اللقاء التلفزيوني الذي أجرته قناة «الميادين» مع سماحة الشيخ الخليلي حول أوضاع الأمة

اللقاء التلفزيوني الذي أجرته قناة «الميادين» مع سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي حفظه الله، بتاريخ : 23 / 4/ 2015م

حاوره: يحيى أبو زكريا

الخليلي: الإسلام أحدث إنجازا حضاريا عظيما .. والاستبداد أدى إلى الانحطاط والتراجع

لا نرمي التراث بحذافيره .. وإنما نمحصه ونميِّزه

بداية أوضح سماحة الشيخ أهمية الحديث عن قضية توحد المسلمين ولملمة شتاتهم، واصفا إياها بأنها قضية «تشغل كل عاقل وتؤرق كل من في قلبه إيمان»، مؤكدا على أن هذا التشتت وهذا التشرذم وهذا العداء، وهذا التنافر بين الأمة، جعل بأس الأمة شديدا بينها، وصدق عليها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «يوشك أن تتداعى عليكم الأمم، كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قالوا أمن قلة يا رسول الله، قال لا، إنكم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل».وأضاف سماحته: إن الأمة بحاجة إلى من يخرجها من هذه الغثائية، ولا ريب أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان مدنيا بطبعه، اجتماعيا بفطرته، فهو لا يستقل بمصالحه عن بني جنسه ولا يستقل بأعماله عن بني جنسه، فكل عمل يعمله الإنسان لا بد من أن يشاركه فيه غيره، حتى ينجح ذلك العمل، ولأجل هذا كان التداخل بين الناس، وكانت ضرورة التفاهم بينهم، لأنه إن لم يكن بينهم تفاهم؛ كان بينهم تنافر، وأدى هذا التنافر إلى الشقاق، وأدى هذا التنافر إلى الفجوة، وأدى هذا التنافر إلى العداء، وأدى هذا التنافر بالتالي إلى الاقتتال، كما هو واقع، فلذلك كان من الضرورة بمكان أن يكون هناك ما يلملم هذا الشتات، ويجمع ما بين هذا الشتيت من الناس. وأوضح سماحته: إن الله تعالى لم يترك عباده لأهوائهم ولم يتركهم لنزعاتهم ونزغاتهم، وإنما أرسل لهم رسله مبشرين ومنذرين ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، وقد أتم النعمة على عباده بالرسالة الخاتمة الجامعة، التي بعث بها عبده وسوله محمدا صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، وانقطاع من الوحي، وضلال من العقول، وفساد من الأخلاق، وانحطاط من القيم، عندما تشرذم الناس في الفكر، وتفرقوا في العمل، فكانوا يعبدون آلهة شتى وكانوا لا يلتقون على شيء، أرسل الله تعالى إليهم عبده ورسوله صلى الله عليه بالقرآن، فجمع الشتيت، وكان من أكثر الناس تشتتا العرب.

 

الاستبداد بالخلافة

– سماحة الشيخ: لكن هذا الإنجاز الحضاري الكبير الذي أحدث تغييرا في الجزيرة العربية، وفي العالم لم يطل كثيرا، سرعان ما انقلب المسلمون على أعقابهم، سرعان ما تقاتل الصحابة فيما بينهم، سرعان ما تحولت الشورى إلى ملك عضود في العصر الأموي. إن الإنجاز الذي لا يحافظ على نفسه لا يمكن القول بأنه عظيم وعملاق، لأن الإنجازات الكبيرة، ما لم تستمر لقرون، تحدث تغييرا جذريا في الخارطة الكونية لا تعتبر إنجازا، من الذي فرّط في هذا الإنجاز؟

هذا الإنجاز بذاته هو إنجاز حضاري عظيم، ولكن الذين ارتدوا على أعقابهم، وعادوا إلى نمط من أنماط الجاهلية التي كانوا عليها من قبل، هم الذين انحرفوا بهذا الإنجاز، وهم الذين نزلوا بهذا الإنجاز إلى الحضيض، عندما تحول أمر الخلافة من الشورى إلى أن أصبح استبدادا، يستبد به طائفة من الناس، تتحكم هذه الطائفة في أموال الناس وفي أعراضهم، وفي دمائهم، وفي كل شيء يتعلق بهم، تحكم المالك في ملكه ؛ بحيث لا يمكن أن يجرؤ أحد فيقول: لا. هذا هو الذي أدى إلى هذا الانحطاط، ونحن نرى البون شاسعا، والفارق كبيرا، بين الوضع الذي كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وفي عهد خلفائه الراشدين رضي الله عنهم، وما آل إليه الأمر من بعد؛ ففي عهد عمر رضي الله عنه مثلا؛ كان يقول: لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نقبلها؛ أي كلمة : اتقوا الله، ولكن عندما جاء عبد الملك بن مروان، رقى على المنبر، وقال: أيها الناس، إنكم لتأمروننا بأوامر تنسون منها أنفسكم، ثم قال: لن يقول لي أحدكم بعد اليوم اتق الله إلا ضربت عنقه. هذا هو الانحراف، هذا هو النكوص، هذا هو الهويّ إلى الأرض، هذا هو الإخلاد إلى الهوى.

