عنوان الحلقة "العلم"

بثت في:

26 / ذو القعدة / 1429هـ

24 / نوفمبر / 2008 م

 

مقدم البرنامج: كما وعدناكم موضوع اليوم سيكون بإذن الله عن العلم، إذ يحلو الحديث عندما يكون الكلام عن العلم؛ لأن لهذه الكلمة سحرها وجمالها، فهي مبعث السرور لمن عرف قيمتها وأدرك معناها، وهي أيضاً مبعث حسرةٍ وندم لمن فاته الكثير من معانيها ولم يدرك منها سوى القليل.

 

على أن ميزة العلم أنه يفتح الأبواب، فحتى المتحسرون يمكن أن يدركوا منه ما يرضي، كما أن العلماء وأهل العلوم لا يجدون فيما نالوا منه سوى القليل "...وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ" (يوسف:76) .

 

 واثنان لا يشبعان: طالب علمٍ، وطالب مال.

 

ونحن أيضاً في حلقتنا هذه نجد أنفسنا بين الحين والآخر نعود لنتحدث عن العلم، فما هي مبرراتنا وأسباب هذه العودة؟؟ هذا ما سنبينه بإذن الله تعالى.

 

 

فضيلة الشيخ نحن قد تعرضنا لموضوع العلم من قبل، فلماذا نكرر؟؟

 

وهل هناك عناصر جديدة سوف نتعرض لها في حلقة اليوم عن العلم؟

 

 

الشيخ كهلان: موضوع العلم موضوعٌ ينبغي أن نقف معه عدة وقفات.

 

 وهو موضوعٌ لا يمكن أن ينتهي؛ ذلك أننا ننطلق أصلاً في هذا الدين الحنيف من العلم، وهذا الدين يدعو إلى العلم، ومن القيم والمبادئ والأسس التي تقوم عليها الحضارات، ويقوم عليها تعامل الناس فيما بينهم في مختلف بيآتهم، وأزمانهم، وأمكنتهم إنما تأتي في صدارة تلك القيم والمبادئ قيمة " العلم"؛ ولذلك احتجنا إلى أن نقف معه وقفةً أخرى؛ تذكيراً بما كان في حلقةٍ سابقةٍ تعرضنا فيها لهذه القيمة في إطار دين الرحمة، وأيضاً عرضاً لقضايا أخرى.

 

ولعلي أفتح بعض النوافذ التي يمكن للإخوة الذين يرغبون مشاركتنا آراءهم ومداخلاتهم أن يتهيئوا لها مما سوف يكون جديداً بمشيئة الله.

 

فهناك مسألة الصلة بين العلم والدين، ولا نتحدث عن العلم الشرعي فقط - وهذا موضوعٌ قديمٌ جديد - بل نتحدث عن كل أنواع العلوم.

 

ما هي مكانة العلوم؟ (العلوم التطبيقية، والعلوم الإنسانية، والعلوم الأدبية بشكلٍ عام) وإن كان منها جانب العلوم الإنسانية ظاهراً جلياً كما هو أيضاً في جانب العلوم الدينية الشرعية، فإننا نريد أن نجلي أكثر ما يتصل بجانب العلوم التطبيقية، والعلوم التقنية، ومنزلتها ومكانتها في هذا الدين الحنيف، على أننا أيضاً سوف نتعرض اليوم لقضيةٍ هي من القضايا الهامة التي تشغل بال كثيرٍ من الناس وهي: مسألة العلاقة بين النص والعقل، أو لنقل المساحة التي أوجدتها فضاءات هذا التشريع للعقل البشري الإنساني .

 

ما هي هذه المساحات، وما هي صلتها بالوحي من عند الله عز وجل، أي – ما هي صلتها بالنقل المتلو الذي يُعبَّر عنه بـ "الوحي" -.

 

كثيرٌ من الناس لديه غبش، وهناك إفراطٌ وتفريط – للأسف الشديد – في هذه القضية.

 

كما أننا في حلقةٍ سابقة ونحن ندعوا إلى العلم وجهنا كلمةً إلى الشباب فيما يتصل بهذه القيمة، واليوم نريد أن نوجه كلمةً أخرى، ونريد من الإخوة أن يشاركونا في قضيةٍ أظن أنها غايةً في الأهمية وهي: "كيف يمكن أن نفعِّل قيمة العلم في المجتمع".

 

ما هي الحلقة المفقودة في تفعيل دور المؤسسات العلمية في المجتمع؟؟!

 

حينما نقارن أنفسنا بغيرنا من المجتمعات المتقدمة علمياً نجد أن هناك حلقاتٍ مفقودة، نريد أن نتحسس هذه الحلقات المفقودة.

 

 هل العبء كله يقع على عاتق العلماء، والمؤسسات التي ينتسبون إليها،أم أن مؤسسات المجتمع الأخرى تتحمل نصيباً أيضاً من هذه المسؤولية؟؟

 

*********************

 

" شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(18) إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ" (آل عمران: 18- 19).

 

 

مقدم البرنامج: بعد أن استمعنا لهذه الآيات الكريمة نسأل عن العلاقة بين العلم والدين في الإسلام – وهي قضية شغلت ولا تزال أذهان الناس طبعا -.

 

 

الشيخ كهلان: أولاً نتبين من خلال الآيتين اللتين أنصتنا إليهما من سورة آل عمران، كما يتبين لنا أيضاً جلياً من خلال مواضع كثيرة من كتاب الله عز وجل أن للعلم في هذا الدين منزلةً رفيعة، وشأناً بعيداً، ومكانةً سامقة.

 

فالدين يقوم على العلم، والعلم سببٌ وقاعدةٌ في هذا الدين، لا ينفك العلم عن الدين، كما لا ينفصل الدين عن العلم.

 

فهذه الآية التي أنصتنا إليها (الآية الثامنة عشرة من سورة آل عمران) يبين الله سبحانه وتعالى فيها أعلى مراتب هذا الدين، وأعلى مراتب الدين توحيده سبحانه.

 

ولتقرير وتأكيد وتثبيت هذه المرتبة العالية الرفيعة وهي: "مرتبة التوحيد" بإثبات الإلوهية لله تعالى وحده نجد أن الله عز وجل يقرن شهادته وهو الخالق المبدع المصور، الذي منه المبدأ وإليه الرجعى بشهادة الملائكة، وبشهادة أولي العلم، وفي هذا لا ريب رفعاً لمكانة العلم والعلماء قَلَّ ما يُتنبَّه له في غير هذه الحضارة والشريعة السمحة.

