جلست ابنة الشيخ أبي مسور النفوسي رحمها الله[1] ذات يوم إلى أبيها بعد أن فرغت من غسل ثيابهما ونشرها، ونظر الأب إلى الثياب النظيفة البيضاء، فقال: « تمنيت أن الله طهَّر قلبي مثل تنقية الثياب وصفائها »، فقالت: « تمنيت أن يكون تطهير قلبي بيدي فأطهِّره كهذه الثياب، ثم أرسله إلى مولاه » فقال أبوها الشيخ معجباً بابنته الذكية: « إنك أبلغ مني ولو في الأماني »[2] .

إخوتي:

   لو أن الآباء عُنوا بغرس بذور الإيمان في قلوب أبنائهم كما يعتنون بمأكلهم وملبسهم ونظافتهم لكان لهم شأن آخر غير الذي نراه، إذ غرس التربية الصالحة في سويداء قلوبهم منذ نعومة أظافرهم يجلو مرآة قلوبهم فتشع نورا، حتى تكون تربتها خصبة تهتز بالشجر الباسق المُمْرع بروائع ثمار التقوى والخشية والمراقبة، شأنها كشأن الدوحة العظيمة التي امتدت جذورها وبسقت أغصانها، فإذا سقيت بماء الطهر والنقاء تفتقت بأزهار الإيمان وورود الهداية .

   والوالدان الواعيان هما من يبذر بذور الخير في نفوسهم قبل أن يتولاها من يبذر فيها بذور الشر، فتتلطخ بدنس المعصية، فتضل سواء السبيل، ذلك أن للمعصية ظلمة تحجب أشعة الحق ونور الهدى عن بصيرة الفؤاد، مصداقه ما في حديث المصطفى r « ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب »[3] .

   وفي هذا الموقف الذي نحن بصدد نشر شذاه، والاستضاءة بنوره ما يكشف سراً من أسرار تربية الأبناء، وكم فيها من أسرار!

   إنه أبو مسور- رحمه الله- العالم الصالح الزاهد، وابنته الطاهرة الزكية التقية، التي رباها فأحسن تربيتها، وهذبها فأحسن تهذيبها، وعلمها ما ينفعها في معاشها ومعادها، ومع أن التأريخ يتجاهل اسمها لكنه وقف موقف الإكبار عند فعالها وخصالها وتربيتها الصالحة، وما فائدة الأسماء مع سوء الفعال؟! وما يضر الأعمالَ الصالحة عدمُ معرفة أسماء أصحابها؟! إن الأعمال تبقى ويفنى أربابها، ولعل هذا هو عين ما ردت به على أبيها عندما قال: « المسلمون أفضل من أقوالهم »، أما هي فقالت : « أقوالهم أفضل؛ لأن المسلمين يفنون وتبقى أقوالهم »[4] .

***

   لقد جلست ذات يوم إلى أبيها أبي مسور، بعد أن فرغت من غسل ثيابها ونشرها، ونظر الأب إلى الثياب فقال: « تمنيت أن الله طهَّر قلبي مثل تنقية الثياب وصفائها »، سبحان الله؛ ما أكثر ما تتكرر أمامنا هذه المشاهد مراراً في حياتنا! ومع ذلك لا تعني لأكثرنا شيئاً، لكنَّ لها مع أولياء الله مواقفَ وعبراً جليلة؛ لصفاء نفوسهم، وطهارة قلوبهم، وثاقب بصيرتهم، وتفكرهم في آلاء الله وآياته المبثوثة .

   إنها ثياب بيض اتسخت فتكدر بياضها، فغسلتها فعادت إلى نقائها كما كانت، فهل يا ترى يكون حال القلوب كحال الثياب في اتساخها ونقائها؟

   إن القلوب- أيها الإخوة- بحاجة إلى تنقية وتعاهد بتطهيرها أكثر من الثياب؛ لأن الثياب محل نظر الخلق، والقلب محل نظر الحق سبحانه، وشتان بين النظرتين، وفي الحديث عن هادي الأمة عليه الصلاة والسلام « إن الله تعالى لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم »[5]، أفلا يستحي العبد أن يُجمِّل مظهره ويُقذِّر مخبره؟!

   لو كان بثوبه أدنى قذر- ربما لا يبصره إلا المتأمل- لاستحى أن يلقى الخلق فيه، مع أنه لا يلقاهم إلا في بعض أوقاته، فكيف يهمل قلبه حتى يتشبع بمستقذرات الآثام والعصيان، ولا يستحي من الله- جل جلاله- أن يقابله به بقذره وسواده صباح مساء؟!

   لذلك تمنى أبو مسور- رحمه الله- هذه الأمنية الغالية « تمنيت أن الله طهَّر قلبي مثل تنقية الثياب وصفائها »، فالقلب النقي هو الذي تتفجر من جنباته ينابيع الحكمة، وتشع منه إشراقات العرفان واليقين، فيرى من عجائب آيات الله في خلقه ما يجعله خير خليفة له في أرضه كما أراده أن يكون .