 

موروث فكري خاطئ

– شيخنا: هذا النكوص، وهذا الانحدار، وهذا السقوط المروع ؛ ما زال مسحوبا على القرن الحادي والعشرين. اليوم عندما نأتي إلى فقه التكفير الذي يذبح العالم الإسلامي، من الوريد إلى الوريد، ويفصل الرقبة مكبرا، قائلا: الله أكبر .. يقول سندي في ذلك ما ذهب إليه فلان من التابعين على سبيل المثال ؛ لماذا لم يجرؤ علماؤنا على تطهير الموروث الإسلامي من نصوص الذبح والقتل والسلخ، والحرق، وما إلى ذلك؟

– هذا إنما يرجع قبل كل شيء إلى موروث فكري، تعمّق في هذه الأمة، هذا الموروث الفكري انحرف بالناس عن النهج السويّ، ولا ريب أننا إذا رجعنا إلى القرآن الكريم، فإننا نجده إنما جاء بعقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر، وجعل كل خير منوطا بالإيمان بالله واليوم الآخر؛ ولكن هل بقي الناس على الإيمان بالله واليوم الآخر كما جاء في القرآن؟ نجد الأمة وقعت في تشبيهين؛ وقعت في تشبيه من يشبه الله تعالى بخلقه، بحيث يصف الله تعالى بصفات الخلق، حتى يجعله كأنه صنم من الأصنام، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وفريق آخر يشبه الخلق بالله، فيجعل ما لله تعالى لعباده، بحيث يتصرف العباد في الكون تصرف الخالق رب العالمين، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان أعظم الناس رتبة وأرفعهم قدرا، وأجلهم شأنا، يخاطبه الله سبحانه وتعالى بقوله : (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) هذا بجانب الآيات الكريمة الكثيرة التي تدل أن كل أحد ليس له شِركة في هذا الكون، وما من أحد هو ظهير لله في خلق السموات والأرض، هذا من ناحية، ومن ناحية الإيمان باليوم الآخر؛ زهد الناس في الإيمان باليوم الآخر، فجعلوا الإيمان باليوم الآخر حاجة يمكن أن يطرأ عليها ما يطرأ، كما قال اليهود من قبل، عندما قالوا سيغفر لنا، الله تعالى يحكي مقولتهم هذه فيقول: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا» ويقول: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)، فالناس أهملوا النصوص التي جاءت في القرآن الكريم، نصوص تعريفهم بالله سبحانه وتعالى، وعظمته وجلاله ووحدانيته وكبريائه، وأهملوا أيضا النصوص التي تتعلق باليوم الآخر.

 

مراجعة الموروث الديني

– شيخنا: أنت تدفعني إلى مزيد من طرح الإشكالات إن صح التعبير، قلت إن الأمة السلامية بدأت بالتوحيد، وكان التوحيد منقذا للعالم الإسلامي آنذاك، وانتقلت إلى الشرك من خلال التشبيه. عندما نقرأ اليوم في صحاحنا: كصحيح البخاري، وصحيح مسلم، أن الله يشبه غلاما أمرد، وأن الله ينزل إلى السماء الدنيا على ظهر حمار. معنى ذلك أن هذا التشبيه ما زال قائما إلى اليوم؟

هذه الأحاديث لا بد من إعادة النظر فيها، وهذه الأحاديث كثيرا ما جاءت عند الدارمي وعند غيره. وأقول إن التأثير على هذه الأمة إنما كان من عهد قديم، عندما جاء عمر بن عبد العزيز وسار في الناس سيرة العدل، ورد الأمر إلى نصابه الشرعي، وأنقذ الناس من براثن الجور والظلم في وقته، أراد من أتى من بعده أن يحذو حذوه تأثرا به، ولكن ماذا كانت النتيجة؟

جيء إليه بأربعين شيخا يشهدون له أن الخليفة لا حساب عليه ولا عقاب، مع أن الله تعالى ينادي عبدا من عباده الصالحين استخلفه في الأرض، وقد كرَّمه الله بالنبوة، وهو نبي الله تعالى داود عليه السلام، إذ يقول له: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ). فهذه أمور لابد من معالجتها، ولا بد من استئصالها.

 

– اليوم القرن الحادي والعشرين ضاغط إلى أقصى درجة، وانتهى عهد العلماء الربانيين المحققين والمدققين. فيما مضى كان العالم متفرغا لعبادته، ولعلمه، ويوصل الليل بالنهار لمطلب فقهي واحد. اليوم أمة اقرأ لا تقرأ، وأمة اقرأ تحولت إلى أمة اذبح. اليونيسكو تقول: إن عدد القراء في العالم العربي 0.05 %، فاليوم كيف نعيد ترتيب الموروث الإسلامي؟ بدأنا بالقرآن، وانتقلنا إلى السنة، ثم إلى أقوال العلماء، ثم قدَّسنا أقوال العلماء واعتبرناها قرآنا وسنة، نحن أمام 14 قرنا من الوضع والتدليس، والخلط بين التأويل والتنزيل. وإلى حد الآن لم نبدأ مرحلة معالجة الموروث الإسلامي، إذا هذا الضياع في العالم الإسلامي سببه علماء الإسلام، سببه المسلمون أنفسهم.

– مع هذا؛ ليس علينا أن لا نرمي التراث بحذافيره ونلقيه ونقول لا خير فيه، وإنما علينا أن نمحصه، فنميز بين الصحيح والسقيم منه، وعلينا أن نأخذ بالصحيح وندع السقيم، وأن لا نتحيز، وإنما نتحيز إلى النص الشرعي، الله سبحانه وتعالى يقول : (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) فيجب أن يكون الرد إلى الله بالرجوع إلى كتابه، والرد إلى الرسول بالرجوع إلى السنة الثابتة الصحيحة، التي لا تعارض القرآن، والتي لا تسدها شائبة من شك في ثبوتها وصحتها عن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام.

