يقول العلامة الشيخ سعيد بن حمد الحارثي- حفظه الله-:

   أخبرني الشيخ الرقيشي قال:

   تزوج رجل من أهل سعال بنتاً من العقر- نزوى- فلما زُفّّت إليه، وكانوا متوسطين الوادي الأبيض، سال عليهم الوادي ففرقهم، كلٌّ على وجهه، وبقيت العروس وحدها حائرة لا تدري أين تذهب، وقد أخذ الخوف منها كل مأخذ .

   وفي حيرتها تلك رأت سراجاً على بعدٍ فقصدته، وإذا بالسراج في حجرة، فهجمت على الباب، فدخلت تلك الحجرة، فوجدت شيخاً مُكباً على كتابه يقرأ، فجلست بجانب من الحجرة كالمستميت، فبقيت طول ليلتها خائفة تترقب، وتنظر إلى ذلك الشيخ يقرأ ملياً، وبين حين وآخر يضع إصبعه على نار السراج، ثم يعود فيقرأ، وهكذا حتى أصبح، فخرج يصلي الصبح.

   ولما رجع سأل البنت: من أين هي؟ وما الذي أدخلها عليه؟ فأخبرته عما جرى لها، وطلبت منه أن يوصلها إلى بيت أبيها، فقال لها: « امشي خلفي ودليني على البيت »، فقرع الباب على أبيها، وقال له: « هذه أمانة اقبضها، والسلام عليكم »، فأخبرت أباها بخبر الشيخ، وكيف يحرق أصابعه، وحدثته عن أمانته وصيانته لها.

   وكان لأبيها صديق، فدعا به يشاوره، يقول له: « إن نفسي ترغب أن أزوج هذه البنت لذلك الشيخ، فكيف السبيل إلى ذلك؟ » ولا يحب أن يُكدِّر على زوجها الأول، إن الذي وقع خارج عن إرادة الجميع.

   قال له: « أنا أكفيك ذلك »، فذهب إلى الزوج، فسأله عن خبر العرس، وعن نيته في الزوجة بعدما وقع من الشؤم، قال: « في الحقيقة إن في نفسي من ذلك شيئاً، ولكن لا أدري ماذا أفعل ولا ذنب لها، إنما هذا قضاء من الله ».

   قال الصديق: « لكن الشؤم في ثلاثة، والأحسن أن تتركها »، قال: « لكني استحي من أبيها، قال: « أنا أكفيك إياه »، قال: « أخاف أن يكون في نفسه عليّ »، قال: « لا، وسوف ترى منه ما يسرك ».

   فطلقها، وهي بغية أبيها، وبعد ذلك قصد الشيخ، فعرض عليه البنت، فقبلها الشيخ، وتزوجها وأنجب منها، قلتُ: وهذه ثمرة التقوى « من ترك شيئاً لله عوضه الله » .

   فسألته بعد ذلك عن سبب حرق أصابعه ليلة المحنة، فقال: « إن نفسي تقول لي: هذه غنيمة سيقت إليك، وهي على ما ترى من الزينة، والطيب، والشباب، والجمال، فإذا زادت عليَّ أذقتها حر النار حتى تكتوي، وهكذا الصراع حتى أصبحنا ». (اللؤلؤ الرطب، ص 32 - 34 ).        

 

***

   إنها العفة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، إنها الطهر والنقاء، صلاح في الباطن، وطهارة في الظاهر، إنها تاج الإيمان وشعار التقوى، سرها مخافة الله، ومنتهاها ابتغاء رضوان الله، إنها كلمة شاملة جامعة لكل معاني الخير والبر والإحسان، فهي عفة عن كل ما حرم الله في القول والفعل، والأمر والترك، والعبادة والمعاملة، والظاهر والباطن.

