الفكر الإسلامي » آداب الخلاف والاختلاف والحوار

آداب الخلاف والاختلاف والحوار ج1

يؤكد السابعي في إصداره، في تاريخ الناس بما فيه تاريخ المذاهب الإسلامية خلافات وصراعات فكرية غالية في القسوة تغيب عنها قيم مقدسة في الإسلام لصالح الانتصار للرؤى الخاصة بها وكسب المواقف وفي حياة الناس العامة أمثلة للخلاف الحاد والمسلح بالتهم والقذائف والتشنيع.

 

عدت إلى عدد من المواقع الحوارية لمختلف الأطياف الإسلامية، لأطالعها من جديد.

الصورة في كل هذه المشاهد قاتمة جدا، والخلاف فيها على أشده!

 

تابعت عددا من قضايا الخلاف العلمي والخلافات الشخصية ودخلت في بعضها لتقريب وجهات النظر ومحاولة الإصلاح وقلما يتم وعي المختلفين بالخلاف وضرورة الوفاق أو التوقف عن زيادة حدة الشقاق فوقفت على عجائب النفس البشرية في تعاملها مع الأشياء والأشخاص وشكّل ذلك لدي قناعات معينة من أهمها الحاجة الماسة إلى تجديد الحديث عن المنهج القرآني للحوار وما يسمى بأدب الاختلاف، لكن أجمل ما في الأمر لي شخصيا فهم نفسيات الناس وأبعاد الاختلاف بين بعضهم.

 

هنا تتجلى الصورة القرآنية التي تجسد تجليا من تجليات المجتمع الإنساني في مدينته الفاضلة وذلك عند الحديث عن الوحدة: «إن هذه أمتكم أمة واحدة»، ورص الصف: «كأنهم بنيان مرصوص»، وضرورة الاعتصام الجماعي بحبل الله المتين: «واعتصموا بحبل الله جميعا»، وعدم التفرق: «ولا تفرقوا»، والنهي عن التنازع: «ولا تنازعوا»، الذي يؤدي حتما إلى الفشل: «فتفشلوا»، ويؤدي إلى فقدان الهيبة: «وتذهب ريحكم»، وضرورة التركيز على اللحمة الإيمانية: «إنما المؤمنون إخوة»، وضرورة الإصلاح: «فأصلحوا بين أخويكم»، وعدّ كل ذلك من مقتضيات تقوى المؤمن لربه: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا»، «إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون».

 

يغلب على مشاهد الخلاف عدد من التصورات المنطبعة في العقل اللاواعي جراء البيئة التي تعيشها عقول الكثيرين حيث الاختلاف الحتمي بين البشر مشحونا بعوامل مصطنعة وهمية، تحرك الإحساس إلى ممارسات إقصائية تصل إلى أبعد مدى في بعض المواقف.

 

وباستعراض سريع لحوارات المختلفين تظهر صورة تعكس حالة فقدان الاتزان في الشخوص والأفكار بشمولية ذلك للمنهج العلمي والجانب المعرفي والحس الوجداني ولغة الحوار بما يمكن تلخيصه فيما يلي:

 

1- في الجانب المنهجي: حيث يتم - عادةً - التركيز على نقاط الاختلاف القليلة وطمس نقاط الالتقاء الكثيرة، وتحويل كل تباين ونقله إلى ميدان خلاف جوهري، يتم من خلاله الخلط بين ما يعبر عنه في الفكر الإباضي بمسائل الدين ومسائل الرأي، أي المسائل التي لا يجوز فيها الخلاف مما أدلته قطعية الثبوت والدلالة، والمسائل التي يجوز فيها الاختلاف مما أدلته ظنية الثبوت أو الدلالة. بل الأمر أعقد من ذلك، حين يحول الحوار في أمور تاريخية أو فكرية عامة أو حتى أمور عادية في حياة الناس وأحيانا قضايا إعلامية، إلى خلافيات حادة بين الناس.

ومن ذلك عدم تحديد مواطن الخلاف وهو ما يسمى بتحرير موضع النزاع، هذا في واد وذاك في واد آخر.

