طباعة
المجموعة: برنامج دين الرحمة
الزيارات: 2920

بثت في:

12 / ربيع الأول / 1429هـ

9 / مارس / 2008 م

--------------

مقدم البرنامج: بسم الله الرحمن الرحيم.

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم جميعا ورحمة الله وبركاته، وأهلا ومرحبا بكم في هذا اللقاء الجديد الذي نتحدث فيه اليوم عن المروءة.

 

فما أجمل أن يتحلى المرء بمروءة يترفع بها عن سفاسف الأمور، ويرغب بها عن مواطن السوء، ويتعالى بها على الكبرياء وسوء الظنون.

 

إن المروءة خلقٌ كريم، تجتمع فيها معاني الخير والصلاح، وتعظم بها مكانة المرء بين الناس، وهي شرطٌ في تحقيق الشخصية المثالية، وشرطٌ في اكتساب الوجاهة والسمو، ومن خُرمت مروءته ضاعت مكانته؛ ولهذا عدَّ كثيرٌ من العلماء مجموعة من المواقف والتصرفات من خوارم المروءة.

 

لكن المروءة بهذا الحجم وبهذا المعنى الكبير أين يمكن أن نجدها في القرآن الكريم؟

وأين مواطن وجودها؟

وما هو تعريفها؟

وهل لها في السُّنة مساحة تحث عليها بهذا اللفظ؟

وهل هي-كما يقول البعض-موروثٌ عربي خالص زكاه الإسلام وحث الناس على التمسك به كما نفهمه من قول عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- : ( تعلموا العربية فإنها تزيد في المروءة، وتعلموا النسب فرب رحم مجهولة قد وصلت بنسبها )؟

 

إلى غير ذلك من الأمور التي نناقشها مع فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي، راجين منكم أن تشاركوا كعادتكم وكما اعتدتم بمشاركات كثيرة حول هذا الموضوع، والتصور الذي تتصورنه عنه، كذلك تمدونا بشيء من المواقف التي تحكي هذا الجانب أو تصور موضوع المروءة.

 

*********************

أهلا ومرحباً بكم فضيلة الشيخ..

الشيخ كهلان: وأهلا وسهلا بكم، وأنا أرحب أيضا بالإخوة والأخوات المتابعين لهذا البرنامج، ونسأل الله سبحانه وتعالى في مستهله أن يوفقنا إلى كل خير، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

 

مقدم البرنامج: آمين..، الآن تذكروننا بسبب اختياركم لهذا الموضوع، ومدى علاقته بموضوع أو بعنوان هذا البرنامج دين الرحمة، كذلك تذكروننا وتذكرون الإخوة الكرام بالنقاط التي يمكن أن يشاركوا بها والمواضيع والمحاور التي يمدوننا بها، وسوف تحدثونا عنها أيضا.

 

الشيخ كهلان: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد النعمة المهداة والرحمة المسداة، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد :

 

فإن موضوع المروءة من الموضوعات الجليلة القدر، العظيمة الشأن؛ ذلك أن هذه الخصلة الكريمة هي تاج أو درة تاج الأخلاق، وهي واسطة العقد في منظومة القيم والمثل التي تناولنها وسوف نتناولها-بمشيئة الله تعالى-في دين الرحمة؛ ذلك أننا حينما نتحدث عن المروءة إنما نتحدث عن معالي الأمور، ونتحدث عن سعي الواحد منا في درجات الكمال الخلقي المنشود بحيث إنه لا يرضى بالحد الأدنى من القيم والأخلاق، بل إنه يسعى جاهداً إلى أن يتحلى بأفضل الطباع وأجمل الخِلال وأحسن الطبائع، ويترفع عن سفاسف الأمور وعن دنيها وله في ذلك بواعث كثيرة، هذه المروءة هي التي سوف نحاول أن نتعرف عليها اليوم، لن ندخل في تفاصيل التعاريف الفلسفية الخلقية لكلمة المروءة حتى لا نُفقِد لهذه الكلمة جماليتها، وإنما نريد أن نتعرف عليها عن قرب تَعَرُّفَ الراغب في اكتشاف خبايا هذه القيمة الجليلة حتى يتمكن من تطبيقها في واقعه وفي حياته، ونحن إذ نسعى في هذه الحلقة إلى بسط ما يتعلق بقيمة المروءة نريد أن يشاركنا الإخوة ببيان مدى احتياج واقعنا اليوم هل يؤيدون أننا نحتاج إلى أن نُذَكِّرَ الناس بقيمة المروءة؟

 

وما هي البواعث التي وردت في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-وفي سيرته العطرة مما يدفع الناس إلى أن يعيدوا النظر في جملة من أخلاقهم وعاداتهم، بل حتى في أعرافهم؟

 

لأن قضية العُرف سوف تكون حاضرة ونحن نتحدث عن المروءة، وبالتالي ما الذي يستنتجونه حينما يراجعون بعض هذه العادات والأعراف أو بعض تلك الأخلاق والقيم التي نتحدث عنها بميزان المروءة؟

 

وسوف نتعرض بمشيئة الله تعالى للجوانب العملية التي تعين الإنسان.. وتعين الواحد منا، نحن كثيرا ما نسمع عن كلمة المروءة، وعن قيمة المروءة وعن الدعوة إلى التحلي بالمروءة؛ لكن قلما نجد من يبين لنا كيف نستطيع ذلك؟ ما هي الخِلال التي ينبغي أن نتصف بها حتى نتمكن من التحلي بهذه القيمة؟ وماذا سيترتب على ذلك؟

 

نحن فيما بيننا مجتمعاً مسلماً وإخوة متحابين حينما نتحلى بصفة المروءة ماذا ستكون النتيجة فيما بيننا؟ وماذا سوف تكون النتيجة على مستوى الآخر الذي يختلف عنا في فكره وثقافته حينما يرى فينا قيماً خلاصتها المروءة؟

 

هذه النقاط بإذن الله تعالى سوف نتعرض لها بمشيئة الله تعالى.

 

مقدم البرنامج: بإذن الله تعالى؛ لأن الناس يكثر حديثهم عن المروءة، ويرد هذا المصطلح على ألسنتهم دون أن يحددوا له معنى، إنما يطلقونه على مجموعة من المواقف يقولون : فلانٌ صاحب مروءة أو فلانٌ قليل المروءة، وتجد أنهم يستخدمون هذا اللفظ أو هذه العبارة في مواطن مختلفة مما يعني أننا-كما تفضلتم-بحاجة من خلال الأمثلة والبسط في الحديث القادم إلى معرفة ماهية هذه المروءة.

