سلبية التلفزيون على الأطفال- قضية تستحق العناء والاستنفار

إن الثورة الصناعية أفرزت لنا جهازا يسحر الألباب الصغيرة ويأخذ بمجامع القلوب فهو يأسرهم بالصورة المتحركة والألوان الجذابة والأصوات الرنانة، إنه التلفاز الذي ينقل لنا أحداث الأرض وثقافات الشعوب وعجائب الكون ويوضح لنا مهارة الرسامين، هذا الجهاز هو الذي أصبح رفيق الأطفال وصديق الكبار ومحدث الجميع بما فيهم العامي والمثقف الكبير والصغير ،أصبح يشكل قضية شائكة بالنسبة للأطفال، فهو يسحرهم بألوانه الزاهية وحركات رسوماته الرشيقة، ولكن على الجانب الآخر نجد أن هذا السحر يفعل فعله في بدن هذا الصغير من حيث أضراره على البدن والعقل.

 

إن قضية تأثير التلفاز على الأطفال قضية قد تصدى لها المربون وكتب عنها المصلحون وانبرى لبيان أضرارها الأطباء والمختصون في شأن الأطفال، وهي في الحقيقة قضية تستحق هذا العناء وتحتاج لهذا الاستنفار، وأن بذل الجهد واستفراغ الوسع هو ما يمليه علينا الواجب من أجل توفير مستقبل مشرق لأبنائنا خال من المضار الصحية والشوائب الفكرية والأمراض النفسية وبعيد عن أسباب الدنايا والآفات الاجتماعية وغير مؤثر على آمالهم وتطلعاتهم لغد أفضل، وهذا لا يتأتى ونحن غافلون عما يقدم لأطفالنا في صورة أنيقة جذابة راقية سلسة، وهي في الحقيقة تحتوي على تدمير خفي وضرر كبير لهؤلاء الأطفال.

 

إننا ونحن اليوم على مشارف نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تقع علينا مسؤولية عظيمة ومهمة جسيمة في بناء جيل قادر على تحمل المسؤولية الكبيرة والتي تتمثل في إيقاظ هذه الأمة من سباتها ودفعها إلى الأمام لتتبوأ مكانة رفيعة بين دول وشعوب العالم.

 

إن تربية التلفاز للطفل تجعل منه طفلا يعيش أحلام يقظة مزعجة وهواجس شريرة ومخاوف قاتلة، إن هذا الجهاز هو سلاح ذو حدين، إن قدم فيه كل ما هو نافع أضحى خدمة للبشرية جمعاء، وإن قدم فيه كل ما هو ضار أصبح وبالا على الجميع، ولكن مع قدوم البث المباشر وإطلالته على قلوب أبنائنا أصبح سلاحا ذو حد مسموم يوجه طعناته إلى عقول أبنائنا صباح مساء ونحن نقف في طابور المتفرجين الذين أعيتهم الحيلة وانقطعت بهم السبل عن إنقاذ هذا المسكين الذي لا يملك من أمره شيئا سوى المشاهدة التي تنقله إلى عالم المخاوف والوساوس وتجعله يعيش حيرة قاتلة وهواجس شريرة مدمرة فيسقط تحت الضربات المتلاحقة يترنح ، وهذا يظهر في ذهن شارد وعيون زائغة وبصيرة عن الحق مطموسة وعقل عن التحصيل العلمي والاطلاع معرض، فإلى كل المخلصين الذين يؤرقهم ضياع أجيال بأكملها وإلى كل الآباء اللذين يحرصون على رفعة أبنائهم ،أقدم هذا العمل المتواضع الذي جعلته في أربع محاور تدور حول: الآثار السلبية الصحية والتربوية الأخلاقية وحول أثر الرسوم المتحركة وأثر الإعلان على نفوس أبنائنا.