 

وما استشهدوا عليه هو ذاته غاية ما يدلنا على أسمى غايات العلم وهي: الوصول إلى توحيد الخالق سبحانه وتعالى.

 

فنفس الإشهاد حينما يؤكد لنا الله سبحانه وتعالى ويقرر حقيقة أنه بنفسه يشهد على هذه الحقيقة، ويشهد معه الملائكة، وأولو العلم، ثم ما يُستشهدون عليه – موضع الشهادة نفسها- هو أيضاً كلمة التوحيد، في هذا كله بيانٌ لمنزلة العلم.

 

ثم يأتي حال تبين هذه الشهادة "... قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ..."، ويأتي تأكيدٌ لما استشهدوا عليه "... لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ..."

ولذلك فقضية الانفصال بين العلم والدين لا وجود لها في ظل هذه الشريعة الحنيفية السمحاء.

 

ولا وجود لها فيها بسبب أن الدين – كما قلت – يقوم على الدين من أعلى مراتبه وهو التوحيد – توحيد الله سبحانه وتعالى -، إلى أقل عملٍ في هذا الدين حينما يأتي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ويقول: "أنا لكم مثل الوالد، أعلمكم أمور دينكم".

 

فما بين توحيد الله عز وجل، وما بين أدنى عملٍ يمكن أن يقوم به الإنسان المسلم نجد العلم حاضراً.

 

نجد أن كل تصرفٍ يقوم به هذا الإنسان (من قولٍ، أو فعلٍ، أو تصورٍ يبنيه، أو عقيدةٍ يعتقدها) إنما في حقيقتها تقوم على العلم، وتتأكد وتنغرس في قلبه بالعلم أيضاً، ويستطيع أن يبلغها، بل عليه أن يُبلغها أيضاً بالعلم والبصيرة، ويستطيع أن يلتزم بها في نفسه ومع من يتعامل معهم بناءً على هذه القيمة، ومن منطلق هذه القاعدة وهي قاعدة "العلم".

 

فلذلك هذه المسألة أو قضية أو تصور أن هناك نشازاً بين العلم والدين في حقيقتها قضية لم تنشأ في بيئة المسلمين..لم تنشأ في بلاد المسلمين، وللأسف الشديد نجد أن بعض الناس سمعوا بها من بيئاتٍ أخرى، وثقافاتٍ أخرى كانت لها أسبابها، ولها دواعيها فظن أن الوضع مشابهٌ في الفكر الإسلامي، ولكن الأمر في حقيقته ليس كذلك.

 

فكل أهل العلم من علماء الإسلام يقررون أن هذا الدين لا يمكن أن يقوم إلا بالعلم، والقرآن الكريم حافلٌ بالآيات التي تبين منزلة العلماء، والتي تدعو أصلاً إلى العلم، والتي تحث على النظر والتدبر، أي -القرآن الكريم لم يأت فقط ببيان منزلة العلماء، ولم يأت لبيان حسن خاتمتهم، وبيان عاقبتهم في الآخرة، وما يناله أهل العلم.

 

ولم يأت فقط لبيان ما يورثه العلم في نفوس أتباعه وأهله، وإنما جاء أيضاً بدعوة الناس إلى المنهج العلمي نفسه (التدبر، النظر، الفحص، التجربة) أي – ما يعرف بالمنهج العلمي قرره لنا أيضاً القرآن الكريم، وهو النظر، ملاحظة الظواهر في هذا الوجود، ثم اختبار هذه الظواهر، ثم التحقق من هذه الفرضيات، ثم الوصول بها إلى نظريات، ثم التأكد منها حتى نجد هل تلك الفرضية ترقى إلى أن تكون حقيقةً أو لا في سائر مناحي الحياة-.

 

وهذا في الحقيقة ما أورث المسلمين نهضةً علميةً في سائر شؤونهم، لم تكن هذه النهضة فقط في مجال العلوم الدينية، ومجال الدراسات الأدبية والإنسانية، وإنما كانت كذلك إبداعاً في مجال العلوم التطبيقية، والعلوم الكونية بأسرها.

 

مقدم البرنامج: نعم، وما كانت هذه القضية مثار نقاشهم، واهتمامهم من قبل كما كانت المسائل التي تنولت في المدارس الفكرية.

 

*********************

 

مداخلة متصل: العلم له باعٌ قوي وعظيم، والعلماء يُكمل بعضهم البعض، فالطبيب في مستشفاه، والطيار في طائرته... كلٌ مكملٌ للآخر، لكن نحن نرى مجموعةٍ من الناس ممن حصلوا على الشهادات الجامعية، لكن للأسف الشديد لا يجيد حتى قراءة الفاتحة، بينما يوجد من لم يحصل على شهادات جامعية ولكن يعتبر لسعة علمه جامعة بحالها، فنحن نريد توجيه من الشيخ لهؤلاء الذين حصلوا على شهادات جامعية لكنهم لا يعرفون شيئاً في أمور دينهم.

 

 

متصل آخر: أول ما يتصف به أهل العلم التواضع، والحلم، فإذا كان العالم متواضعاً كانت له منزلةً عظيمة، كذلك فالتكبر ينزل من هذه المنزلة، فإبليس كان من العلماء لكنه تكبر على أمر الله تعالى فسخط الله عليه ولعنه.

 

وللعلم منزلة عظيمة عند الله تعالى، وقد حث ديننا الحنيف على العلم من خلال الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية التي تأمر بالتفكر والتأمل في الكون وما فيه من مخلوقات، والعلماء هم أخشى الناس لله تعالى.

 

والعلم يرفع صاحبه عند الله تعالى إذا كان القصد منه خدمة دين الله حتى وإن كان ظاهره علم دنيوي، فالمهندس عندما يكون هدفه نصرة الدين تكون له منزلةً العظيمة، وكذلك الطبيب وغيرهم من أصحاب العلوم الدنيوية.