 

ومن ذلك عدم تحديد منطلقات الحوار التي يبني عليها المختلفون مسلماتهم واختلافاتهم، ولهذا كثيرا ما نجد الإلزامات المتوهمة.

 

ومن ذلك إدراج شبكة المعلومات ضمن المواطن الصحية للخلاف في حين أنها في كثير من الأحيان معركة بين أوراق متطايرة في مهب الريح لا يدرى من أرسلها معها ولا أين تهوي بها ما لم يتم توضيح الحقائق بشكل من الأشكال.

 

2- وفي الجانب المعرفي: نجد الفوضى الفكرية العارمة، فالجميع يناقش ويحاور ويجادل ويستدل ويحلل، من باب حرية الرأي وفتح باب الحوار على مصراعيه، ولا يتم استيعاب الفرق بين الأحكام الخاصة والآراء العامة. وتبسط مسائل الدين والاقتصاد والسياسة حرة بين الناس في معادلة كمية لا نوعية، شأنها شأن الديمقراطيات التي يقرر فيها الكثرة مصير القلة، فيما المنهج القرآني – حسب رأيي الخاص – يتيح أحيانا وفي قضايا مفصلية، أن تقرر القلة التي تفكر بعقلها الواعي – إن وجدت الشرعية لذلك - عن الكثرة التي تتحرك فيها كوامن العقل اللاواعي.

ومن ذلك إطلاق الأحكام الخطيرة التي يترتب عليها سفك الدماء وإهاجة أمم بأكملها، اعتمادا على روايات أو أقوال، على حساب الثوابت القطعية من الكتاب العزيز والسيرة النبوية كحرمة الدماء والأموال والأعراض.

 

3- وفي الجانب الوجداني: نفتقد في أغلب الحوارات الحس الأخوي الإيماني الناصح الحريص على الخير وحب الصلاح ونحوها من الأحكام والتهم الكثيرة بالتزوير والكذب والهوى واقتطاع النصوص وتحميل عبارات المخالفين ما لا تحتمل وشيوع سوء الظن.

 

4- أما اللغة: فحدث ولا حرج عن اللغط الكثير والسخرية والاستهزاء بالآخرين والألفاظ المقذعة والسباب والشتائم التي تنزل بعض الأحيان إلى مستوى سوقي مبتذل كالقذف وشتم الأعراض.

يتخلل كل ذلك معركة أخرى خطيرة وهي معركة المصطلحات الشاملة لجميع هذه الجوانب حيث تم احتساب هذه المعركة على ميادين الصراع الديني لحسابات متعددة مذهبية وسياسية واجتماعية ونفسية ليتشكل على أساسها العقل المسلم.

 

يا أمة القرآن

ويذكر، غياب المنهج القرآني عن أمة القرآن في كيفية التعامل مع الناس من عجائب الأمور في هذه الحياة.

ويدعو، علينا إشاعة روح الحوار وثقافة الخلاف بمحاذاة شيوع الخلاف نحن في حاجة ماسة لذلك لما بيننا من التداخل والتلاقي والإنسان مدني بطبعه.

 

لقد أسس كتاب ربنا الكريم لثقافة الحوار، وثمة نصوص قاطعة لا تحتمل الجدل، وليست خافية لكي نبحث عنها أو غامضة لكي تحتاج إلى عناء فهم عميق أكثر المتحاورين والمتواصلين يغفلون عنها ولا يعيرونها اهتماما مع أنها في صميم الدين وفي جوهر العلاقات الإسلامية:

 

1- في عد الوحدة الإسلامية إحدى فرائض الدين الكبرى: «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا».

2- في ضرورة إدراك نعمة التآلف: «واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم».

3- في ضرورة إدراك سعي الشيطان لإثارة العداوات: «إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء».

4- في النهي عن إثارة الفتن والخصومات: «والفتنة أشد من القتل».

5- في شمول الدين لجميع أطيافه: «إن هذه أمتكم أمة واحدة».

 

6- في النهي عن التساهل في إخراج الناس من الإسلام: «ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا، تبتغون عرض الحياة الدنيا».