   وإن تعجب فعَجَبٌ ما يتجمَّل به الإنسان من أطيب العطور الزكية ليقطع عنه الروائح المنتة، ونسي أن لأدران قلبه وما اتسخ به من الآثام أنتن الروائح وأخبثها، ولكن رحمة الله بنا أن ستر عنا تلك الروائح، ولو فاحت لما جالس أحدٌ أحداً إلا ما ندر، وقد أحسن من قال:

خانك الطرف الطموح   أيها القلـب الجمـوح

لدواعي الخير والشر     دنـــوٌّ ونــزوح

هل   لمطلوب بذنب     توبـة منه نصـوح

كيف إصلاح قلوب     إنما  هـن قـروح

أحسن   الله     بنـا     إن الخطايا لا تفـوح

فإذا   المستور منا     بين ثوبيـه فضـوح

***

   على أن نقاء الباطن والظاهر مطلب لا ينفصل، فالتزكية في ديننا الحنيف تتناول الإنسان مخبراً ومظهرا، ولكن لغفلة بعضنا عن باطنه مع تزيين ظاهره لزم التنبيه لرعاية المخبر أكثر من رعاية المظهر .

   ولقد شد انتباه أبي مسور- رحمه الله- نصاعة بياض الثياب بعد غسلها، فتمنى أن يكون قلبه كذلك في نصاعة بياضه وطهره .

   ولكن البنت الأريبة الطاهرة التي هي تربية أبيها وغراس يديه، تبزُّ أباها في أمانيه، وتأتي بما يفوق المنى ويقصر عن منية المتمني، لقد قالت: « تمنيت أن يكون تطهير قلبي بيدي فأطهِّره كهذه الثياب، ثم أرسله إلى مولاه »، فهي لم تكتفِ بأمنية أبيها؛ بل كانت منيتها أن تتولى تطهير قلبها بيديها، حتى تتعاهده غسلاً وتنقية وتطهيراً، وتزكيه بحميد الخصال ومحاسن الأخلاق، وتملأه بمحبة الله وطاعته، وتشغله بذكره وحمده، وتفرغه من محبة غيره والاشتغال بمن سواه .

   فإذا شع نوره وتفجرت ينابيع يقينه بخالقه، بعثته إليه- جل وعلا- نظيفاً نقيا، زكياً بهياً، إنه القلب السليم الذي تطهر من أدران العصيان، فتسلمه الله متقبلا، وشغله المولى بالمحبة والخشية والهداية، وجَّهه للخير، وصرف عنه نزغات الهوى ومضلات الفتن:

لكل شيء إذا فارقته عوضٌ *** وليس لله إن فارقت من عوضِ

   إن الخطيئة إذا دخلت القلب أظلمته، فإن أتبعها العبد بالتوبة والإنابة، وغسلها بدموع الأوبة والإخبات والخشية أشرق قلبه وعاد سليما ناصعا، يشع فيه النور، وإن أهمله ولم يداوم غسله وتطهيره عادت خطيئته حتى تعلو قلبه فيظلم، فلا تزال تعلو وتعلو حتى يُختم عليه، فلا يرى نور الهدى بعد، ولا تؤثر فيه المواعظ، ولا تنفعه المراشد، ولا يرتدع بالزواجر، فيتعامى عن الهدى وهو بين ناظريه، جاء في الحديث عن الطاهر الزكي r « إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صُقل قلبه، وإن عاد زيد فيها، حتى تعلو على قلبه، وهو الران الذي ذكر الله تعالى) كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ( »[6] .    

   لذلك عظم الله- عزوجل- شأن تزكية الأنفس، وأقسم عليه بأوكد القسم ) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا( (الشمس: 6-10).

   كما حكم عليها بالفلاح إن تزكت في قوله ) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى((الأعلى: 14)، ووعدها بالجنة إن ألجمها صاحبها بلجام التقوى، وزمها بزمام الهدى ) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى((النازعات: 40، 41) .

   فياللهِ، ما أعظمها من كلمات « تمنيت أن يكون تطهير قلبي بيدي فأطهِّره كهذه الثياب، ثم أرسله إلى مولاه »، ما أحوجنا إلى العمل بمقتضاها في زمن امتلأت فيه القلوب بضروب من أمراض شتى: كالكبر، والغل، والحسد، والتعالي، والرياء، والعُجب، والبغضاء، والشحناء، إذن فلتكن تلك الكلمات النورانية شعار كل مسلم ومسلمة في الحياة .

 

[1]- هي ابنة أبي مسور يصلتين النفوسي الأدوناطي، كان شيخا عظيم القدر عالما عاملا ورعا حليما، ومن المخلصين، وعمر حتى بلغ الغاية في السن والهرم .

[2]- كتاب السير، ج1/ 196 ، 197

[3]- رواه البخاري برقم 52، ومسلم برقم 1599

[4]- كتاب السير، ج1/ 197

[5]- رواه مسلم برقم 33

[6]- رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد وغيرهم