   وهذا الموقف النبيل يلمس صورة مشرقة من صور العفة العظيمة، إنها تحصين النفس وإعفافها عن الوقوع في مزالق الهوى وشهوات النفس المحرمة، إنها فتنة الغريزة وحب إشباعها، وهي أم الغرائز الجامحة التي إذا لم تُزَمَّ بزمام التقوى، أتت على الأخضر واليابس، وقد قدمها ربنا- جل جلاله- على سائر الشهوات لخطرها وضررها، لو تطاير شررها، يقول سبحانه: ) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ([1]، وقلَّ من يقف أمامها وقفة المؤمن التقي الزكي، فجماح النفس، وفوران الشهوة عند توفر أسبابها لا يقف عند حد، حتى يورد صاحبه الحتوف والمهالك .

   من أجل ذلك سد الشرع الشريف جميع المنافذ في وجه عُبَّاد الشهوات، ومرضاء القلوب؛ بل حصن كل نفس حتى لا تخرج عن خط الاعتدال، فعندما نهى الجليل سبحانه عن الزنى، نفَّر منه بطريقة بديعة، فقطع جميع الحبال الموصلة إليه، فقال جل جلاله: ) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً([2]، وفي كلمة « ولا تقربوا » غاية الدقة في التعبير، حتى لا يحوم حول مقدماته، أو يسير في أول خطواته، ولم يقل: « ولا تزنوا » أو « ولا تفعلوا الزنى»، كل ذلك من أجل قطع دابر الفساد، واستئصال الشر من جذوره.

   وقد جاءت السنة المطهرة شارحة لذلك المعنى الدقيق، موضحة له تمام التوضيح، حتى لا يلج المرء إلى المعاطب، وينتبه لمواضع زلل الأقدام، فقد جاءت نداءات صارخة عن هادي الأمة محمد بن عبدالله r، فقد قال: « لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم »[3]، وعندما سأله رجل عن الحمو- أخي الزوج يدخل على امرأة أخيه- قال: « الحمو الموت »[4].

   وليس الخبر كالعيان، فمصائب الواقع تدل أعظم دلالة بما نطق به- عليه الصلاة والسلام- من هذا التحذير الصارخ، فليأتِ دعاة الاختلاط، وعشاق الخلوات، ليكشفوا لنا بعض ما يقع من محذور في لقاءتهم تلك، إنها خلوات تتبعها تداعيات، تليها موبقات، إنها تنازلات يقتطعها المرء من دينه، حتى تزل به القدم.

   «.. وماذا عسى أن يفعل الشيطان عندما يكون ثالث اثنين؟! أليس الشيطان هو الذي يدعو إلى تعدي حدود الله، واقتحام المخاطر وإلقاء النفس إلى التهلكة؛ بحيث يدعو إلى معصية الله سبحانه وتعالى، وعدم مبالاة الإنسان بنفسه أن تنقلب إلى عذاب الله- والعياذ بالله .

   ولئن كان النبي- صلوات الله وسلامه عليه- يشبه حما المرأة وهو أخو زوجها بالموت لما في دخولها عليها من الخطورة، فما بالكم بالرجال الأبعدين! وما بالكم بأولئك الذين تسول لهم أنفسهم، وتدعوهم شهواتهم إلى الوقوع في محارم الله سبحانه وتعالى!

   وأنا أتعجب أين البيت المسلم الذي يراقب الفتاة المسلمة؟! ويراقب الفتى المسلم؟!

   أين الحفاظ على العرض؟! أين القيم؟! أين الأخلاق ؟! أين الغيرة؟! أين الشهامة؟! أين الرجولة؟!

   ما بال هذا الإنسان يسمح لابنته، وهي جزء من عرضه، بأن تكون مبتذلة إلى هذا الحد، وأن تكون عرضة لذئاب البشر، ماذا عسى أن تكون وقد التقت برجل أجنبي؟ التقت بشاب وهو في ميعة الشباب، في حال فوران الشهوة، ولماذا إذا كانت هنالك رغبة في الاقتران بين الاثنين، لا يعجل في هذا الاقتران، حتى يلتقيا وهما زوجان؛ بحيث يجوز بينهما كل ما يجوز بين الرجل وامرأته!