 

إذاً استجابة لطلبكم هذا ورغبتكم في أن نبدأ بمواطن المروءة في القرآن الكريم نستمع إلى هذه الآية القرآنية.

 

*********************

{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ {130} إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ {131} وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } (البقرة:130-132)

 

مقدم البرنامج: صدق الله العظيم.

فضيلة الشيخ مرة أخرى لم نجد لفظة المروءة في هذه الآية القرآنية، وإنما تحدثت عن مجموعة من الأمور، نحن نحتاج إذاً في هذا اللقاء أن تبينوا لنا موطن المروءة في هذه الآيات القرآنية الكريمة، كما نحتاج أيضا إلى أن تقربوا مفهوم المروءة ودلالتها إلى الأذهان.

 

الشيخ كهلان: نعم، هذه الآيات الكريمة التي أنصتنا إليها من سورة البقرة هي من جملة مواضع نقرأ فيها معانٍ للمروءة، وإن كنا لا نجد كلمة المروءة تصريحاً إلا أن المعاني المبثوثة فيها إنما تتحدث عن المروءة أو تدور حول المروءة، فهذه الآية الكريمة تبين أن كل ما كان مخالفاً لدين الفطرة الذي بَعث الله سبحانه وتعالى به أنبياءه ورسله-المعبر عنهم هنا بدعوة إبراهيم الخليل-عليه السلام--كل ما جاء به الأنبياء والمرسلون هو في حقيقته دليل المروءة، بل هو كمال المروءات البشرية التي ينبغي للناس أن يتنافسوا للوصول إليها، وبالتالي فإن من خالف هذا النهج-نهج الإذعان لله عز وجل-الذي عبرت عنه هذه الآية بالاستسلام { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }، ثم في آخر الآية وصية إبراهيم ويعقوب { ... فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }.

 

 ذلك أن الدين عند الله الإسلام، هذا الإذعان والانقياد لأمر الله سبحانه وتعالى في حقيقته هو جوهر المروءات، وبالتالي من أعرض ورغب عن هذا النهج الذي بينته هذه الآية الكريمة إنما يرتكب ما فيه سفاهة، والسفاهة هي نقيض المروءة، والآية الكريمة عبرت في هذا الاستفهام الإنكاري الذي ابتدأت به { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ... } عبرت بكلمة { ... مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ... }، والسفاهة يقصد منها الخفة، والخفة مبعثها الخفة في العقل؛ ولذلك يقال : سَفَّهَ أحلامهم إذا استخف بعقولهم، والسفاهة تكون في القول وتكون في الفعل وتكون في المال وتكون حيثما يكون للمرء تصرفٌ توجد السفاهة كما توجد المروءة، فما كان مخالفاً للمروءات-وهذه المروءات التي نتحدث عنها هي تلك التي أقرها هذا الدين الحنيف من لدن إبراهيم الخليل-فكل الأفعال التي لا يرضى بها أهل المروءات إنما هي من السفاهات؛ لكن الميزان هو ميزان الدين–أي ميزان قبول أعماله ووصفها بأنها منافية للمروءة وبالتالي هي من أعمال السفاهة إنما يكون بما جاء في دعوة الأنبياء والمرسلين-.

 

وفي هذا تقرير على أن الأصل والباعث الذي به تقاس الأفعال سواءً قيل بأنها أفعال مروءة أو أنها غير أفعال مروءة إنما هو الدين الذي يستند إلى العقيدة وإلى الشرائع التي بَعث الله سبحانه وتعالى بها الأنبياء والمرسلين، فإذاً هذا هو الأساس، وهذا حيث نلحظ المروءة في هذا السياق القرآني، وهناك سياقات قرآنية كثرة نلمس فيها أيضا تأكيد هذا المعنى.

 

مقدم البرنامج: معنى هذا أن سقف المروءة في هذه الحالة مرتفع، فرفض الدين نوعٌ من عدم المروءة؛ لكن الآية القرآنية هنا أشارت إلى موضوع السفه { ... إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ... }، فأشارت إلى أن الموضوع نفسي وكأنه يعود إلى النفس.

 

مداخلة متصل: حقيقة تكفي عناوين الحلقات التي تبعث في الناس وتذكرهم بأخلاق الإسلام، وتجيش المشاعر لتمثلها، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على دقة الاختيار، فنشكركم على ذلك.

 

مقدم البرنامج: بارك الله فيك.

 

المتصل: لدي بعض الاستفسارات : كثيراً ما يُربط خلق المروءة والكرم والشجاعة وغيرها من الأخلاق التي كان يتصف بها العرب أنها من أخلاقهم وسماتهم، وعندما يَحُثُّ البعض الناس على التمسك بهذه الأخلاق يأتونهم من باب أنها من أخلاق العرب، وأنها إنما تدل على الرجولة، وتورث الرفعة والجاه والسؤدد وكأنها سبيل إلى الشرف دون ربط هذه الأخلاق بالدين، فما توجيه فضيلة الشيخ الدكتور–حفظه الله–على هذا الموضوع؟

 

النقطة الثانية : ما تعليق فضيلة الشيخ الدكتور–حفظه الله–على العبارات التي جاءت في كتاب صيد الخاطر لابن الجوزي ( الحر لا يُشتَرى إلا بالإحسان )، العبارة الثانية ( العاقل من حفظ دينه ومروءته بترك الحرام )؟

 

النقطة الثالثة : قد يبالغ البعض في تطبيق خلق المروءة لخطأ في فهم معناها مما يؤدي به إلى تجاوز حدود الشرع عند مساعدته مثلا لصديق أو قريب أو عند ردة فعله على صدور خطأ في حقه، فكيف يكون المؤمن متزناً قي أمثال هذه المواطن في تطبيقه لخلق المروءة؟

 

مقدم البرنامج: هذا المثال توضحه لنا–أي كما يقال : بالمثال يتضح المقال-.

المتصل: مثلاً شخص وقع زميله في مصيبة.. مثلاً في ضائقة مالية ، فيقول : ليس من باب المروءة أن لا أساعده، فيذهب ويقترض-مثلاً-من مؤسسات ربوية أو يرتكب أمراً محرماً كأن يعين ظالم على ظلمه يقول : من باب الصداقة وهكذا.

