المرأة من كتاب آلهة من الحلوى

(مقال المرأة) هو الفصل الثاني من كتاب (الأقانيم الثلاثة أو آلهة من الحلوى) للمفكر الإسلامي علي يحيى معمر الليبي توفي سنة 1980م.

 

وقد جاء فيه عن قضية المرأة، صوّر المعركة المفتعلة بينها وبين الرجل وكيف أنها جملة مغالطات وصل منها أصحابها إلى تقييدها أكثر من تحريرها، مع تناوله لمشكلة المرأة كما يراه من وجهة نظره، وتبسيطه لقضية استعمار الرجل للمرأة والعكس كذلك مزيلا الكثير من الغموض، وصولا إلى المساواة والتساوي وما يعنيه كل هذا بين الواقع وما كان ينبغي أن يكون، ثم مسألة التفوق بين الرجل والمرأة وهذا الجدال الفارغ من هنا وهناك، خاتما بالبسط في فكرة الخداع بين الرجل والمرأة، وجملة الخداع الذي وقعا فيها معا نتيجة الانسياق وراء مفاهيم براقة مظهرا فارغة جوهرا تلقيناها من غير المجتمعات الإسلامية، وانسقنا وراءها تمام الانسياق.

عرض الشيخ الموضوع من خلال المحاور الآتية:

  • الـمـرأة.
  • المعركة المغتعلة.
  • الحـُـرية المهـْدُورة.
  • الاستعمار بين الرجل والمرأة.
  • التَفَوّق بَينَ الرَجُل والمَرأة.
  • الخـدَاع بَينَ الرّجـُل وَالمَـرأة.

 

الـمـرأة:

 

لعلَّ المرأة لم تشغل من فكر الإنسان ، وتأخذ من وقته وتستحوذ على اهتمامه – في أي فترة من فترات التاريخ – كما شغلت واستحوذت وأخذت ذلك منه اليوم ، رغم أن المرأة في حياة الإنسانية الكاملة كانت هي مثار الإهتمام وموضوع المنافسة والحديث .

 

المعركة المغتعلة:

لا شكَّ أنَّ الله عندما خلق الإنسان ، أنعم عليه بالحرية ، في جملة النعم الكثيرة التي أغدقها عليه ، ولكن تلك الحرية التي أنعم الله بها على الإنسان – ذكراً كان أو أنثى – إنما كان مراعى فيها – بطبيعة الحال- حدوداً معينة لا يصح تجاوزها ، فليس من حق الإنسان أن يدَّعي باسم الحرية مطلقية التصرف ، ليس من حريته أن ينكر النعم التي أسبغت عليه ، ويتوجه بالشكر إلى من لم يقدمها له ، وليس من حريته أن يقدم طاعته لمن لا يستحق منه الطاعة ، وليس من حريته أن يعبث فيما يقتضيه نظام الحياة ، وناموس الكون ، وسبب العمران ، وليس من حريته أن يطيع الشيطان ، أو يعبد الأوثان ، أو يزهق الأرواح حتى روح نفسه فالحرية إذا محدود كثيرة .

 

وقد اقتضت طبيعة الحياة أن تكون حرية الرجل محدودة بحدود ، وأن تكون حرية المرأة أيضاً محدودة ، تتفق هذه الحدود أحياناً وتفترق أحياناً أخرى لتكون لكل منهما حدوده الخاصة .

 

وأراد الرجل أن يجتاز حدود حريته فيستمتع دون قيود أو حدود أو ضمانات أو بذل للأموال ، فعارضته حرية الآخرين ، لقد أباحت الشرائع والأعراف والعادات في بعض الجهات أن يقوم الاستمتاع بين الرجل والمرأة لكنه قيد بحدود ، حدود عددية ، وحدود زمنية ، وحدود مادية ، فلم يتمكن الرجل من تحقيق تلك النزعة ، نزعة الإستمتاع بما هو خارج حدود ولا يصل إليه ، وعندما يجتاز الحدود ويحقق تلك الرغبة أو النزعة فإنه قد تطبق عليه العقوبة المقررة عقوبة الدين أو عقوبة المجتمع أو عقوبة القانون أو عقوبة صاحب الحد المنتهك والحق المأخوذ ، وكان شيطان الشهوة قد زرع في فكر الرجل الحيلة التي يصل بها إلى تحقيق ذلك المطلب فأعلن معركة حامية الوطيس ضد الأديان والأعراف والعادات المحتفظة ، ولكنه مع حربه الطويلة في هذا الصدد لم يحقق نجاحاً إلا في حالات قليلة انصبت عليه فيها عقوبات مقررة أو سوغ له استمتاع محدود بفقه منحرف أو مستغل أو مستغفل .

 

وخطر له في هذا العصر أن يستعين في حربة الطويلة هذه بالمرأة لا على أن يختلسا – كما كانا يفعلان من قبل – متعة محرَّمة ربما تكون عواقبها وخيمة عليها وعليه ، ولكن على أن تعلن معركة ضارية مدعية فيها حقاً ضاع عنها فهي تطالب بإرجاعه وذهب يسكب هذه النغمة في أذنها ، ويشحن بها نفسها ، فأحبتها أولا وأعرضت عنها ثم استمعت إليها ثم استساغتها ثم تبنتها وتجنَّدت للمعركة الحامية تطالب بالحق المهضوم يناصرها في ذلك رجل يزعم لها أنه يرثي لحرمانها من حق طبيعي لها في الحرية .

