طباعة
المجموعة: تحرير المرأة
الزيارات: 3090

صورة ذات صلة

مِنْ ثَقَافَةِ المَرْأَةِ: الفتاة ومشاكل الحياة

بقلم المفكر الإسْلامي الكَبيْر

الشَّيْخ علي يحيى معمَّر رحمه الله

(ت 1400هـ/ 1980م)

كتاب "الفتاة ومشاكل الحياة" من الكتب الفكرية الرفيعة الذي لا تستغني

عنها أية فتاة بل أي مسلم ومسلمة مما خطه يراع المفكر الإسلامي الكبير:

علي يحيى معمر رحمه الله.

وقد عالج بثاقب فكره هذه القضية وفند الشبه التي تثار حولها، ووضع لها

البلسم الشافي، وتناول الموضوع من خلال المحاور الآتية:

-    هل المراة المسلمة مظلومة؟

-    هل المراة المسلمة محرومة من التعليم؟

-    الدراسة والزواج.

-    الزواج المبكر والوظائف.

-    الحجاب والسفور.

-    الاختيار في الزواج.

-    المراة والاشتغال في المرافق العامة.

   -     تعدد الزوجات. 

 

بسم الله الرحمن الرحيــم

 اللهم صلَّ على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد ، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت وباركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.

 

"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنْ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ".

                                             صدق الله العظيم

*****************************************************

إليْكُـمَا

 

بنتي َّ العزيزتين سعاد وسلمى....

هذه الأحاديث التي دارت بيني وبينكما – مما يهم الفتاة المسلمة – قد جمعتها وهاأنا أقدمها إليكما مكتوبة – حسب رغبتكما – ولقد ترددت كثيرا في طبعها على هذه الصورة، وإخراجها في كتاب، لأنها أحاديث خاصة من أب إلى ابنتيه، فيها كثير من التعابير التي يحترز منها الكاتب عندما يكتب للناس جميعا، ولكن رغبتكما في أن تصدر كما هي – دون احتراز ودون تغير – شجعني على أن أقدمها لزميلاتكما من الفتيات المسلمات. فمن وجدت فيه بعض الفائدة فيهن، ورأت فيها نصيحة أبوية لها فلها الشكر ولله الحمد على التوفيق، ومن لم تستفد منها شيئا أو وجدت فيه ما يجرح شعورها ويغاير تفكيرها واتجاهها، فلتتذكر أن هذه الأحاديث غير موجهة إليها شخصيا، وإنما هي أحاديث خاصة بين أب وابنتيه، مما يدور بين أفراد الأسرة في البيت عادة دون تكلف ولا مراعاة لمشاعر.

أما الذين كتبوا عن قضية المرأة من أبنائنا وبناتنا، وحاولوا أن يدفعوها بسرعة في طريق الحضارة الغربية المنحرفة، بما فيها من المزالق والأشواك، فإنني أعتذر لحسني النية من بعض التعابير الشديدة التي قد يراها بعض الناس جارحة، وأقرر لهم إنما هو الرأي الذي انتهت إليه في هذه القضية، مع كثير من الدراسة، مستهديا في دراستي المنهج الإسلامي في معالجة مشاكل الحياة، معتقدا أن المشكلة التي لم تعالج بالحلول الإسلامية فإنها لن تحل أبدا بغيره، وتنتهي إلى خير البشرية.

أما الذين كتبوا عن قضية المرأة بسوء نية وبتفضيل الآراء البشرية على ما نزلت به شريعة الله – بتبجح ووقاحة – فإنني أنبذ إليهم على سواء.

وبالله التوفيق وإليه المرجع والمصير

                                          علي يحيى معمَّر

**************

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على رسول الله

مقـــدمة

عني الكتاب في الشرق الإسلامي منذ نصف قرن تقريبا بالحديث عن المرأة، وجعلوا لها قضية، وخصصوها بمشكلة. وأعلنوا عن معارك حامية الوطيس ، جردوا فيها الألسنة والأقلام، وقد أمسك الكثير منهم بالفتاة المسلمة يجرونها إلى ميدان المعركة، راغبة أو كارهة، فاهمة أو مخدوعة، مؤمنة بالفكرة أو مندفعة بالحماس للجديد، وكما اشترك من قبل شواذ من النساء في المعارك الحامية، يضربون أعناق الرجال ويحطمن هاماتهم، فقد اندفع بعضهم اليوم إلى ميدان هذه المعركة، حاسرات الرؤوس ، بارزات النهود، مائلات الأرداف، كواشف عن سوق وأفخاذ، وهن يضربن ذات اليمين وذات الشمال بشجاعة دونها شجاعة الكاهنة، وتصميم دونه تصميم كليوباترا، وكل أسلحتهن في هذه المعركة إنما هي ألسنة حداد، وصراخ من ظلم مزعوم ودموع تسفحها بنت حواء عندما تشاء.