7- في تضييق نطاق الخلاف والفرقة: «ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا».

8- في ضرورة الإصلاح وتجاوز الخلاف وتناسيه: «إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم».

9- في التركيز على المشتركات وعوامل اللقاء: «تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله».

10- في ضرورة الحوار مع المخالفين ولو كانوا خارجين عن الإسلام (من أهل الكتاب): «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن»، «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن».

 

11- في الهدوء وترك التشنج في الحوار: « بالتي هي أحسن».

12- في النهي عن الظلم والاعتداء على الآخرين والبغي عليهم بأي شكل من الأشكال: «ولا تعتدوا».

13- في التعامل مع الأخبار وضرورة تمحيصها: «إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة».

14- في التوقف عما لا يعلمه المرء وإعطاء الاحتمالات: «ولا تقف ما ليس لك به علم».

15- في احترام الآخرين: «لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن، ولا تلمزوا أنفسكم».

 

16- في حفظ اللسان: «ولا يغتب بعضكم بعضا، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه».

17- في النهي عن إطلاق الأحكام الجاهزة، وتجنب الخوض في معركة المصطلحات: «ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون».

 

18- في النهي عن سوء الظن والنهي عن فهم كلام الآخر وفق الأفهام الخاصة والأحكام المسبقة وتحميل أقواله ما لا تحتمل: «يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم»، «لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين».

 

19- في الرفق بالآخرين والرحمة بهم: «بالحكمة والموعظة الحسنة»، «فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك».

 

20- في النهي عن التعميم في الأوصاف والأحكام، وضرورة وضع اعتبار للاستثناءات، حتى لو كان الآخرون مشركين: «ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما»، «الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، والله عليم حكيم. ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء، والله سميع عليم. ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم».

 

21- في التمييز بين أصناف المخالفين: «لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى».

22- في النهي عن اتهام الناس بالباطل: «إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم، لا تحسبوه شرا لكم، بل هو خير لكم، لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم».

23- في الحرص على سمعة الآخرين من الموافقين والمخالفين: «إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة».

24- في النهي عن المساهمة في الإشاعات: «إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم».

25- في عدم استصغار قذف الناس بالباطل: «وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم».

 

26- في النهي عن تزييف الحقائق وتحريف النصوص: «يحرفون الكلم عن مواضعه».

27- في الأمر بالعدل التام والنزاهة مع الناس: «كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين».

28- في النهي عن ظلم الخصوم: «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا».

29- في النهي عن الدفاع عن الموافق ومحاباته إذا ظلم المخالف ولو كان مشركا: «ولا تكن للخائنين خصيما»، «ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم».

30- في النهي عن التنصل من المسؤوليات ورميها على الأبرياء ولو كانوا أعداء: «ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا».

31- في النهي عن سفك الدماء: «من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا».

 

هذه قواعد قرآنية للتعامل مع الناس مؤمنهم وكافرهم، إغفالها انحراف عن الصراط السوي واتجاه إلى الظلم والعدوان.

وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديثه الشريفة تأكيد واضح لهذه القواعد كما أن في سيرته العطرة التطبيق الأمثل لها بنماذج متعددة.

_______________________________________

جريدة عمان: الجمعة 22جمادى الثانية 1434ه / 3 مايو 2013م

عرض: سيف بن سالم الفضيلي

--------------------------------------------------------------------------------------------------------------

 

 

آداب الخلاف والاختلاف والحوار ج2

السابعي: التقارب المعرفي بين الخصوم عند الحوار والمناظرة يحقق العدالة والنزاهة

 المحاور مطالب بالواقعية في الطرح والابتعاد عن أساليب الخداع

الحوار حاجة بشرية لاستيعاب الرأي الآخر من خلال شرح وجهة النظر دون وسيط، وذلك بالتلقي المباشر لحقيقة الرأي ودليله خاليين من عوائق الطريق ومن كل احتمالات الخطأ، وحينئذ تنتفي فراغات كثيرة:

1- فراغ الأحكام المسبقة: المبنية على المعلومات الأولية المحتاجة إلى تحديث، وقد تكون تم تجاوزها ومناقشتها وبيان انتهاء صلاحيتها، لكن يتم - في كثير من الأحيان - اجترارها لاحقا وكأن شيئا لم يكن.