 

وما من شك أن التلفاز كجهاز عندما يستخدم الاستخدام الصحيح ليس عليه غبار، بل هو وسيلة تعليمية ناجحة وهو أيضا مصدر ثراء ثقافي واسع إذا كانت برامجه هادفة ومواضيع بثه نافعة، أما المحذور هنا هو ذلك الغثاء المستشري الذي لا يراعى فيه إلا ولا ذمة في شعوب تريد أن ترى في أبنائها سواعد بناء تنهض بها إلى المراتب العليا ولا يقيم وزنا لعادات أو تقاليد أو دين وخلق،بل إن هناك من يستغل تغلغل هذا الجهاز في أعماق البيوت لينشر سموم أفكاره وعفن أخطاره لأنه يعلم أن جهازا بهذه المواصفات من عرض الصوت والصورة بالألوان الطبيعية والأبعاد الثلاثية في تحريك الصورة بكل خفة ورشاقة كاف لترسيخ أفكاره في عقول الناشئة.

 

وإنني لأعجب كل العجب عندما أرى الغرب يصف العالم الإسلامي بالتطرف والإرهاب وهم من خلال سيطرتهم المطلقة على الوسائل الإعلامية وخصوصا التلفاز يعرضون العنف في أشد صوره والإجرام في أوضح تقاسيمه، تعرض تقاسيمه صباح مساء على عقول غضة طرية لتتشرب بالحقد وحب الإنتقام ، فالمصارعة بشتى أنواعها استهجان لقيمة الإنسان وهي أساس العنف وأفلام الجريمة التي يرى فيها الطفل ذلك المجرم الخطير في صورة بطل إستطاع الإفلات من العدالة وتخطي جميع حواجز الأمن والسلامة ويرى في ذلك البطل المزعوم الذي يدخن ويتعاطى المخدرات ويحتسي من الخمر رشفات أمام ناظريه أسطورة يجب أن تمجد وقدوة يجب عليه أن يحتذي بها وهكذا يعصف بعقل هذا الصغير عصفا عن طريق المشاهد المروعة أو الأفلام الكرتونية الخيالية التي يرى فيها ما يشيب رأسه من مشاهد الحقد والعنف والكراهية والخيال الخرافي المهلك، فالطفل ليس لديه إدراك أن هذه الرسوم خطوط فنان حبكها من نسج خياله ، بل إن هذه الصور بما تحمله من معاني مدمرة تمثل لديه عين الحقيقة فيرى تلك الصورة تموت وتحيا في الدقيقة الواحدة مرات عديدة فيتصور أن الموت والحياة مجرد لعبة ومزاح.

 

ويرى المراهق في المسلسلات لباس المرأة أقل ما يقال عنه أنه مبتذل وفاضح فهو يرى لباس أمه في البيت أكثر سترا بمئات المرات وهنا تثور عنده ثورة الشهوة وما ذلك إلا لأنه رأى تلك المرأة في صورة شبه عارية، فأي أرض تقله وأي سماء تظله وهو يرى هذه اللحوم البشرية تشع نظرة وتفيض بهاء وتتجلى في أبهى صورها وأروع زينتها كأنها تخاطبه "هيت لك".

 

إن جلب الضر لبيوتنا لهي الطامة الكبرى وأن تجعل عدو أبنائك في وسط بيتك يخاطب إبنك بكل ما يضره ويحدث إبنتك بما يشعل عواطفها الجياشة وتصغي إليه زوجتك وهو يقول كلاما يفيض عهرا وفحشا لهو من الغبن الفاحش. إن كلامنا عن مضار التلفاز ليس مقصودا به التشهير ولا ترديد العبارات بل إن إستسلامنا لما ينضح به من مشاكل وما يحتويه من مضار تنعكس سلبا على وجوه أطفالنا وتنقلب حسرة في نهاية المطاف على ضياع فلذات أكبادنا لهو الدافع الأساسي أن نكون أكثر صراحة وأشد حرصا في توضيح أبعاد هذه المشكلة، وها أنا أضع بين أيديكم جهد المقل فعسى أن يستيقظ غافل أو يحيا به قلب أو يبتسم طفل أظلمت في وجهه الدنيا بسبب معاناته مع التلفاز، والله من وراء القصد.

-----------------------------------------------------------------

جريدة عمان: الجمعة 3 ذي الحجة 1433هـ /  19 أكتوبر 2012