وقد انتهت المعركة في كثير من بلاد الشرق بانتصار أعداء المرأة ومن يحارب معهم منهن ، لأنهم يملكون قوى مادية تفوق ما تملكه المرأة وأنصارها، إن أعداء المرأة يملكون كل ما يملكه الشيطان من حيل ووسائل إغراء. إنهم يملكون أجهزة الإذاعة والتلفزة التي يشرف عليها ويوجهها ناس يهمهم بالدرجة الأولى أن يجدوا الإقبال على برامجهم وأن يسمعوا كلمة التقدير والإعجاب والثناء.

ويملكون الصحافة الفاجرة التي تعتمد على الصور الخليعة في ترويج أعدادها وإقبال الشباب المحروم اللهفان عليها.

ويملكون القصص الداعرة التي تبني حياتها المادية على إثارة الغرائز من القراء السذج واللعب بعواطفهم وأهوائهم وميولهم.

ويملكون السينما التي لا تعالج شيئا غير أن تبرز المرأة في أوضاع الإغراء المختلفة ليرى الشباب الجوانب المستورة منها عادة ولتتعلم الفتاة كل أنواع الوقاحة وقلة الحياء.

ويملكون المجهول الساحر الذي يصورونه للمرأة مشرقا كالنور، رفافا كالزهر، محبوبا كأحلام السعادة.

ويملكون جهود الغرب في تغيير القيم الأخلاقية في نظر الشرق، وتصوير الحفاظ والطهارة والعفة، بمظاهر الجمود والرجعية والتخلف.

ويملكون جميع الأسلحة التي تستعملها الديانات الباطلة بمذاهبها المختلفة والوثنيات بأنواعها المتعددة في محاربة الإسلام.

ويملكون مع ذلك كله ، قوة التدجيل باسم الحضارة والتقدم ، أو باسم الثورة والتحرر، أو باسم العلم والفلسفة، إلى غير ذلك من القوى التي تفوق في مفعولها ما تصنعه مخترعات اليوم في تسخير قوى المادة للتخريب.

 ولقد كان من أصعب أن يأخذ الإنسان قلما يكتب به كلاما يعرضه على الناس، وكانت للحديث أسس وقواعد وآداب، وكان الناس يستمعون للحجة ويسلمون للمنطق والبرهان، وكانوا في جميع الأحوال يقفون أمام الحق ويستمسكون به، ويزورون عن الباطل ويبتعدون عنه، ولكن هذه الأشياء كلها قد اندثرت اليوم. وأصبح كل من يستطيع أن يضع سوادا في بياض، يظن نفسه أوتي الفهم والعلم والأدب، وأنه يستطيع المناقشة والبحث، ويرتفع به الغرور فوق ذلك، فيسفه آراء من أذابوا سواد أعينهم في التحقيق ، ثم يرتفع به الغرور فوق ذلك فيرد أحكاما نزلت بها كتب مقدسة من السماء، ويبطل هديا جاءت به الرسل والأنبياء.... وماذا عليه في ذلك ما دام وجهه خاليا من الحياء ، وقلبه خاليا من العقيدة، وعقله لا يملك وسائل التفكير السليم. قفزة بسيطة يستطيع أن يصل بها إلى مرتبة المفكر، ودرجة المصلح الاجتماعي وشهرة الأديب ، وما عليه للوصول إلى ذلك إلا ان يجري قلمه بكلمة المرأة، ويلوك حديث المساواة والثورة والتحرر. ثم يلبس روب المحاماة ليدافع عن حقوقها الضائعة، فيأخذ المعول ليكسر أبواب السجون المغلقة، ويفتح لها النوافذ لتغيير الهواء، وينطلق بها إلى الشارع تضرب الأرض بقدمين قويتين ثابتتين حتى تثبت للعالم أنها لا تقل عن الرجل قوة. إلى آلاف من هذه الأكاذيب التي يخدع بها نفسه، ويخدع بها قارئه، ويخدع بها المرأة وقديما قال أمير الشعراء:

خدعوها بقولهم حسناءُ ** والغواني يغرهن الثناءُ

غير أن هذه الحيلة أصبحت لا تخدع المرأة فيها يبدو، فابتكروا لها أساليب حديثة للخداع. فقالوا: ظلمها الأب، واستعبدها الزوج، وحبستها التقاليد، وقيدها العرف، وأعماها الحجاب، وأضر بها المقام في البيت، وحرمتها تربية الأطفال من متعة الحياة، وهم يطالبون منها ولها أن تتمرد على الأب، وتتحرر من الزوج، وتخرج عن التقاليد، وتكسر العرف، وتلقي عنها الحجاب، وتخرج من البيت، وتتخلى للخادمة عن الأولاد، حتى تجد نفسها في معترك الحياة دون أب يحميها، وزوج يغار عليها، وتقاليد تصونها، وعرف تستند إليه. وتلقي الحجاب عنها، وتحطم نظام الأسرة، لتعيش في معركة الحياة نعجة مدللة بين براثن الذئاب العطشى، في الحدائق العامة، وتحت الأشجار المتشابكة، وبين مقاعد دور اللهو، وفي صالات الرقص، فلا تنفلت من برثن إلا إلى برثن أقوى أظفارا. تمتد إليها الأيدي اللهفى في المكتب والمصنع والمتجر والمطار وغيرها من مواضع اللقاء، لتجرها إلى تناول عشاء في مطعم، أو كأس من الشراب في حانة أو عرض في دار خيالة. ثم تقضي الليل أو بعض الليل في حجرة مؤجرة في فندق، أو شقة مفروشة من عمارة، أو ساحة جميلة منعزلة من حديقة.

