موضوع الحلقة " تابع المساواة"

 

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ لماذا نتناول هذا الموضوع مرةً أخرى مع أننا تناولنا هذه القيمة في حلقةٍ سابقة؟؟

 

وما الجديد الذي سنتعرض له اليوم؟

 

 

الشيخ كهلان: إن موضوع المساواة من الموضوعات الجديرة بأن يقف المرء معها عدة وقفات، وذلك لما يشتمل عليه من مضامين ومعان ينبغي للمسلم أن يتعرف عليها.

 

ونحن في هذا البرنامج نسعى قدر استطاعتنا إلى أن نوضح الجوانب الإنسانية في هذا الدين، ونقصد من ذلك القيم النبيلة التي دعا إليها هذا الدين الحنيف، وحض أتباعه على الالتزام بها ، وثبت بالأدلة والواقع أن لهذه القيم آثاراً عظيمةً في حضارة المسلمين.

 

ولعل واقع الناس اليوم دفعنا إلى أن نطرح مثل هذه القيم علنا نتناول فيها ما لدى البعض من التباسٍ، أو عدم وضوح رؤية، أو أن يكون من باب "وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ" (الذاريات:55)

 

 وموضوع المساواة في الحلقة الماضية تعرضنا له من حيث التعريفات، وبعض الأدلة الشرعية، والمجالات والأوجه التي تتجلى فيها المساواة، ولم نسلط فيه الضوء كثيراً على كون المساواة قيمةً من القيم التي نسعى إلى غرسها، وإلى التذكير بها ، وبالتالي لم يسعفنا الوقت أيضاً لئن نركز على ما يؤدي إلى غرس هذه القيمة في المجتمع.

 

تعرضنا في الحلقة الماضية لموضوع ما يترتب من آثارٍ على ترك المساواة، ولم نتعرض لآثار التزام المساواة، ولذلك فهناك جوانب أخرى جديدة سوف نتعرض لها بمشيئة الله تعالى في حلقة اليوم .

 

وسوف نتعرض اليوم لأدلةٍ شرعيةٍ أخرى تتعلق بهذا الجانب.

 

*********************

 

قال الله تعالى:

"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات: 13)

 

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ الدكتور من خلال استماعنا إلى هذه الآية الكريمة ما المقصود بالمساواة التي نتحدث عنها؟

 

وما الأدلة الشرعية عليها؟

 

الشيخ كهلان: المساواة التي نتحدث عنها هي هذه التي قررتها هذه الآية الكريمة التي أنصتنا إليها من سورة الحجرات، فالله عز وجل يخاطب الناس جميعاً.

 

يخاطب كل الناس على اختلاف ألوانهم، وأعراقهم، وبلدانهم، وأوطانهم بهذا الخطاب الواحد الذي يذكرهم فيه بأصل خلقتهم، وأنهم إنما خُلقوا من ذكرٍ وأنثى.

 

وهذه المساواة في أصل الخلقة رتب الله عز وجل عليها فيما بعد أن جعل الناس شعوباً وقبائل بمعنى (أن هناك ما يختلفون فيه عن بعضهم البعض من حيث ما يراد لهم ، من حيث الغايات التي يُراد لهم من هذا الاختلاف وهو التعارف كما عبر الله عز وجل عنه) ثم ردٌ إلى أن أساس التفاضل والتمايز بين الناس كما بينته الآية إنما هو التقوى والعمل الصالح.

 

هذه الآية تتصل أيضاً بآيةٍ أخرى من كتاب الله عز وجل وهي قوله سبحانه "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" (الإسراء:70)

 

في الحلقة الماضية تحدثنا عن الآية الأولى، ولعلنا نزيد الحديث اليوم مما نستفيده من آية سورة الإسراء "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ .." فإذاً الآية الأولى تؤكد على أن الناس متساوون في أصل الخلقة، ثم تأتي هذه الآية، أو يأتي القرآن الكريم ليبين للناس أن الله قد كرَّمهم جميعاً في أصل تكوينهم – في أصل خلقتهم هم مكرمون – ولذلك لم يقل الله تعالى: أنه قد كرم فئةً من الناس دون غيرهم ، وإنما قال: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ .."

 

 ثم امتن عليهم بعددٍ من المنن بينتها هذه الآية الكريمة وهي : تسخير البر والبحر الذي عُبر عنه بقوله تعالى "...وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.." - كل الناس سُخر لهم ما في البر وسُخر لهم ما في البحر-، ثم أيضاً رزقهم الله تعالى من الطيبات ، وفضلهم على كثيرٍ ممن خلق سبحانه تفضيلاً.

 

وسوف نأتي إلى مزيد بسطٍ لهذه المنن.

 

مداخلة متصلة: إن من أعز الأمنيات أن تتبوأ هذه الأمة المكانة اللائقة بها في صدارة الأمم، لتقدم للتائهين من البشر، والمُعَذبين ممن أصابهم الضرر النموذج العملي للمساواة بين بني البشر.

 

فتعساً للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليومٍ عظيم؟! يوم يقوم الناس لرب العالمين.

 

فكيف تُقَيم الديات بالملايين لقتلى لوكربي  في حين أن القتيل الأفغاني يُصرف لذويه 200 دولار فقط ؟؟! هذا إن حصلوا عليها.