   ما بالهما يلتقيان وهما أجنبيان، فيكون بينهما ما بين الزوجين! إنا لله وإنا إليه راجعون، إن دل هذا على أمر فإنما يدل على ما أصاب هذه النفوس من المسخ، وما أصاب الفطرة من التعفن، وما أصاب الأخلاق من الانحطاط، وما أصاب الشهامة والمروءة والنجدة والحمية من فساد ومسخ، لا يكاد يحد بأي حد كان.

   هذه أمور في منتهى الخطورة، والناس يظنون بأنهم بهذا إنما يسايرون المدينة، ويمشون في ركابها، وهذه مدنية تسوقهم- والعياذ بالله- إلى الجحيم، فعلى الناس أن يتفطنوا لهذا الأمر »[5].      

   وفي مقابل تلك التحذيرات، نجد البشارات لمن عف وتنزه وتطهر، يقول الحق عز وجل ] وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [[6]، ويقول نبي الرحمة r « من حفظ نفسه من اثنين أحرز دينه » قيل: وما هما يا رسول الله؟ قال: « من حفظ ما بين لحييه ومما بين رجليه » قال الربيع: يعني اللسان والفرج[7]، وقال r: « احذروا من ثلاث وأنا زعيمٌ لكم بالجنة » قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: « اللَّقْلَق، والقَبْقَب، والذَّبْذَب »، قال الربيع: « اللقلق : اللسان، والقبقب: البطن، والذبذب: الفرج»[8].

   إن الذي يعف نفسة عن الحرام بعد أن تهيا له، ولم يمنعه من فعله إلا مخافة الله يكون في ظلال عرش الرحمن، أكرم بها من منزله ، ففي حديث السبعة « ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين »[9].

   نعم إنه شاب في غضارته ونضارته، في عمر فوران الشهوة وحدتها وشدتها، تدعوه امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها، فمنصبها وجمالها كلاهما كاف للانجذاب لها وإجابة دعوتها، ومع ذلك اهتز كيانه من مخافة الله، وصاح بأعلى صوته: إني أخاف الله، فكانت كافية لردع جماح نفسه، وتهذيب غريزته، وتسنمه ذروة الشرف، مع من يظلهم الله بظله، يوم لا ظل إلا ظله .

   وإذا أردنا أن نترسم خطا الخُلَّص من عباد الله، ففي قصة نبي الله يوسف u ما يكفي ويشفي قدوة لشبابنا بأسمى معاني العفة والنزاهة، فقد اجتمع المال والجمال والنعيم والخلوة، وتغليق الأبواب، والدعوة السافرة ] هَيْتَ لَكَ [: أي هلُمَّ وأقبل وتعال، فليس معنا أحد، إنها فتنة ما بعدها فتنة، ومع ذلك قال من أعماق قلبه وصميم فؤاده: ] مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [، فقال الله عنه: ] كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [[10]، فصدق الله فصدقه الله، « احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك ».

   العفة ومخافة الله سبب من أسباب تفريج المضايق والكربات، وفي حديث النفر الثلاثة الذين دخلوا غاراً فانسدت عليهم صخرة عبرة للمعتبرين، وقد جاء فيه « انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم، حتى آواهم المبيت إِلَى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة مِنْ الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: « إنه لا ينجيكم مِنْ هذه الصخرة إلا أن تدعوا اللَّه بصالح أعمالكم ».