هذه الصورة المؤلمة الواضحة من بلاد الغرب، قد توصل أعداء المرأة إلى نتائجها فعلا في بعض بلاد الشرق الإسلامي، فقطعوا بين الفتاة وكرامة المرأة وعزتها، وبينها وبين أسرتها، وبينها وبين دينها، وبينها وبين خلقها، وبينها وبين بيتها وأطفالها، وبينها وبين التفكير السليم.

ومن المؤسف أن فخ الخديعة إنما نصب للفتاة المتعلمة أولا وبالذات، فخدعوها بخرافة الظلم ونيل الحقوق، فاستمعت إليهم متريثة مترددة في مبدأ الأمر، ثم خيل إليها أن عليها أن تقدم لتنال حقا، فانزلقت في الفخ وأسلمتها الخطوة إلى الخطوة حتى وجدت نفسها وقد قطع عنها خط الرجعة، إما لأن القيم التي كانت تعتز بها قد ذابت في نفسها واضمحلت من ضميرها، فمات فيها الشرف والكرامة، وإما لأنها عسر عليها الرجوع ، وكبر عليها أن تكذب نفسها بعد فترة من الكفاح والجهد فتظاهرت بالمضي في الطريق والحسرة والأسف والندم يملأ قلبها. وإما لأنها حقدت على المرأة والمجتمع فأرادت أن يتردى غيرها فيما تردت فيه.

والذي يقرأ اليوم بعض ما تكتبه مفكرات الغرب، خاصة حيث وصلت المرأة إلى نهاية التجربة وآخر الهوة، بل بعض ما تكتبه بعض الشرقيات ممن خدعهن البريق في يوم ما، وكن يطلق عليهن طلائع التحرر والإنعتاق والانطلاق، يدرك مقدار ما تحسه تلك المفكرات والكاتبات من الأسف على حياة خسرت ومجهود بذل في ضلال وتضليل.

وأنا اليوم أكتب هذه الكلمة لك أنت أيتها الأخت المسلمة ، لك أنت أيتها الفتاة المتعلمة سواء كنت في المرحلة الجامعية، أو في المدارس الثانوية، أو في المعاهد الفنية والمهنية، أو في المدارس الإعدادية....لأنك أحرى أن تفهميني، ولأنك في مبدأ الطريق، حيث يقف أولئك الصعاليك ليمسكوا بك من شعرك المسترسل فيجرونك إلى ميدان المعركة في زعمهم، وفي الواقع إنما يجرونك إلى المسلخ....

لقد استطاعت أمك واستطاعت مدرِّستك في ( ليبيا وفي البلاد الإسلامية الأخرى التي تشبه ليبيا من حيث سيادة الإسلام عليها)، أن تقف حتى الآن ثابتة ترتد عنها الأيدي العابثة، والدعاوى الكاذبة لأنها لم تزل متحصنة بعقيدة المسلمة وخلقها.

أما أنتِ أيتها الفتاة وقد تكالبت عليك قوى الشر والتضليل، وأنتِ في هذه السنِّ الذي تمور فيه مِياه الشباب والحياة في كل ذرة من كيانك، وتقوى الحساسية فيك من كل ما تسمعين وما تبصرين وما تلمسين، فيجدر بك إذا كنت تحرصين أن تعيشي مؤمنة معتزة بإيمانك، مسلمة قوية في إسلامك، شريفة فخورة بشرفك- يجدر بكِ إذا كنتِ كذلك أن تزني موقفك وأن تقدري خطواتك، وأن تتفهمي ما وراء الدعوات الموجهة إليك.

لقد كنت أحسب يا أختي المسلمة، أنه يكفي أن يقال لك: هذا حكم الله حتى تستقبلي ذلك الحكم في فرح واستبشار. فما دام الحكم هو حكم الله، وما دام الطريق هو الطريق الذي مرت به أكرم النساء في أكرم العهود، فإنه يكفي ذلك أن تكوني راضية عنه، مستبشرة به. وكنت أحسب أنه ما يثار موضوع من مواضيعك حتى تقولي: كيف كان موقف النساء من هذه القضية في عهود الإسلام الأولى.... في عهد رسول الله e وعهد أصحابه رضوان الله عليهم، فإذا أجابك المجيبون بما في سيرتهن حينئذ، كان ذلك كافيا لك لتقبليه وليذهب جميع فلاسفة الأرض وكتابها كيف شاءوا وليقولوا ما أرادوا فإنهم جميعا لا يبلغون إشارة من رسول الله e، ولا كلمة من هدي أصحابه، رضوان الله عليهم.