 

آخر نقطة : البعض يربط المروءة بالشدة وعدم لين الجانب للناس فما تفسير فضيلة الشيخ الدكتور–حفظه الله–لأمثال هؤلاء؟

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

مقدم البرنامج: شكراً جزيلاً.. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أخي.. نقاط مهمة جدا بالفعل.. تتعلق بصميم الموضوع، الأخ المتصل قد فتح مجموعة من النوافذ فيما يتعلق بموضوع المروءة.

 

يمكن للإخوة الكرام أن يشاركوا بأمثال هذه النقاط، وأمثال هذه الوقفات التي تتعلق بالمروءة خاصة فيما يتعلق بمفهوم الناس وفهم الناس لمعنى المروءة.

 

فضيلة الشيخ كنا قد طرحنا سؤالا قبل قليل فيما يتعلق بعودة السفه إلى النفس، هل المروءة مسألة نفسية؟

 

الشيخ كهلان: نحن قلنا في حلقة سابقة أن مخالفة أوامر الله سبحانه وتعالى، وارتكاب ما حرم، والبعد عن ما فرض وأحلَّ جل وعلا هو إهانة للنفس.. هو مذلة للنفس؛ لأن عزة النفس إنما تكون بطاعة الله عز وجل، ومبعث شرف الإنسان في الدنيا والآخرة إنما هو التزامه بأمر الله سبحانه وتعالى، وبالتالي فإن من يخالف هذا الصراط المستقيم إنما يسفه نفسه بمعنى أنه يستخف بعقله وبملكاته وبما وهبه الله سبحانه وتعالى مما كان ينبغي أن يُصْرَفَ إلى التفكر فيما هو خير للإنسان في الدنيا والآخرة.

 

 وهذا الجزء من هذه الآية الكريمة تؤكد هذا المعنى أن الإعراض عن دين الله القويم إنما هو تسفيه لهذه النفس؛ لأنه تعطيل لقدراتها، ولأنه استخفاف بالملكات التي أودعها الله سبحانه وتعالى في هذه النفس.

 

 وبالمناسبة كلمة المروءة وقد وردت كلمات مرادفة في المقدمة التي تَفضلتَ بها وفي سؤال الأخ المتصل كلمات ترد في موضوع المروءة : الرجولة.. العقل.. الدين.. الخلق.. كل هذه الكلمات إنما هي من المعاني التي ترد فعلاً حينما يتحدث العلماء والحكماء والكتَّاب في الأخلاق عن كلمة المروءة، فالمروءة هي مأخوذة من المرء أصلاً.. المرء الذي هو الإنسان، وبالتالي يصعب علينا-فعلا-كيف نُعَرِّف الإنسانية مثلاً ؟ هي مأخوذة من الإنسان، كذلك كيف نُعَرِّف المروءة؟ هي مأخوذة من المرء فحتى أهل اللغة حينما يقولون بأن المروءة من مرؤ يمرؤ مروءة، قالوا : أي صار ذا مروءة؛ لكن ما هي هذه المروءة؟

 

سوف نتعرض نحن إلى ما يُقَرِّبُ معناها من أدلة وردت في أحاديث رسول الله–صلى الله عليه وسلم-، وسوف نستطرد بمشيئة الله حينما يحين موعد ذلك.

 

مقدم البرنامج: إن شاء الله تعالى.

 

مداخلة متصل آخر: عندي مداخلة بسيطة على كلام الشيخ، هو ذكر بداية في تعريف المروءة عدم الرضا بالحد الأدنى من الأخلاق، بصراحة هذا تعريف جميل عن المروءة، وأظن أن في هذا الزمان-زمان المادة خاصة-أعتقد أن الناس يحتاجون للمروءة بشكل خاص، وعدم الالتزام بالحد الأدنى من الأخلاق، هذه فقط مداخلتي.

 

مقدم البرنامج: نشكرك أخي على مشاركتك الطيبة.. بارك الله فيك..

 

طيب-فضيلة الشيخ-أنا سأقسم مكالمة الأخ المتصل الأول إلى قسمين، القسم الأول هو عاد بنا إلى موضوع كتبه الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه ( نقد العقل العربي ) عندما تحدث عن الموروث الأخلاقي العربي جعل لها خمسة مصادر اليونانية والفارسية والعربية والإسلامية وغيرها، الآن عندما تحدث عن موضوع المروءة جعلها من ضمن الموروثات العربية أي التي جاء بها العرب خاصة وعُرِفَتْ بهم، هذا الشق الأول من سؤال الأخ المتصل الأول أي كأن هذا الخلق–خلق المروءة–شيء اختص به العرب، وهم عادة ما ينعتون به وما يحاسبون عليه، ثم نأتي إلى موضوع ربطه بالدين.. الناس عندما تركز في أذهانهم هذا المفهوم نسبوه إلى مصدره العربي، وقلما يربطونه بالموروث الإسلامي أو الذي جاء عن طريق مصادر الدين.

 

الشيخ كهلان: أولاً نحن لن ندخل في تفاصيل الإطار العام الذي ذَكرتَه وإنما سوف نركز الحديث على موضوع المروءة، من الخطأ أن تُنسب خصلة وخلة كريمة من الخِلال النبيلة التي دعا إليها هذا الدين إلى عِرْقٍ أو إلى قوميةٍ ما.

 

نعم ينبغي لنا أن نعترف-وهذا من باب الإنصاف–أنه كانت لدى بعض العرب في جاهليتهم كانت لديهم خِلال كريمة، وهذه الخِلال الكريمة هي من المروءات التي كانوا عليها؛ لكن يبالغ الناس أحياناً في تصوير تلك الخِلال التي كان عليها العرب في جاهليتهم في حين أنها كانت لدى طائفة منهم فتعمم، ويقال : كان العرب في جاهليتهم.. هذه من العادات التي كانت لدى العرب في جاهليتهم.. مثلاً : الترفع عن شرب الخمور، هذا كان لدى أشراف الناس في الجاهلية، وترفعوا عن شرب الخمور لم يكن باعثهم فيه الدين؛ لأنهم ما كان لهم دين وإنما كان ترفعهم إنما كان مروءة.. كان ابتغاء لما هو أكمل وأفضل، وهذا شهير عند كثير من حكماء العرب وخيار من كان في الجاهلية وأسلم؛ لكن هذا لا يعني أنها كانت هي العادة التي كانت غالبة على أحوال الناس، بل كانت أحوال الناس-كما هو معروف-معاقرة الخمور، والنساء، والفجور، وقطع الطريق، وغير ذلك.. هذه كانت موجودة وكانت من العادات التي لعلهم هم ألفوها؛ ولكن لا يمكن أن يقال عنها بأنها من المروءات أو مما يُقبَل.