2- فراغ السمع الخاطئ وغفلة العقل أثناء سماع الآخرين.

3- فراغ الفهم الخاطئ والأوهام الخاصة في تفسيرها لكلام الناس.

4- فراغ الحكم الخاطئ: إثر هذا التصور المشوه للأشياء.

5- فراغ النقل الخاطئ: تجنبا لزيادات الرواة، حيث يصحب النقولات كلمات وعبارات زائدة على الحديث الأصلي، أو يتم وضعها في قالب آخر قد لا يتلقاه السامع بمعنى الخطاب الأصلي.

ويوضح المثال التالي هذه العناصر الأربعة الأخيرة الأخيرة:يروي جابر بن زيد عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت أن عبد الله بن عمر يقول: إن الميت ليعذب ببكاء الأحياء، قالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ، ولعله إنما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال حين مر بيهودية ماتت وأهلها يبكون عليها فقال: «إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها».

6- فراغ الشائعات التي عادة ما تفتقر إلى المصداقية والتثبت، والتي تساهم بشكل مباشر في ترسيخ الأفكار غير الصحيحة عن الناس من خلال تهيئة جو نفسي يضغط على العقل الواعي.

هذا إذا استثنينا الفراغ الأوسع، وهو الكذب الصريح، حين يكون الناقل من الذين يخبو فيهم الضمير أحيانا أو دائما، لصالح الأغراض الشخصية، وحسب الوصف القرآني فالناقل في هذه الرواية «فاسق»، خرج عن الفطرة السوية، وخرج عن مقتضى الإيمان.

في جميع هذه الحالات يكون الحوار إحدى ضرورات اللقاء للوصول إلى الحقيقة. وإدراك الحاجة لاستيعاب الآخرين وسد جميع هذه الفراغات يشجع على الرغبة لمشاهدة الأشياء طبيعية من غير أن يجري عليها تعديلات.

كل نقل صادفه واحد من هذه المطبات فنتيجته خاطئة أو مشوهة أو ناقصة حتما، والحوار يتجاوز جميع هذه المراحل الخطرة، ويقدم الحقائق - وإن قدم زمنها - طازجة من غير أن تشوبها أو تشوهها أغراض ليست من مقصود صاحب الفكرة الأصلي.

على عتبة الحوار

يوضح السابعي، قبل بدء الحوار هناك عاملان رئيسيان ومهمان، أحسب أنهما يشكلان النسبة العظمى من الوفاق والوصول إلى الحقائق بشكل انسيابي محفوف بالطمأنينة، الأول، (التوافق النفسي)، كيف يتم اللقاء والقلوب مشحونة بالغيظ والسخط مليئة بالنفور، مدفوعة بالتحدي وحب الانتصار ؟!

كيف يجري الحوار سليما والظنون هي الأدلة، والأحكام معدة مسبقا؟!

يجب أن تكسر الحواجز النفسية التي تحول دون الرؤية السليمة للأشياء والأفكار.

يجب أن تهدأ النفوس عن هذا الفوران، وتتحلى بالسكينة والهدوء، وتبتعد عن إقصاءات معلنة أو مبطنة.

وهذا جزء مما تؤكد عليه آيات قرآنية متعددة وتسميه «الهوى».

يجب أن تتخلص النفوس من الهوى، الذي يظهر في أشكال متنوعة من الغضب والإثارة والهجوم بغير حق.

وهنا تظهر صورتان عجيبتان، حقائق تقدم بأساليب من العنف، وأباطيل تقدم بعبارات رائقة خادعة، كلتا الصورتين مباينتان للحكمة، وتعكسان ضعف الوئام النفسي، والنتيجة هي مزيد من الشقاق والشحناء.

إن هدوء الأرواح والبعد عن الإثارة يساهم كثيرا في نجاح أي حوار، ولعل التواصل الاجتماعي جزء من تواصل الأفكار، أما الحوارات عن بعد فتساهم في بعد المسافة الفكرية بين المتحاورين.