وإذا شئت أيتها الأخت المسلمة أن نستعرض معا تلك المواضيع التي يحسبونها من شئون المرأة خاصة، ويثيرون حولها الزوابع، ويدجلون بها عليها، ويحاولون أن يغيروا فيها أحكام الله وينالوا من تاريخ أمة محمد المجيد الذي أعز المرأة ورفعها، وشرف الإنسانية وأكرمها ، فلا بأس بذلك، ولنستعرضها قضيَّة قضية لتري المواقف الذي يجب أن تتخذ الفتاة والمواقف التي يجب أن يقفها أولياء الفتاة.

 

وأحسب أن تلك القضايا لا تخرج عن المواضيع الآتية:-

1- هل المرأة المسلمة مظلومة؟

2- هل المرأة المسلمة محرومة من التعليم؟

3- الدراسة والزواج.

4- الزواج المبكر والوظائف.

5- الحجاب والسفور.

6- الاختيار في الزواج.

7- المرأة والاشتغال في المرافق العامة.

8- التعدد والطلاق.

 

وفي الأحاديث الآتية نستعرض هذه المواضيع واحدا بعد واحد إن شاء الله تبارك وتعالى.

*************

هل المرأة المسلمة مظلومة؟

 لقد أكثر أعداء المرأة المسلمة في الشرق من الصياح، لأن سادتهم في الغرب الذين لقنوهم هذه الصيحة لا يريدون منهم أن يسكتوا ما دامت المرأة في الأمة المسلمة لم تنحدر إلى نهاية القرار الذي يريدون أن يدرجوها إليه. وأحسب أنه لا حاجة بي إلى أن أوضح للقارئة المسلمة أنه لا يوجد في الغرب بما فيه من فلاسفة وعلماء وزعماء وساسة ومستعمرين ومبشرين ودعاة حقوق الإنسان- شخص واحد يرغب في رفع الظلم عن الشرق الإسلامي لا عن المرأة المسلمة، ولا عن الشعوب المسلمة. وإذا كان أهل الغرب يباشرون هم أنفسهم أفدح أنواع الظلم على الرجل وعلى المرأة وعلى الأطفال الأبرياء وعلى الشعوب والأمم، فما معنى تباكيهم من الظلم الواقع على المرأة؟ ولماذا يا ترى راعوا جوانب الإنسانية في هذه النقطة، ولم يراعوها في أي مسلك من مسالكهم؟ إن هذه النظرة البسيطة كافية لأن تجعل المفكر المسلم يقف قبل أن يتلقف الأقوال من أعدائه في جميع الميادين ثم يلبس لباس المصلحين في الشرق، ويبدأ في نشر الدعوة الضالة، كـأنما هو الذي ابتكرها بعد تبدير وتفكير، إنني أدعوك أيتها الأخت المسلمة أن تفكري وأن تسألي نفسك وتسألي أولئك الذين يمسكون بك ليجروك بمختلف الوسائل إلى حيث يربط الشيطان بينك وبين من يزعمون أن المرأة في الشرق وفي بلاد الإسلام مظلومة ، عن حقيقة الظلم، وعن حقيقة العدل، ومتى كان هذا الظلم وفي أي عهد؟ وكنت أود أن تقرري لهم أولا وبكل صراحة ، وفي وضوح تام، أنك باعتبارك امرأة مسلمة، مؤمنة بكتاب الله، وبما جاء به محمد e ، وبما سار عليه المسلمون المهتدون، أن عليك واجبات فرضها عليك الإسلام، وأنك ملزمة بأدائها سواء راقتهم أو لم ترقهم، وأن لك حقوقا أنتِ متمسكة بها، وأن من سلبها منك أو حاول أن يسلبها فهو ظالم متعد، وأنك تدافعين عن حقوقك بما تملكين من قوة، والإسلام في جانبك، وأن الإسلام سن لك آدابا في السلوك فأنتِ حرية بإتباعها.

فما هي الحقوق التي أعطاها الله للمرأة وسلبها منها الأب أو الزوج أو المجتمع حتى تعتبر مظلومة، ويسارع أصحاب النخوة والشهامة من أتباع كل ناعق إغاثتها؟ لا شك أن مطالبة المرأة بأداء واجبها لا يعتبر ظلما، وأحسب أن معرفة الواجب أو الحق عند الرجل أو المرأة، لا تكون إلا من مصدر واحد ، هو تشريع الله، أما كلام البشر فدعيه للبشر مهما زخرفته الدعوى وزوقته الأباطيل، وحسنته في عقول السدج شبه مستندة إلى العلم أو الفلسفة أو الحضارة أو روح العصر.

