وبالتالي هذه العلوم تخدمهم في دينهم كما تخدمهم في دنياهم.

 

الشيخ كهلان: نعم نعم.

 

مقدم البرنامج: طيب الشيخ هناك أيضا أسئلة متعلقة.. أي الموضوع متشعب؛ لكن نقف الآن مع هذا الفاصل الذي به حديث من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم نعود بعد ذلك.

 

********************

 

روى الإمام الربيع بن حبيب في مسنده قال: حدثني أبو عبيدة عن جابر ابن زيد عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اطلبوا العلم و لو بالصين"، ومن طريقه عن النبي - عليه السلام - قال: "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا لما يطلب".

 

مقدم البرنامج: استمعنا قبل لحظة إلى حديث من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، الشيخ الدكتور كهلان نتحدث في هذا الجانب.

 

الشيخ كهلان: نعم، الحديثان اللذان أنصتنا إليهما يبينان منزلة العلم في هذا الدين، والحديث الأول "اطلبوا العلم ولو بالصين" ترى ما هو العلم الذي يأمر رسول - صلى الله عليه وسلم - أن يطلب ولو من الصين؟

 

أي إن كانت علوم الوحي فعلوم الوحي هي حيث مهبط الوحي؛ لكنه - صلى الله عليه وسلم - يدعو صحابته وبالتالي يدعو أمته إلى أن يسعوا إلى اكتساب العلم والمعرفة ولو أدى بهم الحال إلى الوصول إلى أبعد نقطة يتصورها الفرد في ذلك الوقت وهي الصين.. أقصى بقعة في الأرض، فإذاً هذه دعوة صريحة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن المسلم عليه أن يتحلى بالعلم، وأن يسعى إلى طلب العلم.

 

ثم الحديث الثاني يبين منزلة طالب العلم "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا لما يطلب"، ولا ريب أن طالب العلم الذي يتمكن به من عبادة الله عز وجل بخشوع وطمأنينة هو أولى وأحق وأجدر؛ لكن مع ذلك من كان يطلب علما يبتغي به رضا الله سبحانه وتعالى.. يريد أن يصل إلى ما فيه.. ما يدعهو إلى مزيد من توحيد الخالق واكتشاف عظمته والإيمان به حق الإيمان.. يريد أن يصل إلى حقيقة تنفع الناس في واقعهم.. يريد أيضا أن يرد على شبهات علمية تتنافى وهذا الدين كل هؤلاء في سعيهم هم ممن تظلهم الملائكة بأجنحتها - بحسب ما يفهم من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي استمعنا إليه -؛ لذلك نجد أنه- عليه الصلاة والسلام - اتخذ خطوات عملية لأجل حث قومه وصحابته - الذين كانوا في أغلبهم أميين - إلى طلب العلوم والمعارف، مثلا القراءة والكتابة وصل الحال إلى أن يفتدي المشرك نفسه من الأسر بتعليم عشرة من أولاد صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأولاد المسلمين، فهو يفتدي نفسه بتعليم عشرة من أولاد المسلمين القراءة والكتابة، هذا يدلنا على أهمية العلم أو الخطوات العملية التي مارسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأجل تطبيق ما ورد في النصوص الشرعية التي أشرنا إليها.

 

 أيضا كثير من الناس لا يعرف أن من مصارف الزكاة على سبيل المثال لا تصرف الزكاة للمتفرغ المنقطع للعبادة، أما إذا كان متفرغا منقطعا للعلم الذي سوف ينفع به الناس فإنه يمكن أن يعطى من الزكاة؛ لأن في اشتغاله بالعلم مصلحة للناس وحبس نفسه لهذا الغرض، أما المشتغل بالعبادة.. المنقطع للعبادة فالنفع يعود عليه بنفسه فقط؛ ولذلك فهو مأمور بالسعي والكسب.

 

مقدم البرنامج: هنا مصلحة خاصة وهنا مصلحة عامة.