 

 

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ مكالمة المتصل الأول، ومكالمة المتصل الثاني تتداخلان في مفهومٍ واحد، وهو: بما أن العلم منطلقه الدين أساساً، وأن الدين جاء بترسيخ هذه القيمة والدعوة إليها، فلماذا لا يكون لدى طالب العلم نصيبٌ من المعرفة الدينية خاصةً فيما يتعلق بأبسط الأشياء كإتقان تلاوة آيات القرآن الكريم، وغيرها من الأمور الضرورية بالنسبة لهم؟

 

 

الشيخ كهلان: لقد أحسنا صنعاً بالنقاط التي طرحاها، وما تشير إليه في السؤال هو أمرٌ متفقٌ عليه.

 

أي - لا ريب أن العلم الذي يتكمن المرء به من عبادة الله عز وجل، ويؤدي به الفرائض، ويقف به عن المحرمات هو من أشرف العلوم وأجلها قدراً، وهناك حدٌ أدنى لا ينبغي للمسلم أن ينزل عنه فيما يتعلق بدرايته بدينه الذي يتعبد به ربه سبحانه وتعالى -.

 

هذا الحد الأدنى من المعرفة الدينية..هذا المقدار المشترك الذي ينبغي أن لا ينزل عنه المسلمون جميعاً ليست علامته بالشهادات، والدرجات التي يحصلون عليها، ونحن هنا لا نتحدث على أن كل حامل شهادة يعني أنه عالمٌ أو متعلم، وإنما نتحدث عن العلم بمعناه الحقيقي، متى ما كانت الشهادة علامةً على علمٍ صحيحٍ حقيقي فبها ونعمت، ومتى ما كانت الشهادة شهادة زور فإن هذا لا يصدق أن يقال بأنه من أهل العلم، أو عالم أو متعلم، وإنما هو جاهلٌ في حقيقته، وكلامنا وما نتحدث به يشمله كما يشمل من يحتاج فعلاً إلى العلم.

 

وبذلك فإنه لا بد للمسلم أن يكون حريصاً - مهما كان التخصص الذي هو فيه، مهما كان مجال العلم والعمل الذي هو فيه – لا بد أن يكون حريصاً على أن يتقن الحد الأدنى من هذه العلوم.

 

فحينما – مثلاً – يحتاج إلى أمور الصلاة لا بد له أن يتقن أمور الصلاة، نحن لا نتحدث عن الإتقان الذي يحل به فروع وجزئيات الصلاة، وإنما نتحدث عن ما يمكنه من أداء هذه العبادة على الوجه الذي يرضي الله تعالى.

 

والمثال الذي ذكره مثالٌ حسن، بعض الناس لا يقيم قراءة الفاتحة فإذاً هذا جاهل ينبغي له أن يتعلم، وما أوسع طرق العلم اليوم.

 

ينبغي له أن يكون حريصاً، وأن يستحي من نفسه أن يكون ذا شهادةٍ عاليةٍ في مجالاتٍ أبدعها وهي أصعب من إتقان شيءٍ من سور القرآن الكريم سيما سورة الفاتحة التي لا تتم الصلاة إلا بها.

 

كذلك ما أشار إليه المتصل الثاني من أن طالب العلم، وأهل العلم – العلماء – من أخص صفاتهم حسن الخُلق.

 

وهذا أمرٌ نلمسه في كتاب الله عز وجل.

فالله تعالى وصف رسوله – صلى الله عليه وسلم – بأنه على خلقٍ عظيم، لم يصفه بأنه على علمٍ غزير، ولم يصفه بأنه على معرفةٍ.. ودرايةٍ.. وحكمةٍ..وفطنة، وإنما وصفه بأنه على خلقٍ عظيم.

 

وإنما في مجال العلم بين أن من مهمة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه يعلم الناس الكتاب والحكمة، وأنه يزكيهم في نفوسهم وفي أخلاقهم، وأنه يخرجهم من الظلمات إلى النور، يدعوهم..يبشرهم..ينذرهم، هكذا نجد رسالته، فهو من رسالته أن يعلم الناس؛ ولذلك تجد كيف أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو الأمي – بمعنى أنه لا يقرأ ولا يكتب – أخرج الناس من ظلمات الجهل إلى نور العلم.

 

وهناك أمثلة تطبيقية سوف نتعرض لها بمشيئة الله تعالى من التشريعات التي وردت كجوانب تطبيقية لتحقيق ما دعا إليه هذا الدين من منزلةٍ رفيعة للعلم والعلماء.

 

لكن نجد أيضاً "... آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا..." ثم قال: "...وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً..." (الكهف:65)

 

 العلم يدعو إلى حسن الخلق، والعلماء أكثر الناس خشية لله كما قال المولى تبارك وتعالى: ".. إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء..." (فاطر:28). وسوف نأتي لبعض ما يتعلق بهذه الآية أيضاً بمشيئة الله.

 

*********************

 

مقدم البرنامج: إذاً الفكرة الأولى التي تطرقتم إليها في موضوع فصل العلم عن الدين، أو العلاقة بين العلم والدين لم تكن موجودةً طبعاً في عالمنا الإسلامي منذ القديم، وحتى في الحديث أيضاً، لكن يبقى أننا نحاول الآن أن نلم أولئك الذين ابتعدوا بعلومهم عن الدين – بمعنى عن الإطلاع على الأشياء الضرورية في أمور الدين – بأن يعودوا ويتعلموا ويتفقهوا في أمر دينهم، خاصةً فيما تستقيم به أمورهم الضرورية.

 

 

الشيخ كهلان: نعم، هذا يؤكد أن مسألة الانفصال بين العلم والدين غير واردة أساساً، وهي خارج موضوع النقاش في هذا الدين القويم؛ لأن الدين نفسه يدعو أتباعه إلى أن يتعلموا،  وأن ينظروا، وإلى أن يكونوا علماء، وأن يعبدوا الله تعالى على بينةٍ وعلى علمٍ وهدى.

 

وهو من صميم دعوة الرسول – صلى الله عليه وسلم – كما بين القرآن الكريم، ويدعو الناس إلى هذا الدين أيضاً على علم، لا أن تكون دعوتهم إليه على جهل.

 

 

مقدم البرنامج: طيب هناك جزئية تتعلق بهذا الموضوع وهي: أن هؤلاء الذين تخصصوا في مجالاتٍ علمية كثيرة يدعو إليها الإسلام - كما تفضلتم -، ويحبذها، ويأمر بها أحياناً وجوباً، هؤلاء ظنوا أن المكانة الرفيعة، والآيات والأحاديث التي وردت في شأن العلم، ورفعة أهل العلم إنما هي تقتصر على العلم الديني فقط.