   وكان مما قاله أحدهم: « اللَّهم كان لي ابنة عم كانت أحب الناس إلي » ، وفي رواية: « كنتُ أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فأردتها عَنْ نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة مِنْ السنين ، فجاءتني فأعطيتُها عشرين ومائة ديناراً، عَلَى أن تُخلِّي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها . وفي رواية: فلما قعدت بين رجليها، قالت: اتقِ اللَّه ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فانصرفت عَنْها وهي أحب الناس إليَّ، وتركتُ الذهب الذي أعطيتها، اللَّهم إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه »[11] .

   وما أروع تلك الحادثة التي وقعت في عهد عمر بن الخطاب t، فقد كان يتفقد رعيته ليلا، فسمع صوت امرأة تنشد في الليل شعرا فتقول:

تطاول هذا الليل وازورَّ جانبُهْ   وأرَّقني أن لا ضجيعٌ أُلاعِبُهْ

أُلاعِبهُ طوراً وطوراً كأنما   بدا قمراً في ظلمة الليل حاجِبُه

يُسرُّ به من كان يلهو بِقُربِهِ    لطيف الحشا لا يحتويه أقاربُه

فواللهِ لولا اللهُ لا شيءَ غيرهُ  لنُقِّضَ من هذا السرير جوانبُه

ولكنني أخشى رقيباً موكلاً    بأنفاسنا لا يَفْتُرُ الدهرَ كاتِبُه

مخافةَ ربي والحياء يصدُّني  وإكرام بعلي أن تُنال مراكِبُه[12]

   فضرب الباب عليها ورفع صوته لتعرفه، فلما أكثر عليها فتحت له، فسألها عن زوجها فقالت له: « إنه غائب في بعث كذا وكذا »، فبعث إلى عامل ذلك الجند أن سرّح فلان بن فلان، فلما قدم عليه قال: « اذهب إلى أهلك »، ثم دخل عمر على ابنته أم المؤمنين حفصة رضي الله عنهما وسألها: « كم تصبر المرأة عن زوجها » فقالت: « شهرًا واثنين وثلاثة، وفي الرابع ينفد الصبر »، فجعل ذلك أجلاً للبعث، أي منع أن يغيب الرجل عن أهله أكثر من أربعة أشهر.

   إنه ما منعها من ركوب المحجور، وقد غاب عنها زوجها هذه المدة الطويلة إلا مخافة الله وإيمانها وحياؤها وإكرام زوجها، فأين من تقف موقفها اليوم من النساء؟

   وإذا عدنا بعد هذه الرحلة الإيمانية مع العفة وأهلها لنرى هذا المثال الرائع من حياة سلفنا الصالح، لَمَا رأيناه يخرج قيد شعره عن منهج العفة الطاهر.

   شاب وشابة في ليلة زفافهما، يقضي الله سبحانه بأن يفترقا في ليلة العمر- كما تسمى- فينحاز كل إلى جانب بسب الوادي الذي فرق بينهما، فالشاب لا مطمع له في زوجه وقد حيل بينه وبينها، فرجع أدراجه بعد أن آيس منها، والفتاة المسكينة ظلت حائرة لا تدري أين تذهب وقد أخذ الخوف منها كل مأخذ.

   وفي حيرتها تلك رأت سراجاً من بعد فأمَّته وقصدته، وإذا بالسراج في حجرة متنائية عن الناس في فلاة، فاندفعت إلى الباب تلتمس هادٍ يهديها، ودليلاً يرشدها ومأوىً يكنُّها إلى الصباح، حتى تبصر طريق العودة إلى بيت أبيها.

   فلما ولجت تلك الحجرة، وجدت شيخاً منفرداً في خلوة، منكباً على قراءة كتاب له، إنه رجل صالح انقطع في خلوته لعبادة ربه، وتعلم العلم النافع، بعيداً عن الدنيا وملهياتها وزخرفها المضل .