 

 الشيخ كهلان: وهنا مصلحة عامة بالضبط، هذه من الأمثلة العملية للتشريعات الفقهية التي تتصل بموضوع العلم، كذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بعض صحابته الكرام أن يتعلموا لغة أقوام كانوا يعيشون بينهم أو في جزيرة العرب أو خارج جزيرة العرب، إذاً.. هذه هو ما يعرف اليوم بعلم الترجمة.

 

مقدم البرنامج: انفتاح على ثقافات الآخرين.

 

الشيخ كهلان: تعلم اللغات وإتقان اللغات؛ لأنه أمرهم بإتقان اللغات هذه، وحتى يتمكن من التواصل معهم.. حتى يتمكن من فهمهم، فهو يضع أساسا لما نعرفه نحن اليوم بـ ( علم الترجمة وعلوم اللغات ).

 

أيضا الأمر بالتداوي وما ورد مما كان يرشد إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحابته أو كان يتداوى به بنفسه من الدواء وقوله: "إن الله تعالى لم ينزل داء إلا وأنزل له الدواء" أو  كما قال - عليه الصلاة والسلام - : "إن الذي أنزل الداء أنزل الدواء"، الآن ما الذي يؤخذ من هذا؟ يؤخذ كيف يمكن أن يُتداوى، لابد من تعلم كيف يتداوى الإنسان، وبالتالي لابد من تعلم علوم الطب التي يحتاج إليها الإنسان لأجل أن يتداوى من الأمراض والأدواء التي تصيبه، حينما نتأمل نجد أن هناك مناسبات كثيرة.. نعم الفارق بأن هناك منهج وضعه هذا الدين لطلب العلوم والمعارف، هذا المنهج يتمثل في سلامة الوسيلة وسلامة المقصد ( الهدف ) وحسن الاستخدام أيضا، هذه لابد أن تجتمع في العلوم والمعارف التي يسعى المسلمون إلى اكتسابها وإلى تحقيقها، هذا أيضا ما رسخه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صحابته الكرام وبالتالي في أمته، وأن يسعى إلى العلوم النافعة، وأن يكون السعي إليها أيضا بطرق صحيحة شرعا، وأن يكون القصد الخروج من الجهل.. أن يكون القصد ابتغاء مرضاة الله عز وجل.. أن يزداد المؤمن طمأنينة وإيمانا بما يصل إليه من حقائق.. أن يؤكد على ما يجده في كتاب الله عز وجل من إشارات إلى آيات علمية معينة إلى آخر ما يتصل بالمقاصد الحسنة التي يمكن أن تكتنف مسيرة المتعلم لهذه العلوم والمعارف.

 

مقدم البرنامج: طيب الشيخ هنا لدينا في هذا المجال وفي هذا الموضوع قضيتان عامتان ومهمتان، المبدأ الذي ألمحتم أو بدأتم به في البداية ترجمة المسلمين لهذا المبدأ في حياتهم، ما آثار هذا المبدأ إذا تُرجِم عن المسلمين في حياتهم ليتقدموا؟

 

والأمر الثاني - في المقابل - تأخر المسلمين.. ما الذي أدى بهم للتأخر عن ركب الحضارة وركب التقدم العلمي في واقعنا المعاصر؟

 

الشيخ كهلان: لنبدأ إذاً بالنقطة الأولى – اختصارا – مسألة الآثار الناشئة عن تفعيل المسلمين وتطبيقهم لمبادئ الدعوة إلى العلم والسعي إلى طلب العلم، والمنهج العلمي الصحيح في أخذ هذه العلوم والمعارف، ثم بعد ذلك كيف يستفاد منها؟ كيف يبنى عليها؟ ففي أخذها لابد من الأمانة.. لابد من نسبتها إلى أصحابها.. لابد أيضا من امتحانها وتجربتها بحسب موازين الشرع الحنيف، ثم بعد ذلك تكون مرحلة البناء عليها، والتطوير والازدهار، وهذا ما حقق للمسلمين ما هو معروف، ولازالت الكثير من شواهد هذه المخترعات موجودة سواء في أرض الواقع أو في المتاحف وفي المكتبات العالمية.. في شرق الأرض وغربها.