 

إلى أي مدى يصح هذا الكلام؟؟

 

هل للعلوم التطبيقية كالطب، والهندسة، والفيزياء، والكيمياء...وغيرها من العلوم الإنسانية والتطبيقية نفس المنزلة؟؟

 

 

الشيخ كهلان: لهذه العلوم – العلوم التطبيقية، أو لنقل علوم الدنيا إن صحت التسمية، وفصلنا بين الدين والدنيا وإنما الفصل هنا فصل تعريف لما اصطلح الناس على تسميته علوم أنه دينية بحته، وأنها علوم تطبيقية دنيوية بحته – لكن ما يرد إلى أذهان بعض الناس من أن هذه المنزلة التي بينها القرآن الكريم، وبينتها سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – للعلم والعلماء إنما يختص بها علماء الشريعة وعلماء الدين فقط هذا الفهم غير صحيح.

 

وكما قلت: مسألة شرف علم الشريعة، وشرف علم الدين، وعلو منزلتها لأنها بها يقوم صلاح الناس وأحوالهم، وبها تُعرف أحكام الله عز وجل في شتى ما يستجد من أحوال الناس، ومعاملاتهم، وقضاياهم، ومشكلاتهم فهذا بابٌ كما قال الله تعالى: "...فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ..." (التوبة:122)

 

 لكن منزلة العلم الرفيعة لا تقتصر على هذه العلوم فقط، بل إنها تشمل العلوم التطبيقية طالما أنها فيها منفعةٌ للناس..يراد بها وجه الله عز وجل..ويخلص بها العمل له سبحانه وتعالى، بل إن قوله تعالى – وسبق أن ذكرنا هذا الكلام – "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (فاطر:28) وردت في سياقٍ من سورة فاطر يؤكد على أن المقصود بهؤلاء العلماء الذين هم أكثر الناس خشيةً لله تعالى إنما هم علماء الدنيا..علماء العلوم التطبيقية.

 

لننظر فيما ورد قبل هذه الآية من آيات قول الله تعالى "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا.." (فاطر:27) إذن الجانب الأول وهم علماء هذه الظواهر الطبيعية، الذين يدركون أسرار هذه الآية التي يدعوهم الله تعالى إلى التأمل فيها ( إنزال الماء من السماء، ثم إخراج النبات به) فيدخل هنا علماء الزراعة، وعلماء الأحوال الجوية.

 

 ثم أيضاً قوله تعالى "...وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ" (فاطر:27) أيضاً علماء الكون، أو علماء الجغرافيا والطبيعة.

 

"...وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ..." (فاطر: 28) أيضاً علماء الطب، وعلماء الفيزياء، وعلماء الكيمياء، ثم قال أي - بعد هذه – " وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء..." (فاطر:28) أي الذين يتأملون ويعلمون أسرار هذه الظواهر التي نص الله تعالى عليها في هذه الآيات.

 

بدءًا من الآيات  "وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ(19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ(20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ(21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ(22) إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ" (فاطر:23)،

 

ثم "إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ..." (فاطر 24) الخ الآيات.

 

كل هذه الآيات بدءً من مبتدئها ""وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ" ثم استعراض آيات في الكون..في السماء ..في الجبال..في الإنسان نفسه .. في المخلوقات كلها تدل على أن لهؤلاء العلماء مكانةً سامقةً رفيعةً في هذا الدين.

 

 

مقدم البرنامج: بل إن الله تعالى جعل هذا العلم الذي يتوصل به الإنسان إلى أسرار هذا الكون دعوةً إليه، حتى يتبين لهم أنه الحق.

 

 

الشيخ كهلان: نعم.

 

   *********************

 

مداخلة متصلة: مما لا شك فيه أن العلم له المكانة العالية في الإسلام، ويكفي للتدليل على ذلك أن أول أمر نزل من أوامر القرآن، وأول كلمة من كلماته قوله تعالى "اقرأ" فهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مكانة العلم في الإسلام، وأنها لا تدانيها مكانة.

 

وقال أيضاً في كتابه الكريم "...قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ" (الزمر:9).

 

وقال عز من قال: "... يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ..." (المجادلة:11).

 

وزيادة في بيان فضل العلم أمر الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – بالاستزادة منه فقال سبحانه وتعالى: "...وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً " (طه:114).

 

وقال الحسن : لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم، تعلموا العلم فإن تعلمه خشية ، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد ،وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة ، وهو الأنيس في الوحدة ، والصاحب في الخلوة ، والدليل على الدين والصبر على الضراء والسراء والقريب عند الغرباء ، ومنار سبيل الجنة ، يرفع الله به أقواماً في الخير فيجعلهم سادةً هداةً يُقتدى بهم ،أدلةً في الخير تقتفى آثارهم وترمق أفعالهم ، وترغب الملائكة في خلتهم ،وبأجنحتها تمسحهم ؛ لأن العلم حياة القلوب ونور الأبصار ، به يبلغ الإنسان منازل الأبرار ، وبه يطاع الله عز وجل وبه يعبد وبه يوحد ، وبه يمجد وبه تواصل الأرحام.

 

 

 

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ يلاحظ القارئ والذي قرأ كتب العلماء أن بعض عباراتهم تُنفِّر من العلوم الدنيوية التي اصطلحنا على تسميتها بهذا الاسم (فالغزالي – مثلاً – ذكر في المستصفى – على ما أظن – كلمات تدل على أن علوم الهندسة، والطب، والنجوم...وغيرها من الأشياء التي لا ينبغي أن يشتغل بها الإنسان.

 

وهناك بيتٌ مشهور وهو:

فلا يهمك يوم الحشر هندسة ٌ    ولا سؤال عن المريخ كم قطعا.

 

هل فهم هذا الكلام على ظاهره أنه دعوة إلى التنفير من هذه العلوم، أم هناك مقاصد أخرى لهم؟؟

 

 

الشيخ كهلان: أولاً دعني أوضح ما ورد من كلام الغزالي - كثير من الناس تناقله، وللأسف الشديد أضيف فيه وحُذِف منه وغُيِّر – كلام الإمام الغزالي إنما كان حول دراسة علوم الفلسفة الميتافيزيقية التي تبتعد عن الإلهيات، وتبحث في قضايا لا تؤدي إلا إلى مزيدٍ من الشك والحيرة، وإلا فهو نفسه أي – الغزالي – كان من كبار الفلاسفة.