ومن أمثلة ذلك أن يصرخ المتشدقون بقضية المرأة، ويملأوا الدنيا ضجيجا، لأن أبا محافظا رجعيا قد تشدد على فتاته وطلب منها أن تصوم رمضان وهي في أول سن البلوغ، ويحسبون أن هذا الأب ظالما قاسيا، ويزعمون أن من حقها أن تأكل كما تشاء متى تشاء، وأن حرمانها من الأكل بعض الوقت قسوة عليها، فهو يضر بصحتها ويشوه جمالها، ويكشف نضارتها، ثم يستندون في ذلك إلى ما يقوله علماء التغذية والصحة والفيتامينات، وما يقدره خبراء السمنة والرشاقة والاعتدال.

فهل ترين يا أختي المسلمة أن هذا الكلام يستحق حتى مجرد السماع، وهل لمثل هذه الفلسفة من وزن، وهل لعلم التغذية هنا من قيمة؟ إن الخلاق العظيم أراد من الفتاة البالغة أن تصوم رمضان، وقرر لها الأسباب التي تبيح لها الإفطار، والأب إنما يقوم بواجبه حينما يلزم الفتاة أو الفتى بأداء ما فرضه الله عليهما وأراده منهما، فهل في هذا ظلم يا فتاة اليوم؟ وهل تعتقدين أن أباك قاسي لا يرحم لأنه يطالبك بفريضة الصوم؟

والله سبحانه وتعالى يريد من الفتاة أن تصلي خمس مرات في اليوم. ولكن أعداء المرأة يريدون أن تتزين لهم بدلا من ذلك عدة مرات في اليوم. ثم تخرج من بيتها- في فتنتها وسحرها- لتلقاهم في الحانة أو المسرح أو السينما أو حيث شاؤوا، ليستمتعوا بما وهبها الله من نعمة الجمال. فإذا جاء الأب يقول لفتاته أو لزوجه: قومي أيتها المرأة الصالحة فتوضئ لصلاة العصر أو المغرب أو ما حضر من الصلوات، أجابته متأففة: لقد قضيت منذ لحظات زمنا غير قصير، وأنا أزجج الحواجب والعيون، وأطلي الخدود والشفاه، وأصبغ الأظافر وأسوي الشعر، وأزن موضع ثيابي على هندامي أمام المرآة، وعملية الوضوء هذه تفسد علي زينتي، وتذهب عني سحري وفتنتي، ولا شك أن السادة المتسكعين في الطرقات ينتظرون مرور قدِّي الميَّاس. فإذا شدد الأب أو الزوج عليها وألزمها بأداء واجبها نحو ربها عد ظالما لا يرحم. فهل توافقين أنتِ على هذا الحكم أيتها الفتاة المسلمة؟

ويقوم الزوج بعد استراحة الظهيرة يتهيأ للخروج لشأن من الشئون وينظر فإذا الزوجة المصونة قد زينت نفسها كأنها تستعد لليلة الدخلة، ووضعت حقيبة أنيقة صغيرة في يدها، ووضعت تحت عقبيها حذاء عالي الكعب أقبلت تحجل عليه كأنما هي مقيدة، واستقبلت باب الخروج.... فيقول لها الزوج: إلى أين أيتها الزوجة العزيزة؟ أتزورين إحدى القريبات؟ أتعودين مريضة؟ أتحضرين حفلة عرس لصاحب حق علينا؟ أتشربين الشاي عند جارتك؟ فتجيب الزوجة في نظرة متعالية كأنها تعجب من سذاجته وغفلته: لا، إني ذاهبة لأروح عن نفسي قليلا، فقد سئمت البيت. ثم أمرُّ ببعض المتاجر لأرى ما جدَّ فيها من حليّ ولباس، لعل موضة جديدة وصلت السوق ولم أسمع بها. فيقول الزوج في لهجة غاضبة ونبرة شديدة: لا أيتها الزوجة العزيزة، قري في بيتك لأن الله تعالى يقول:] وقرن في بيوتكن، ولا تبرجَّن تبرج الجاهلية الأولى، وأقِمْن الصلاة، وآتيِنَ الزكاة وأطِعْنَ الله ورسوله[. فتجيبه الزوجة: كيف أقر في بيتي، وأنا أتوق إلى شم الهواء ومعرفة آخر الأنباء عن أحدث الأزياء، وأشتهي أن أعرض هذا الجمال على الرجال والنساء؟ فإذا شدد الزوج عليها في الإقامة، وألزمها بواجبها الذي فرضه عليها الخلاق العليم، ومنعها من أن تفتن أو تفتتن، عُدَّ هذا الزوج ظالما، قاسيا لا يرحم، فهل ترينه كذلك أيتها الفتاة المسلمة؟