وإخلاص المقصد لله سبحانه وتعالى في أي عمل يؤدي إلى نتيجة صحيحة ومطمئنة ومرضية.

كما أن من المهم جدا افتراض حسن النوايا في الآخرين، أما الهجوم على الناس بسوء الظنون والأحكام الجاهزة فذلك يلغي قيمة أي حوار، ولا فائدة حينئذ من تعب بدون ثمرة إلا المزيد من الشقاق والشحناء.

الثاني، (التقارب المعرفي) فالتقارب المعرفي بين الخصوم عند الحوار والمناظرة أمر يحقق العدالة والنزاهة ويعادل كفتي الميزان والتكافؤ الفكري بدلا من ازدياد الخصومة لأن العلم رحم بين أهله يتعارفون بسببه ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذووه.

أما إقحام الجميع أنفسهم في لجج اللجاج فينافي الحكمة ويذهب بوقار العلم وربما قلل من شأن الإنسان إذا أظهر نفسه بطلا في كل الميادين دون مبالاة بعقول المراقبين من الحكماء والعارفين.

ثمة أساسيات ومستويات من الفهم والاستيعاب لا تتحصل للجميع، ولا تتهيأ في كثير من الأحيان إلا للمختصين في شأن ما، جراء الخبرة وكثرة الممارسة لعلم من العلوم وكثرة القراءة فيه.

من الصور المشاهدة أحيانا أن يطلب شخص مغمور الحوار والمناظرة مع عالم كبير له قدره ووزنه العلمي المشهود !هل السكوت عن هذا المطلب الساذج إلا عين الحكمة والصواب!

ادعاء العلم أو الشعور بالأهلية العلمية في مثل هذا الموقف لا يعدو أن يكون ضربا من ضروب الجهل الحقيق صاحبه بقوله تعالى: «وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما».

وهنا يقال: «ناظرت عالما فغلبته، وناظرني جاهل فغلبني»!

ذلك أن الجاهل لا يحسب حسابات المسؤولية العلمية ، ويسهل عليه التنصل والانتقال من فكرة لأخرى قبل تمام المقصود، كما أنه لا يدرك الفرق بين الحقائق وبين الافتراضات والشائعات والسفسطة، ولا يعتني بآليات الحوار وآدابه، ولا يكترث كثيرا بالنتائج، فيصعب على العالم الذي أكسبه علمه عقلا وحكمة، التعامل مع الجاهل وإقناعه حتى بالبدهيات أحيانا!

حين يكون أحد الطرفين عالما والآخر جاهلا يكون الولوج إلى الحوار خاطئا كما تكون النتيجة سلبية!

ومقاييس المعرفة والعلم ليست عائدة إلى وفرة المعلومات ولا الجهل يعود إلى نقصانها بل التحلي بالعقل وحسن السمت والفهم الجيد للأمور وتمييز قضايا المعرفة وصدق احترام العلم هي أولى سمات المعرفة والعلم. كما أن تصور الأشياء على حقائقها يؤدي إلى سلامة النتائج والأحكام كما قيل: الحكم على الشيء فرع عن تصوره.

خذ مثلا قوله تعالى: «ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون».

لم يفدهم علمهم بالظاهر من الحياة الدنيا عقيدة وسلوكا، فلم يحسب ذلك من ميادين العلم الحقيقي، لأنه يتبدد في النهاية. ومتى ما خلا الحوار من هذه القيم فلا تشفع وفرة المعلومات لتوجيه سير الحوار إلى مساره الصحيح.

معادلة المكاسب والخسائر

ويذكر، ثمة شيء آخر يدخل في صلب الأمر عند التفكير في إجراء حوار يتعلق بالقضايا الحاسمة، وهو النظر في المحاذير المكتنفة للحوار ونتائجه، والمآلات السلبية على العلائق والصلات والفرائض التي قررها ديننا الإسلامي الحنيف التي من بينها فريضة الوحدة بين فئات الأمة الإسلامية.