 

مقدم البرنامج: نواصل الحديث فضيلة الشيخ، أم لك تعليق مباشر على هذه المكالمة؟

 

الشيخ كهلان: سوف نأتي لهذا الموضوع، لأنه أيضاً من صلب الموضوع – موضوع من مظاهر تكريم الله عز وجل لبني آدم هو ما قررته أيضاً هذه الشريعة من حفظ الدماء، والأموال، والأعراض - كما سوف نأتي في حديثٍ نبويٍ نستمع إليه – حديثٍ شهير – في الفاصل الثاني من هذه الحلقة بمشيئة الله، وهناك سوف يكون مزيد بسطٍ حول هذه القضية.

 

لنعد الآن لموضوع الأدلة الشرعية، فقوله تعالى "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ .." فإذاً المراد هو النوع، وما امتن الله به في هذه الآية إنما هي مننٌ مثبتةٌ للنوع جميعاً، لنوع بني آدم، وهذا أمرٌ مألوف في كتاب الله عز وجل، طالما ذكَّر الله عباده، طالما ذكَّر الناس بأنهم خُلقوا من أصلٍ واحد. "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى..." وفي قوله تعالى "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً...." (النساء:1) فإذاً هذا التكريم – التكريم الذي نصت عليه هذه الآية - ، ثم التسخير "...وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.." ، والرزق الذي هو من عند الله عز وجل يهبه لكل الناس، فالله تعالى يهب ويرزق المؤمن والكافر، التقي والفاجر، وبيان منزلة الناس – بني آدم جميعاً – أنهم فُضلوا على كثيرٍ ممن خلق الله تعالى ، على خلافٍ عند أهل التفسير في كونهم مفضلين على كثيرٍ من المخلوقات، هذه موضع كلام عند أهل التفسير، لكن هذا التفضيل يشملهم جميعاً.

 

هذه المنن التي بينها الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة، مع تذكر ما قررته الآية السابقة وهي المساواة في أصل الخلقة تبين للناس جلياً أن هذه المزايا الخمس – لو عددناها لوجدنا أنها خمسا – التكريم، والتسخير، والرزق، والتفضيل على الخلق، والتسخير أي - التسخير للبر والبحر - لذلك هما خصلتان يشترك فيه الناس، وفي ذلك بعثٌ لهؤلاء الناس حتى يتنافسوا فيما بينهم.

 

هنا ملحظ؛ تصور لو أن الله عز وجل اختص شعباً من الشعوب، أو فئةً من الناس بأنهم أفضل من غيرهم، هذا سوف يؤدي إلى تواكلهم، وإلى استكبارهم على غيرهم، وإلى عدم سعيهم في هذه الأرض انتفاعاً، وتسخيراً، وعمارةً، وعبادةً لله عز وجل لأنهم حصلوا بذلك على شهادة تفضيلٍ من عند خالق السماوات والأرض ، لكن حينما يخاطب الله عز وجل الناس، حتى هذا الخطاب خوطب به كل الناس فصدر هذه الآية "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ .."، وصدر الآية السابقة "يَا أيها الناس" التي ذكرناها.

 

فإذاً: حتى الخطاب نفسه يراد به أن يكون عاماً للناس جميعاً، ويُخاطَبون بتقرير هذه المبادئ، فإن هذا يدفعهم إلى أن ينطلقوا من هذه المبادئ لكي يتنافسوا فيما بينهم على عمارة هذه الأرض، وعلى التحلي بالأخلاق والفضائل التي تجعلهم أفضل من غيرهم، لا من حيث الأصل وإنما من حيث الاكتساب.

 

أما من حيث الأصل فهم يدركون أنهم متساوون، وبالتالي يبقى الأخذ بأسباب المفاضلة، والتي هي تتجلى في عمارة هذه الأرض، وفي استغلال ما سخره الله سبحانه وتعالى لهم، وفي السعي للعمل في نواميس هذه الحياة لأجل أن يترقى هذا الإنسان إلى ما هو أفضل من الكمالات الحيوية، من كمالات حياة هذا الإنسان على هذه الأرض.

 

*********************

 

مقدم البرنامج: طيب فضيلة الشيخ الآن ندخل في تفاصيل مظاهر المساواة، نريد أن نتبين أهمية المساواة كقيمة في حياة البشر اليوم، خصوصاً وأن عالم اليوم يتحدث عن التعددية في عصر العولمة، هل لهذا صلة بهذا المبدأ من مبادئ الإسلام الذي نتحدث عنه نحن اليوم؟

 

 

الشيخ كهلان: لنتذكر مرةً أخرى لنستعرض سريعاً ما دلت عليه الآيتان السابقتان مع الحديث الذي أشرت إليه وهو " كلكم لآدم، وآدم من تراب" إذاً هذا المخلوق البشري مُكَّرم، المخلوق البشري بنوعه.. بجنسه، وهذا التكريم هو في الخلقة والهيأة، في الفطرة، من حيث الفطرة، هذه الفطرة التي تجمع بين المادة التي خُلق منها هذا الإنسان – مادة الطين التي خُلق منها هذا الإنسان – وبين نفحة الروح التي أودعها الله عز وجل في هذا الإنسان، فاستأهل بسببها هذه المنزلة العظيمة التي بوأه إياها ربه تبارك وتعالى.