– إذا أردنا أن نجري مساءلة للموروث الإسلامي؛ سنجد كل كل مذهب يستخدم مبانيه في معالجة الموروث الإسلامي، وهذا يؤدي إلى الإبقاء على الخطأ، مثلا الذي ينتمي إلى المدرسة السلفية سيستخدم مباني ابن تيمية، في قراءة الموروث الإسلامي، وهذا سيعيد إنتاج ابن تيمية، وكذلك بقية الملل. أليس الأولى أن نخرج المسلمين من المذهبية والطائفية إلى رحابة الإسلام، ومن ثم نجري تصحيحا سليما؟

نعم ، هذه الفكرة كم تمنيناها، وكم تمنينا أن يكون التمسك بالإسلام الذي يجمع ولا يفرق، ويؤلف ولا ينفر ويقرب ولا يبعد، وينصف ولا يظلم. أن يكون الانتماء إلى الإسلام وندع هذه العصبيات. وكان الأئمة السابقون يقولون: قولي صواب يحتمل الخطأ، ولكن مع ذلك صار الاتباع يقولون هذا القول هو الحق وما عداه باطل. ومن أئمتنا الإمام أبو نبهان، يقول : «إياك أن تلتفت إلى من قال، بل إلى ما قال». ويقول السالمي رحمه الله في هذا المعنى:

ولا تناظر بكتاب الله

ولا كلام المصطفى الأواه

معناه لا تجعل له نظيرا

ولو يكون عالما خبيرا

 

نحن علينا أن نأخذ بهذا المبدأ، بمبدأ الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، وعلينا أن نعتز بانتمائنا إلى الإسلام. كل فرقة وفئة عليها أن تعتز بالانتماء إلى الإسلام، لا بالانتماء إلى الطائفة. الانتماء إلى الطائفية هو الذي عمَّق هذه الهوة بين الأمة، وقسمها إلى أشلاء متفرقة، وجعلهم في وضع لا يحسدون عليه، من الانحطاط. الأمة زادت الآن على المليار ونصف المليار، وتناهز المليارين، لكنها مع ذلك أصبحت في غثائية، هي غثاء كغثاء السيل، نحن بحاجة إلى إخراج الأمة من هذه الغثائية.

-إن الأمة الإسلامية لما التصقت بالإسلام الحضاري المحمدي الأصيل صارت صاحبة قرار في المسرح العالمي، وعندما مالت إلى المذهبية والطائفية، صارت أمة تابعة.. أليس كذلك؟

بلى، وأنا أؤيد ذلك، وأنا أقول إن هذا التعصب للمذهبيات، هو الذي أدى إلى ذلك، وفي الأيام القريبة الماضية كتبت رسالة بعنوان «أمة الإسلام إلى أين؟ .. مسيرا ومصيرا»، وهي مطالبة للأمة الإسلامية جميعا إلى أن ترجع إلى جادة الصواب.

***

التطرف والتشدد «ردة فعل غير منضبطة» تجاه الظلم والبطش والاستبداد

الخليلي: على الفقهاء أن يطفئوا حريق الفتن الطائفية والمذهبية –

ناشد سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة العلماء والفقهاء إلى إطفاء حريق الفتن، ونزع فتيلها في أرجاء الأمة الإسلامية، مطالبا بأن يتحول العلماء إلى حكماء لحل إشكالات التقاتل والتنازع بين المسلمين.

ودعا سماحة الشيخ المفتي حكام الأمة الإسلامية وقادتها إلى انتهاج سياسة جمع الشمل، وتأليف القلوب.

وحمَّل سماحته منظمة التعاون الإسلامي مسؤولية جمع أشتات المسلمين، وردم الهوة بينهم، ونبذ خلافاتهم الإقليمية والعنصرية والمذهبية، مؤكدا على قدرة المنظمة على أداء دور التقريب بين طوائف الأمة الإسلامية.

وأوضح سماحته أن الأمة عندما تتخلى عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكون قد تخلت عن رسالتها؛ مصداقا لقول الله تعالى: « كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر». جاء ذلك في اللقاء التلفزيوني الذي أجرته قناة «الميادين» مع سماحة الشيخ المفتي. فإلى الجزء الثاني مما دار في الحوار:

 

– انطلاقا من كتابكم « أمة الإسلام إلى أين ؟ مسيرا ومصيرا» قلت: إذا أراد المسلمون أن يخرجوا من دائرة التخلف إلى دائرة الفاعلية الحضارية، ومن الانفعال إلى الفعل، عليهم أن يتركوا مجموعة أمور، بحيث لا تنبش الفتن التي نجمت في القرن الأول مهما تأتى ذلك، فإن الماضي لا يدرك، وقد مضى بحلوه ومره، فلا معنى لاجترار أحداثه، وهل يورث ذلك إلا تعميق الجراح، وتنفير القلوب، وإيغار الصدور. اليوم أعدنا في العالم الإسلامي إنتاج الفتنة الكبرى، استحضرنا كل صراع، واستحضرنا كل حراب، واستحضرنا كل كراهية، وجعلنا منها إسلاما جديدا. لماذا بنظرك؟

هذا إنما يعود إما إلى الغباء، وإما إلى العمالة لمن يريد أن يفرق بين الأمة، ويتركها أوزاعا مشتتة، لأن مصلحة العدو في هذا التشتت، ولو اجتمعت كلمة الأمة والتقت على حب الله تعالى ورسوله، والتقت على دينه، والتقت على أُمِرَت من التمسك به من العدل والإنصاف، لزالت هذه الفوارقُ كلها بين الأمة، ولكانت الأمة عزيزة. الأمة اليوم لم تؤت من قلة؛ وإنما أتيت من الضعف، والضعف إنما بسبب التشتت؛ «ولا تنازعوا فتفشلوا، وتذهب ريحكم» فالأمة تنازعت، وماذا يأتي بعد التنازع إلا الفشل، مع أن الله تعالى حذر هذه الأمة من التنازع الذي يتبعه بلا ريب الفشل، وهو نتيجة حتمية.