 

 ولهذا ابتدأنا أول ما ابتدأنا بالإشارة إلى أن أساس الدين، أساس المروءة كما هو أساسُ الأخلاق إنما هو أساسٌ من عند الله عز وجل.. هو الدين ومدى القرب والبعد من هذا الدين؛ لكن هذا لا يمنع أن تكون هناك خصالٌ كريمةٌ لدى بعض الناس ولو كانوا غير متدينين إلا أنها خصال محمودة، وهذه الخصال المحمودة تحمد في حقهم، وتشكر لهم، وينبغي أن تنمى، ومثل هذا أنا أذكر في هذا الإطار مثلاً قول عنترة :

 

وأغض طرفي إن بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها

 

ويترفع عن عِرضِ جاره لا ديانةً وإنما مروءةً وتخلقاً، حتى أن بعضهم قال : -وهذه الرواية تروى في كثيرٍ من كتب الأدب والتاريخ-يقول: -من السلف مِن مَن كان بعد من التابعين-يقول: "وددت أن لنا مع إسلامنا كرم أخلاق أبائنا في الجاهلية، ألا ترى أن عنترة الفوارس وهو جاهلي لا دين له يقول :

وأغض طرفي إن بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها

 

والحسن بن هاني إسلامي له دين يقول :

كان الشباب مطية الجهل ... ومُحَسِّنَ الضحكاتِ والهزلِ

والباعثي والناس قد رقدوا ... حتى أتيت حليلة البعلِ.

 

فمنع عنترة كرمه ما لم يمنع الحسن بن هاني دينه".

 

والعياذ بالله..، فإذاً كما أنَّا لا نعمم في أن نقول بأن كل مسلم هو صاحب مروءة فإن هذا من الخطأ البالغ البيِّن الظاهر، نحن نتمنى أن يكون الحال كذلك، وينبغي أن يكون الحال كذلك؛ لأن المسلم ينبغي له بل يجب عليه أن يتحلى بمكارم الأخلاق، وأن يبتعد عن سفاسف الأمور، وأن يكون له وازع من عقل ونُهى تمنعه عن الوقوع في الرذائل، وتدفعه إلى التنافس على الخيرات، والسعي إلى ما فيه مكرمات العواقب.

 

مقدم البرنامج: نعم، وهناك من يقول أيضا–فضيلة الشيخ–إن هذه المكارم–مكارم الأخلاق-التي ورثتها الشعوب لا تعود إلى أعراقهم، إنما هي من الهدي الذي بعث الله تعالى به الأنبياء، فالعرب عندما ورثوا تلك المكارم العالية في الأخلاق إنما ورثوها من ملة إبراهيم-عليه السلام–.

 

الشيخ كهلان: نعم.. نعم، على أنه مع ذلك ما مقدار ما تؤثر فيه هذه النظرية أو تلك؟ في الحقيقة.. في الواقع العملي كل خصلة كريمة وكل حكمة سواء كان مصدرها سلف هذه الأمة أو كان مصدرها حضارات أخرى طالما أنها صفةٌ حميدةٌ وخصلةٌ كريمةٌ فالمسلم أحق بها.. ينبغي له أن يسعى إليها، ولا حرج في أن يعترف بالفضل لأهله؛ لكن قد يكون أحياناً ضيق الأفق سبباً في غمط الناس حقوقهم، أي من غير الإنصاف أن نتهم حضارات أخرى وثقافات أخرى بأنه لا مروءة فيهم، وللأسف الشديد وأنا أقول هذا الكلام أن هناك روايات موضوعة في ذات هذا الموضوع الذي نتحدث عنه وهو موضوع المروءة وردت في أعراق معينة تدل على انتقاصهم.. انتقاص تلك الأعراق من هذه الخصلة، وهذا مما لا يليق بمسلم.

 

مقدم البرنامج: إذاً ننتقل إلى موضوع آخر فيما يتعلق بالمروءة، والأخ المتصل الأول طرح مجموعة من الأسئلة، نطرح سؤاله-على الأقل-الثاني ثم نعود لنطرح سؤالا آخر.

 

يريد منكم تفسيراً لبعض الألفاظ التي وردت في بعض الكتب قال من ضمنها : ( فالعاقل من حفظ دينه ومروءته بترك الحرام ) ما معنى هذا ؟ -طبعاً أول شيء قال : ( الحر لا يشترى إلا بالإحسان )-.

 

الشيخ كهلان: نعم، هذا كلام صحيح، وكما ذكرتَ أنت في المقدمة المروءة تعني : الترفع عن سفاسف الأمور، وسفاسف الأمور أسوأها-لا شك-المحرمات، فحينما يترفع المسلم عن المعاصي وعن المحرمات فإنه يصون ماء وجهه عن مهانة المعصية ومذلتها، وبالتالي فهو يرتقي بها في درجات المروءة التي نتحدث عنها.

 

المروءة يمكن أن يوردها كثير من الناس في السياقات القرآنية-مثلاً- : { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (النحل:90)، يقول كثير من المفسرين: مجموع ما ورد من خصال في هذه الآية الكريمة هو المروءة، وهذا القول ينسب إلى الإمام علي بن أبي طالب–كرم الله وجهه-هو يتحدث عن المجموع.. مجموع ما يتولد من التزام هذه الأخلاق العدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، والابتعاد عن الفحشاء والمنكر والبغي، هذه كلها تولد المروءة مع أن لكل صفة منها معالم ودلالات ومعانٍ ومضامين وبعضها تحدثنا فيه في حلقات لم تكفها حتى حلقة واحدة كموضوع : العدل والإحسان، وموضوع حقوق ذوي القربى، موضوع حقوق الوالدين.. حقوق الأقارب، مع ذلك ما يتولد من مجموع هذه الخصال في الإنسان هو المروءة للدلالة على أن هذه الدرجة الأكمل والأجمل.

 

 وهناك مقولة لبعض الحكماء يقول: "العقل يدل على الأنفع، والمروءة ترشد إلى الأجمل"، هناك ما هو أنفع.. هناك ما يقرره العقل بأنه أفضل وأحسن أو بأنه نافع، وبأن فيه مصلحة؛ لكن هناك ما هو أجمل منه.. هناك ما هو أحسن منه؛ فلذلك المروءة هي هذه الدرجة التي قلنا بأنها فوق الحد الأدنى أو فوق الرضا بالحد الأدنى من الأخلاق والقيم؛ لذلك يرد ما ذكرت في بدء الحديث يقال : فلان رجل فيه مروءة أي فيه مقدار من الأخلاق أعلى من غيره.. فلان فيه شيمة أي يتحدثون عن خلة وخصلة هي أعلى من الخصال العادية التي أمر بها هذا الدين الحنيف؛ ولكن هذا يتحلى بما هو أعلى منها وأكمل.