 

أيضاً لما تحدثنا عن التسخير– تسخير البر والبحر– فإذاً هم متساوون في الملكات التي تمكنهم من الانتفاع من هذا الذي سُخِّر لهم- الملكات التي أودعها الله سبحانه وتعالى في فطرهم.. في عقولهم .. في قلوبهم.. في نفوسهم– متساوون أيضاً من حيث الأصل فيها.

 

كذلك ما يتعلق بالرزق، طالما أن الله عز وجل هو الذي يرزق العباد جميعاً، وقد تكفل سبحانه برزقهم فإذاً هم متساوون أيضاً في المسؤوليات تجاه هذا الرزق.

 

وهذا معنى حريٌ أن يقف عنده الناس أي– ما يتحدث عنه العالم.. ما يتحدث عنه الناس اليوم من حماية البيئة، ومن مكافحة التلوث بأنواعه... وغيره هو من واجب هذا الإنسان أياً كان – لماذا؟ لأن الله عز وجل جعل الناس متساوين في خلقهم، فيما مكنهم منه في هذه البسيطة، وفيما يرزقهم إياه من خيرات السماوات والأرض، ولذلك كانت أيضاً المسؤولية مشتركة.

 

ونحن نذكر هذه الأشياء أيضاً نتذكر أن الله عز وجل كرم بني آدم حينما أمر ملائكته بالسجود لآدم أبي البشرية، وهذا يشتركون فيه جميعاً، فالناس كلهم من ذرية آدم - عليه السلام-.

 

 

مقدم البرنامج: هكذا إذاً أصل خلق الإنسان، مساوٍ أياً كان.

إذن لا مجال هناك لتصنيف الشعوب على أساس عرقي ( هناك شعوب آرية.. وهناك شعوب خُلقت لتقود، وشعوب خُلقت لتقاد).

 

 

الشيخ كهلان: لا الأمر ليس كذلك، نعم الناس متساوون، وهذا التنوع - شعبٌ آريٌ، وشعبٌ ساميٌ، وشعبٌ...– إنما هو للتعارف، وهذا الذي يقرر مبدأ التعددية التي أرادها الله سبحانه وتعالى.

 

فالناس يختلفون في ألوانهم، يختلفون في طبائعهم، يختلفون في نفسياتهم ، في سعة مداركهم، في هممهم، في بنيتهم الجسدية لكن لا أثر لذلك عند الله سبحانه وتعالى وإنما الأثر إنما يكون بعمل الصالحات..عمارة هذه الأرض ما عُبِّرت عنه بالتقوى "...إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ...".

 

هذه التقوى التي تنشر الصلاح في الأرض، وتمنع الفساد فيها، تمنع الإفساد أيضاً فيها، تعمر هذه البسيطة بما يرضي الله سبحانه وتعالى.

 

 

مقدم البرنامج: إذاً كل إنسان فيه هذه الخصائص، وهو قادرٌ على تلبية كل هذه الوظائف.

 

 

الشيخ كهلان: نعم، لننظر إلى المؤمن نفسه، يخاطبه الله سبحانه وتعالى بخطابٍ يخبره فيه ليقتنع تماماً بأن الله عز وجل خلق الناس متفاوتين حتى في إيمانهم فمنهم من يؤمن، ومنهم من لا يؤمن "....فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ..." (الكهف:29)

 

والله تعالى يقول: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس:99) ولذلك يأتي أيضاً قوله سبحانه فيما يتعلق بالديانة والعقيدة " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ..." (البقرة:256) وهذا يقتنع به المسلم لأنه ليس مسئولاً عن محاسبة الناس ، وإنما هو مطالبٌ في هذا الدين الحنيف بدعوتهم إلى الخير -هذا من واجبه اتجاههم -بإيصال الحق إليهم، وبعد ذلك مصائرهم بيد الله سبحانه وتعالى.

 

وهو يسعى إلى إيصال هذا الحق مع إيقانه بالتعددية التي ذكرتها لا بد له من العدل والقسط، ولهذا قضية التعددية في إطار مبدأ المساواة الذي نتحدث عنه في هذا الدين الحنيف متصلٌ اتصالاً وثيقاً بالعدل والقسط، لا يمكن أن ينفك عنه أبداً، لأنه حينما ينفك أي– حينما ينفصل مبدأ المساواة عن قاعدة المبدأ والقسط التي ألزمنا الله تعالى بها في كتابه الكريم – تعم الفوضى، وينتشر الفساد، وتكون النتيجة التعددية السلبية التي يكون فيها الاستعلاء، والتكبر، والظلم، والبغي في الأرض.

 

مقدم البرنامج: ومن هنا سوف تُبعث الرسائل السلبية إلى الشعوب على أنكم خُلقتم لخدمتنا، وعليكم أن تنفذوا، ونحن أسيادكم...وهلم جرا.