 

القضية الثانية ما الذي أدى بالمسلمين إلى تأخرهم - كما قلت - عن الحضارة وعن التقدم العلمي؟

 

الفجوة التي توهموها بين علومهم وبين إيمانهم ودينهم سواء أكانتا منشأ هذه الفجوة التأثر بما لدى الآخرين أو كان أيضا تقصيرهم في دينهم؛ لأن التقصير في فهم الدين الفهم الصحيح وفي التمسك بتعاليمه سوف يؤدي إلى التراخي والكسل عن طلب العلوم والمعارف هذا من أهم الأسباب، أيضا الجانب المعنوي الذي أشرنا إليه حينما تسود الناس الرغبات الدنيوية والمصالح الآنية وتُسيِّر علاقاتهم فيما بينهم فلا يمكن أن يتحقق ازدهار علمي.. لا يمكن أن يتحقق النمو والارتقاء العلمي والتقني الذي ينشده هذا الإنسان؛ لأن هذه الأهداف تحتاج إلى تعاضد جهود وتحتاج إلى تعاون، وهذا التعاون لابد أن يكتنفه المقصد الحسن الذي يراد به التقرب إلى الله سبحانه وتعالى هذا أيضا من الأسباب.

 

 أي أن من أسباب تخلفهم التخلي عن الأسباب المعنوية الروحية التي تدفع المسلم إلى سبر أغوار هذا الكون وإلى أن يمد يده إلى أخيه وإلى أن يحرص على أن يتعاون مع أخيه المسلم في أي مجتمع كان لأجل الوصول إلى ما هو خير له.. ما هو خير لبني البشر في العلوم والمعارف، أيضا والحق يقال ان من أسباب تخلف المسلمين هو واقع المسلمين.

 

حينما تراخى المسلمون عن التمسك بدينهم وعن الآخذ بنواميس النبوغ والتطور والرقي.. تخلفوا، فالله سبحانه وتعالى حينما يقول: { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ...} (الأنفال:60) الآن القوة التي يشير إليها هي كل أنواع القوة، ليست القوة العسكرية - كما يظن بعض الناس -؛ لأن مصطلح القوة في القرآن الكريم ورد في عدة مناسبات تعني الحزم والثبات وتعني {...خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ...} (مريم:12)، ليس المقصود به العنف والشدة - كما يفهمه الناس - وإنما يقصد به الحزم.. يقصد به العزم والثبات الذي ينفي صفات التردد والاضطراب والشك والارتياب، والقوة أيضا استعملت بمعنى الصحة والبناء البدني الصحيح في كثير من السياقات الشرعية، الحاصل أن التخلي والعزوف عن أسباب التمسك بهذا الدين وعدم الأخذ بنواميس هذه الحياة.. كل من أخذ بها وبقوانينها وسننها فإن الله سبحانه وتعالى يعطيه بقدر أخذه.

 

 حينما بنا المسلمون المستشفيات والمستوصفات وأقاموا البناء المعماري بحسب ما تقتضيه أيضا علومهم ومعارفهم ووصلوا لو أنهم أحسنوا فيما بينهم وبين خالقهم لأبقى الله سبحانه وتعالى لهم حضارتهم وتقدمهم؛ لكنهم تنازعوا فيما بينهم وتنافسوا وأرادوا لأنفسهم الترف والإسراف والحياة التي هي أقرب إلى حياة اللهو والمجون؛ ولذلك فإنهم تركوا وتخلوا عن الأسباب الحقيقية فأدى بهم الحال إلى ما تعرفون.