كما أن عرض الحقائق أحيانا أجدى من الدخول في حوارات لا تنتهي أو تنتهي بخصومات ويكون ضررها أكثر من نفعها وليس كل شيء يتم النقاش حوله.

ثمة وسائل متنوعة للإقناع، فقد يكون الصدق العملي خير برهان على صدق المبدأ، وقد كان أول برهان على صدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم صدقه وأمانته في تعامله مع الناس، وكم دخل الناس في دين الله سبحانه وتعالى أفواجا لما اجتذبهم من أخلاق المسلمين وسمو أنفسهم. كما كان عليه الصلاة والسلام كثيرا ما يعرض القرآن الكريم على المشركين المعاندين دون الدخول في جدال معهم.

إن ظهور المرء وتبدي الفكر على مشهد متكامل وواضح وصادق، كفيل بتجلية الحقيقة للناس، وروعة الفكر تظهر للعيان حين يتجسد سلوكا وعملا.

وقضايا الإيمان ركائز في النفس والفطرة، وليس شرطا أن تقام الدلائل العقلية على صحة الإيمان، فقد يكون من المهم إثارة كوامن النفس للفتها إلى الحقائق المغروسة فيها والمطموسة بمؤثرات البيئة المتنوعة.

قد يتمرد عقل الإنسان فينكر أكبر حقيقة وأوضحها في الوجود، وهي حقيقة وجود الله سبحانه وتعالى، وقد ألف بعض الملحدين المنكرين لله كتبا في ذلك في حوار عقلي فلسفي لإلغاء هذه الحقيقة، مع أن الإيمان بالله لا يحتاج كل هذا العناء، حيث المسألة من بدهيات التأمل في هذا الكون البديع.

كيف يجري الحوار وتقدم الحقائق؟

كل ما سبق من القواعد القرآنية أسس ضرورية للتعامل بين المتحاورين سواء في اللغة أو المنهج أو الناحية العلمية، وتكوين قاعدة وفاق موحدة بين المتحاورين هو أساس الحوار، فلا بد من بيان المسلمات للاتفاق عليها، وعدم الوضوح في هذا الجانب سيؤثر على سير الحوار، وكل خلاف فيها بأي شكل من الأشكال ينبغي أن يحسم من البداية.

وقد لخص القرآن الكريم سمات الحوار اللفظي في آية قرآنية بديعة، وهي قوله تعالى: «ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بأمر ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاء». انظر كيف تفعل الكلمات فعلها في النفس!

للكلمة الطيبة ثمار تؤتي أكلها بين الحين والآخر، بمعنى أن نتائجها تستمر على المدى البعيد، لكن من ذا الذي يثبت على حسن القول والكلمة الطيبة؟! المؤمنون يثبتهم الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة !أما غيرهم فهم محرومون من الكلمة الطيبة، وذلك ضلال مبين!

إن فقدان هذا المنهج الحميد فقدان لمظهر من مظاهر الإيمان، ويؤدي إلى خطورة بالغة أحيانا!

شهدنا نماذج من الكلمة الخبيثة: القدح في الأعراض والتهم الباطلة والأحكام الجائرة التي سفكت الدماء ومزقت المجتمعات وهددت كيان المنظومة الإنسانية في الإسلام بما يبديه أتباع هذا الدين من التناقض بين المبدأ وبين الممارسات في التعامل مع الآخرين.

النرجسية في المتحاور والغطرسة في لغته يفقدانه شرعية مفاهيمه ومضامين حديثه. كما ينزعان عنه مبدأ قبول الحق وتقبل الرأي الآخر أو الاعتراف به أو حتى مجرد احترامه.

على المحاور الصادق أن يكون واقعيا في طرحه من غير أن يمارس على الآخرين أساليب من الخداع مؤثرة على صدق الحقائق لصالح قناعاته الشخصية. ولا مانع من استجلاب القناعات والتجارب الخاصة لتكون تدعيما لرأيه وموقفه على ألا يقدمها مسلمات وإلزامات. والاعتراف بمعارف الآخرين وتجنب إقصائهم من أدب الحوار ومسلماته.