هل ترين أن المرأة مظلومة حقا حين يطالبها أبوها أو زوجها بالقيام بواجباتها من أداء الصلاة والصيام، والتزام الحياء والاستقرار في البيت إذا لم تدعها حاجة، وصيانة نفسها من التبذل والتفسخ، واختيار اللباس الساتر المحتشم، إلى غير ذلك مما يفرضه عليها الدين، ويطالبها به الأدب والخلق، ويدعوها إليه الذوق السليم والطبع القويم؟

إنه يسير علي وعليك أيتها الأخت المسلمة أن نستعرض جميع الألوان التي تزعم أعداء المرأة- وهم يعملون جاهدين على أن يطرحوها اليوم في المسلخ وغدا في جهنم- ويقولون عنها إنه ظلم وقسوة وحرمان، وأن نناقشها لونا لوناََ ، فما وجدناه من واجبات وآداب سلوكها طالبناها بالقيام به والمحافظة عليه، وليس عليها في ذلك من ظلم أو إرهاق ، وما وجدناه من حقوقها طالبنا بتيسيره لها، وما وجدناه ظلما وقع عليها، أو حرمانا أصيبت به طالبنا برفع عنها. وموقفنا هذا من المرأة هو نفس موقفنا من الرجل، واجبات يجب عليها القيام بها، وآداب ينبغي لهما سلوكها وحقوق لها أن يطالبها بها ويصلا إليها، والرجل والمرأة كلاهما في هذا الإطار ليسا ظالمين ولا مظلومين ، فإن تخلى أحدهما عن واجباته أو آدابه فهو ظالم ، وإذا حرم من حقوقه فهو مظلوم، وبديهي أن الواجبات والآداب والحقوق، إنما يقررها الشرع الكريم، لا الفكر السقيم ، ولا الطبع اللئيم.

إن الذئاب البشرية التي تتعاون اليوم حول المرأة- وتجعل لها قضية خاصة، وتحاول أن تفصلها من قطيع البشرية، وتسعى أن تحررها فيها تزعم- وقد ولدت المرأة حرة كريمة كما ولد الرجل، وعاشت حرة كريمة طيلة حكم الإسلام كما عاش الرجل- لا تتعاوى ألما لظلم وقع على المرأة فآذاها ، وإنما تتعاوى أسفا لأنها حرمت من الولوغ في دمها، تماما كما تتعاوى ذئاب حين ترى قطيعا من الغنم يسهر عليه راع يقظ. وحين تتعاوى ذئاب الغاب بجنب القطيع، فإنما تتعاوى أولا للحرمان الذي أصابها من يقظة الراعي، وثانيا لعل عواءها يدخل الفزع على الرعاة أو القطيع فتنفصل عنه بعض الشياه فيجد فيها فرصته، " وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية".

إنها قضية واحدة، إنهم حين يطالبون بدفع الظلم عن المرأة، وبتحريرها من رعاية الأب أو الزوج، فهم لا يقصدون ما تفهمينه من معنى الحرية ورفع الظلم، وإنما يقصدون انفصال المرأة عن الرعاية والحماية حتى يجدوا معها رغبتهم، ويحققوا لأنفسهم شهوتهم، ولو كانت شهوة الشهرة- وإلا فما هو الظلم الواقع من الأب على ابنته أو الزوج على زوجته أو من المجتمع على المرأة؟.... إن حال رعاة القطيع بين القطيع والذئاب تعالت صرخات الذئاب؟!.

**************

هَل المرأة المسلمة مَحرومة من التعليم؟

 أيتها الأخت المسلمة...إن أعداءك الذين يريدون أن يجروك إلى المسلخ، وإن يقطعوا صلتك بماضيك العريق المشرف، وان يغيروا في ذهنك معايير أخلاقك ومثلك، يقولون في وقاحة: إن المرأة كانت محرومة من التعليم، مغلفة بالجهل، مغلقة الذهن، ضيقة الأفق، إلى آخر ما هنالك من تعابير في هذه الجوانب، فما مقدار الحقيقة في هذه الأكاذيب؟...إنه من المؤلم حقا هذا الموقف المزري، الذي أفلح فيه الشيطان، شيطان الجن أو شيطان الإنس، حين غلب على الفتى أو الفتاة، فقطع صلتها بماضيها وجعلهما يقفان موقف الجحود والنكران، فيعلنان في غير حياء: إن تلك الأم الفاضلة- التي أنجبت حضرتيهما ومهَّدت لهما الحياة حتى بلغا إلى هذه المرتبة، فأصبحا من أصحاب الأقلام- كانت جاهلة مغلقة الذهن، وإن أباها الذي هو جدهما كان مجرما أثيما، منع النور عن بنته، وحال دونها ودون العلم. إن هؤلاء الببغاوات إنما ينكرون اليوم على أبناء الجيل الحاضر نفس الخدع والأباطيل والأساليب الملتوية التي توصل إليها- بعد جهد ووقت ومال- عباقرة المكر والدهاء من المستعمرين وأعداء الإسلام، حتى أخرجوها في ثوب يلبسه الرقعاء من اتباع الحضارة الغربية دون وعي ولا معرفة لمعنى الحضارة، وحين كان أولئك الماكرون يفكرون في خدعهم وأباطيلهم مما يفرق وحدة الأمة المتماسكة، ويقطع أواصر الأسرة المترابطة، لم يجدوا وسيلة خيرا من نشر أوهام تجعل الفتى والفتاة مشحونين بالغرور، متوقعين متكبرين يحسبان نفسيهما أفضل من أبيهما وأمهما وأسرتهما والمجتمع الذي يعيشان فيه، لأنه أتيح لهما أن يترددا على دور العلم ما لم يتح لأولئك، فهما بذلك ينظران إلى أسرتهما ومجتمعهما باحتقار وازدراء.