 

مقدم البرنامج: هل هي من كماليات الأخلاق؟

لأننا مثلا نجد بعض علماء الحديث عندما ينتقدون شخصاً لأنه يحمل شيئاً من خوارم المروءة-طبعاً يشترطون فيه العدل والضبط، وأن يكون سالماً من خوارم المروءة-يقول : تركه لكثرة مزاحه.. تركه لكثرة كلامه.. تركه لأنه وجده يركض على برذون.

 

الشيخ كهلان: نعم..، هنا هذه المروءة في هذا السياق نعم هي من الكماليات؛ لأن السياق الذي أُريدت له هو سياق خاص أي هذه الاشتراطات؛ لأن المقام الذي أُريدت له هو مقامٌ شريفٌ عزيزٌ لا ينبغي أن يؤخذ–أي رواية أحاديث رسول الله–صلى الله عليه وسلم--..لا تؤخذ إلا من اتصف بهذه الصفات.

 

لنأخذ مثلاً حينما يتحدثون عن القاضي-وينبغي أن يكون للقاضي هيبة في المجتمع-فرأى أهل العلم بأن أكل القاضي على قارعة الطريق مما يتنافى مع مكانة القاضي؛ ولذلك قالوا إنه من خوارم المروءة، في حين أن الأكل في قارعة الطريق لم يأتِ فيه نصٌ في تحريمه، وقد لا يكون معيباً حينما يصدر من شخص آخر من غير ذوي الولايات العامة؛ ولذلك حينما قالوا عن القاضي.. قالوا عن الوالي.. قالوا أيضا عن ولي الأمر.. قالوا عن المعلم-.. ولم يتحدثوا بمثل هذه الشروط عن أصحاب الحرف والمهن الأخرى،-كما قلت هذا في سياق معين، والسياق الذي ذكرته وهو سياق رواية أحاديث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-أيضا سياق خاص-.

 

لكن المروءة في حقيقتها يدخل فيها الترفع عن المعاصي، وحينما نتحدث عن ذلك فإننا لا نتحدث عن كماليات.. لا نتحدث عن كماليات في الأخلاق.. نتحدث عن جوهر أصيل من الأخلاق؛ لذلك قالوا: الأخلاق-وسوف نتعرض لها لاحقاً-، المروءة مبعثها أو أساسها الدين، والعقل، وعلو الهمة، وشرف النفس، -وسوف نتحدث عن هذه؛ لأنها سوف تعيننا في الطرق العملية التي ينبغي أن نتحلى بها-، وهذا يتعلق بشرف النفس.. هذا الذي ذكرناه الآن من خوارم المروءة في بعض المجالات هو مما يتعلق بشرف الناس.

 

مقدم البرنامج: سأسألك أيضا عن موضوع المروءة في تعلقها بالعُرف، هل هي خاضعة للعُرف الذي عليه أهل البلد؟ أنت ذكرت قبل قليل موضوع الأكل على قارعة الطريق، وأصبحت المطاعم الآن دائماً ما تفرش موائدها في الخارج، وربما يأتي القاضي أو غير القاضي ليأكل فيها، نتحدث عن موضوع تعلقها بالعُرف؛ لكن طبعاً بعد أن نستمع إلى هذا الحديث النبوي الشريف.

 

*********************

روى الإمام أحمد في مسنده، والدارقطني في سننه عن أبي هريرة عن النبي–صلى الله عليه وسلم–أنه قال: " كَرَمُ الرجل دينه، ومروءته عقله، وحَسَبَهُ خلقه ".

قال الحاكم في المستدرك على الصحيحين : هذا حديث صحيح على شرط مسلم.

 

مقدم البرنامج: الآن-فضيلة الشيخ-قبل أن نأتي إلى موضوع العُرف نبقى مع هذا الحديث وهديه الذي يتضمن الجانب العملي للمروءة، نريد منكم انطلاقاً من هذا الحديث أن تبينوا لنا شروط المروءة التي بها تتميز وتعرف، وأيضا ما هي المطالب التي إن حققها الفرد صار متصفاً بالمروءة؟

 

الشيخ كهلان: نعم، أولاً هذا الحديث ورد في جملة من المصادر مع أن بعض الروايات لم ترفعه إلى النبي-صلى الله عليه وسلم-كما في موطأ الإمام مالك، وإنما ورد موقوفاً على عمر بن الخطاب-رضي الله تعالى عنه-إلا أنه ورد في مسند الإمام أحمد وعند الدار قطني، وورد أيضا في شعب الإمام البيهقي، وفي مسند الشهاب أيضا ورد مرفوعاً إلى النبي–صلى الله عليه وسلم-ونَصَهُ : " كرم الرجل دينه، ومروءته عقله، وحَسَبُهُ خلقه "، وبعض الروايات فيها : " كرم المرء تقواه "-بدل كلمة الرجل :المرء، وبدل الدين : التقوى-" ومروءته عقله، وحَسَبُهُ خلقه "-هي تتفق في المعنى-.

 

فإذاً هذا الحديث يبين على أن المروءة مبعثها العقل الراجح، لما تحدثنا عن نقيض صفة المروءة في الاستخدام القرآني في الآيات التي أنصتنا إليها قلنا بأنها السفاهة وهي تعني: الاستخفاف بالعقول فناسب أن تكون المروءة تعني رجحان العقل، ورجاحة العقل إنما هي من المروءة، فرجاحة العقل هي التي تسوق الإنسان للانضباط بأحكام هذا الشرع، ولضبط عواطفه فلا ينساق وراء غرائزه وشهواته وعواطفه وإنما يُحكِّم عقله ويفكر في عواقب أمره، وهذا يصل هذه الخصلة بالصفات الصحيحة للرجولة–كما قلنا–أو بالإنسانية-كما قلنا في التعريف اللغوي لكلمة المروءة-، وبرجاحة العقل.. بالحلم.. وبالأناة كلها سوف نجد أنها تجتمع لكي تبعث في الإنسان هذه الخصلة التي نتحدث عنها.