ثمة قدر متفق عليه بين العقول وإن اختلفت انتماءاتها المكانية والزمانية، وانتماءاتها الفكرية أيضا، تشترك في تقريره وتصنيفه في قائمة الحقائق. استعمال المنطق وخطاب العقل بشأنها أمر طبيعي وضروري أحيانا. والاختلاف في المساحة المتبقية شيء طبيعي بين البشر، تفرضه عليهم طبائعهم وتمليه مكتسباتهم التي قد تخرجهم أحيانا عن مقتضى الفطرة السليمة ، التي فطر الله الناس عليها، في جوانب الإدراك والإحساس والسلوك.

كما أن تقدير الآخرين، والإنصات إليهم، وحسن الاستماع إلى المخالفين، من آليات الحوار الناجحة. اقرأ قوله تعالى: «إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد». إلقاء السمع تعبير بديع عن الإصغاء وحسن الاستماع، مع القلب الذي يعبر عن مناط التدبر بمجموع الإدراك والإحساس، والشهادة على ما يجري بما يتطلبه ذلك من ملكات الوعي. كل ذلك يوحي باتزان فكري وروحي وسلوكي، يشكل لدى ذاكرة المتلقي مشهدا حيا وصورة باقية تتردد عند الحيدة عن الحق.

«فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه»، أيضا يبسط في النفس معنى الإصغاء وترك التعجل الذي تميل إليه النفس، لأن التأني من لوازم الحكمة والعقل للوصول إلى خاتمة عاقلة.

وفي نحو قوله تعالى: «فلما حضروه قالوا أنصتوا» اختزال لهذا الحس الفكري الناضج في التعامل مع الأفكار.

ثمة أمر إجرائي مهم أيضا، وهو أن الجو العام إذا كان مشحونا بالضوضاء ليس جوا صحيا للتفكير، بل البيئة السليمة هي التي يقل فيها اللغط وتميل النفس إلى الصمت والسكينة.

لقد بين الله سبحانه وتعالى أن التفكر إنما يكون أكثر عقلانية عند الخلوة بالنفس أو بالحوار الثنائي، يقول عز وجل: «قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا». وبناء عليه، فالشغب الذي يثيره الأتباع لا يهيئ العقول لتقبل الآراء الأخرى أو لتفهمها.

هنا ينبغي أن نتحلى بهدوء النفس والسكينة وصدق المقصد بعيدا عن الأحاسيس الطائشة.

 

متى ينتهي الحوار ؟

عندما يختل نظام الحقائق في الحوار ينبغي أن يدرك المتحاوران أن ذلك شروع في الحوار العملي الذي تتكلم فيه السلطة بدلا من الحوار، بمعنى أن صراع القوة حل محل خطاب العقل.

هنا ينبغي أن يتوقف الحوار، لأن الحوار لا سلطة ولا قوة فيه إلا للعلم والعقل بما يضمن حسن سير الحوار، والقسوة ونحوها لا تكون ضمن آليات الحوار للوصول إلى نتيجة موحدة، بل هي انتقال إلى مرحلة أخرى من آليات الصراع حول الحق، ليس الحوار معنيا بها .

وإذا بدا أن الآليات غير سليمة أصلا، وفقدت الأسس الصحيحة من البداية، فيكون من باب أولى الانتباه إلى أن البيئة غير صحية، لأنها لم توفر أدوات النجاح، ما لم يتم تدارك الأخطاء في الوسائل قبل الحديث عن معالجة الأخطاء في الموضوع الأصلي الذي يدور حوله النقاش.

إذن، فالتعويل على عامل اللغة وحده، أو إنكار الحقائق بلغة العلم والعقل، والخروج عن مسلمات الفطرة وثوابت الدين، أو بدء إصدار الأحكام، أو اللجوء إلى الكذب وافتعال المواقف، أو اللجوء إلى التهديد والوعيد من منطلقات سلطة معينة، كل ذلك ليس من آليات الحوار، بل هي تصعيد للخلاف.