 

والذي لم يحبذه هو ولا غيره أيضاً من أهل العلم إنما هو الإغراق في علوم المنطق، والفلسفة ( ما نعرفه نحن اليوم بما وراء الطبيعة، أو الميتافيزيقية التي لا تؤدي إلى نتيجة)، أما المقدار الذي يؤدي إلى دحض الشبه، وترسيخ العقيدة، وغرس التصورات الصحيحة فهذا أمرٌ محمود.

 

يبقى أيضاً ما يُتصور أي – ما ذكرناه من منزلة العلوم التطبيقية..علوم الكون بشكلٍ عام – أيضاً هذه المنزلة، وهذه المكانة إنما هي حينما تنتفع الأمة بهذه العلوم..حينما يراد بها وجه الله سبحانه وتعالى..حينما يؤدي علماء هذه الفنون والعلوم رسالتهم مخلصين لله تعالى،وبأمانةٍ وصدق، هذا الذي نقصده.

 

طيب لماذا استحقوا هذه المنزلة؟؟

لأن نفع ما يقومون به سوف يشمل الأمة بأسرها..بل الكون بأسره.

 

أي سوف ينتفع من علومهم الإنسان، والحيوان، والجماد ؛ ولذلك حتى علماء الفقه كانوا في تاريخهم التشريعي يلجأون إلى المختصين في كثيرٍ من القضايا.

 

الآن نحن في الندوة التي تقيمها وزارة الأوقاف (ندوة تقنين وتجديد الفقه الإسلامي) سمعنا ورأينا الكثير من الأمثلة أن من تجديد الاجتهاد هو أن يلجأ علماء الشريعة إلى العلماء المختصين في المجالات التي يتناولونها.

 

وذكروا مثالاً على ذلك( المحقق الخليلي حينما لجأ إلى علم البيطرة فيما يتعلق ببعض أحكام زكاة الأنعام، وأنواعها...وغير ذلك، وحث الطلاب على أن من أراد المزيد فعليه بعلم البيطرة ، مع أنه كما هو معروف – وظلت هذه النظرة – أن علم البيطرة ما كان مُتصوراً تصوراً صحيحاً.

 

وهذا التحذير حتى الأبيات التي هي للشيخ أبي مسلم البهلاني في المهندس، وعالم الفلك...وغيره إنما هي حينما تصرف عن طاعة الله عز وجل،هذا الذي يقصده .

 إذا كانت صارفةً عن طاعة الله عز وجل، صارفةً عن توحيده وعن الإيمان به فهذا الذي سوف يكون وبالاً على صاحبه.

 

 أما العلوم الكونية أهل هذه العلوم يكتشفون عظمة هذا الخلق..يكتشفون عظمة هذه الصنعة وبالتالي يكتشفون عظمة الصانع أكثر من غيرهم.

أي – يدركون عظمة الصانع الذي أتقن هذه الصنعة؛ لأنهم أدركوا أسرار هذه الصنعة، فيزدادون طمأنينة..وثقةً..ويقيناً أن الخالق متصفٌ بصفات الكمال، وأنه بالتالي مستحقٌ للعبادة – هذا هو المقصود، على أن التأريخ حافل بهذا، أي – كنت تجد أن عالم الفقه وهو أصوليٌ..متكلمٌ، تجد أيضاً أنه طبيبٌ جراحٌ..عالم فلك..عالم رياضيات ولم يكن مُستَغرباً أبداً.

 

خذ مثالاً على ذلك ابن سينا، خذ مثالاً على ذلك ابن رشد صاحب "البداية والنهاية".

 

 

مقدم البرنامج: لكن يقول البعض أن علماء الشريعة كانوا ينفرون من هؤلاء، ما هو السبب؟؟

 

 

هل السبب هو تخصصهم في العلم، أم هناك تجاهات أخرى ربما أزعجت العلماء؟

 

 

 

الشيخ كهلان: أولاً لا يمكن التعميم، كانت وُجِدت هناك آراء في قضايا معينة، أنا أعرف أن مثار الخلاف كان أكثر حول الفلسفة الميتافيزيقية – كما قلت -، وإنما فيما يتعلق بعلوم الفلك، والحساب، والجبر لم تكن هناك أية ملاحظات، ولذلك "تهافت الفلاسفة"، ثم "تهافت التهافت"...وغيرها من المؤلفات التي كانت بين الإمام الغزالي، وابن رشد الحفيد...وغيرهم إنما كان (حول الفلسفة الميتافيزيقية).

 

وهذه لها سببها، وسببها أنه حينما نُقلت هذه العلوم – وهذا بابٌ آخر – حينما نٌقلت هذه العلوم من حضاراتٍ أخرى دخلت في هذا الدين حديثاً..نُقلت في البداية كما هي، ونُقلت أيضاً المناظرات التي كانت لدى تلك الأمم والشعوب والحضارات نقلت نفسها إلى حضارة هذا الدين فأدت إلى ذلك.

 

لكن لا يصح إلا الصحيح، فمع مرور الوقت تم ترشيح – لنقل – هذه العلوم، وبقيت هذه التي رُفضت والتي لا تتناسب، وبقي لهؤلاء العلماء تلك المشاركات في مجال العلوم التطبيقية التي يقر بها العالم اليوم، أي (ما كان يُعرف في غير بلاد المسلمين بـ " العصور الوسطى "، وكانت تسمى بـ "العصور المظلمة " هكذا كان اسمها في التأريخ "عصور مظلمة" هي الفترة الذهبية في بلاد المسلمين - في مكتشفاتهم..في مخترعاتهم - ).

 

 

وأنا هنا لا أذكر إذا كنت قد أحلت إلى موقع أعده بعض المختصين، موقع في الشبكة العالمية للمعلومات من الجيد أن يطلع عليه الناس، هذا الموقع اسمه "تراث المسلمين"* ، وهو يُعنى بكشف إسهامات المسلمين في العلوم التطبيقية (في الفلك، في الفيزياء، في الكيمياء، في الطب، في التشريح، في علم الوظائف...في سائر أنواع وفروع العلوم)، حتى أن لهم كتاباً تُرجم إلى أغلب اللغات العالمية اسمه "ألف عامٍ من التأريخ مفقود" لماذا؟؟

 

لأنه حينما يُتحدث عن العصور المظلمة بعدها يتم نقلة مباشرة إلى عصور العلم، والثورة الصناعية...وغير ذلك.