 

وطالبت أن تتحرر من رقابة الأسرة ثم من رقابة المجتمع ثم من رقابة الدَّين ثم من رقابة الخلق فأتيح لها ذلك وطالبت أن يكون لها حق التملك والإستغلال والسيطرة ، فأتيح لها ذلك ، وانتصرت حسب زعمه وزعمها في جميع المعارك ، ولكنها لم تحقق رغبة الغريزة في الإرتواء من المتعة ، لقد ارتوى هو ولم ترتو هي ، لقد كانت نتائج المعركة لمصلحته لا لمصلحتها ، وكان ما تعده انتصاراً لها إنما هو انتصار له لا شك في ذلك .

 

وتملكتها الحيرة في الاستفادة مما تعتبره انتصاراً لها فلم تعرف كيف تستفيد منه .

 

كانت المرأة مصونة لا تعبث بها الأيدي ولا العيون، يقدم لها الحب في حرارة العاطفة وصدقها ، وتمنع لها القلوب في إخلاص وتفان ، وتراق من أجلها الدماء على الأعتاب ، وهي في كل ذلك متمنعة متذللة متحكمة، سواء كان ذلك في المنهج المشروع أو حتى في المنهج الممنوع .

 

أما وقد خيَّل إليها أنها انتصرت في هذه المعركة التي افتعلها لها الرجل فأخرجها إلى حيث شبعت منها الأيدي والعيون حتى مجَّتها وأعرضت عنها ، فأصبحت هي التي تلهث وراءه مخالفة بذلك سنة الفطرة التي عبت بها الأنثى في المخلوقات جميعاً ، وصارت تقدم وسائل الإنتباه للرجل ولكنه وقد ارتوى من مشهدها وملمسها عزف عنها ، فكانت تلهث وراءه بكل الوسائل ، تنصب حوله الشباك لتوقعه بعد أن تذل وتبذل من كل مقوماتها ، فطاردته باللحظة والحركة والكلمة واللمسة المقصودة ، ثم فتحت من خزانتها رصيداً ضخماً تشتري به مساحيق التجميل ، فلم يؤثر كل ذلك عليه ، فكشفت له عن جسمها وهي تحتك به في العمل والشارع فلم يثر ذلك اهتمامه ولم يغنها شيئا .

 

وحار شيطان الغواية عندما فلم يعد يعرف ما هو السبيل ، لعب بشعرها فشكله على مئات الأشكال ، ولعب بوجهها حتى أخرجه من خلقته البشرية إلى صناعة الدمى ، وحتى أن الناظر لا يجد صلة بين وجه تحمله الأنثى وهي مارة في الشارع ووجه تحمله تلك الأنثى نفسها وهي قارة في البيت ، بل لعلها تتخذ لكل حفل ولكل وقت وجهاً غير الوجوه السابقة .

 

ولعب بجسمها فخنق منه مناطق حتى كادت تتقطع، وأبرز منه مناطق حتى صارت كأنها ثآليل ضخمة، أو نتوءات تتولد عنها أجسام أخرى غريبة .

 

واستمرت به الحيرة فكشف من جسمها أكثر أجزائه حتى لم يبق منه مستوراً إلا الجز اليسير ، وعاد فستر منه كل شيء ولكن كل ذلك لم يغن فأصبحت المرأة تلهو باللباس ، تكشف وتستر ، وتستر وتكشف ، وتطيل وتقصر ، وتقصر وتطيل ، وهي في كل ذلك تستجدي النظرة والبسمة والكلمة واللمسة ، ولكن الرجل يمر بجانبها في برود ، لأنه قد شبع وارتوى وأصبح ينظر إليها وهي كاسية كما ينظر إلى دمية علقت عليها ثياب للعرض ، وينظر إليها وهي شبه عارية كما ينظر إلى أفخاذ البقر المسلوخة وهي معلََّّّّّّّّّّّّّّقة في دكاكين القصابين ، لا تبعث في النفس إلا الأسف أو الإشمئزاز ..

 

وجدت المرأة أن ما اعتقدته انتصاراً لها لك يحقق لها الحلم الورديّ ، ولم يشبع منها إحساسها الفطري ، فتمادت تبتكر جوانب أخرى للمعركة تشغل بها نفسها ، فطالبت بكراسي الحكم ، وطالبت بآلات العمل ، وطالبت بقلب الوضع العائلي ، وطالبت أن تقوم هي بأعمال الرجل وأن يقوم الرجل بأعمالها ، ونالت كل تلك الطلبات ، ولكنها مع ذلك بقيت في حيرتها متذبذبة متأرجحة متألمة ، والرجل ينظر إليها ساخراً مستهزئا .

 

حاربته بالأنوثة المتقلبة فلم تفلح ، وحاربته بالأنوثة العارية فلم تفلح ، فاعتقدت أنها سوف تفلح إذا حاربته بخصائص الرجولة فلبست لباسه وتولَّت عمله وجلست في مكانه ، ولكن هذا أيضاً لم يؤدَّ إلى نتيجة ، لقد انتصر الرجل على المرأة حقاً وانتقم منها انتقاماً رائعاً وأخذ بثأره الذي ضاع منه آلاف السنين .

