علاّمة نزوى الكبير سعود بن سليمان الكندي يتنفس الحياة بعد مائة عام بسمع حاد وذاكرة حاضرة

اللقاء بالشيخ العلاّمة المفسِّر والقاضي سعود بن سليمان الكندي، هو لقاء بتاريخ طويل من الحياة العلمية، ولقاء بشخصية عاصرت أحداثا متنوعة، شهدتها عمان خلال النصف الأول من القرن العشرين، وتحديدا مدينة نزوى، التي وصفها أبو مسلم البهلاني في إحدى قصائده بأنها (تخت الأئمة مذ كانت ومذ كانوا)، وهي أيضا مدينة العلم والتاريخ..

 

واللقاء بالشيخ سعود هو أيضا لقاء بشخصية عملت في مجال القضاء منذ نعومة الأظافر، وتمكن من حل كثير من المشاكل، وفض الصراعات والنزاعات بين القبائل، فحاز قصب السبق في مجال العمل بالقضاء، فاشتغل وانشغل به، حتى عُرِفَ بين القبائل بالقاضي سُعود، وهو اليوم يعيش شيخوخة هانئة وهادئة في منزله، الواقع وسط روضة غناء، بمحلة السويق بسمد نزوى، في عمر يبلغ الآن مائة عام وبضعة أشهر ميلادية، أو مائة عام وثلاث سنوات هجرية، فقد ولد الشيخ سعود في ليلة الثالث من صفر سنة 1331هـ - 10/2/1913م، ونحن الآن في أبريل 2013، ورغم عمره الطويل، إلا أنه وبفضل من الله لا يزال حاد السَّمع، وحاد الذكاء، ولغته نديَّة، ولسانه رطبا، لا يلهج إلا بذكر الله، ولا يسأل إلا عن المسائل العلمية، ولا يزال وجدانه منشغلا بالعلم، ويلتقي بتلامذته كل مساء، أما بصره فزاغ منذ سنوات طويلة.

 

دخلت البيت الهادئ للعلامة الكبير، وشعرت وكأني بين يدي عالم من علماء نزوى الكبار، الذين نقرأ عنهم في كتب التاريخ والمدونات الفقهية، وحدسي لم يخب، فنسب الشيخ سعود ينتمي إلى الفقيه الكبير محمد بن إبراهيم بن سليمان الكندي، من علماء القرن الخامس الهجري، وهو صاحب كتاب (بيان الشرع الجامع للأصل والفرع)، طبع في 72 جزءا، وصاحب القصيدة (العبيرية) في وصف الجنة، وهو حتما حفيد لعلماء آخرين، نعلم منهم القليل ونجهل الأكثر، من بينهم جده لأمِّه الشيخ سعيد بن أحمد بن سعيد الكندي (ت: 1793م)، صاحب (التفسير الميسَّر) للقرآن الكريم.

 

عروق العلم النضرة

وإذا كان العلم كما يقول عنه سالم بن سعيد الصَّايغي (القرن الرابع عشر الهجري)، في أرجوزته (دلالة الحيران)، ومن بعده الشيخ نور الدين عبدالله بن حميد السالمي (ت: 1914م في كتابه (جوهر النظام): (لا يورث العلم من الأعمام .. ولا يُرى بالليل في المنام)، إلا أن له عروقه التي تنتقل من صلب إلى آخر، والحافز على نيل العلم والذكاء حتما يتوارث، ولا يمكن أن يكون أحفاد أولئك الفقهاء الكبار إلا محبون للعلم.

 

طلبت من الزميل أحمد بن عبدالله الكندي، مراسل الجريدة في نزوى، أن يحدد لي موعدا يمكنني أن ألتقي فيه بالعلامة الكبير، وأجالسه ولو للحظات، فقد تاقت نفسي للحديث معه، وكنت قد التقيت به ثلاث مرات، أولاها كان في مكتبه بمحكمة نزوى الشرعية، حيث كان في آخر سنوات عمره الوظيفي (ترك مهنة القضاء عام 1993م)، وبعدها خرج إلى التقاعد، وبقي متفرغا لتدريس الطلاب في المسجد المجاور لمنزله، وثانيها وثالثها في بيته، لقاءات جرت في سنوات متفرقة من العمر، وفي كل مرة ألتقيه أشعر وكأنها الأولى، فأرى في سيماء وجهه روح الحياة المتوقدة، ووجها ينضح إشراقة، ولم ألقهُ يوما إلا طلق الوجه، وكأنما أكدار الحياة لم تطرق بابه يوما.

 

كان الشيخ قد نهض لتوه من سريره، وبعض من أحفاده يعينونه على الحركة إلى مجلس صغير داخل البيت، وهنا سيمكث حتى وقت أذان المغرب، وكان قبل ذلك اعتاد أن يلتقي بتلامذته خلال هذه الفترة في المسجد المجاور للبيت، ولكن صحته الآن لا تسعفه بالسير إلا على كرسي متحرك..