 

طيب كيف تم هذا الانتقال؟؟!

هذه الفترة التأريخية هي التي كان فيها دور المسلمين حينما كانوا في أوروبا نفسها، وحينما كانوا أيضاً شرقاً في الصين، وفي شبه القارة الهندية فتمكنوا من استيعاب تراث تلك الأمم والشعوب، ثم نقلوه إليهم..أخضعوه للمنهج العلمي الذي كنا نتحدث عنه، وطوروا فيه، وزادوا به.

 

إلى الآن قبة مكتبة الكونجرس في واشنطن دي سي لا يزال في هذه القبة إسهام كل حضارة في المجال الذي برعت فيه.

 

إلى الآن حسبما رأيت في آخر زيارة لي قُرن اسم الإسلام بعلم الفيزياء.

 

 

مقدم البرنامج: وأظن أن هناك جهودا مماثلة للدكتور فؤاد سزكين ، وقد فتح متحفاً في ألمانيا يبين الآثار العلمية التي تركها المسلمون في أوروبا، وطبعت بصماتها على الحضارة الغربية.

 

وتحضرني هنا كلمة للرئيس الأمريكي الأسبق نكسون يقول: لم تقم الحضارة الغربية إلا على أكتاف العمالقة المسلمين.

 

 

الشيخ كهلان: أريد أنا أيضاً أن أنبه أننا حينما نتحدث عن تأريخ إسهام علماء المسلمين في هذه المجالات أيضاً لا نقصد أن نتغنى بأمجاد ماضٍ فقط، ولا ينبغي لنا ذلك، أي – العلم رحبٌ بين أهله، وكل حضارةٍ تسود تأخذ في هذه المجالات - ، وقد أنصف المسلمون حينما أخذوا من غيرهم؛ لأنهم وثَّقوا ذلك، وصرحوا بأخذهم، وحينما تأخروا عن الأخذ بأسباب العلم وبالمنهج العلمي، وتمكن غيرهم من الأخذ بهذه النواميس، وهذه الأسباب فتقدموا وأبدعوا في هذه المجالات، فإنه أيضاً من غير الإنصاف أن نظل نحن ندعي بأننا فقط – أقول ندعي، أو نفتخر فقط – بأننا كنا السبب فيما وصلوا إليه.

 

هم لا شك أنهم أخذوا منا لكن أيضاً لهم إسهاماتٌ كبيرة، وطوروا وأبدعوا في ذلك.

 

ونحن إن أردنا أن نتقدم اليوم فمع ما لدينا من تراث، ومن منهجيةٍ تدعوننا إلى العلم، والنظر، والتأمل والتدبر فلا بد لنا أن ندرس أيضاً ما توصل إليه هؤلاء.

 

 

مقدم البرنامج: نحن أردنا فقط نقرر الفكرة التي أطلقناها وهي: أن علماء المسلمين كانت لهم إسهامات علمية في هذه النواحي، وأنه لا تصادم بين العلم والدين.

 

*********************

 

مقدم البرنامج: نريد الآن فضيلة الشيخ أن نتحدث عن التشريعات التي جاء بها الإسلام لتحقيق منزلة العلم في واقع حياة الناس.

 

 

الشيخ كهلان: أشارت المتصلة الثالثة في اتصالها إلى أول آيةٍ نزلت من كتاب الله عز وجل،وهذه الآية وهي قوله تعالى: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" (العلق:1) " اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" (العلق:3-5)

 

هذه الآيات التي نزلت أول ما نزلت على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا تُبين فقط منزلة العلم، ومنزلة طلب العلم بالقراءة..بما تشتمل عليه كلمة أو فعل الأمر "اقرأ" من دلالات ومعانٍ ومضامين، وإنما أيضاً تضع لأهل هذا الخطاب المنهج العملي التشريعي الذي ينبغي أن يسيروا عليه.

 

أي – نحن نعرف بأن أكثر أهل مكة كانوا أميين، وحينما نزل هذا الخطاب كان من يقرأ ويكتب معدودين؛ ولذلك كان كتبة الوحي في بداية الأمر قلة، لكن مع ذلك يخاطبهم الله عز وجل بهذا الخطاب، وفور نزول هذا الخطاب تتوالى هذه الخطابات الربانية من قِبل الله عز وجل، وأيضاً في أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – التي تحث الناس على السعي لطلب العلم (تعلم القراءة والكتابة..حفظ كتاب الله عز وجل..معرفة حتى الأمور العسكرية..أمور الزراعة..أمور التجارة..تعلم هذه الأمور..تعلم لغات الآخرين) كل هذه وردت فيها تشريعات، حتى في أمور التجارة حينما هاجر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أمر أصحابه بأن ينشئوا لهم سوقاً، كثير من الناس يعرف هذا الشيء لكن لا يعرف أو لا يتنبه إلى أن إقامة سوق يحتاج إلى ضوابط..يحتاج إلى قواعد..يحتاج إلى آداب وقيم وفن حتى يتمكن المسلمون من الاستقلال مالياً وتجارياً.

 

 وهذا أيضاً يستدعي منهم أن يتعاملوا مع غيرهم..أن يتعاملوا مع السوق القائمة آنذاك..أن يتعاملوا بقوافلهم في أرجاء الجزيرة العربية جلباً للسلع، وتصديراً لها.

 

فإذاً هناك ممارسة علمية تُقارن، وطالما نحن نتحدث عن دينٍ يُعلِّم أتباعه كيف يتطهرون من النجاسات، فمن باب أولى أن يُعلِّم أتباعه كيف يقيمون هذه العلاقات التجارية، كيف يقيمون سوقاً لهم، كيف ينشئون نظاماً اقتصادياً.

 

كذلك في مجال الزراعة، فحينما نقرأ أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أمر أن تُؤبر النخيل، ثم رأى أنها شاصت، فلما سأل عنها قيل أنت قلت يا رسول الله، قال: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" ، ويقصد منها هنا أمور الزراعة.

 

 فإذاً في هذا دعوة لهم لأجل أن يتعلموا ما هو أفضل لهذه الزراعة، وهذا أيضاً بابٌ من أبواب العلم.