 

لقد كان باب الخباء أو باب البيت عند المرأة بمثابة ساحة القتال تُراق فيه الدماء من أجلها دون حساب ، وإن همسة خافتة أو إشارة خفيفة تكفي لسلّ السيوف وتقطيع الرقاب ، أما الكلمة أو الصرخة منها فقد كانت تشغل نيران حروب وتقضي وبين يديها وهي تنظر معجبة بنفسها .

 

وكم من أبطال أعزاء يذلون أمامها ويتوسلون إليها، بل إن منهم من يضفي عليها لقب المعبودة وينظر إليها كما ينظر إلى إله ، فإذا جادت عليه ببسمة أو كلمة، رقص من السعادة وغنَّى من الفرح .

 

لقد انقلبت القضية الآن وأصبحت تلك المرأة العزيزة المحبوبة التي يتقاتل الرجال من أجلها تجري في الشارع عارية الرأس مكشوفة الصدر والسوق ملطَّخة الوجه ، كأنما وقعت في بركة من الوحل تلتمس كلمة إطراء فلا تسمعها ، وتستجدي نظرة إعجاب فلا تلمحها، أما حرارة الغزل التي كان يسكنها القلب المحب المحروم في آذان الحبيبة المصونة فقد أطفأتها لهفة المرأة المتحررة في الحصول على أي رجل يضعه القدر بين يديها.

 

لقد كان الرجل يقول الغزل وينظم الشعر وينظم ويركع بين يدي المرأة ليحظى بالحب ، وبعد هذه المعركة التي انتصر فيها الرجل على المرأة انتصاره الحاسم ، وانتقم منها انتقامه القاسي أصبحت المرأة تستجدي الرجل بلغة الغريزة ، لغة الغريزة الوقحة التي لا تخشى ، وافتح ما شئت من الإذاعات المرئية والمسموعة واستمع إليها تغني وانظر إليها تتحرك ، إنك لن تسمع من أغانيها إلا صرخات الغريزة المبحوحة في أحط حالات الهيجان ولن ترى من حركاتها إلا أحط الحركات الخليعة عند شدة الطلب وخشية الحرمان ، ولا شك أن هذا اللون إنما يقدم بعد الرقابة والتهذيب ، أما ما يقع وراء ذلك فالمرأة المنتصرة أدرى به وأعرف .

 

ألا ترى معي أيها القارئ الكريم أن الرجل الذي طالب بحقوق المرأة ليوصلها إلى هذا المستوى قد مثل معها في إتقان دور الأعرابي مع إلهه من الحلوى .

 

الحـُـرية المهـْدُورة:

من الأشياء التي أصبحت ضرورية لكل من أراد أن يتكلم أو يكتب : كلمة (( حرية المرأة )) فهي بالنسبة لهم كوسائل الإيضاح في المدارس لا يمكن أن يتعلم الانسان بدونها ، وأينما اتجهت قابلتك هذه الكلمة كما تقابلك نصائح شرطة المرور في اللافتات على جوانب الطرق .

 

تقابلك في كل جريدة وجلة حتى المدرسية منها وفي مختلف مراحلها ومن البنين والبنات ، وفي الندوات ، وفي المؤتمرات ، وفي كل مكان .

 

بل إنها لو أمكن أن تقدم في طبق مع ألوان الطعام أو الشراب لقدمت .

 

ولا شك أن الحرية التي يتحدث عنها كل فريق من هؤلاء ليس لها مفهوم واحد ولا معنى واحد ولا مظهر واحد ، وإنما تختلف مفاهيمها ومعانيها ومظاهرها من شخص إلى شخص ومن مستوى إلى مستوى ، ولعل أحر الناس دعوة لها وتشبثاً بها وحماسة لتحقيقها إنما هم المراهقون فكرياً أو عمرياً ، وعندما يتحدث الفتى أو الفتاة من المرحلة الأعدادية أو الثانوية عن حرية المرأة فإنما يقصدان صورة معينة محدودة هي أن لا يحرمها المجتمع من لقاء في الخلوات والمنتزهات يتبادلان أحاديث الإعجاب والحب والشغف والقلب المطعون بسهام العيون.

 

وما مع ذلك ، فلو سمح للفتاة بذلك لكانت في نظر نفسها ونظر صاحبها حرة قد نالت حقوقها ، وربما أضافت إلى ذلك أن لا ينتقدها أحد وهي تقلد نجوم السينما والتمثيل التي تشاهدها في السينما والإذاعة المرئية في لباسها وحركاتها وتزينها ، بل وفي لهجة حديثها وفي استعمال مساحيق الزينة إذا كانت أمها تستعملها أما إذا لم تكن أمها كذلك فتعتبرها رجعية وتحاول هي أن تحصل على ما لم تجده عند أمها لتقنع الزملاء ، والزميلات وتقنع نفسها أنها فتاة حرة متقدمة تتصرف كما يحلو لها .

 

وعندما نجتاز هذا المعنى البسيط للحرية عند المراهقين والمراهقات ونحاول أن نجد له مدلولاً – في واقع الحياة – حرمت منه المرأة عند من يتخذون لأنفسهم سمعت المفكرين والفلاسفة أو على الأقل سمعت الأدباء والكتّاب ، فإنه يعسر علينا أن نجد مدلولاً للحرية حرمت منه المرأة بقسوة الرجل وتحكمه ، ولعل الدعوة القائمة اليوم إلى تحرير المرأة والتي لا تفتأ تنعق في كل زاوية ومكان هي في حقيقتها وجوهرها تحمل معنى الاستعباد والاسترقات أكثر من أي موقف آخر .