قد يعكس كل ذلك ضعف الحجة والبرهان، وقد يعني بعضها - باستثناء افتعال الأباطيل وإنكار الحقائق - أحيانا مدى القوة في التمسك بالرأي، كما قد يدل بوجه من الوجوه على السخط من موقف المخالف الرافض لقبول جميع النتائج التي تمت البرهنة على صحتها.

عند انتقال الحوار إلى مثل هذه المصادمات، من إنكار البراهين والالتفاف على صدق الحقائق، والتذرع بسلاح اللغة فقط، ينبغي أن يتم الالتفات سريعا إلى أن مقاتلات أخرى بدأت تدخل في الأجواء.

في كتاب الله سبحانه وتعالى الكثير من نماذج الحوار مع الأقوام المكذبين والجاحدين، وفي الكثير منها بيان أن أمثال هؤلاء قلما يسلمون بالرسالات مع الآيات الباهرة التي تؤيد الرسل ،من كلام المولى سبحانه: «ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك»، وقوله جل وعلا: «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم».

إن الكفر ليس دائما عشوائيا، بل هناك الكفر الممنهج المبني على هرطقات وفسلفات من وحي الخيال أو من وسوسة الشيطان، يقول الله تعالى: «وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم».

الإعراض عن مثل هؤلاء المنكرين للحقائق قد يكون في موقف ما خير من مواصلة الحديث.

استمع إلى قوله تعالى: «وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفربها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره».

ماذا بعد الحوار؟

مجال الحوار هو بيان الحقائق والدعوة إليها والذين يتكلمون عن نسبية الحقائق إنما يتكلمون عن نسبية الأدلة والبراهين عليها والغاية المنشودة من الحوار هي إقناع الآخرين، أو ما نسميه بالوصول إلى الحق.

وتتفاوت قدرات الناس ومواهبهم ووسائلهم في الإقناع، وصحة الحقائق لا تعود إلى مدى القدرة على إثباتها، كما ورد في الحديث النبوي الشريف: «ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض». ولذلك فالإقناع ليس من لوازم الحوار كما يبدو لي، فقد لا يتم الوصول إلى وفاق عقلي تام أو حتى جزئي.

ومعنى ذلك أن السير السليم للحوار هو أهم إنجاز يحققه المتحاورون، دون شرط الوصول إلى التسليم بقناعات الآخر. ففي كتاب الله سبحانه وتعالى: «إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء» وحساب الجميع على خالقهم سبحانه وتعالى.

وليس شأن المحاور أن يرغم الآخر على تبني أفكاره وآرائه ما التزم الصدق وتحلى بروح الحوار.

والنتيجة التي أريد تقريرها هي أنه ليس من مسؤولية الحوار أن يصل - بالضرورة - بالمتحاورين إلى اتفاق على النتائج، بل هو ترسيخ لأدوات الحوار ورسم خطة التفكير للإنسان في حياته.

ومع كل ذلك، يقول الله جل ذكره: «فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه»، فاتباع الحق منهج للسلوك الإنساني السوي، وصاحبه موفق ناجح يستحق البشرى من الله سبحانه وتعالى.

وهنا لا بد من الالتفات إلى الموضوعية التي يدعيها الكثيرون، فإذا حان وقتها كانوا عنها بعداء.

إن تحري الحق والصدق في تقبله ينبغي أن يكون مدعما بالنزاهة والإنصاف وخلو القلب من الهوى والعصبية والغضب للنفس، مسبوقا بحسن القصد وابتغاء مرضاة الله، بعيدا عن حظوظ النفس.

كيف يمكن الوثوق بنتيجة الحوار مع من لا دين له ولا مبدأ ولا ضمير؟!

إن دين المرء وضميره الحي والأخلاق الفاضلة أسس لتعامل الإنسان مع ربه ومع نفسه ومع الناس.

وكل حوار طاشت فيه العقول، وغابت عنه القيم والمثل العليا، ضياع للجهد والوقت وتلف للأعصاب، وتعميق للأحقاد ومبدأ الانتصار للنفس!.

إن العقل شريف والوقت ثمين والصحة غالشية، ونقاء القلوب من مواهب الصالحين وصفات أهل الجنان

 

--------------------------------------------------

جريدة عمان: الجمعة, 10 مايو 2013