 

 

الشيخ كهلان: ومن هنا أيضاً نشأ ما يظهر من تناقضات في عالم اليوم سببها الظلم ، والبغي، وعدم تطبيق مبدأ المساواة مما ذكرته الأخت المتصلة من حيث إن هناك دماء رخيصة، وهناك دماء غالية، وعقلاء العالم وحكماؤه – نحن لا ندعي أن هذا أيضاً لم ينادِ به غير المسلمين، لا- هناك عقلاء .. هناك حكماء ينددون بمظاهر الظلم هذه التي تؤدي إلى ظلم الإنسان، وإلى طبقيةٍ مقيتةٍ بغيضةٍ لا يرضاها الله سبحانه وتعالى، ولا يرضاها الدين، ولا يرضاها الخلق القويم، ولذلك رسول الله– صلى الله عليه وسلم– كان حريصاً على أن يقرر هذا المبدأ في أكبر تجمعٍ لأصحابه.. للمسلمين.

 

في وسط أيام التشريق يعلن هذا.

 

 يعلن "إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيٍ على أعجميٍ، ولا لأعجميٍ على عربيٍ...." الخ الحديث المشهور.

 

 

مقدم البرنامج: وحتى في جانب الإيمان ، والاطلاع على ما في القلوب والصدور النبي – صلى الله عليه وسلم – يرفع يده عنه أيضاً (ما أمرنا بشق القلوب)

 

حتى في هذه الأشياء التي يتفاضل فيها الناس.

 

*********************

 

مقدم البرنامج: الآن ننتقل فضيلة الشيخ إلى بيان الأوجه التي أولتها الشريعة عنايتها فيما يتعلق بالمساواة.

 

ما هي هذه الأوجه؟؟ وما المجالات التي تكون معها لمبدأ المساواة؟

 

الشيخ كهلان: أولاً من حيث الإيمان –أي في جانب العقائد، وهذا أمر ذكرناه ولا بأس بالتذكير به مرةً أخرى لأهميته – نجد أن الإسلام بعقيدته الصافية يدعو إلى الإيمان بكل الكتب، وبكل الرسل الذين بعثهم الله سبحانه وتعالى، وإلى الإيمان بالكتب التي أنزلت على هؤلاء الرسل كما أنزلت عليهم "قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ..." (البقرة:136)

 

أيضاً يجعل للناس حرية اختيار العقيدة التي يريدون مع تحميلهم مسؤولية خيارهم، وأمر المؤمن بأن يسعى إلى بيان الحق لغيره ، ثم تكون بعد ذلك المصائر والنتائج بحسب خيارات الناس في هذه الحياة  " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ..." (البقرة:256)

 

 بل إن الله عز وجل في القرآن الكريم يؤكد أخوة الشرائع السماوية جميعاً لذلك نجد " آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا...." (البقرة:285) لذلك اختص الله عز وجل لبيان أن ما كان يدعو إليه هؤلاء الرسل أقوامهم إنما هو توحيد الله عز وجل والأمر بعبادته، وهذا ما سماه ديناً "مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (آل عمران:67).

 

 ولذلك أيضاً كان يدعو موسى– عليه السلام، ودعا عيسى – عليه السلام – مع اختلاف مللهم وشرائعهم، فأتباع موسى من اليهود، وأتباع عيسى – عليه السلام – من النصارى إنما كان رسلهم الذين بُعثوا إليهم يدعونهم إلى ما كان كل الأنبياء والرسل يأمرونهم به، لنأخذ مثلاً عيسى – عليه السلام - ، بل وموسى كذلك – كما أخبرنا القرآن – بشرا بمحمد – صلى الله عليه وسلم -، ومحمدٌ أيضاً أمرنا وأخبرنا فيما أوحى الله تعالى إليه عن موسى، وعيسى، وأنه يجب علينا أن نؤمن بهما.

 

*********************

 

مداخلة متصل: أولاً نحمد الله تعالى أننا ولدنا من أمهاتٍ، وآباءٍ مسلمين.

 

الأمر الآخر حقيقة بعد أن تجرأ بعض الناس في سب خاتم الأنبياء والمرسلين محمد – صلى الله عليه وسلم – الحمد لله أن الكثير من الإخوة التقى مع بعض النصارى فقالوا لهم: إن أناساً سبوا محمد، ولكن أنتم بالمقابل لم تسبوا عيسى.

 

فأخبروهم بأن المسلم يحب عيسى– عليه السلام– ويحب جميع الأنبياء، وهذا الأمر ذكره الشيخ الدكتور، فكان هذا سبباً لدخول الكثير من النصارى في الإسلام.

 

فنحن نريد توضيح من الدكتور لبعض البشرية كيف لها أن تستقبل النقاش..أن تستقبل الطرف الآخر.

 

فالمسلم عندما يدعو إلى الإسلام لا يدعو بالسيف، إنما يدعو بالتي هي أحسن.

 

فما الضرر في قول المحاضرات؟؟ في الدعوة إلى الاستقامة.. إلى الهداية؟ فالإنسان له عدة طرق ( طريق الخير موجود بين ، وطريق الشر موجود بين ) فتبقى هنا الدعوة ، فجماعة الخير يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وجماعة الشر تدعوا للفساد والإفساد منذ أن وجدت الأمة ليس من الآن، من عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – يوجد طائفة تدعو إلى الخير، وأخرى تدعو للشر مع الشياطين.