 

إن المرأة التي تختار بكامل حريتها أن تبقى في بيتها، وأن لا تخرج منه إلا لشأن من الشؤون الضرورية ، يعتبرونها غير متحررة وهم يعملون بجهد ومشقة لإخراجها مستعملين كل ما يجدون من وسائل ، فإذا استسلمت لهم وخرجت متسكعة في الشوارع مبحلقة في المتاجر قالوا عنها إنها تحررت وإلا فهي في منطقهم لا تزال مستعبدة ، هذه المرأة بقيت في بيتها مختارة وخرجت منه مكرهة فمتى كانت حرة ؟ ومتى كانت أمة ؟ أعندما كانت ملكاً لإرادتها وتفكيرها ، أم عندما كانت ملكاً لإرادتهم ودعايتهم وغوايتهم .

 

والمرأة التي تخرج إلى الشارع مرتدية عباءتها الضافية الفضفاضة ساترة كل جسمها بكامل حريتها وإرادتها يعتبرونها غير حرة ، ولا يزالون بها حتى تخلع عنها ثوبها الساتر وتستجيب لطلبات الموضة وأعين المتفرجين ، فمتى كانت هذه المرأة حرة ؟ عندما لبست ثوبها الساتر برغبتها وإرادتها وتفكيرها ، أم عندما نزعته عنها استجابة لرغبتهم وخوفاً من لذعاتهم وانسياقاً لإرادتهم .

 

ولعلّ مشكلة المرأة عندنا اليوم في ليبيا بين الحرية وعدم الحرية تبرز بروزاً واضحاً ، لقد اختارت المرأة المسلمة في ليبيا موقفها الكريم بحرية وإرادة ، ولكننا في الواقع لم نتركها لحريتها وإرادتها واختيارها وإنما جندنا كل ما نملك من القوى لتسييرها في المنهج الذي يراه شراذمة من مقلدة الغرب ونكاد نجلدها بالسياط لنضعها في طابور مع بنات لندن وباريس .

 

وليس من الغريب أو النادر أن تشاهد مدرسة فاضلة أو ربة بيت محترمة كانت إلى يوم قريب تسلك مسلكها الحي الكريم ، فإذا بها في مناسبة حفلة أو دعوة اجتماع قد غيرت مسلكها فجأة وطلعت عليك بطلعتها الجديدة التي ما كانت تجول في حسابك ولا حسابها ، وعندما تسألها عن سبب هذا التغير تحبك في حسرة : إنه ضغط المجتمع الصغير الذي تعيش فيه والذعات الفارغين والفارغات ممن يقدرون الثقافة والحضارة بالثوب والحلية .

 

هذه المدرَّسة الفاضلة التي قضت فترة صالحة من عمرها في مسلك رصين ارتضته لنفسها وتخرجت عليها أجيال من فضليات الفتيات كانت توصيهن بالحياء والحشمة والسترة ، ثم وجدت نفسها مضطرة إلى أن تخلع عنها ثوبها لتستطيع أن تواصل حياتها في مجتمعات قد انحرفت ، ولا أسهل عليها من نبذ الفضائل بالتحجر والجمود ووصف الرذائل بالتقدم والتحرر .

 

 

متى كانت هذه المدرَّسة مستعبدة ، حينما كانت تسير بوحي من فكرها وضميرها وإرادتها أم عندما خضعت لإرادة الآخرين خوفاً من أن يصفها الواصفون بالتأخر والجهل ؟ .

 

الألسنة والأقلام اليوم تسوق المرأة في سرعة وعنف إلى نمط من السلوك غريب عنها وعن إرادتها ، وهي حريصة أن لا تترك لها فرصة التريث والتفكير في هدوء قبل أن تصل بها إلى نتائجها ، وإنما تسوقها في غير وعي ولا إدراك بعد أن خدرتها بوسائل الدعاية والإعلام المختلفة .

 

والواقع أن المرأة لم تستعبد في يوم من الأيام ولم تهدر حريتها وتفقد كرامتها كما يقع ذلك في هذا العصر الذي جعلها تتصرف راضية فرحة حسب رغبة غيرها دون أن تملك حتى مجرد التفكير السليم في موقفها .

 

الاستعمار بين الرجل والمرأة:

إنني لم أسعد بسماع القيمة التي عقدتها المذيعة الناجحة عفاف زهران للأديب الصادق النيهوم ، وإنما نقل إليَّ الأصدقاء بعض ما دار فيها ومنها كلمة النيهوم التي رددها في اجتماع الاتحاد الاشتراكي العربي وهي قولة : إن المرأة في ليبيا لم يستعمرها الانجليز ولا الأمريكان وإنما استعمرها الرجل .

 

وكلمة الاستعمار من الكلمات المظلومة التي استعملت في غير معناها الاشتقاقي اللغوي ، وإنما جرى بها العرف في منطق السياسة فأصبحت تدل على كل شعب متسلط يبتز خيرات غيره ويتحكمَّ في مصيره .

 

ومعنى التسلُّط والتحكمُّ والابتزاز هو ما يقصده النيهوم في عبارته السابقة .