وأستطيع أن أقول لك في تأكيد وحزم أيتها الفتاة المسلمة الذكية، أنه يحول دون المرأة والعلم أو دون المرأة والثقافة، كما أنه لا يوجد أحد يسعى أن يحول دون الرجل والعلم أو دون الرجل والثقافة، فإذا لم تتيسر السبل لفتى أو فتاة في أسرة من الأسر للحصول على المقدار الضروري من العلم، فذلك يعود لأسباب خارجة عن أفراد الأسرة. على أنه يجب- ونحن نناقش قضية التعليم- أن نحدد فروع العلم التي يجب أن يستوعبها الفتى أو الفتاة، والتي إذا حال دون الحصول عليها حائل كان معتديا أثيما.

فما هي العلوم التي يجب أن يتحصل عليها الفتى؟ وما هي العلوم التي يجب أن تحصل عليها الفتاة؟ وما هي العلوم التي ينبغي أن يحصل عليها كل واحد منها؟ وما هي العلوم التي تعتبر ترفا فكريا لكل واحد منها إذا حصل عليها كان ذلك حسنا، وإذا لم يتمكن من ذلك لم يكن الحرمان منها خسارة؟

يجدر بي أن أذكرك هنا أيضا أنني أخاطبك أنت أيتها الفتاة المسلمة الحريصة على إسلامها، وأحسب أنك توافقيني تماما في أن العلوم التي يكون تعلمها فرضا وهي واجبة على كل مسلم ذكرا كان أو أنثى، إنما هي العلوم التي يعرف بها المؤمن أولا: واجباته نحو ربه وطرق أدائها، ثانيا: واجباته وحقوقه نحو مجتمعه من الأسرة إلى الأمة، ثالثا: واجباته وحقوقه نحو دولته المسلمة- وهي الدولة التي تسير بشرع الله وقانونه-. أما الثقافة العامة فهي متاحة للجميع بقدر ما تتهيأ له ظروف كل شخص وكل بيئة ، على أن هناك ميادين تخصص حسبما تقتضيه الفطرة أولا، ثم المواهب الشخصية ثانيا.

ولكل من الرجل والمرأة أن يتعمق في ميادين تخصصه ما أمكنه التعمق وواتته الفرص، ولا حرج عليه أن يلم بتخصصات الآخر إذا لم يحل ذلك دون القيام بمهام تخصصه، وما دام الشخص يجري وراء العلم لذات العلم دون أن يخل بواجبه الأوكد فلا أحد ينكر عليه ذلك.

وعندما يتجاوز الإنسان مرحلة التعلم للعلم إلى التعلم لغرض آخر كما هو الشأن الآن، أي حين يكون العلم وسيلة لغاية ، فإنه يجب أن نبحث عن حقيقة الغاية التي تجعل العلم وسيلة للوصول إليها، فإذا كانت الغاية تبرر ما يبذله الفتى والفتاة من جهود وتضحيات للوصول إليها، كان ذلك محبوبا مرغوبا فيه، ويجب أن تيسر لهما وسائل الوصول، أما إذا كانت الغاية إنما تبرر جهود الفتى دون الفتاة أو جهود الفتاة دون الفتى، وجب أن ييسر لأحدهما حسبما تقتضيه الفطرة والمصلحة ولا يعتبر عدم تيسيره للآخر حرمانا له من العلم.

وأنت أيتها الفتاة المسلمة قد فتحت لك أبواب الدراسة كما فتحت للفتى، ويسرت لك الدولة أن تدرسي ما شاء لك رأيك وعقلك وتوجيه ذويك، ولم تغلق دونك أي باب من دور العلم. وأتاحت لك الدراسة منفردة أو مشتركة في أغلب مراحل الدراسة، ولن نقول لك أن الدين يمنع عنك هذه المرحلة ويبيح لك تلك هكذا اعتباطا، وإنما نقول لك ذلك وبناء على حكم الدين نفسه نظرا لما يجب عليك معرفته أولا، وعلى سلوكك وسلوك زميلك ثانيا، ونظرا إلى سنك ونضجك وسنة نضجه ثالثا. فلا شك أن الدولة- والأمة والأسرة من ورائها-  حين قرت لك إمكانيات الدراسة، وفتحت لكِ أبواب التعلم دون أن تتكبدي شيئا، فإنما تريد منكِ أن تكوني لها المرأة التي ترسي القواعد الثابتة للأمة، وتساعد على البناء الصالح للدولة، وتساهم مساهمة فعالة في سلامة المجتمع وتطهيره وتطويره، حسب تقدم العصور في إطار الدين القويم، وتقر معها الأسس الثابتة للحياة الكريمة والنهضة السريعة، باعتبارك زوجة ، وباعتبارك أما. وهذه الاعتبارات لا تشتك فإنها نفس الاعتبارات التي تطلب من الرجل باعتباره زوجا وباعتباره أبا.