 

ولي سؤال إن سمحتم وهو: الرسول– صلى الله عليه وسلم– يقول: "أنزلوا الناس منازلهم" فكيف نوفق بين أمر الرسول الكريم بالمساواة، وبين ما ورد في هذا الحديث النبوي الشريف؟ فنريد توضيح معنى هذا الحديث، وكيف ننزل الناس منازلهم؟

 

 

مقدم البرنامج: إذاً النقطة الأولى أردت بها القول أن المسلم عندما يدعو إلى الخير ينبغي أن لا يُوقف في وجهه أيضاً، هذه النقطة الأولى؟

 

 

المتصل: نعم هذا ما قصدته.

 

 

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ كنا نتحدث عن موضوع الأوجه.

 

 

الشيخ كهلان: نعم ذكرنا بعضها ولا يزال هناك بقية ينبغي أيضاً أن نتعرض لها.

 

حينما قلت: بأن ما أمر الله تعالى به الرسل من بلاغٍ لقومهم، ومن حملٍ لمشاعل الدين والهداية فإن هذا أيضاً مما تستوي فيه البشرية "..وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ" (فاطر:24).

 

قد تختلف الشريعة– إن صح التعبير– شدةً وتخفيفاً، أي – هناك شريعة نبي قد تكون فيها بعض ما تخففه شريعة نبيٍ لاحق – لكن هي في ذاتها تدل على شيء أيضاً ينبغي أن لا يفوت عن أذهاننا وهو أن التشريع في كل هذه الملل والشرائع لكل الرسل والكتب التي أنزلت عليهم إنما مصدره واحد وهو الله سبحانه وتعالى.

 

والأصل فيه الرحمة بالناس، فإذاً كل من يؤمن بالله تعالى يدرك أن مبعث هذا الإيمان إنما هو هذا الخالق.. البارئ.. المصور..القادر على كل شيء.

 

وهذا يدفع أيضاً إلى حقيقةٍ أخرى وهي أن الحساب أيضاً بيد الله سبحانه وتعالى وحده.

 

هذا يلغي الطبقية بين الناس.

يلغي الظن أن نبياً من الأنبياء جاء بشريعةٍ من عنده هو، أو بما يشدد به على قومه لأنه إنما بُعث ليكون هادياً وداعياً إلى الصراط المستقيم.

 

حينما تستشعر الإنسانية هذه المشاعر لنتصور كيف تكون حالتها.

 

حينما يدرك ويعي الإنسان-على اختلاف ثقافته، واختلاف عرقه ، ولونه، وبيئته – حينما يدرك كل هذه المعاني، والمسلم مأمورٌ أن يدرك هذه المعاني- لنتصور كيف ستكون علاقات الإنسان بأخيه الإنسان، وهذا ما جاءت الشريعة إليه، لهذا أكدت على موضوع العدالة (أن التعددية والمساواة في هذا الدين قرينة العدالة).

 

 

مقدم البرنامج: جيد، لكن ما يدور على ألسنة الناس أن المؤمن الذي آمن بالله سبحانه وتعالى، واطلع على حقيقة الإسلام هو الذي يؤمن بكل هذه المفاهيم فيما يتعلق بالمساواة، وأن غير المسلم عندما لا يكون لديه ذلك الإيمان فإنه لا يؤمن بهذا وتظل لديه إشكالية فيه.

 

 من واقع التاريخ هل أوصل المسلمون في حقبهم التاريخية هذا المفهوم إلى غيرهم، فأدركوه بالفعل؟؟

 

 

الشيخ كهلان: أكيد، هناك الكثير من الوقائع التي دلت على ذلك، أولاً: لنأخذ احترام أتباع الرسل، وأتباع الملل السابقة – هذا الذي قررته لنا هذه الشريعة – حتى أن أهل الكتاب – على سبيل المثال – حينما أدركوا ذلك، مع أن الله سبحانه وتعالى يخبرنا في كتابه الكريم عن بعض طباعهم أي – نجد في القرآن أنه يخبرنا عن اليهود، ويخبرنا عن النصارى ، يقول في كتابه عن اليهود: "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ.." (المائدة:82) ويقول: ".. وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى..." لكن مع ذلك هناك أحكام خاصةً بهم، وتنزل ثلاث عشرة آية من كتاب الله لتبرئة ساحة يهودي رمي ظلماً وزوراً بالسرقة من قبل بعض من سولت له نفسه في المجتمع الإسلامي، وينزل على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قرآنٌ يتلى لتبرئة ساحة اليهودي، قال الله سبحانه وتعالى: "وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ..." (المائدة:49)، كلمات غاية في التوجيه والردع من الوقوع فيما قد يكون ما يعتلج في النفوس من الرغبة في تبرئة ساحة المسلم، كثير من المفسرين يقول: إن هذا التشديد في الآية على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مخافة أن يكون في قرارة نفسه قد تمنى تبرئة ساحة المسلم ولو كان غير بريء، فلذلك جاء "...وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ..." وتجد فيها "...وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا" (النساء:105)،"هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ..." (النساء:109) الخ الآيات لتبرئة ساحة يهودي.