 

فهل كان الرجل حقاً مستعمراً للمرأة بهذا المعنى وهل لا يزال كذلك ؟

 

إذا قصرنا البحث على ليبيا فإن الحياة فيها يبدو على نمطين متباعدين :

 

النمط الأول : حياة المجتمع الريفي حيث يغلب عليه الفقر وشظف العيش ، والعلاقة هناك بين الرجل والمرأة ليس فيها استعمار ولا تحكم ، وإنما فيها تعاون وبذل لجهود متواصلة يشترك فيها الرجل والمرأة ، وعمل واضح لكليهما على مسرح الحياة يقدم فيها كلاهما نتائج كفاحه لصالح الاسرة .

 

أما النمط الثاني : فهو صورة المجتمع في الحواضر والمدن الكبيرة حيث الحياة الاقتصادية للأسرة لا تعتمد على الزراعة وإنما تعتمد إما على التجارة أو الوظائف أو ما شابه ذلك .

 

وفي هذه البيئة قد نجد صورة للاستعمار إذا أردنا أن نستعمل هذه الكلمة في العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة في الاسرة ، ولكن الاستعمار هنا يكون على العكس مما ذهب إليه النيهوم تماماً ، إن المرأة في الواقع هي المستعمرة المستغلة المتحكمة ، وليس الرجل الا موظفاً عندها ، عليه أن يكدح ويعمل ثم يأتي بثمرات كدحه ونتاج عمله إلى البيت حيث تتصرف المرأة وتستمتع بثمرات المجهود ، وبنظرة بسيطة إلى ميزانية الاسرة تتضح حقيقة الاستعمار ، وبقطع النظر عن الاحتياطي المدخر لهما جميعاً وعن مصاريف البيت المشتركة من غذاء وماء ونور فأين تذهب الميزانية ؟

 

أول البنود بنود الهدايا والصوائب في المناسبات ، ولا شك أن المرأة تأخذ منه ما لا يقل عن 90% .

 

أما البند الثاني فهو بند اللباس ، ولا شك أن ما تدفعه المرأة في شهر يكفي الرجل سنة .

 

أما البند الثالث وهو بند الزينة ، فلعل أهم ما يحتاجه الرجل منها شفرات وفرشاة للحلاقة والأسنان ، وقدر نسبة هذا إلى ما تستعمله المرأة وتستهلكه من مساحيق وعطور ومصاغ .

 

لست أدري هل الاستاذ النيهوم صاحب بيت أم لا يزال عميلاً للفنادق والمطاعم ، فإذا كان متزوجاً وخطر له أن يقوم بحملة تفتيشية احصائية تقديرية على نسبة الميزانية التي يملكها وتملكها ربة بيته يظهر له العجب ، وسوف يتضح له حقاً أنه كان مخدوعاً في نفسه وأنه كان مستعمراً لقوة لينة هنية هي زوجته المحترمة ، سوف يجد أنها تملك من الثياب ما يكفي لقرن ومن تلك الثياب ما استعمل مرة واحدة ولن يعاد استعماله ، وإن طلب المزيد لا يزال مستعمراً وأنه يظهر في السوق شيء جديد إلا كان لها منه نصيب ، ومع ذلك فلا يمضي موسم ولا تمر مناسبة حتى تمتص المستعمرة مقداراً من الميزانية تضيفها إلى رصيدها .

 

وعندما تكون الزوجة مثقفة وتحررة فهي توشك أن تستعمر حتى عقله وذوقه ، فعليه أن يعمل وعليه أن يسلمَّ إليها نتائج عمله لتمسك الحساب ، وعليه أن يستسلم لها حتى في حاجاته الخاصة ، فهي التي تختار له البذلة والحذاء ورباط العنق وتشتري له القميص والجورب ، والمنديل ليبدو في الشكل الذي يفضله ذوقها ، ولكنها لا ترضى له أبداً أن يقوم لها بنفس الدور فيختار لها أحذيتها وفساتينها وجواربها بنفس المنطق ، أي أن لباس الزوجة ينبغي أن يكون حسب ذوق الزوج ، انها لا تسلم بهذا ولا ترضى به أبداً ، إنها وحدها صاحبة الذوق الأفضل ولها وحدها أن تتصرف ، ومن حقها أن تتسكع بين المتاجر ودور الأزياء لتختار منها ما تريد ، وعندما تختار فإنها تصمم وتنفذ ولو انطبقت السماء على الأرض .

 

وحتى في البيوت المحافظة التي لا يسمح فيها للمرأة الصغيرة بالتسكع ومباشرة البيع والشراء في الأسواق فإنها تشترط على الرجل الفاضل أن يحمل إليها قطعاً صغيرة من أنواع مختلفة من القماش الموجود في السوق وهي التي تختار وتحدد الكمية والنوع ، وعلى السيد الفاضل أن يحضر لها ذلك وإلا وقعت المشاكل ، هذا بالإضافة إلى ما يأتيها عن طريق القرائب والعجائز المحترفات اللاتي يقدمن هذه الخدمات للبيوت المحافظة ، وينقلن إليها أخبار السوق بأسرع مما تنقله أحدث وسائل وكالات الأنباء من أخبار العالم .

 

الواقع أنه إذا سمحنا لأنفسنا أن نستعمل كلمة الاستعمار في المسلك الذي يجري بين الرجل والمرأة ، فإن القائم بدور المستعمر المتحكم المستفيد إنما هو المرأة لا الرجل على جميع الظروف ، بل إنها تستعمل نفس الأسلوب وتتحكم بنفس المنطق .