 

 وبواعثها-كما قلنا إلى الآن-يتضح أنها الدين، وأنها العقل الراجح الذي يسوق الإنسان إلى ما فيه خير مهتدياً-لا شك-بهدي الشرع الحنيف، ثم إنها تحتاج إلى علو همة، حينما نتحدث عن العقل الراجح الراشد فإن هذا العقل ينبغي له أن يسوق الإنسان إلى ما هو أفضل وأجمل وأكمل وهذا يحتاج إلى همة، فضعيف الهمة سوف يقنع بالحد الأدنى من الأخلاق ومن الفضائل التي جاء بها هذا الدين، فإن كان الشيء غير واجب عليه وإنما كان مندوباً له فعله أو كان مباحاً فإنه لن يسعى إليه أو إن كان مكروها لكنه لا يترتب عقاب على فعله فضعيف الهمة لن يمانع في أن يأتيه طالما أنه لا يترتب عليه عقابٌ في الآخرة، أما صاحب المروءة فإنه سوف يترفع عنه، مثلاً : كثيرٌ من الناس يترفع عن مُلاحات السفهاء والجاهلين، هناك حد أدنى قرره الله سبحانه وتعالى في أن المسلم من خلقه أنه يُعْرِضُ عن الجاهلين؛ لكن هذا من كان جهله واضحاً.. ومن كان سفهه بيناً للناس؛ لكن من كان مرائياً يُلاحي فإن ذوي المروءات يترفعون عن مجادلته ومناظرته؛ لأنه لا جدوى من مناظرته ومحاورته.

 

مقدم البرنامج: لأن غرضه غير سليم.

 

الشيخ كهلان: لأنه لا يقصد ابتغاء الحق، هذه من العلامات التي يفترق فيها صاحب المروءة عن غيره، وهذا لا يعني أن التحلي بالمروءة أمر سهل يسير، فالتحلي بالمروءة أمرٌ فيه عذاباته وفيه غصصه؛ لكن هذه الهمة العالية سوف تجعل من تلك المعاناة حلاوة يستسيغها ويصبر عليها؛ لأنه ينشد ما هو أجمل وأفضل وأكمل.

 

مقدم البرنامج: وستكون النتيجة مريحة بالنسبة إليه.

 

مداخلة متصل ثالث: الله يبارك فيكم.. على كل حال من المروءة أن نشارككم، ومن المروءة لمن استطاع أن يدلو بدلوه في هذا المجال، وأن يشارك الدكتور كهلان حقيقة..

 

مقدم البرنامج: جزاك الله خيراً، ونحن من المروءة أيضا أن ننصت إلى ما تقوله.

 

المتصل:  بارك الله فيك.. على كل حال عندي بعض النقاط البسيطة جداً-ربما عرضتم إليها-لكني وددت فقط توضيحاً، المروءة والإسلام نحن دائماً ما نجعل هناك فاصلاً بين الإسلام وبين الأخلاقيات العامة التي كانت قبل الإسلام، فالإسلام إنما أتى هنا مستثيراً ومثيراً لمكامن الأخلاق الموجودة في المرء والتي قد تكون المروءة من أشكالها العظمى أو الكبيرة التي قدم لها الدكتور كهلان؛ فلذلك لا أحسب أنه من الأصلح أو من الأحسن دائماً الفصل بين الإسلام والمروءة والأخلاق العامة بينما رسول الله–صلى الله عليه وسلم–يقول : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "، فهو إنما أتى ليستثير هذه المكارم التي ران عليها بعض الماديات في الأعصر وما زالت إلى عصرنا هذا الذي هو محتاجٌ كما الأعصر السابقة إلى أن يستثار مرة ثانية بالآيات.. بالقرآن.. بالأمثلة التي تحصل.

 

طيب مظاهر المروءة في الكتاب العزيز، هناك ثمة مظاهر-سيدي الكريم-ربما للشيخ الدكتور كهلان أن يُعَقِّب على هذا أي أن يهذبها أو يوجهها أو أن يقرها، على كل حال الله سبحانه وتعالى في ذكره للمطلقات والتطليق قبل المس { ... وَأَن تَعْفُواْ ... } بعد ذلك قال : { ... وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ... } (البقرة:237)، هذه أيضاً مظهر من مظاهر المروءة التي تتمثل والقنطرة الحيوية التي تتمثل فيها المروءة.

 

أيضا العفة في { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ } (النور:60)، فالعفة تكون في هذه الحالة من المروءة لما يربط ذلك من منظرهن العام إذ كن على شكل ثم ينتهين على شكل آخر أي حتى لا يُستَثار التساؤل من قبل المجتمع، وهذا أيضا من المروءة حتى لا تُشغِل المجتمع ولا تُشغِل نفسك.

 

أيضا ربما المروءة والنسب والقبيلة وغير ذلك هناك مشكلة نحن معنا-أي العرب خاصة-أن كثير من الأخلاقيات هذه ندعيها لعنصرنا العربي وفي الحقيقة كما قد أشار إليه الدكتور كهلان أنه لا ينبغي؛ لأن المروءة كما ذكر الشيخ من المرء كالرجولة من الرجل والفحولة من الفحل وما إلى ذلك، فهي مرتبطة بالإنسان كإنسان وخالق الإنسان واحد في جميع الظروف فلا ينبغي أن يُختص بها كما نقول نحن علم الأنساب مثلاً في الكثير من الأحيان نقول أنه يختص بها العرب بينما من الرُّحل من قبائل البشتون وغيرها من القبائل حتى القبائل البدائية عندهم من الحفظ لأنسابهم ما عندهم.

 

للتنبيه فقط حتى لا نكون دائما في دوامة نجعل لأنفسنا ما نأخذه من غيرنا على أنهم يشاركوننا البشرية.. وقد يكونون في أحسن حال عند ربهم سبحانه وتعالى.

 

مقدم البرنامج: بارك الله فيك أخي هذه نقاط بالفعل مهمة جدا، إن شاء الله سنبسط القول فيها بحول الله.. نشكرك على مكالمتك وحديثك.ً

 

المتصل: أعانكم الله سبحانه وتعالى.. وزاد الله من مروءتكم ومروءة المسلمين..

من المروءة التي ظهرت واشترك فيها المرء أي الإنسان كإنسان هي مروءة الأموال الذي ظهرت في إعصار جونو الماضي أنا أذكر وأنت ربما تذكر أن المشاركين في ذلك كانوا من البشر ومن الناس-بلا شك العمانيون كانوا من أوائل الناس-لكن هناك أجانب وآخرون تجمعهم البشرية بينما لا يجمعهم دينهم ظهرت مروءتهم وظهرت شهامتهم في ذلك الموقف ربما. 