 

حب الدنيا رأس كل خطيئة

– لكن متى استقامت هذه الأمة سماحة الشيخ؟ منذ وفاة رسول الله والفتن تنخر جسد الأمة الإسلامية. للأسف حتى تاريخنا المزور، قيل لنا إن المسلمين كانوا طيبين، وكانوا صناع حضارة. عندما تقرأ التاريخ الحقيقي للإسلام والمسلمين، نجد أن كله اقتتال على ولاية أو خلافة أو إمارة. فأين هو التاريخ الجميل؟ هل معنى ذلك أننا عشنا قرنين جميلين فقط ، وبعد ذلك انتهى الإشعاع الإسلامي؟

لله الأمر من قبل ومن بعد، حب الدنيا كما يقال رأس كل خطيئة، حب الدنيا هو الذي أورث الأمة الاقتتال والتدافع والتناحر، وما نجم عن ذلك من التكفير والتضليل الذي لم يقف عند حد، ولم يكن مؤطرا قط في إطار الإنصاف.

 

رد للعدوان وإنقاذ للمستضعفين

– عندما نعود إلى أدبيات «داعش» و«النصرة» وبقية فصائل الذبح والنحر، يقولون في روايات ما ورد في صحيح البخاري: «جئناكم بالذبح» ، أو في آيات القتال التي يؤولونها تأويلا خاطئا. اليوم لا يمكن إنشاء الأمان والأمان والسلام في العالم الإسلامي، وهذه النصوص موجودة، حتى إذا حلت المسألة الأمنية عسكريا، بعد عشر سنوات، سيأتي جيل تثقفه نصوص القتل، ونعود إلى الفتنة ..

الإسلام كان مثاليا في الأخلاق حتى في حربه لأعتى العتاة، وأقسى القساة، الله سبحانه وتعالى يقول : « وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ » وينهى عن العدوان، وإنما يأمر بالقتال لرد العدوان. وقال : « وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ » لأجل إنقاذ المستضعفين، بل الإسلام ينقذ الأمم الأخرى التي لم تتبع هذا الدين، فيأمر بإنصافهم، وبمساواتهم بالآخرين في العدل، « وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ».

 

التطرف ردة فعل!

– في دائرة التكفير شيخنا، للأسف الشديد كل الذين كتبوا في موضوع التكفير، المتقدمون والمتأخرون، يشيرون إلى الخوارج، بأن الخوارج هم الذين بذروا هذه البذرة، وقبل الخوارج، ذو الخويصرة التميمي الذي كان الرسول أمر بقتله. لكن هناك شبهة أكاديمية مفهومية في الساحة الإسلامية، عندما يتحدث عن الإباضية، يُقال هؤلاء خوارج، وبالتالي فإن الذين اتهموا الإباضية يريدون إيصال معلومة للناس أن الإباضية قتلوا وخرجوا على المسلمين؛ فيما – وهذه الشهادة لله تعالى- أنني رأيت فيك أعقل رجل وفقيه في العالم الإسلامي، ما فتئت تدعو إلى التلاقي، إلى الحوار، إلى نبذ العنف، إلى نبذ التكفير. كيف ترد على هذه الشبهة سماحة الشيخ؟

لا ريب أن هذه الشبهة عمقت، وأطرت في إطار من الدعاية عن عمد، من أجل تضليل العقول. لا ريب أننا لا نتفق مع الخوارج، بل نجد علماءنا شددوا القول فيهم، كما يقول الإمام السالمي :

 

خوارج ضلت فصارت مارقة

صفرية نجدية أزارقة

وفيهم المروق يعرفنا

ومنهم لا شك نبرأنا

 

إلى آخر ما قال، لكن مع هذا كله، أيضا بالنسبة إلى الخوارج أنا أقول: بأن ما حصل من الخوارج إنما كان رد فعل للظلم الأموي، بدليل ما ذكره أحد المحدثين عن عمر بن عبد العزيز، بأنه لما ولي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الخلافة، وسارَ سيرةَ العدل ؛ اجتمع الخوارج، فقالوا لا ينبغي أن نحارب هذا الرجل، فالظلم والبطش الذي لا يقف عند حد، هو الذي أدى إلى ردة فعل، وردة الفعل هذه ما كانت منضبطة بضوابط الشرع، بعيدة عن الاعتدالِ، فأدت إلى هذا الغلو وهذا التطرف عند الخوارج، بينما الإباضية كانوا في جميع مواقفهم إنما ينشدون العدل والإنصاف، وأصدق مثال لذلك ما كان في محاربة بني أمية، في عهد الغمام طالب الحق عبدالله بن يحيى، وقائده أبي حمزة الشاري، كيف ساروا تلك السيرة، سيرة العطف وسيرة الرحمة، يأتي قائد من قواد الجيش الأموي، فيقع أسيرا في أيديهم، ويصفحون عنه ويفرجون عنه، ثم بعد ذلك يقع أسيرا للمرة الثانية، ويعودون إلى الإفراج عنه.

وأيضا بالنسبة إلى النزاهة في الأموال، الإمام طالب الحق لما جيء إليه، وجد خزائن الأموال التي جباها القاسم بن عمر الثقفي، الأمير الذي كان في صنعاء من قبل الدولة الأموية، ما استباح أن يأخذها لنفسه، ولا ليعطيها أصحابه، وإنما أتى بها ووزعها بين أهل صنعاء جميعا، من غير تفريق بين مذهب ومذهب، قال هذه جبيت من غير حق على أهل صنعاء، وعلينا أن نردها إليهم.

 

إرادة التوحيد وإرادة التفريق!