 

لو سألت أية دولة استعمارية عما تستفيد من استعمارها لبلدان الناس ؟ لأجابتك في براءة ظاهرة وهل جئتها لأستفيد ؟ إنما جئتها خدمة للإنسانية ، ونشراً للحضارة ، ورفعاً لشعبها المتأخر ، وقد خسرت من أجلها الكثير من المال والجهد ، هذا ما كانت تردده فرنسا وهي تمتص كل خيرات تونس والجزائر والمغرب ، وهذا ما كانت تردده ايطاليا وهي تمتص خيرات بلادنا ، وحتى العجوز البريطانية في فترة احتلالها لبلادنا وهي تمر بالبلد كما يمر الإعصار تجتاح كل شيء حتى أعمدة التليفون وخشب سقوف الثكنات العسكرية ، كانت لا تخجل أن تردد تلك النغمة فتزعم أنها لم تكسب من ليبيا وإنما كانت تنفق عليها من خزانتها الواسعة .

 

والمرأة في البيت تمثل هذا الدور ببراعة ، فهي تتلقى ما يحصل عليه الرجل بجهود مضنية توزعها حسب ميزانية أعدّتها تنفق منها في سخاء على بنود معينة وفي تقتير على بنود أُخرى ، ثم هي لا تفتأ تتحسر وتصبح لأنها لم تستفيد من هذا البيت إلا الحرمان والتعب دون قريناتها وزميلاتها .

 

وموقف المرأة العاملة التي تكسب أوضع في هذا الباب ، فرغم أنها تمثل الشريك صاحب النصف في المسؤولية على البيت وأنها تخلت عن التزاماتها لخادمة أو قريبة حتى تساعد على تحسين الحالة الإقتصادية للأسرة ، رغم ذلك فإن الدخل الذي يأتي من عملها إنما ينصرف إليها فقط لا يتسرب منه قليل ولا كثير إلى الأسرة ، وبعد أن تمتلئ الأرفف والخزائن بالمصاغ والملابس يقبع باسم صاحبته في مصرف أو يندس إلى مكان خفي في حقائب قريبة ، فإذا تجمع منه مبلغ محترم أمكن أن يشتري عقاراً باسمها فقط ، وهي مع كل ذلك تناوش دخل الزوج وتأخذ منه حقها ولو في صورة هدايا يقدمها إليها في المناسبات السعيدة في الموالد والأعياد .

 

 

هذه صورة مصغرة عن الجانب الإقتصادي ، أما في الجوانب الأخرى فالمرأة فيه على موقفين :

 

الموقف الأول التي يقال عنها متحررة واستعمارها للرجل واضح لا يحتاج إلى حديث فهي التي تأمر وتنهى في البيت ، وهي التي تحكم وتقرر ، وما موقف جنابه معها – على أحسن تقدير – إلا موقف الموظف الصغير أو التابع المؤدَّب ، وتأمل صورتهما يسيران في الشارع وهي تعرض فتنتها على الناس يحمل عنها طفلها أو الحاجيات التي اشترتها يسير حيثما تسير ويقف عندما تقف ، أليس موقفه معها موقف الخادم الأمين .

 

أما الموقف الثاني فهو للمرأة المحافظة وتمثل مع الرجل موقف المستشار أو الخبير الإستعماري المحنك مع الحاكم الساذج لشعب مغلوب يتمتع الحاكم ببريق اللقب والمظهر الخارجي ويخطط المستشار ويتصرف كما يشاء عن طريق الحاكم نفسه.

 

التَفَوّق بَينَ الرَجُل والمَرأة:

في تيار الحملة العنيفة التي تريد أن تعطي للمرأة مكان الرجل في ميدان الحياة والعمل كنت تسمع من حين إلى حين متحدثاً أو كاتباً ذكراً أو أُنثى يزعم أن المرأة أقوى من الرجل أو أذكي أو أشد تحملاً للمشاق أو أنها تتفرق عليه تفوقاً عاماً أو في ميدان من الميادين .

 

وحكاية التفوُّق هذه يمكن أن ينظر إليها من عدّة زوايا ، فتفوق المرأة على الرجل في المواضيع التي خصصتها لها الفطرة ، أمر طبيعي وواقعي ولا ينكره إلا مكابر ، وتفوُّق الرجل على المرأة في المواضيع التي هيأتها له الفطرة أمر طبيعي وواقعي أيضاً ولا ينكره إلا مكابر .

 

وتفوُّق المرأة على الرجل في أمور الرجولة أمر باطل لا بدّعيه إلا مكابر ، وتفوق الرجل على المرأة في أمور الأنوثة أمر باطل لا يدعيه إلا مكابر .

 

هذا مسير الفطرة ومسير الواقع ومسير الطبيعة بالنسبة إلى جنس الرجل وجنس المرأة ، أما قضية الأفراد الشواذ من الرجال والنساء فهي قضية واقعة أيضاً لا يمكن أن تتكرر ولا يصح أن تعتبر قاعدة تجري عليها نظم الحياة.

 

قد تتفوَّق امرأة على مجموعة من الرجال في شئون رجالية ، وقد يتفوق رجل على مجموعة من النساء في شئون نسوية ، ولكن هذا التفوق من الرجل والمرأة لا يزيد عن أن يكون شذوذاً عن قاعدة عامة .