   فما كان من الفتاة الشابة إلا أن جلست في جانب من تلك الحجرة، تسترجع أنفاسها بعد أن هدها الخوف والفزع والتعب مما رأت، ولكنا ما كادت تستقر مكانها حتى هجم عليها خوف أشد مما سبق، ونزل بها فزع أعظم من فزعها الأول، إنها أمام رجل في خلوة في مكان متناءٍ عن أعين الناس، فما الذي يجعلها تأمن جانبه؟! وقد خلا بها وأمكنه الأمر منها، وهي في كامل زينتها، وفي ليلة عرسها، فبقيت طول ليلتها خائفة تترقب، لقد هرب خاطر التفكير في الراحة والنوم منها، فلا ترجو في ليلتها إلا السلامة.

وظلت ترقب ذلك الرجل الصالح وتنظر إليه، وهو لم يقطع قراءته، يالله ما أعظمها من نفوس! وما أطهرها من قلوب! ما الذي يمنعه منها؟! ما الذي يحجزه عن الوثوب عليها؟! ما الذي يكف فضوله- على أقل تقدير- عن السؤال عنها وعن قصتها؟! إنها أسئلة دارت في فكرها، وهجمت على عقلها، ولكنها حارت في الجواب عنها أو عن بعضها .

   وفي وسط اصطخاب تلك الأسئلة، وازدحام الأفكار عليها، رأت من ذلك الشيخ أمراً زادها عجباً وحيرة ودهشة، إنه يضع إصبعه بين الحين والآخر على نار سراج كان يستضيء به، ثم يعود فيقرأ، ثم يضعه مرة ثانية، ويواصل قراءته، وما تحرك من مكانه حتى انفلق ضوء الفجر، فخرج يصلي الصبح .

   وفي لحظات الليل البهيم، وهي ترقب فعل الشيخ بأصابعه، نزلت عليها سكينة عجيبة، وطمأنينة سرَّت عنها بعض ما تجد، وأورثتها راحة وثقة بأن هذا الشيخ ليس كأي شخص آخر، إنه رجل مؤمن بالله يخاف ربه، بلغ من النقاء والطهر منزلة عليَّة، ومع ذلك هو بشر، كلما حدثته نفسه بها أذاق أصابعه حرارة النار، حتى ينسى لذة آثمة في لحظة تورثه عذاب الله السرمد، وتلك نار الدنيا لا تساوي شيئاً بجانب نار الآخرة، لكن الله جعلها تذكرة بها لمن عقل الذكرى ) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ([13].

   بحق إن هذه النفس النزيهة؛ التي أُلجمت بلجام التقوى والمراقبة، لم يبلغها ذلك الشيخ إلا بعد مجاهدة كبيرة، حتى انقادت له، فطهرها من علائقها، وزكاها بالفضائل حتى شع نورها في هذا الخلق النبيل والموقف الكريم، إنها العفة كنز لا تعدله كنوز الأرض كلها.        

   يا شباب: إنها قمة النقاء والطهارة، هل عرفتموها؟ أو رأيتموها؟ أو عشتموها، إنها حياء في حياء، عين واكفة ودمعة دافقة، ومراقبة لخطرات النفس أن تزل به القدم، فيحصل به الندم « أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك » .

   ولما صلى الصبح، وبالصلاة كانت حصانته، فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، ومن أضاعها فقد هدم حصن الإيمان، وغاص في بحر الشهوات إلى الأذقان،     ) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً، إلا مَنْ تَاب([14]، وتلك بعض أسار الصلاة لمن عقلها.

   فلما صلى الفجر سأل الفتاة: من أين هي؟ وما الذي أدخلها عليه؟ فأخبرته عما جرى لها، وطلبت منه أن يوصلها إلى بيت أبيها، فقال لها: « امشي خلفي ودليني على البيت ». سبحان الله! لم يكتفِِ بصيانتها ليلته حتى زادها سكينة وطمأنينة بأن أمرها أن تسير خلفه، ليوصلها إلى بيت أبيها، فلما لمست منه صدق القول وحسن الفعل، سارت خلفه طائعة مطمئنة على نفسها، ودلته على بيت والدها.