 

وفي السنوات الأخيرة فضَّل الشيخ أن يلقى طلابه في بيته، فيقرأون له ما يشاءون، بين مقطوعات من جوهر النظام، أو يفسر آيات من القرآن الكريم، أو يشرح لهم مسائل في اللغة والنحو أو الفقه، وكلها علوم مترابطة، ولا غنى عن بعضها، وقد اشتهر الفقهاء بتضلعهم بعلوم اللغة، وبالأخص ما يعرف بعلوم الآلة، كالنحو والصرف والبيان، وللشيخ سعود بن سليمان الكندي في هذه العلوم باع طويل، وتجربة وحس وذوق لغوي رفيع، لمسته منه وأنا أستمع إليه، وهو يصحح قراءة أحد تلاميذه، الذي قرأ فصلا من فصول جوهر النظام، فكان التلميذ يقرأ، والشيخ يصيخ السَّمع، ويصحح له القراءة، في رفع الكلمة أو نصبها أو جرها، بحسب موقعها من الإعراب.

 

بين يمكن وما أحفظ

قلت للشيخ، وأنا أحاول أن أحفِّز ذاكرته ليرجع إلى الوراء سنوات طويلة:

* هل تعرف الشيخ محمد بن سالم الرقيشي (ت: 1966م)؟

- أجاب: صديقي، كنا معا سنوات طويلة قضيناها في السجن.

* وماذا تتذكر من جلساتكم معا؟

- يجيب: ما أحفظ.

ثم أسأله:

* هل تتذكر أنك عملت قاضيا؟

- قال نعم، عشر سنوات في بهلا، وثلاث في إزكي، وسنوات طويلة في نزوى.

قلت له:

* يُروى عنك أنك قلت: (سأملأ بهلا علما، مثلما ملأها أبو زيد الريامي عدلا)؟

- أجاب: يمكن، ما أحفظ.

قلت له:

* من تتذكر من الفقهاء الذين جالستهم؟

- أجاب: هم كثير، لكني الآن ما أحفظهم.

فذكَّره أحد تلامذته بالشيخ سفيان بن محمد الراشدي (ت: 1957م)، فقال:

- هذا صديقي، ما أنساه، ولي أصدقاء كثيرون، لكني نسيت أكثرهم، ما أحفظهم الآن.

وحاول مصطفى أن يذكره بنفسه، فسأله:

* هل تعرفني يا أبي؟

- أجاب الشيخ: يمكن.

 

وأخذ يقرأ له مقطعا نظميا من الجوهر، فقرأ هذا البيت: (وفي الدعاء رحمة قد أهديت .. فاغتنم الرحمة حينما أتت)، (وفي ثلاثة من الأوقات .. إجابة الدعا مع الإخبات)، فسألت الشيخ:

* ما معنى الإخبات؟:

- أجاب: الإخبات إلى الله الانقطاع إليه.

 

كان مصطفى يقرأ أبياتا من الجوهر بالتلحين، ليخرج الصوت مموسقا، وما كان يكدِّر جمال قراءته سوى وقوعه في بعض الأخطاء النحوية، فيما كان الشيخ يصحح له قراءته، ويرد عليه، فأكبرْتُ فيه استجابة قواه العقلية، وذاكرته التي أصبحت صافية الآن، وصدره أصبح منشرحا بالقراءة، ولذلك يمكنه الآن أن يشرح باستفاضة، ويرد على الخطأ الذي يقع فيه التلميذ، ويشرح البيت بلغة سهلة وموجزة، كاشفا عن معاني المفردات الغامضة.

 

وكان بين الحين والآخر يسأل عن وقت الصلاة، هل أذن المؤذن؟، كم الوقت الآن؟ كم بقي عن صلاة المغرب؟ هل الصلاة القادمة هي المغرب؟، أسئلة تؤكد حرصه على أداء فريضة الصلاة، فسألت أحد تلاميذه عن الكيفية التي يصلي بها الشيخ، فقال: يصلي جالسا.

 

العبيرية .. الحافز الأول

حينما جلس الشيخ سعود في بساط ناعم خصص له، أسند ظهره على الجدار، بدأ جسده ضئيلا، فهو مربوع القامة، ليس بالقصير ولا بالطويل، أبيض البِشْرة مشرئب بحُمْرة، يعلوه الوقار والهيبة، وهذه صفاته الخُلُقية، أما الخِلقيَّة فلا شك أنه يحمل وقار العلماء، وعرف بين أقرانه بالعالم المفسِّر، وأما صديقه الشيخ الراحل سالم بن حمد الحارثي (ت: 2006م)، فقد وصفه بالمفسِّر الجليل.