 

إن الخالق عندما خلق الإنسان جعله من ذكر وأنثى وجعل لكل منه خصائصه التي يمتاز بها عن الآخر ، فتنازل أحدهما عن خصائصه ومحاولة التشبث بخصائص الآخر انحراف عن الفطرة وشذوذ عن القاعدة ، ومجلية للسخرية.

 

إن من الخصائص التي وهبتها الفطرة للرجل أن يكون قوياً في بدنه ، عارفاً بطريقة استعماله لتلك القوة والاستفادة منها في مجال الحياة ، معتزاً بقوته وخشونته لأن هذا من كمال وصف الرجولة ، ومن خصائصه في هذا أن يتفوق على غيره ، فإذا تخلىّ عن هذه الخاصية ، وأخذ بدلاً منها قسطاً من الليونة والفسولة حتى كان أحنّ من أم ، وألطف من ممرضة ، وأرق من مضيفة ، وأخنث من ساقية ، فهل يكون بهذا التفوق مصدر احترام ، أي هل يعتبر هذا التفوق منه عليهن باعثاً على الفخر والاعتزاز ، وهل يجيء أحد فيزعم أن فلاناً هذا كان عظيماً لأنه تفوق على المرأة في أخص صفاتها ؟ ما قيمة هذا التفوق لو وقع ؟

 

وإذا انعكست القضية فجاءت امرأة لها من خشونة البدن وقوة العضلات ، وثخانة الأصابع ، وغلاظة الصوت ، ما تخنق به الأسد وتصرع الفيل ، وتقيَّد عنترة ، وتسبق السليك ، وتمرغ كلاي في حلبة الملاكمة ، فهل يعتبر هذا التفوق البدني من مزاياها ويعد من فضائلها ؟ إننا قد نعجب في عمل هذه المرأة ونصفق له ولكنه كالإعجاب الذي ينبعث منها ونحن نصفق للثور في حلبة المصارعة ، إن نظرتنا إليها خرجت عن اعتبارها امرأة إلى اعتبارها وحشاً مدرباً في سرك متجول .

 

إن ذلك الرجل وهذه المرأة لا يزيدان عن أن يكونا شذوذاً يتحدث عنهما الناس للتسلية أو للسخرية أو للانحراف عن الفطرة .

 

والمقصود من هذا كله أن دعوى تفوق الرجل على المرأة أو المرأة على الرجل هكذا عموماً دعوى باطلة لا يمكن أن تصح ، ودعوى تساويهما هكذا على العموم دعوى باطلة لا تصح ، وإن الرجل ولا شك متفوق على المرأة عليه في مواضيع الأنوثة ، فإذا تفوق رجل على المرأة في شئون الأنوثة فهو رجل شاذ حرمته الطبيعة أكرم صفاته ومنحته صفات غيره ، وإذا أظهرت امرأة تفوقاً على الرجل في شئون الرجولة فهي امرأة شاذة حرمتها الطبيعة أكرم ما تتجمل به المرأة وتعتز به الأنثى وأعطتها صفات غيرها .

 

والواقع أنه في غمرة الدعوة إلى المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة ، والدعوى أحياناً بأن المرأة متفوقة على الرجل ، حاول عدد غير قليل من النساء وأغلبهن ممن وهبتهن الطبيعة قدراً من الذكاء وحرمتهن من نعمة الجمال فهن يحاولن أن يعوضن ما حرمنه من الجمال بما يحصلن عليه من مراكز القوة في ميادين الحياة ، فانطلقن يعملن أعمال الرجال محاولات أن يلفتن إليهن الأنظار ، ويحصلن على كلمة الإعجاب .

 

وقد نجح بعضهن في ذلك ، وعندما تستعرض قطاعات النشاط البشري ، وتمرُّ أمامك أشرطة طويلة بمن يوجهون دفة العلم أو الاختراع أو الأدب أو السياسة أو الحكم أو غير ذلك مما يجري في الحياة قد تصافح عينيك في فترات قليلة متباعدة متقطعة صورة امرأة تقتعد مكاناً مرموقاً تصرف فيه دفة الأمور كما ينبغي أو قريباً مما ينبغي ولكن تلك الصور القلائل ضائعة ولا شك في كثرة صور الرجال الذين يتحكمون في إدارة الأمور ويجيدون تصريفها .

 

الخـدَاع بَينَ الرّجـُل وَالمَـرأة:

لعل المرأة في جميع فترات تاريخها لم تخدع عن نفسها بالمقدار الذي تخدع به اليوم ، ذلك أن الرجل كان يخدعها في القديم عن نفسها – ليصل إلى مأرب ما – بإطراء الصفات الحقيقية التي تختص بها المرأة كالجمال والحب والحنان ، أما في هذا العصر فقد تظاهر الرجل بأنه يسلم للمرأة كل شيء – وذلك ليبلغ منها كل شيء – وراح يلقي في أُذنها الرقيقة بمختلف الأساليب أن المرأة أذكى وأقوى وأجمل وأصبر وأكثر تحملاً ومعاناة وإتقاناً من الرجل في جميع ميادين الحياة ثم ينطلق لاهثاً في بطون التاريخ حتى يجد اسم امرأة قامت بعمل ما فيأتي به إليها ليقدمه كدليل وبرهان ، جاندارك ، شجرة الدر ، بلقيس، خولة ، منهم من يتجرأ حتى يستشهد ببعض أمهات المؤمنين .