 

مُفاداة أسرى المشركين ( أن من تمكن من تعليم عشرةٍ من أولاد المسلمين فإنه حر) إلى هذا الحد يصل الحال، يُعلم عشرةً من أبناء المسلمين القراءة والكتابة فيطلق صراحه في مقابل ذلك، هذا دليل على حرصهم على العلم.

 

ثم يأتي بعد ذلك أيضاً الخلفاء من بعده نفس آلية جمع القرآن الكريم، وتدوين القرآن الكريم، ثم ما قام به عمر بن الخطاب أيضاً من تدوين الدواوين، ومن التسجيل والتدوين .

 

 

مداخلة متصلة: الدكتور كان يتكلم على أن المسلمين كان لهم دور عريق في العلوم، فكيف يمكن من خلال هذا البرنامج أن نوصل هذا الأمر لأولياء الأمور ليرغبوا أبناءهم، وبتالي يعينونهم على التخصص في مجالٍ معين؟

 

فيوجد الكثير من الأبناء لا يعرفون كيف يختارون التخصص الذي يناسبهم في دراستهم، فممكن من خلال هذا البرنامج أن نخبرهم عن هذا الأمر.

 

 

الشيخ كهلان: كنت أريد أن أشير في عهد عمر بن الخطاب، ولعلي ذكرت أنا في شيءٍ من الحلقات في هذا البرنامج أنه تم الاحتفاظ بمجموعة من الوثائق العربية الإسلامية القديمة التي ترجع إلى الفترة الأولى من خلافة الصديق، تم الاحتفاظ بها الآن في مكتبة الاسكوريال*، ومن ضمنها مئات الوثائق.

 

أنا اطلعت بنفسي على وثيقة فيها إيصال، أو ما يمكن أن يسمى الآن إيصال استلام زكاة، أي – كان جابي الزكاة في شيءٍ من بلاد ما يعرف الآن بآسيا الوسطى، بعث به إلى عمر بن الخطاب، ينبئه فيها عما استلمه من زكاة القوم الذين هو فيهم بالتفصيل، ويكاد لم يتغير إلى يومنا هذا إيصال استلام الزكاة، أو إيصال استلام أي شيء يكاد لم يتغير بأنه يقر فيها بأنه استلم من قوم كذا كذا، بتاريخ كذا وكذا زكاةً لأموالهم كذا وكذا من أصناف الحبوب، ومن أصناف الأنعام...وغير ذلك، ثم يوقع بخاتم في النهاية، ويقرن ذلك بتأريخ كان مستخدماً لديهم.

 

وهذا التأريخ هو الذي توصل منه علماء في جامعة أكسفورد إلى صحة تأريخ الهجرة أيضاً، فضلاً عن كون الرسالة حروفها منقوطة، هذا غَير حتى في نظرية النقط عندهم في الحروف العربية فضلاً على ما وصلوا إليه في ذلك الوقت.

 

فإذاً نحن لا نتحدث فقط عن علوم التطبيق.

 

 

مقدم البرنامج: هذا يعني أن النقط كان في زمن عمر بن الخطاب؟؟

 

 

الشيخ كهلان: كان موجوداً نعم، ونحن نرجع بهذا جملة من السنوات، أي (الشهير على أنه كان في عهد أبي الأسود الدؤلي أو الخليل بن أحمد، أبو الأسود الدؤلي كان في عهد علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – فنحن نرجع به بضع سنواتٍ فقط، لكن هو على كلٍ أقدم من خلال هذه الوثيقة، وستنشر نتائج دراسة هذه الوثائق ).

 

لكن ما أريد أن أقوله أن إبداع المسلمين لم يكن فقط في مجال العلوم التطبيقية لا، كان أيضاً في التوثيق..في نظم المحاسبة..في نظم الإدارة وهذا ما فعله أيضاً عمر بن الخطاب،أي في شتى المجالات.

 

فإذاً هذه المجالات لا يمكن أن تحصى، وبالتالي ينبغي للمسلمين اليوم أن يعوا أن إبداعاتهم في هذه المجالات هي أيضاً من صميم دينهم، وأن تدبيرهم لأمور حياتهم إنما هو أمرٌ يدعو إليه دينهم.

 

وهذا التدبير ينبغي أن يقوم على أسسٍ علميةٍ سليمة، وأن يؤخذ فيه بكل ما يؤدي فيه إلى الصلاح والمنفعة ما دام لا يتعارض مع ثوابت هذا الدين، ومع عقيدته، وأركان الإيمان فيه.

 

 

متصل آخر: أردت أن ألفت نظر المستمعين بأن التأريخ الإسلامي، وما تركه المسلمون في دول الغرب، وبالأخص في مدة جاوزت 650 عام في أسبانيا إلى أن الأسبان وكثير من المستشرقين والغرب قد اعترفوا بأنهم أكملوا ما بدأه المسلمون، ولكن المسلمين في تلك الفترة كانوا مصدر قوة.

 

أليس هناك رابط بين كون المسلمين مصدر قوة وهم مصدر ضعف وبين نمو هذا العلم، والاهتمام بهذا العلم؟؟

 

*********************

 

خاتمة الحلقة

 

 

روى الإمام الربيع بن حبيبٍ في مسنده قال: حدثني أبو عبيدة عن جابر بن زيد، عن أنس بن مالك، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: " اطلبوا العلم ولو بالصين".

 

ومن طريقه عن النبي – عليه الصلاة والسلام – قال: " إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم، رضاً لما يطلب".

 

 

مقدم البرنامج: قبل السؤال التالي نريد تعليقاً على موضوع المتصلة الرابعة فيما يتعلق بـ (كيف نوصل إلى أبنائنا أن الإسلام يدعو إلى العلوم التطبيقية، وإلى تعلمها، والعلوم الإنسانية كلها؟؟

 

كيف يدرك الأبناء هذا من خلال أيضاً الفضائل والأجور التي يتحصلون عليها؟؟)

 

 

الشيخ كهلان: نحن نشكرها على اتصالها، وأحسب أنها تريد أن تنبهنا وتنبه الآباء والمسئولين عن التربية إلى أهمية هذه النقطة أكثر مما تريد أن تتعرف على الكيفية، وهي فعلاً محقة.

 

الآن نحن ما نتحدث عنه هنا هو محاولة أيضاً كما هو تذكير لتصحيح بعض المفاهيم، هي محاولة أيضاً للتنبيه على بعض المزايا والقيم النبيلة في هذا الدين الحنيف.