– والشهادة لله.. أنني من خلال تتبعي لكل ما كتبت، ولكل مواقفك الشريفة في العالم الإسلامي ، أشهد الله والمشاهدين على أنك ما تركت فتنة إلا دعوت إلى إطفائها، ودورك الجميل في الجزائر، عندما أراد بعض السلفيين والوهابيين إثارة الفتنة بين الإباضية والمالكية ، دعوت إلى التلاقي وإلى الأخوة والمحبة، وكذلك فعلت بالنسبة إلى الفتن في العالم الإسلامي، حيث دعوت إلى إطفائها. نحن في موضوع الفتنة الكبرى التي تعصف اليوم بالعالم الإسلامي، نحتاج إلى مؤونة إضافية كما يقول العلماء. الخطب والكتب والبرامج التلفزيونية والإذاعية ربما لا تكفي .. ما الذي نحتاجه أكثر عمليا ؟ الذي يدعو إلى التكفير، وإلى الانقلابات وإلى الثورة على الحكام؛ فقهاء أيضا وعلماء. كيف تقول للناس أن هؤلاء لا يمثلون العلم الشرعي الحقيقي؟

أقول: بجانب هذا، هناك فئة من العلماء تسعى إلى جمع الشمل، ووحدة الصف، وتأليف الكلمة، والإنصاف فيما بين الجميع، الإنصاف للخصم قبل الانتصاف منه، بجانب هذه الفئة من العلماء، لابد أن تكون هناك سياسة من الحكام تتوجه إلى جمع الشمل، وتأليف القلوب، وأنا أحمل المسؤولية في هذا الأمر منظمة التعاون الإسلامي، التي يجب أن يكون لها دور في جمع هذا الشتيت من الأمة، في السعي إلى ردم الهوة، في السعي إلى إطفاء نار الفتنة، في السعي إلى نبذ الخلافات، بسبب الإقليمية، أو العنصرية، أو المذهبية. منظمة التعاون الإسلامي قادرة – حسبما أتصور- بأن يكون لها دور في تأليف هذه القلوب.

 

– لكنها نائمة! الفتنة في ليبيا وتدخل الناتو في ليبيا ، مصر وما يحدث في مصر من انفجارات ، سوريا وشعبها الذي يذبح من الوريد إلى الوريد، بمباركة دولية وعربية. ما رأينا هذه المنظمة تكلمت للأسف الشديد. نحن ابتعدنا عن الهم الإسلامي الأصيل، ماذا نقول لرسول الله يوم القيامة، عندما يقول لنا كيف أخلفتموني، نقول له خدعناك؟ خناك يا رسول الله؟

نسأل الله السلامة .. ينبغي أن تكون أي كتابة أو أي سعي أو أي خطوة تؤدي إلى تمزيق الأمة، أن يكون الجميع ضدها.

 

– شيخنا: اليوم واقعيا ؛ تدير الشاشة الصغيرة العربية تقريبا 75 قناة طائفية. اليوم إرادة التفريق فاقت إرادة التوحيد وجمع الشمل؟

وهذا عكس ما يدعو إليه القرآن الكريم، لأن القرآن يقول:« وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا». ويقول : « إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ» ويقول: « وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ».

 

– الله يقول؛ لكن المسلمين لا يلتزمون بقول الله تعالى للأسف الشديد؟

ولذلك انحدروا، بعدم الالتزام بقول الله تعالى.

 

خير أمة أخرجت للناس

– هل المسلمون لديهم مناعة ضد التقدم؟ مناعة ضد الازدهار؟ مناعة ضد التوحد؟ أنت تقول للمسلمين مصدر قوتكم قرآنكم، هم يقولون أقوال الفقهاء هي مصدر القوة! أقوال العلماء ومفسري المذهب هي المصدر. في قول الله تعالى : «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ » أين هي هذه الأمة؟

عندما كانت كما وصفها الله تعالى « تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ » عندما كانت الأمة كذلك؛ كانت الأمة خير أمة أخرجت للناس. هذه هي مقومات وحدة الأمة، ومقومات نظام هذه الأمة، عندما تتخلى عن هذا تكون قد تخلت عن رسالتها في العالم، كما قال ربعي بن عامر، عندما قال لرستم : « إن الله قد بعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة».

ونحن وجدنا من علماء الأمة، ومن يعد من الأئمة الكبار؛ البربهاري في كتابه شرح السنة ، يقول: « إذا رأيت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده، ويريد القرآن فاعلم أنه قد احتوى على الزندقة؛ فقم من عنده ودعه» . يقول هكذا، مع أن الآثار فيها ما فيها من العجائب، وفيها ما فيها مما يحط أقدارها حتى عند علماء الرواية من حيث الأسانيد، فضلا عن المتون، والله سبحانه وتعالى يصف القرآن في كتابه بقوله : « هُدًى لِلْمُتَّقِينَ » وقوله : « هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ»، ويقول : «هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ»، ويقول :» هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ » ويقول:» وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى »، ويقول في نفس السورة : « وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا ، مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ، خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا » ، ويقول : « وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ » ويقول: « وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ » ويقول: « ِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ » إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. ولكن مع ذلك يأتي من علماء الأمة، ويعتبر من أئمتها، ويقول ان إرادة القرآن والإعراض عن الآثار التي تخالف القرآن؛ إنما ذلك من شيمة أهل الزندقة.

 

تحول العلماء إلى حكماء

– سماحة الشيخ: سلطنة عمان تتميز بالحكمة، وكثير من المصالحات الإقليمية. لماذا لا تنبري أن تقود حملة علمائية في الإسلامي لإطفاء الحريق في العالم الإسلامي. هل يمكنك في سلطنة عمان أن تجمع العلماء الغيورين، على دينهم وعلى رسولهم، وعلى أمتهم الضائعة، وتضعون لنا في سلطنة عمان خطوات عملية للخروج من الفتنة الكبرى، وإذا تطلب الأمر؛ تذهب أنت شخصيا إلى مواطن النزاع والتقاتل بين المسلمين، لتقول توقفوا عند حدكم بأمر من الله ورسوله.

ما أحسن ذلك، ونتمنى أن نجد تجاوبا من إخواننا لهذا الأمر، وأنا في آخر ندوة أقيمت هنا تتعلق بتطور العلوم الفقهية، في الافتتاح عرجت على هذا الأمر، ودعوت إلى إطفاء هذا الحريق، ونزع هذا الفتيل، وإلى تحول العلماء إلى حكماء، وأن يسعوا جميعا إلى معالجة هذه المشكلة، لإطفائها.