 

وقد زار-رسول الله صلى الله عليه وسلم– يهودياً حينما أُخبر عنه أنه مريض مرض موت زاره وتفقد حاله ودعاه للإسلام فأسلم ذلك اليهودي، فخرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فرحاً، وقال: "الحمد لله الذي هداه بي إلى الإسلام" .

 

فضلاً عن الأمثلة الكثيرة التي التزمها أيضاً صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والمسلمون عبر تاريخهم في تقرير هذا المبدأ في واقع الناس مهما كانت طريقة معاملة الطرف الآخر لهم.

*********************

 

 متصل ثالث: بخصوص موضوع المساواة أردت أن أشارك بقصة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مع اليهودي-وهي قصة مشهورة– عندما تحاكم علي بن أبي طالب واليهودي أمام القضاء، فهنا الإمام علي لم يقتص لنفسه من اليهودي بالرغم أنه يملك السلطة لتنفيذ ذلك، بل طبق المساواة حتى على نفسه، وذهب مع اليهودي إلى القضاء ليحكم بينهما، فحكم القاضي لصالح اليهودي لأن أمير المؤمنين لا يمتلك دليلاً على دعواه، فهذا الموقف جعل اليهودي يُسلم.

 

 

متصل آخر: بالنسبة لموضوع اليوم نجد أن لدى بعض الناس تصورا خاطئاً عن الإسلام بما يخص الرق أو العبودية التي كانت موجودة قبل الإسلام، وأُقرت في بعض تشريعات الإسلام، أو بعض الأحكام التي صدرت في زمن الرسول– صلى الله عليه وسلم– فهل ممكن أن يتحدث فضيلة الشيخ في قضية التوفيق بين الرق والعبودية، وبين ما يدعو إليه الإسلام أو ما أقره من مبدأ المساواة بين الناس؟

*********************

 

عن أبي نضرة قال: حدثني من سمع خطبة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في وسط أيام التشريق فقال: "يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيٍ على أعجميٍ ، ولا لأعجميٍ على عربيٍ ، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى.

أبلغت؟ قالوا: بلَّغ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – .

 ثم قال: أي يومٍ هذا؟

قالوا يومٌ حرام.

ثم قال: أي شهرٍ هذا؟

قالوا: شهرٌ حرام.

ثم قال: أي بلدٍ هذا؟

قالوا: بلدٌ حرام.

قال: فإن الله قد حرم بينكم دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا.

أبلغت؟؟

قالوا: بلغ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – .

قال: ليبلغ الشاهد الغائب".

 

 

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ هذا الحديث النبوي الشريف هل نعلق عليه مباشرةً أم نأتي إلى مكالمات الإخوة؟؟

 

 

الشيخ كهلان: كما تشاءون، الحديث نحن استبقنا لعلنا في التعليق عليه، فالإخوة - بارك الله فيهم – نشكرهم على مشاركاتهم القيمة، منها إضافات فما ذكره المتصل الثاني من موضوع احترام الرسل، وما ذكره أيضاً المتصل الثالث من قصة الإمام علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – وما يدعو إليه هذا الدين من قيم التسامح والعدالة والقسط مع الناس جميعاً كلها إضافات إلى ما نتحدث عنه، وتعزز وتغرس هذه القيمة – قيمة المساواة – في المجتمع.

 

وأيضاً تبين وعي الناس لها، وهذا أمر لا شك إيجابي، أنا أريد أن نأخذ منها جميعاً ما كنت وقفت عنده أيضاً من أن تصرفات المسلم ينبغي أن تنطلق من مبدأٍ وقيمةٍ لا من ردة فعل.

 

فالمسلم احترامه للرسل، وإيمانه بهم جميعاً، وإنزاله للرسل المنزلة اللائقة التي أمره الله تعالى بإنزالهم فيها إنما ينطلق من إيمانه وعقيدته، فلا يُتوقع من مسلمٍ أن ينتقص من مكانة رسولٍ من الرسل الذين بعثهم الله تعالى أبداً، لأن هذا لا يجوز له في حالٍ من الأحوال.

 

 

مقدم البرنامج: وأول من يتصدى له أخوه المسلم.

 

 

الشيخ كهلان: نعم ، ولا ينبغي له أن يتسبب في ذلك ولو بطريقٍ غير مباشر بالسباب ، أو الشتائم، أو غير ذلك مما يؤدي إلى أن يُتعرض للأنبياء والرسل بشيءٍ يُنقص، أو يُتعرض لله سبحانه وتعالى بشيءٍ يتنافى وما أمر الله تعالى به، وهذا الأمر أي- قضية الانطلاق من مبدأٍ أو من أساس- هي نقطةٌ طالما ركزنا عليها في ثنايا هذا البرنامج.

 

 

مقدم البرنامج: ما رأيك نبقى مع مكالمة المتصل الثاني أيضاً أنه أراد أن يتأكد من موقع المساواة في الحديث.

 

 

الشيخ كهلان: هذه في التفاضل سوف نأتي لها " أنزلوا الناس منازلهم" فيما يتفاضل به الناس، - وباختصار حتى لا يدركنا الوقت إن أردتم التعليق – أن هذا ليس من حيث الأصل - كما يعبر عنه بعض الفلاسفة- أصل الكينونة، أصل ما خلق الله تعالى عليه الناس، وإنما من حيث نفعهم للناس، فمتى ما كان الفرد أنفع للناس بكونه أقرب إلى الله تعالى ، وأرعى لحقوق الله عز وجل في خلقه، كان أحق بالاحترام والتقدير.