 

واتخدعت المرأة فعلاً أو أرادت أن تنخدع ، وخيَّل إليها أنه يجدر بها أن تقوم بجميع أعمال الرجل وأنها سوف تجيد ذلك أكثر من اجادته ، وانطلقت إلى الميدان وبدأت العمل ، ولكن التجربة كانت غير مشجعة ، انطلقت المرأة تحاول أن تشغل مكان الرجل دون أن يعترض طريقها معترض ، ولكنها وجدت أنها لا تستطيع أن تملأ فراغه بسبب انعدام بعض الخصائص الفطرية التي أودعها الخالق في كل منها ، ولم تعترف بالهزيمة أو بالاتخداع ، وإنما ظننت أن الرجل بلغ إلى تحقيق ما عجزت عنه ببعض القشور الظاهرية ، قشور اللباس ، وبعد أن كانت تترنح على حذاء يثبت على شبه مسمار من الكعب العالي غضبت على ذلك الكعب وجعلت بدلاً منه كعباً قصيراً عريضاً يشبه حافر البغل ، ورأت أن الرجل يحتفظ بسراويل طويلة فاعتقدت أن تلك السراويل تساعد على إنجاز الأعمال فقررت أن تلبسه ولكنها حارت كيف تلبسه ، ضيقته حتى صارت كأنما تحشر فيه بالدق ، ووسعته حتى صار كالجلباب ، وضيقته من أسفل ووسعته من أعلى وضيقته من أعلى ووسعته من أسفل ، ولا تزال في حيرة من الأمر ، فلا حافر البغل ولا السراويل المتقلبة استطاعت أن تمنحها المهارة المطلوبة ، ولم يجعلها تقليدها للرجل في المظاهر واللباس قادرة أن تمسك الأعمال المختلفة وأن تجلس في مكانه بنفس السهولة والاطمئنان الذي يمسكه بها الرجل .

 

ولا تزال المرأة في كل ميدان من ميادين الحياة ، رغم كثرة الدعاوى في التساوي والمساواة – ورغم حصولها على جميع الحريات في بعض الشعوب منذ أزمنة طويلة – لا تزال رغم كل ذلك مخدوعة تُستغلَّ جارية غير كريمة .

 

تستخدمها الدولة سكرتيرة أو طباعة أو موظفة تنجز الأعمال البسيطة ، ومهمتها الحقيقية أن تبعث المرح والانشراح في نفوس الموظفين فتلتقي حولها عيونهم ويلتزمون مكاتبهم وينجزون أعمالهم ، ولذلك فلا تختار لمثل هذه الأعمال إلا من تتمتع بصفات تكفل تحقيق هذه الأغراض .

 

وتستغلها الشركة لنفس الغاية ، ولهذا يجب أن تكون جميلة تحسن لقاء الزبائن وتوزيع البسمات واتقان الحركات ، وتسليم البريد إلى سيادة المدير .

 

وتعمل في المؤسسة أو المتجر أو أي مكان نفس العمل ، تستغل جارية غير كريمة بطريق غير مباشر ، إما لتشغيل الموظفين أو لجلب الزبائن ، فإذا كان جمالها لا يؤهلها لأن تقوم بمثل ذلك أو كانت أخلاقها لا تسمح لها فإنها لن تنال عملاً وإذا نالته فلن تبقى فيه إلا ريثما يعثر على غيرها .

 

والباحث عندما يبحث عن المرأة في مجالات العمل في الشعوب المتحررة والتي هي ظالعة وراءها سوف لا يجد المرأة وجوداً حقيقياً إلا في الأماكن التي هي من فطرتها وطبيعتها ، كالتدريس والتمريض ، أو في المواطن التي تستخدم فيها كجارية ، أما بقية الميادين فلا توجد فيها المرأة إلا بالعدد النزر اليسير الذي يدل على أن وصول المرأة إلى تلك الأماكن والاستقرار فيها ليس هو الطبيعة وإنما هو الشذوذ ، إنها المرأة التي تشذ عن القاعدة فتتفوق في ميدان ليس لها .

 

ولعلَّ قائماً لو قام بإحصاءات دقيقة في أي دولة متحررة متقدمة ألغيت فيها الفوارق بين الرجل والمرأة منذ زمان لا تضح له أن المرأة لم تستطع أن تثبت وجودها في كثير من الميادين لأن وجودها فيه ضد الفطرة ، كما يتضح له أن قضية التساوي خرافة لا يمكن أن تثبت مهما دعا إليها الرجل المراوغ وتمسكت بها المرأة المخدوعة ، وأن النتيجة من كل ذلك أن الرجل استطاع في هذا العصر أن يخدع المرأة خديعة كبرى ، فأخرجها عن نطاق حقيقتها إلى حيث يمكن له أن يستغلها دون عناء أو تعب، فأوهما بأنه ساواها به ومنح لها حريتها الكاملة ، والواقع أنه إنما أوصلها إلى دون أن يبذل من جانبه غير كلمات ، إنها قصة الإله من الحلوى تعاد هنا مرة أخرى ، تقدير وتقديس وعبادة ثم التهام.

*انتهى*