 

– وقلت مقولة شهيرة: «على الفقهاء أن يطفئوا الحريق» ؟

نعم قلت ذلك، وأنا أناشد وأطالب بهذا.

***

الإسلام يُقدم من خلال مبادئه –

شدد سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة على ضرورة تجديد التراث الديني والفقهي، «وتنقيته من الشوائب»، لا سميا ما يتعلق بالفقه السياسي. وبيَّن سماحة الشيخ المفتي أن أهم مبادئ التربية الأخلاقية التي ينبغي أن يتمسك بها علماء الإسلام هي حب الله والخشية منه.

وأكد سماحته أن «المدارس» التي أعادت بعث نصوص التكفير، وأدت إلى التفرقة بين المسلمين ستندرس؛ لأنها تحمل حتفها إلى نفسها بأيديها، موضحا أنها مبنية على فساد، وكل ما مبني على فساد؛ فإنه سينهار.

وأيَّد سماحته الدعوة إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية؛ داعيا إلى يكون التقريب

رسالة تؤدى، وليس مجرد شعارات ترفع.

جاء ذلك في اللقاء التلفزيوني الذي أجرته قناة «الميادين» مع سماحة الشيخ

المفتي. فإلى الجزء الأخير مما دار في الحوار:

 

– نرى من يفصل رقبة وهو يكبر، يفجر مسجدا وهو يكبر، يقتل شرطيا وهو يكبر، هل يعقل أن الله الذي صنع الوجود، يأمر بالعدم في نفس اللحظة ؟ يوجد ويعدم ؟! هم أشركوا بالله بهذه الطريقة، أليس كذلك شيخنا؟

نحن نتفادى كلمة الإشراك بقدر المستطاع ، ولكن نقول قد ضلوا ضلالا بعيدا بهذا التصرف. ونحن على أي حال نحرص على الجمع لا على التفريق ، ونأسف كثيرا لمثل هذه التصرفات ، التي تؤدي إلى مثل هذه الحماقات في التعامل بين الأمة.

 

الإسلام الحضاري

– ألا يؤثر هذا الذبح على العالم الإسلامي والغربي. الأوروبي سابقا إذا طرحت عليه الإسلام الحضاري قد يتقبل منك. اليوم رأسا يشير إلى الرقبة، وكأنه يقول لك هل تقصد الإسلام الذبح .. كيف نقدم الإسلام للعالم سماحة الشيخ في ظل هذه الواقعية الحمراء الدموية؟

تقديم الإسلام من خلال مبادئه، وكما يقال: المبدأ لا يدان بانحراف أهله، إنما يدان أهله بانحرافه. والمبدأ السليم يبقى سليما كما هو.

 

حب الله وخشيته

– سماحة الشيخ .. في كتابك «إعادة صياغة الأمة» ؛ أشرت إلى العلماء والهوى. قلت في كتابك « ونحن وجدنا كيف أصاب هذه الأمة الوهن، وجدنا شيخا معمما يقود حركة جهادية وينتصر على الأعداء، ويمكن الله له، ثم بعد ذلك يتنازع هو مع الآخرين من أجل السلطة ، ومن أجل الوصول إلى المراكز القيادية، وعندما يُهمش ويتولى القيادة غيره ، ويأتي العدو ليضرب هذا الغير، يبدي راحة، بسبب ما يصيب أبناء ملته وبلدته، فيتواطأ مع العدو» تماما كالشيطان الذي كان في زمرة الرحمن وصار في زمرة إبليس. ما هي أهمية التربية التقوائية والأخلاقية والذوبان في ذات الله لعلماء الإسلام؟

أهم أمر في ذلك هو ترسيخ خشية الله تعالى في القلب، هذه الخشية ليست من وعيده فحسب، بل حتى من عظمته، لأن هيبة العظيم تؤثر على النفس تأثيرا بالغا، وأي عظمة كعظمة الله، الذي خلق هذا الوجود كله، والذي يوجهه توجيها بحيث لا تخرج ذرة من ذرات هذا الوجود عن أمره، ثم إنه من المعلوم أن ذلك يقتضي بطبيعة الحال حب الله سبحانه وتعالى، وقد قيل إن الحب إنما ينبعث في نفس الإنسان ، بسببين ؛ إما أن يكون المحبوب عظيما ، فيحبه لعظمته ، وإما أن يكون المحبوب محسنا فيحبه لإحسانه. وعلى كلا الأمرين ؛ أيٌّ أحق بالحب من الله سبحانه وتعالى ؟! فالله عز وجل أسبغ النعم على كل موجود، كل موجود يسبح في خضم نعم الله سبحانه وتعالى . الإنسان كما قالوا انه يحتوي على ملايين الملايين من الخلايا، هذه الخلايا كم فيها من العجائب، وكم فيها من مصلحة لهذا الإنسان. يستهلك الإنسان في الثانية الواحدة 125 مليونا من الخلايا، في الدقيقة الواحدة 7 آلاف مليون من الخلايا. وكما قرأت أخيرا أن الجزيئة التي يعبر عنها بالكروموسوم، فيها من عجائب صنع الله سبحانه وتعالى ما لو شرح لملأ 900 ألف صحيفة، يعني 40 ضعف الموسوعة الطبية البريطانية التي تتكون من 40 مجلدا، ومعنى ذلك أن شرح ما في هذه الجزيئة من عجائب صنع الله، يملأ 1600 مجلد. فأي عظمة تقارب هذه العظمة، فهو جدير لأن يحب لأجل ذلك. ومع ذلك؛ هذا الإحسان الغامر، هذا الحفظ للإنسان، يشرب الإنسان، ولو كانت هذه الشربة لا تسوقها عناية الله، لأدت إلى حتفه. إذا غرس حب الله تعالى وغرس الخشية من الله، ومن عقابه، والرغبة في ثوابه هي التي تدفع الإنسان إلى مراقبة الله تعالى.