 

مقدم البرنامج: صحيح، وهذا قد لا يحتاج ذلك إلى تأكيد مع وجود القنوات الفضائية التي تنقل لنا تآزر الناس في كل مكان.. شكرا لك أخي.. بارك الله فيك.

 

المتصل: صحيح.. فالمروءة مرتبطة بالإنسان أكثر ما يكون فلنكن ذوي مروءة؛ لأننا ربانيون بإذن الله سبحانه وتعالى.

 

مقدم البرنامج: بارك الله فيك.. شكراً جزيلاً أخي على مكالمتك الطيبة..

وأنا الحقيقة في موضوع العنصر العربي أو غيره وتميزه بالمروءة هذه المسألة حسمها القرآن الكريم عندما تحدث عن موسى–عليه السلام–عندما وجد المرأتين { ... وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ ... } (القصص:23) مروءته حملته على أن يسقي لهما، وأيضا ذلك الرجل الذي جاء منبهاً لموسى { وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ... } (القصص:20).

 

الشيخ كهلان: قصة موسى مع الرجل الصالح ومع ابنتيه-والرجل الصالح هنا كما يقال هو شعيب–عليه السلام--فيها دلالات المروءة، وأنا ترددت عند إعداد الحلقة هل أذكرها هي كأول آيات ننصت إليها؛ لأن فيها موقف الرجل–موقف شعيب عليه السلام–فيه من المروءة ما فيه.. موقف البنتين.. والبنت التي زَكَّت موسى لأبيها وأشارت إلى رغبتها فيه، فيه من المروءة ما فيه.. موقف موسى في كل أحواله حينما سقى للمرأتين.. حينما عاد واستظل بظل الشجرة ودعاء ربه.. بعد ذلك حينما رافق المرأة إلى أبيها، أيضا موقف شعيب–عليه السلام–حينما عرض على موسى هذا العقد–عقد العمل في مقابل تزوجيه إحدى ابنتيه-، وموقف موسى-عليه السلام-في قبول هذا العقد، كل هذه-مع أنها في آيات مختصرة لا تتجاوز الثلاث-كلها تدل على مروءات الأخلاق في كل جانب كيفما قلَّبتها، وهي في ذات الوقت أيضا لها صلة بموضوع العُرف الذي كنت تتحدث عنه.

 

مقدم البرنامج: لنبدأ طرح السؤال مرة أخرى لعل المستمع غاب عنه هذا السؤال..

أنتم ذكرتم المروءة عندما تعرضتم لخوارم المروءة ذكرتم مجموعة من النماذج التي ربما نحن في عصرنا الحاضر لا نعتبرها خرماً للمروءة إذاً هل المروءة يُحَدَّدُ مفهومها ويؤطِرها العُرف في كل أحوالها؟

 

الشيخ كهلان: أحسنت..، لنأخذ من قصة موسى–عليه السلام–مع ابنتي شعيب، بعض المفسرين قالوا: كيف أذن شعيب–عليه السلام–لابنتيه بأن يذهبا للرعي في وسط مجتمع ظالم غاشم، وأن ذلك في ظاهر الأمر لا يتناسب مع مروءات الأنبياء؟!!

 

فأجابوا عن ذلك ويبدو أن مبعث هذا القول هو أيضا عرفٌ معين في أوساط هؤلاء المفسرين إلا أنهم أجابوا بأن الأعراف والعادات في ذلك الوقت كانت تستسيغ مثل هذا التصرف، على أن القرآن نَصَّ في نفس السياق على أنه كان شيخاً كبيراً { ... وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } مما يعني أنه ضعيف من أن يسقي؛ ولذلك موسى–عليه السلام-بقوته استطاع أن يزيح الغطاء، ثم يسقي للبنتين؛ لكن نصوا على أن مما يتصل بموضوع المروءة قضية الأعراف والعادات، هذه الأعراف والعادات متى ما كانت في مساحة المسموح به شرعاً فهي لا شك لها اعتبارها.

 

مقدم البرنامج: بمعنى-على ضوء كلامكم–كان بإمكان شعيب–عليه السلام–أن يؤجر رجلا كما أجر موسى–عليه السلام-؛ لكن الأعراف إذاً تقتضي السماح بذلك الإجراء.

 

الشيخ كهلان: نعم أحسنتم، أهل التفسير نصوا على أنه ذلك كان مألوفاً.. كان مستساغاً، وكان من المروءة أن يُفعل ذلك، ولعل العكس كان أن يستأجر غريباً ليقوم له بذلك من قومه كان غير مألوف، فإذاً طالما أن العادات والأعراف هي في دائرة الجائز شرعاً.. في دائرة المسموح به شرعاً فهي مساحة تتحكم فيها وتُراعى الأعراف والعادات، وهذه الأعراف والعادات يكون فيها ما هو أعلى وأكمل، ويكون فيها ما هو أدنى وأقل، ومن سعى إلى ما هو أفضل وأكمل كان ممن اتصف بالمروءات، ومن رضي وأراد لنفسه الحد الأدنى فهو لم يقع في حرام، ولا حرج عليه في ذلك إلا أنه فرط أي غيره أكمل منه.

 

 وهذا يصلنا بعد حديثنا عن موضوع شرف النفس؛ لأن شرف النفس يدخل فيه الترفع عن المعاصي، والبعد عن سفاسف الأمور، والنأي بالنفس عن المزلات التي تغضب الله سبحانه وتعالى ولا ترضيه هذا من شرف النفس، ومن علو الهمة–كما قلنا–السعي إلى أن يتدرج المرء فيما هو أكمل وفيما هو أفضل فإن تعارض لديه أمران أحدهما حسن والآخر أحسن فإنه يسعى إلى ما هو أحسن وأكمل.