 

والمعروف أن العلامة سعود بن سليمان الكندي قد تعلم القرآن الكريم على يد شيخه: شيخان بن زاهر بن سليم الكندي، وكان والده شديد الحرص على تعليمه، حتى أنه قام بتفريغه من كافة الأعمال، وبعد وفاة والد الشيخ سعود الكندي بتاريخ 12 شوال 1345هـ/ 1927م، ترك التعليم واتجه نحو العمل، وعندما اقترب عمره من العشرين عاما، ذهب إلى ولاية نخل، بصحبة عمه ناصر بن جمعة الكندي، وصالح بن سليمان بن ماجد الكندي، وعند عودتهم مروا بوداي مستل، ونزلوا عند رجل من بني ريام، وعندما عرف أنهم كنود من نزوى، أخرج لهم كتاب جوهر النظام، فلم يحسنوا القراءة. حينها تاقت نفسه إلى حب العلم، فذهب للشيخ حامد بن ناصر بن وَجَدْ، وأبلغه برغبته دراسة ملحة الإعراب للحريري.

 

وفي مذكرة جمعها تلميذه مصطفى بن هلال الكندي، يروي فيها أنه ذهب في أحد الأيام إلى مدينة تنوف، ليؤدي واجب العزاء، فسمع شخصا في المجلس يقرأ القصيدة العبيرية، والتي يقول مطلعها: (لك الحمد جُزْلي بالذي أنا قائلٌ .. شهيدٌ على نفسِي وأنت مُجيرُها)، والذي كان قد شرحها الشيخ الجزائري محمد بن يوسف أطفيش (ت: 1914م)، في كتاب صدر بعنوان (الجُنَّة في وَصْف الجَنَّة)، فاستمع الشيخ سعود إلى القارئ وهو يترنم بالعبيرية، فازداد تعلقا بالعلم، وكانت هذه القصيدة هي الحافز الأول للتعلم، والمفتاح السري الذي ولج به مدينة العلم.

 

ثم ذهب إلى شيخ العربية أحمد بن شامس البطاشي (توفي الهند سنة 1367هـ)، ليدرس معه علم النحو، ومن جملة ما قال له: (كل ما تراه في هذه المسجد، لا يخرج من كونه اسما أو فعلا أو حرفا)، وراح يتعلم الفقه في بيت الإمام محمد بن عبدالله الخليلي، حيث أكد لي أنه كان يذهب إلى مجلسه العلمي ليلا، ويلتقي به في المسجد داخل القلعة. وقال أيضا: قرأت شرح النيل كثيرا، وهو كتاب شهير في الفقه المقارن، ألفه العلامة الجزائري محمد بن يوسف أطفيش، المعروف بلقب (قطب الأئمة)، شرح لكتاب النيل لعبدالعزيز بن إبراهيم الثميني.

 

وذكر مصطفى في تلك المذكرة مجموعة كبيرة من أساتذته وأقرانه وتلامذته، كما ذكر أن للشيخ سعود تأليفا بعنوان: (طريق السَّداد على علم الرشاد) شرح لامية الجهاد، وهذه اللامية التي نظمها الشيخ سعيد بن حمد الراشدي السناوي (ت: 1896م)، ولديه مراسلات مع الإمام محمد بن عبدالله الخليلي (ت: 1954م)، ورسالة في خطبة الجمعة.

 

في صحة وعافية بعد المائة

وكان جديرا بالشيخ سعود الكندي أن يكون له سِفْرٌ كبير في الفقه أو التفسير، ولكن تلامذته لم يسجلوا شيئا مما كان ينثره لهم في دروسه التعليمية اليومية، فضاعت خبرة حياة طويلة، زادت عن قرن من الزمان، ولا يزال الشيخ في صحة وعافية بعد عمر المائة عام وبضعة أشهر ميلادية، لولا أن استقامة ظهره (أخنى عليها الذي أخنى على لبد)، لكن ذاكرته لا تسعفه في تذكر كل شيء، وحينا يكون صافي الذهن، يمكنه أن يشرح، ويفسر، ويتحدث بطلاقة، وتراه في حين آخر يجيب على من يسأله بقوله: يمكن، أو ما أحفظ.

 

قرن من الزمان، انطوى على حياة الشيخ سعود بن سليمان الكندي، شهد خلالها أحداثا كثيرة، وآلاما أكثر، ومع أن نور عينيه انطفأ منذ سنوات طويلة، إلا أن بصيرته لا تزال مشرقة بالنور، وقلبه مفعما بالمحبة، ولسانه طلقا، وسمعه قويا، وكلما ذكَّره تلميذ من تلامذته ببيت شعري من جوهر النظام، يكمله معه، أو يردد أبياتا أخرى لا يحفظها التلميذ.

 

تركت الشيخ في غرفة الدرس والصلاة، فقد أوشكت الشمس على المغيب، والمساء يسدل أستاره على خمائل نزوى الظليلة، فيحيلها إلى غابة من الظل الأخضر، ثم استأذنته، وتركته بين تحية مودع، وتحيات الصلاة.

________________________________________

جريدة عمان: الثلاثاء, 28جمادى الأولى 1434ه / 9 إبريل 2013م

نزوى – محمد بن سليمان الحضرمي