– ذكرتني بنظرية ابن رشد، نظرية الفيض الإلهي، وهي نظرية قرآنية. يقول ابن رشد مثلما أوجدك الله أول مرة، فهو يفيض عليك بالوجود كل ثانية، لأنه لو انقطعت علة الإيجاد للحظة لتوفيت. لماذا لا نستحضر الله تعالى بهذه الصورة؟ أليس العلماء هم وكلاء الأنبياء وورثتهم؟ عندما يخاطب الله الإنسان في لغة القرآن يخاطبه بلغة الحنان « ما غرك بربك الكريم» ، لماذا لا نتعلم من ربنا أساليب الدعوة الصحيحة ؟

هذا لأننا كما قلت بعدنا عن القرآن، وأخذنا منه الشكليات، وأضعنا الجوهر.

 

التقريب بين المذاهب

– أنت باركت قضية التقريب بين المذاهب الإسلامية كثيرا، وأشرت إلى مفكرين إسلاميين معاصرين، كمحمد باقر الصدر، وقلت إن القراءة للآخرين توسع الأفق، هل آن الأوان أن نحدث نقلة في التقريب بين المذاهب الإسلامية، لنذهب في نهاية المطاف إلى جمع شمل العالم الإسلامي ؟

نحن نؤيد هذا الأمر، من أول الأمر نحن وضعنا أيدينا بأيدي الذين يسعون إلى التقريب، ونتمنى أن يتحقق ذلك، ونتمنى أيضا إخلاص النيات لهذا الأمر، وألا يكون التقريب شعارا يرفع، وإنما يكون رسالة تؤدى بين الأمة.

 

« الفقه السياسي»

– في الحواضر العلمية كالأزهر الشريف ؛ رأينا فتوى الشيخ شلتوت التي ذكرها بجواز التعبد بالمذهب الجعفري، ورأينا خطوات لاحقة، لكن هذا الجهد توقف للأسف. من المسؤول؟ هل هو «البترودولار»؟ هل هو المال الذي لطّخ – للأسف الشديد – أخلاق العلماء؟

نحن نكل أمر ذلك إلى الناس، على ضمائر الناس أن تحاسبهم، ويحاسبونها.

 

– المال السياسي اليوم صار يصنع الفتوى. فيما مضى عندما نقرأ شروط الفقيه ؛ يجب أن يكون الفقيه عارفا بالقرآن ، بالخاص والعام ، المطلق والمقيد ، الناسخ والمنسوخ ، المكي والمدني ، واشترط بعضهم العلم باللغة العربية. اليوم الدولار الأمريكي هو الذي صار يصنع الفتوى دون جهد واجتهاد؟

نسأل الله العفو والعافية .. نسأل الله السلامة .

 

بعد الإظلام فجر باسم

– كيف ترون سماحتكم مستقبل العالم الإسلامي، هل سنخرج من الفتنة الكبرى ، هل سيصبح المسلم يحب المسلم؟

مهما كان؛ نحن نحسن الظن بالله، ونرى من سنة الله سبحانه وتعالى ؛ أنه إذا احلولك الظلام، واشتدت وحشة الليل البهيم؛ كان ذلك إيذانا بانبلاج الفجر، فنحن نثق بأن هذا الليل البهيم المعسعس، الذي دجى وأظلم وأوحش؛ والذي نمر به؛ سوف يسفر عن صبح باسم إن شاء الله تعالى، تلتقي فيه الأمة على الحب والحنان، والتقوى، والعمل لأجل رفعة هذا الدين، ولأجل حفظ سيادة الأمة.

 

– هذا وعد رباني بالتأكيد ، ولا شك أنه سيأتي اليوم أو غدا ؛ ولكن أيضا جعل الله لكل شيء سببا؟

لا بد من الأخذ بالأسباب.

– إذا أردت أن أرتب معك الأسباب اليوم . نهوض العالم الإسلامي. اليوم عندما يكتبون عن نهضات الآخرين، هناك حديث عن نهضة الصين، المفكر الفرنسي آلان بريفت يقول عندما تنهض الصين يهتز العالم . وهناك من يتحدث عن نهضة دول أمريكا اللاتينية. أما نهضة المسلمين فمؤجلة في السياق الأكاديمي، أي لا تبحث نهائيا، هل سيكون هذا النهوض بنظرك في محور معين دون آخر؟ أم سيكون النهوض جماعيا؟ أي هل لا بد من الاجتماع من أجل النهوض؟

أنا أرجو أن يتحقق ذلك للكل، ولكن مع ذلك، أقول ان ميزة هذه الأمة الأخلاق، وإذا كانت كل حضارة من حضارات الأمم، تميّزت بشيء، فإن حضارة أمة الإسلام تميزت بأخلاقها. فلذلك نحن نرجو أن تتربى هذه الأمة من جديد على الأخلاق التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي جاء بها القرآن.

 

– ذكرت في بعض كتبك: أن المسلمين اليوم عادوا إلى أسوأ من الجاهلية، وخانوا عهد الصحابة، وعهد الإسلام الأول، وبالتالي يحتاجون – كما ذكرت – إلى تأهيل كامل مجددا، في هذا الوقت كيف نتعامل معهم .. نتعامل معهم على أنهم مسلمون؟! المسلم له شروطه ، لا يمكن للمسلم أن يقتل أو أن يكذب، ويفعل كل الموبقات؟!

على أي حال؛ لا نستطيع أن نخرج من دان بالشهادتين من الإسلام ، إلا إن أنكر معلوما من الدين بالضرورة، ولكنه مع ذلك أيضا نعامله على أنه مخطئ ، وننزله في مكانته التي أنزل نفسه فيها ، لا بد أن يقال للمخطئ إنك مخطئ ، وعليك أن ترجع إلى الصواب، وعليك أن ترجع إلى حضيرة الجماعة الإسلامية ، بالتمسك بأهداف هذا الدين وأخلاقياته.