 

مقدم البرنامج: يعني الشيخ من عوامل تقدم المسلمين امتثالهم لقول الله تعالى: {...هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا...} (هود:61).

 

 الشيخ كهلان: واستعمركم فيها نعم.

 

مقدم البرنامج: فعمارة الأرض من أسبابها الاتجاه لهذه العلوم التطبيقية والتجريبية وغيرها.

 

الشيخ كهلان: نعم هذا تحدثنا عنه في موضوع – أي هذا الاستعمار - في أكثر من مناسبة في هذا البرنامج وفي غيره؛ لأنه هو الذي يحقق الفهم الصحيح لمعنى عبادة الله تعالى وأداء الأمانة التي حُمِّل إياها هذا الإنسان.

 

مقدم البرنامج: نعم سنقف مع فاصل نستمع فيه إلى شهادة بعض المفكرين والمؤرخين غير المسلمين حول ما كانت عليه الحضارة الإسلامية فيما يتعلق بالعلوم.

 

*********************

"خاتمة الحلقة"

 

يقول العلامة هورتن: في الإسلام وحده تجد اتحاد الدين والعلم، فهو الدين الوحيد الذي يوحد بينهما، فتجد فيه الدين ماثلا متمكنا في دائرة العلم، وترى وجهة الفلسفة ووجهة العلم متعانقتين فهما واحدة لا اثنتان.

 

ويقول اتيان دينيه: إن العقيدة الإسلامية لا تقف عقبة في سبيل الفكر، فقد يكون المرء صحيح الإسلام وفي الوقت نفسه حر الفكر ولا تقتضي حرية الفكر أن يكون المرء منكرا لله، لقد رفع محمد قدر العلم إلى أعظم الدرجات وجعله من أول واجبات المسلم.

 

 

مقدم البرنامج: الشيخ الدكتور كهلان تعليقك على ما استمعنا إليه والوقت يسابقنا.

 

الشيخ كهلان: هذه الشهادات - التي أنصتنا إليها - تبين ما كان عليه واقع المسلمين، وبالتالي تبين لنا ما ينبغي أن يكون عليه واقع المسلمين من اتحاد العلم والدين.. من هذا التمازج الذي يحفظ العقيدة كما أنه لا يقف عقبة في سبيل الاختراع والاكتشاف ويجعل من السعي إلى سبر أغوار هذا الوجود وإلى اكتشاف أسرار عجائب خلق الله تعالى في كل ما بثه.. في كل ما هو حول هذا الإنسان وفي الإنسان نفسه وفي كل الموجودات هو من صميم هذا الدين ومما ينبغي أن يسعى إليه هذا الإنسان.

 

كل المحفزات وكل البواعث النفسية والمادية والمعنوية وكل ما يتصل بتحقيق هذا الهدف هي أيضا مما هيأها هذا الدين الحنيف لهذا الإنسان، فما على المسلم إلا أن يأخذ بهذه الأسباب وأن يفهم ويعي الفهم الصحيح لهذا الدين وما يطلبه منه، وأن يستغل هذه القدرات والإمكانيات التي أنعم الله تعالى بها عليه وعلى أرضه وعلى أمته وعلى إخوانه المسلمين جميعا حتى يصل إلى ما يجعل من هذه الأمة أمة متقدمة مبدعة في هذه العلوم والمعارف، وهي كلمة نوجهها إلى إخواننا الشباب أيضا من ذوي الملكات والقدرات كما أنها كلمة نوجهها إلى المؤسسات وإلى كل معني باحتضان هذه القدرات والملكات؛ لأجل إفساح المجال لها بالإبداع واحتواء ما يمكن أن تنتجه مما فيه صلاح البشرية بإذن الله.

 

مقدم البرنامج: نعم شكرا لكم الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي، شكرا لكم مستمعينا نلتقيكم في الحلقة القادمة بإذن الله، والسلام عليكم.

 

انتهت الحلقة