   فقرع الباب على أبيها، وقال له: « هذه أمانة اقبضها، والسلام عليكم ». ولم يزده كلمة أخرى وانصرف، فاعجبْ من هذا الخُلق الجم، وكرم النفس وسمو الخلق!

   فأخبرت أباها بخبر الشيخ الصالح من أوله إلى آخره، وما كان منه من إحراق أصابعه، وحدثته عن أمانته وصيانته لها، فرغب الأب في أن يُزوج ابنته لهذا الرجل الصالح، بدل زوجها الأول، ولذلك احتال بفكر صديق له، بطريقة محكمة ترضي جميع الأطراف.

   فلما تم للأب ما أراد، قصد ذلك الشيخ الصالح، وعرض عليه ابنته زوجاً له بشرع الله، وكأن لسان حاله يقول: هذه ابنتي؛ منعت نفسك عنها في الحرام، فهي زوجٌ لك بالحلال، فقبلها الشيخ وتزوجها وأنجب منها، وتلك ثمرة التقوى « من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه » .

   فلما خلا بها كان غاية أمرها أن تسأله سؤالها الذي حارت في إيجاد الجواب عليه تلك الليلة، لماذا كان يحرق أصابعه؟ فقال- وأنعم بما قال-: « إن نفسي تقول لي: هذه غنيمة سيقت إليك، وهي على ما ترى من الزينة والطيب والشباب والجمال، فإذا زادت عليَّ أذقتها حر النار حتى تكتوي، وهكذا الصراع حتى أصبحنا».

   فتاة، وزينة، وطيب، وشباب، وجمال، وخلوة في مكان منفرد، بعيداً عن أعين الناس، لقد اجتمعت كل وسائل الفتنة، ولم يكن يحجزه عن الوقوع في الحرام إلا خوفه من الله، وكم من أمثال هذه المواقف، لو تهيأت لمن لا يخاف ربه لهتك ستر الله عليه، ولسقط في مستنقع الرذيلة، ولأصاب الفعل المحرم.

   ولا يعزب عن اللبيب في هذا الموقف طهر تلك الفتاة وإيمانها وتصونها، فلولا خِلالُها وسجاياها النبيلة التي تربت عليها، بعد عون الله لطلبت من ذلك الشيخ المنكر ومقارفة الإثم، ولولا تصونها لتعرضت لفتنة ذلك الرجل الصالح.

   فانظروا يا شباب أين نحن من هذه الشمائل الزكية والوصايا البهية؟! والزواجر الرادعة، والمواعظ الصادعة؟! لقد غرقنا في غيابات الهوى إلى الأذقان، وسارت بنا سفينة الغرام في بحار الأحلام، حتى قارفنا الآثام، فأفسد الطالح الصالح بدعوى الانفتاح والتعارف والصداقات بين الشباب والفتيات .

 

[1]- آل عمران:14

[2]- الإسراء:32

[3]- رواه البخاري ، كتاب النكاح 111 ،112، ومسلم، كتاب الحج 424 .

[4]- رواه البخاري ومسلم والترمذي ( الترغيب والترهيب، ج3/ 38 ) .

[5]- برنامج سؤال أهل الذكر، المؤرخة بيوم السابع من ربيع الآخر لعام 1424 هـ، لسماحة شيخنا الخليلي - بارك الله لنا في عمره وعلمه .

[6]- النازعـات:41

[7]- رواه الربيع، برقم 706

[8]- رواه الربيع ، برقم 707

[9]- رواه الربيع ، برقم 48

[10]- يوسف: من الآيتين 23 ، 24

[11]- رواه البخاري ومسلم ( رياض الصالحين، برقم 12 ) .

[12]- تفسير ابن كثير، تفسير سورة البقرة، الآية 227

[13]- الواقعة:71 - 73

[14]- مريم: من الآية60 ، 61