 

تجديد التراث

– نحو فقه جديد .. القارئ في عصرنا الحديث، عندما يقرأ المدونات الفقهية؛ فيجد عبارات قديمة جدا من العصر العباسي الأول أو الطور الأموي الثاني، مثل: استئجار الفحل الذراب، أو استخدام الكرسف، وما إلى ذلك من الأمور. وعندما يقرأ لكارل ماركس، ويقرأ لدوركهايم يقرأ فقها واقعيا يخاطب العقل، فيميل إلى الليبرالية الغربية على أن ينخرط في المتن الإسلامي المعقد .. أما آن الأوان أن نجدد الفقه الإسلامي؟

لا بد من أن يجدد، والتراث الفقهي أيضا يجب أن ينقى من كل الشوائب، ومن بين هذه الشوائب؛ الجانب الذي يتعلق بالفقه السياسي، كالفتوى التي قالها بعض الفقهاء، وهي أن الحاكم له أن يقتل ثلث شعبه من أجل إصلاح الثلثين. هذه الفتوى بعيدة عن الشرع.

 

– علماء الذبح والنحر لو قرأوا وانسجموا مع المطالب القرآنية؛ لوجدوا أن القرآن كله تقديس للإنسان، والإنسان محور الحضارة، ومحور الكون، وهكذا تعامل معه القرآن الكريم، وبالتالي هناك خطأ في التكوين العلمي .. أنت عندما أشرت إلى العلماء .. هل الخطأ في العلماء؟ في المباني التي تعلموها؟ في المنطلقات الفقهية؟

لأنهم أخذوا فقههم من التقليد، ولم يأخذوه من منابع الإسلام.

 

– لكن حتى الفقهاء الذين يفتون بحرمة الدماء؛ أيضا يقلدون ؟

لا بد من الرجوع إلى القرآن، والتأثر بالقرآن، لا أن يهمش القرآن.

 

– حتى القرآن فيه مئات التفاسير، وبعض التفاسير تصطدم فيما بينها؟

« ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر» .. مهما كان؛ يبقى القرآن منارة شاهقة، تسطع على العالم كله، تبصر الناس بالمسالك الصحيحة.

 

– سلمت معك أن القرآن سيظل فصيحا بليغا واضحا. إلا أن في مجال تأويل القرآن الكريم هناك مدارس متضاربة للأسف الشديد؟

المدارس متضاربة، لكن يمكن أن تفند هذه المدارس، واللغة العربية يجب أن يركز عليها، من الأهمية بمكان أن يركز على اللغة العربية ؛ لأن الله اختارها وعاء للقرآن . لما كانت وعاء للقرآن، فالوصول إلى القرآن وإلى فهم القرآن ، وإلى فقه القرآن إنما يتوقف على الوعي بهذه اللغة.

 

دورة تاريخية

– هنا جررتني إلى إشكالية كبيرة، وهي تدمير اللغة العربية في الوطن العربي، للأسف الأجيال تقدس الإنجليزية والفرنسية أكثر من اللغة العربية، واتخذ من اللغة العربية موطئ هزء؛ كما نرى في المسلسلات. الصلة بيننا وبين مصادر التشريع، والقرآن أولا ؛ ضربت !. من أين يبدأ الإصلاح بهذه الأمة؟ لغة الأمة ركيكة ، فقه الأمة مزور، تاريخ الأمة مزور، علماء الأمة نادوا بالنحر والقتل ، من أين نبدأ ؟ هل نحتاج إلى نبي جديد؟

إنما نحتاج إلى دورة تاريخية ، تكون امتدادا للدورة التي قادها النبي عليه الصلاة والسلام ، وبذلك نصل إن شاء الله إلى الغاية التي نطمح إليها.

 

– إعادة هذه الدورة التاريخية بشرطها وشروطها .. توينبي في كتابه تاريخ البشرية ، يقول ثبت لي ، أن الإنسان كان صانع ومسقط للحضارة. لا توجد حضارة تأتي من فراغ ، بدليل أن مليار وستمائة مليون مسلم يدعون اللهم حرر فلسطين ، فالكيان الصهيوني ازداد قوة ، وفلسطين تزداد عنا بعدا ، لو كان الدعاء يصنع حضارة لكنا الآن نقود القارات الخمس؟

علينا أن نخلص في دعائنا ، وأن نخلص في عملنا ، وأن نكون صادقين مع أنفسنا فيما نسعى إليه من الخير. والعزيمة تفعل في الحياة العجب العجاب.

 

– هل المدارس التي أعادت إنتاج نصوص التكفير، والمدارس التي شقت عصا المسلمين ، والتي اتخذت من رمي هذا وذاك بالزندقة ، سيكتب لها الخلود أيضا مجددا ، أم ستندرس كما اندرست بقية المدارس الإسلامية؟

هذه المدارس تحمل حتفها إلى نفسها بأيديها ؛ لأنها لا تتفق مع الطبيعة ولا تتواءم معها ، وكل شيء لا بد من أن ينكشف ، ولو بعد حين ، وكل بناء بني على فساد ؛ فإنه سينهار.

 

– اليوم توجد دول إسلامية صارت تتقاتل بالطائرات ، وبالقنابل الفتاكة ؛ إذا أخفقنا في إقناع المسلم بحرمة الدماء ؛ كيف تقنع دولا بحرمة الدم سماحة الشيخ؟

إرادة الأمة سيكون لها تأثير على الجميع ، إن شاء الله ، فلا بد من أن تكون للأمة إرادة ، والأمة تتمثل في حكمائها ، هؤلاء الحكماء هم العلماء الربانيون القادرون على قول الحق، والدعوة إليه ، والسعي إلى ردم الهوة بين شرائح هذه الأمة.

 

*(تم اللقاء)*

-----------------------

جريدة عمان:

تم نشره بتواريخ الجمعة : 1، 8، 15 مايو 2015م