 

فالتقي الطائع لله عز وجل، الذي ينال أيضاً الناس منه الخير والمنفعة والصلاح هو أحق بالتقدير والتقدمة وأن يُنزل منزل التكريم.

 

ومن يهن نفسه بارتكاب معاصي الله سبحانه وتعالى، وبعدم المبالاة بالوقوع في محارم الله تعالى فهذا قد رضي لنفسه الإهانة فلا يتوقع – إن كان هو لم يكرم نفسه – فلا يتوقع من الآخرين أن يكرموه، لأنه قد أهان نفسه بالمعصية.

 

 

مقدم البرنامج: وسيكون ذلك المُكرم أول من يحترم هذه المبادئ والقيم في مبدأ المساواة.

 

الشيخ كهلان: أكيد،

 

نجد مثلاً حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" ويبدأ بالإمام العادل ، حينما يكون الحاكم عادلاً فإن نفع هذا العدل سوف يعم الناس جميعاً، وبالتالي استحق هذه المنزلة في الآخرة، واستحق أيضاً في الدنيا ما تترتب من أحكام الطاعة، وما تترتب عليه من أحكام يعرفها الناس، ومن المنزلة التي تكون له في القلوب أيضاً.

 

ويقاس على ذلك أصحاب صنائع المعروف، من استغلوا المواهب والملكات التي وهبهم الله تعالى إياها في صالح الإنسانية من العلماء، والمخترعين، والمكتشفين الذين يسعون لما فيه صلاح الإنسانية.

 

هؤلاء لا شك لهم منزلة، وينبغي أن يُحترموا، لكن هذا كله لا يعني أن إنسانية هذا تختلف عن إنسانية غيره، أو أن قيمته تختلف عن غيره من الناس.

 

 

مقدم البرنامج: وأظن أن هذا الذي وصفته بهذه الصفات لن ينزعج كثيراً إذا رأى الناس لا يقدمون له ذلك الاحترام المطلوب، لأنه هو يعلم تماماً أنه ما فُضِّل إلا لعلمه، أو لمكانته.

 

 

الشيخ كهلان: هذا واضح في قصة علي بن أبي طالب حينما كناه عمر بن الخطاب قال: يا أبا الحسن، وأمره أن يقف إلى جنب خصمه، فرأى تغيراً في وجه علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – فسأله، قال: أما رضيت أن نسويك وخصمك في المكان؟؟

فقال: لا، ولكنك كنيتني، ولم تكنه.

هو نفسه لم يرضَ أن يكنى ولا يكنى خصمه.

 

مقدم البرنامج: هذه قمة العدالة.

 

 

الشيخ كهلان: ولذلك هو استحق هذه المكانة.

 

مقدم البرنامج: ومعنى ذلك أن ذلك الذي يطلب احترام الناس سيكون متكبراً، يتحول إلى معنى آخر.

 

الشيخ كهلان: نعم.

نعود لموضوع اتصال المتصل الرابع، ونقول باختصارٍ شديد: جاء الإسلام والرق والعبودية أمرٌ قائم في مختلف الثقافات - ليس في مجتمع الجزيرة العربية، وإنما في مختلف الحضارات التي كانت قائمة -.

 

وكان الإنسان يسترق الإنسان لأتفه الأسباب.

بل وصل الحال إلى أن يبيع الإنسان نفسه في دَين، وأن يبيع أهله، وإذا بهذا الدين يأتي لكي يرتقي من شأن هذا الإنسان، ولكي يحرره أولاً من الآسار والقيود التي غلفت قلبه وعقله، ثم لكي يحرره بما فرضه الله تعالى من تشريعات، تجد من الخصال التي أمر الله تعالى بها في كتابه الكريم في خصال الكفارات – على سبيل المثال – خصال الكفارات تجد في أبسط الكفارات مثلاً كفارة اليمين المرسلة "...فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ..." (المائدة:89) فإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم شيءٌ بسيط، "..أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ..." معروف قيمة الرقبة لا شك أنها أغلى بكثير من إطعام عشرة مساكين، أو كسوة عشرة مساكين، ثم يأتي البديل "....فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ..." أي حتى في الكفارات الخفيفة ليس الكفارات المغلظة – قد يكون واضحاً في الكفارات المغلظة – لكن حتى في الكفارات المخففة تجد أن تحرير الرقاب حاضر.

 

ومارس ذلك أيضاً صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ولذلك ما فعله أبو بكر مع بلال، وقال عمر: أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا – يقصد به بلالاً -.

 

وحديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " ليس لابن البيضاء فضلٌ على ابن السوداء، إنك امرؤٌ فيك جاهلية".

 

فالإسلام جفف المنابع التي تؤدي إلى الرق، جففها تماماً ثم حصرها في الحرب، وحتى مع الحرب إنما يرجع الأمر إلى ولي الأمر "...فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا..." (محمد:4) أي في آخر ما نزل من أحكام الحرب فيما يتعلق بهذا الجانب.