 

هذا الوعي حينما يتحقق لدى المجتمع..حينما تدركه الأسر، ويدركه أولياء الأمور لا ريب سوف يكون له أثر في تنشئتهم لأطفالهم.. في تربيتهم لأولادهم.

 

فإذاً ينبغي لهم أن يكونوا قدوةً حسنة في طلب العلم – الأولياء..الآباء أنفسهم..الأمهات -.

 

كيف يستقيم أن يدعوا أولادهم إلى القراءة، وإلى العلم وهم أنفسهم معرضون؟؟!

 

إذاً لا بد من القدوة، لا بد من أن نعمم ثقافة العلم في المجتمع، فإذا رأى الطالب مدرسه وجد  مدرسه قارئاً متعلماً طالباً للعلم.

 

إذا كان في البيت وجد أن والديه كذلك يحرصان على القراءة..يحرصان على الاطلاع..يتحدثان في أمور علمية، وجد إخوته كذلك – إخوته الذين هم أكبر منه – فلا ريب أننا سوف نعمم هذه الثقافة، ونعمم هذا الوعي في المجتمع.

 

هذه وسيلة – القدوة -، ووسيلة أخرى " التلقين" أيضاً، نحن لا نهمل أيضاً جانب التلقين – وأنا لا أدعي أنني مختص، وليس هذا هو موضوعنا – لكن هو فعلاً من الأمور التي ينبغي أن نستفيد منها حينما نتعرض لدراسة مثل هذه القيم، وهذه القيم في هذا الدين الحنيف.

 

لا بد أن يكون هناك وعي، وأن يًتبع هذا الوعي بخطواتٍ عملية، ثم أن يكون هناك أيضاً تبجيل منزلة من ينتفع منه المجتمع في سائر مناحي العلوم (الطبيب..المهندس..عالم الفلك ...إلى غير ذلك)؛ لأنها كلها تمثل بناءً متكاملاً لحياة هذا الإنسان، حياةً هانئةً تدعو إلى مزيدٍ من الخير والصلاح.

 

 

مقدم البرنامج: بقيت معنا على كل حال دقيقتان أظن أن المتصل الأخير يحتاج إلى نصيب من التعليق في موضوع غلبة القوة، عندما أثر المسلمون في غيرهم وأبدعوا في تلك العلوم إنما كانوا لأنهم أقوياء..كانوا يحكمون العالم – إن صح التعبير -، فهل هناك رابطٌ بين حكم الغلبة وبين الإبداع والتأثير؟؟

 

 

الشيخ كهلان: لا، هو حينما أتقن المسلمون الأخذ بالأسباب تحقق لهم النصر والتمكين، وهذا شأن أية حضارةٍ تأخذ بأسباب التمكين، وتأخذ بأسباب القوة والعزة والمنعة ينبغي لنا أن نعترف بأنها حينما تأخذ بالأسباب سوف تصل إلى النتائج، نعم هناك فارق وهذا مبدأٌ جوهريٌ أساسي ينبغي أن نقف عنده؛ لأن عقيدة الإسلام تدعو المسلم إلى أن يكون العلم الذي يبدع فيه علماً نافعا، ينبغي له أن يجنب الناس، والحضارة، والكون بأسره مضار العلم؛ لأن للعلم أحياناً مضاراً، بل في أحيانٍ كثيرة هناك مضار للعلم، والإسلام يدعو أتباعه في تعلمهم وفي تطبيقهم للعلوم إلى أن يلتزموا بأحكام هذا الدين بحيث لا ضرر ولا ضرار، وأن يلتزموا بنشر الصلاح والإصلاح في هذا الكون.

 

وهذا مبدأٌ هام، حينما يأخذون بالأسباب تتحقق لهم – لا ريب – أسباب الحضارة، وأسباب التقدم.

 

مقدم البرنامج: وهناك في الحقيقة في واقع الحياة ما يشهد أن هناك أمماً أيضاً غُلبت على أمرها، لكن ظلت مبدعة..منتجة.. متقدمة.

 

الآن في دقيقة كلمة أخيرة توجهونها إلى شباب المسلمين، وإلى المؤسسات المعنية بالعلم في المجتمع حول هذا الموضوع.

 

 

الشيخ كهلان: باختصارٍ شديد نقول لا بد من التفاعل بين المؤسسات العلمية، وبين مؤسسات المجتمع المختلفة خاصةً المؤسسات الإنتاجية، وهذا ما يقيم الحضارة.

 

الجامعات والمؤسسات العلمية المختلفة يمكن أن ترشد المجتمع إلى ما هو خيرٌ لها في زراعتها..في تجارتها..في صناعتها..في اقتصادها..في إدارتها....في كل مناحي حياتها، كما أن هذه المجتمعات لا بد أن تدعم المؤسسات هذه (البحوث تحتاج إلى دعم..تحتاج إلى مختبرات.. تحتاج إلى تشجيع ودعم ).

 

 وبالتالي لا بد أن تنشأ مؤسسات من مصانع..من معامل..من مختبرات..من غير ذلك، فتبقى هذه الصلة بين الجامعات وبين المؤسسات المختلفة في المجتمع من مؤسساتٍ إنتاجية، ومن مؤسساتٍ بحثيةٍ دراسية، أو تربويةٍ، أو اجتماعيةٍ أو غير ذلك بحيث يكون هناك هذا النفع والانتفاع، هذا التلاقح الذي يؤدي إلى مزيدٍ من النماء والتطور في مجال العلوم، كما يؤدي إلى مزيدٍ من النماء والتطور فيما يرتقي بشأن المجتمع.

 

 

مقدم البرنامج: نحن على كل حال فضيلة الشيخ قلنا بأننا نعود إلى العلم بين الحين والآخر، نذكر به، ونطرح مواضيع جديدة حوله.

 

هل ترون أن موضوع المواءمة بين النص والعقل نؤجلها إلى أن يأتي موضوع العلم مرةً أخرى؟؟

 

الشيخ كهلان: نعم بمشيئة الله ،هنا نقاط يمكن أن تأتي في مجال حديثنا عن العلم من زوايا أخرى تتصل بدين الرحمة إن شاء الله.

 

انتهت الحلقة

 

* لعل الموقع الذي يشير إليه الشيخ هذا الموقع : www.muslimheritage.com

* هي مكتبة ضخمة لمخطوطات عربية في أسبانيا.