 

مقدم البرنامج: على ضوء ذكركم لابنتي شعيب–عليه السلام–وقصة موسى معهم الأخ المتصل الأول طرح سؤالا أنا أريد أيضا أن أقسمه إلى قسمين أو أن أجعل له وجهين :

هناك من يبالغ في تلمس هذا الخلق-خلق المروءة في مساعدة الآخرين–من خلال سلوك مسالك مضرة به دينياً ودنيوياً، وهناك أيضا من يبالغ في ترك خلق المروءة عندما يجد مجموعة من النساء بحاجة إلى مساعدة أو يجد شخصيات ربما الاقتراب منهم فيه حرج له، فيترك ذلك الاقتراب تورعاً وديناً كما يريده في حين أننا نجد موسى–عليه السلام–اندفع إلى مساعدة المرأتين بمجرد رؤيته لذلك المشهد، الآن كيف يوازن الإنسان؟

 

الشيخ كهلان: أما فيما يتعلق بأن يكون في الموقف الذي هو فيه أن يكون هناك جانب معصية فإن عليه أن يترفع عنه.. حينما يكون الأمر واضحاً بيناً فإن عليه أن يبتعد عنه وتكون المروءة في الابتعاد عن ذلك، مما روي من طريق علي بن أبي طالب وورد في بعض مصادر الحديث مرفوعاً إلى الرسول–صلى الله عليه وسلم–قوله : " من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كمُلت مروءته "، فإذاً الابتعاد عن الظلم وعن الكذب وعن الغدر هو من بواعث المروءة، أما إن كان الموقف يستدعي تصرفاً لا يتعارض مع الشرع وهو أفضل وأجدى وأحسن من حيث أثره في المجتمع ومن حيث سده لفتنة ما فإن ذلك أولى وعلى المسلم أن يدافع.

 

لنأخذ قصة أخرى: رسول الله–صلى الله عليه وسلم–في قصة عندما كان يكلم زوجه صفية-رضي الله تعالى عنها–فمر عليه رجلان من المسلمين فرأى أنهما أسرعا بادر رسول الله–صلى الله عليه وسلم–إلى مخاطبتهما بقوله لهما–صلى الله عليه وسلم– : " على رسلكما إنها صفية "، فقالوا : عجبا يا رسول الله..!! أوفيك نشك..؟؟!!، فقال : " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق "، فلدفع الريبة رسول الله–صلى الله عليه وسلم–بادر هو إلى نفي هذه الريبة، فإذاً المروءة مع كونها–كما قلنا–قرينة بالأخلاق والعقل والحجا وعلو الهمة وشرف النفس إلا أنها لا يمكن أن تكون عذراً أو سبباً للامتناع عن خير يدعو إليه هذا الدين، كما أنها لا يمكن أيضا أن تكون مانعة من أن يتمسك هذا المرء بدينه وبأخلاقه وأن يعتز بذلك.

 

مقدم البرنامج: نعم، في هذا أيضا قصة أم سلمة التي اصطحبها عبيد الله بن طلحة–أظن–إلى المدينة.

 

الشيخ كهلان: نعم، هناك حالات خاصة نَصَّ عليها أهل الفقه كهذه الحالة التي تذكرها: إذا انفردت امرأة عن الركب لسببٍ ما فإنه في هذه الحالة مما يرخص للرجل أن يقودها.. أن يسوقها.. أن يرافقها إلى مأمنها.. إلى أهلها.

 

مقدم البرنامج: لأنه مسؤول عنها عندئذٍ..

طيب نحن الآن في القرن الخامس عشر الهجري، والحادي والعشرين الميلادي هل لا زلنا نحتاج إلى خلق المروءة؟

 

الشيخ كهلان: بل نحن أشد احتياجاً في هذا القرن إلى خلق المروءة؛ الآن مع هذا الانفتاح الحاصل في وسائل الاتصال وفي الفضائيات المفتوحة وفي الانفتاح في شتى مجالات الحياة نحن أشد احتياجاً إلى أن نتحلى بأعلى مراتب المروءة.

 

لأننا حينما نحاول أن نتحلى بأعلى الكمالات وأعلى الأخلاق عسى أن يتحصل لنا منها الحد الأدنى، أما حينما نسعى إلى الحد الأدنى.. ابتداءً يكون غاية همنا أن نصل إلى المقدار الأدنى فقط الذي نظن أنه يتحقق به الإجزاء وإبراء الذمة أمام الله سبحانه وتعالى فما عسى أن يتحقق لنا منه، فنحن أشد حاجة إلى التخلق بخلق الحياء وبخلق الإنسانية وبرجاحة العقل في هذا العصر أيضا الذي كثرت فيه الفتن.. الفتن التي تغرر بالإنسان في فكره وفي عقله وفي توجهاته.. هو بحاجة إلى بصيرة.. بحاجة إلى أناة وإلى حلم تدعوه إلى التبصر والتفكر، أيضا أجيالنا هذه المتلاحقة التي تتلقى كل هذه الفضائيات المفتوحة وكل وسائل الاتصال التي نعاصرها الآن بحاجة إلى تنشأ على أن تنشد المروءات من الأخلاق، وأن تتحلى بهذه الصفات الكريمة؛ لأن هذه هي الحصانة، أما المنع والإقصاء والانعزال فإنها لن تؤدي إلا إلى مزيدٍ من التفريط.

 

مقدم البرنامج: جميل..، إذاً بعد هذا الكلام الطيب الجميل نستمع إلى أبيات شعرية جميلة تصف هذه القيمة–قيمة المروءة–من قبل شعراء العرب.

*********************

 

قال بعضهم :

إن المروءة ليس يدركها امرؤ *** ورث المروءة عن أبٍ فأضاعها

أمرته نفسٌ بالدناءة والخنا *** ونهته عن طلب العلا فأضاعها

فإذا أصاب من الأمور عظيمة *** يبني الكريم بها المروءة باعها

 

وقال أعرابي: والله لولا أن المروءة ثقيلٌ محملها، شديدة مؤنتها ما ترك اللئام للكرام شيئا.

 

مقدم البرنامج: أهلا بكم أعزاءنا الكرام في ختام برنامجنا دين الرحمة الذي تحدثنا فيه طوال الدقائق الماضية عن خلق المروءة وعن هذه القيمة الكريمة التي نشعر بالفعل أننا بحاجة إليها؛ لأنها دائما تسمو بالإنسان وتترفع به عن سفاسف الأمور.

شكراً لكم فضيلة الشيخ الدكتور..

 

الشيخ كهلان: شكراً لكم وللإخوة والأخوات الذين شاركونا.

 

مقدم البرنامج: شكراً لكم أعزاءنا الكرام على هذه المشاركات الطيبة، وعلى هذه النقاط الجميلة التي طُرِحَتْ من قبل الإخوة المتصلين، ونشكر المستمعين جميعاً، ونذكركم بأن عنوان حلقتنا في الأسبوع القادم-إن شاء الله تعالى-سيكون عن التفاؤل-، شكراً لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

انتهت الحلقة