 

مقدم البرنامج: وأيضاً عندما نقرأ الكتب الفقهية نجد أن موضوع التعامل مع الرق شغل مساحةً واسعةً في كتب الفقه، حتى عندما يقرأه الإنسان يشعر أن الفقهاء كانوا مهتمين بهذا الموضوع إلى حدٍ كبير، إلى حد جعل هذا الإنسان الذي يخدم إنساناً آخر أنه حر.

 

حتى أن بعض العلماء قال: بمجرد المكاتبة أصبح حراً.

 

الشيخ كهلان: نعم، نعم.

وهناك نقطة أريد أن أضيفها إلى موضوع الأوجه لأننا لم نستغرقها جميعاً، وهذا لم نتعرض له في الحلقة الماضية، وهي قضية محل بحث، وينبغي أن تُبحث الآن من طلبة العلم، ومن المشتغلين وهي- كما يقال -من قضايا الساعة: حقوق المواطنة – أي المساواة في حقوق المواطنة- ويمكن أن تكون هنا أو تكييفها الشرعي تدخل فيه ما ورد من أحكام تتعلق بالمُعاهَد (أحكام أهل الذمة) وهذا يدخل فيه ما يتعلق بالاستحقاق من بيت المال، واحترام أماكن العبادة، كما قلنا في قوله تعالى: "...وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا..." (الحج:40) .

 

هذه الآية نزلت في سياق تقرير الإذن بالقتال مما جعل كثيراً من المفسرين يقولون بأن في تشريع القتال لهذه الأمة حماية لأماكن العبادة التي يذكر فيها اسم الله، ولذلك مُنع من التعرض للرهبان، والقسس، ورجال الدين في الحروب، هكذا في تعاليم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وهكذا سار صحابته الكرام – رضوان الله تعالى عليهم – في حروبهم.

 

مما يؤكد موضوع المواطنة الذي نتحدث عنه الآن الاستحقاق قلنا: حتى في الوظائف ما لم تكن وظيفةً يشترط فيه الإسلام، وما لم تكن ولايةً عامة فيها سلطة على الناس فإن المعيار إنما يكون الكفاءة والأمانة "...إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ" (القصص:26).

 

في العطايا من بيت المال أيضاً بينت السنة وفعل الصحابة والسلف أن لأهل الذمة حقاً في بيت مال المسلمين، وضربوا في ذلك أمثلةً عديدة، يضاف إلى ذلك أيضاً أن الناس سواسية أمام القانون، وكلها تندرك فيما سميناه بـ " المساواة في المواطنة".

 

الناس جميعاً سواسية مع أن الإسلام قد أباح لأهل الكتاب أن يحتكموا إلى كتبهم، إلا أنهم إن أرادوا أن يحتكموا إلى هذا الدين فإنهم سواسية مع غيرهم في نظر القضاء أو بين قوسين (القانون).

 

هذه كلها مظاهر لما يمكن أن يندرج تحت موضوع المواطنة، والمساواة في حقوق المواطنة سواء كان ذلك بما يقره الدستور، كما فعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في علاقته مع أهل الكتاب في المدينة حينما استقر بعد هجرته - عليه أفضل الصلاة والسلام - وصحبه الكرام إلى المدينة المنورة، أو كان ذلك حينما يبسط المسلمون يدهم في بقعةٍ من الأرض فإنهم لا بد لهم أن يراعوا أهل الكتاب، وأن يعطوهم حقوقهم، ولذلك أُشتهر في تاريخ الإسلام أن مهناً بعينها برع فيها كثيراً غير المسلمين أكثر من براعة المسلمين.

 

*********************

 

خاتمة الحلقة

 

 

عن عائشة – رضي الله عنها – أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: ومن يُكلم فيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم ؟- قالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبٌّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم ؟– فكلمه أسامة، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : "أتشفع في حدٍ من حدود الله؟!"

 

ثم قام فاخطب، ثم قال: "إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمدٍ سرقت لقطعت يدها".

 

مقدم البرنامج: الآن فضيلة الشيخ نريد تعليقكم على هذا الحديث ليكون مسك الختام إن شاء الله.

 

 

الشيخ كهلان: الحديث واضح الدلالة في التأكيد على نوعٍ من أنواع المساواة، وهو" المساواة أمام القضاء".

 

والحديث يبين أثر التخلي عن هذا المبدأ، ويشير إلى أن التخلي عن مبدأ المساواة أمام القضاء هو إجحافٌ في حق العدالة، وبالتالي يؤدي ذلك إلى هلاك الأمم، وإلى زوال الحضارات.

 

ولذلك استنبط كثير من العلماء ما يتعلق بالعدل من كونه أساساً لبقاء الملك – كما يقول ابن خلدون -، ولو كان مع الكفر، كما أن الظلم ولو كان مع الإيمان سببٌ لزوال الملك، وهذا ما يؤكده حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.

 

حينما ينتشر الظلم، ويُعامل الناس أمام القضاء بناءً على طبقاتهم ومنازلهم، فإن ذلك سببٌ لزوال الحضارات، ولزوال الدول.

 

 

انتهت الحلقة