وحياة الأمة، ونظام المجتمع فيها، وكيان الدولة الحقيقي إنما ينبني على هذه الحقائق الثابتة في كل مجتمع. زوجة وأم. وزوج وأب، ويبقى هنالك طرفان في كل مجتمع يحتاجان إلى الرعاية أكثر من أي شيء آخر، ولهما من الحقوق أكثر مما عليهما من الواجبات. هذان الطرفان هما طرف لم يتحمل المسئولية بعد، وطرف تخلى عنها لمن يحملها، أما الطرف الذي لم يتحملها بعد فهم الأبناء، وحقهم على الأسرة والمجتمع والأمة والدولة أن توفر لهم بقدر الإمكان، التكون السليم للسير في الطريق القويم. أما واجباتهم فهي غالبا لا تتعدى الالتزام بالسير في النهج الذي يسرته لهم الدولة باختيار الأب والأم وتوجيهها.

أما الطرف الذي تخلى عن المسئولية فهما الجدّ والجدَّة، وقد فرغا من واجبهما في الحياة وأصبحت لهما حقوق الرعاية والصيانة والاحترام، أما واجبهما- في أغلب الأحيان فلا يتعدى قلوبا مفعمة بالحب والعطف والحنان ، يسبغانها على الأحفاد وأبناء الأسرة الصغار، وذخيرة طيبة من المعارف والتجارب والنصائح، تبذل في صدق لأفراد الأسرة جميعا.

والمنهج الذي يسير عليه الذكر في الحياة بإشراف الدولة وتوجيه الأب والأم ، هو أن يكون ولدا بارا، ثم زوجا صالحا، ثم أبا كريما، ثم جدا عطوفا.

ولكل مرحلة من هذه المراحل واجبات والتزامات وحقوق. أما المنهج الذي تسير عليه الأنثى ، فأن تكون بنتا مطيعة ثم زوجة صالحة ثم أما شريفة، ثم جدة طيبة، فإذا تسلسلت هذه اللبنات في حياة أمة على أسس سليمة صارت الأسرة فيها دعامة قوية، تنبني عليها ركائز متينة ترتفع عليها الأمجاد.

***************

الدراسة والزواج

لا شك أن كثيرا من الشباب ومن أولياء الأمور يعتقدون أن الدراسة والزواج شيئان متناقضان، وان الفتى والفتاة لا يمكن أن يقوما بالمهمتين: مهمة الزواج، ومهمة الدراسة. وهذه الفكرة ليست جديدة ، وإنما هي قديمة عبر عليها بعض الدعاة إلى الإعراض عن الزواج في مرحلة الدراسة بقولهم:" العلم كبش ذبح ليلة الزفاف".

وأنا في هذا الفصل يهمني أن أناقش الموضوع من بعض الجوانب لا من كل الجوانب، وفي رأيي أنه يجب أن يلزم الفتى والفتاة بالاستمرار في الدراسة حتى يعرف كل واحد منهما المفروض الأول من العلم وهو ما يساعده على أداء واجبه نحو ربه، ثم المفروض الثاني وهو ما يساعده على أداء واجبه للدولة والأمة والأسرة، ومعرفة حقوق عليها، وان يتاح لهما أن ينالا من الثقافة العامة ما يتيسر لكل منهما في مجال حياته الخاص. وأحسب أن كلا من الفتى والفتاة يستطيع الحصول على المقدار الكافي في علوم الفرض الأول في مراحل التعليم الأولى، إذا أحسنت الدولة وضع المناهج ومراعاة الجوانب الدينية فيها، وأقرت فيها الحصص الكافية، وفي مراحل التعليم المتوسطة يتحصل كثير من الفتيان وأغلب الفتيات على المقادير الكافية في علوم الفرض الثاني الذي يساعدهما على أداء الواجبات للدولة والأمة والأسرة، ومعرفة حقوقها عليها، وهذا بطبيعة الحال إذا أحسنت الدولة وضع المناهج لهذه المرحلة.

وفي أواخر هذه المراحل الدراسية من المعاهد والمدارس المهنية والمدارس الثانوية، يبدأ أغلب الفتيان والفتيات في الدخول إلى سن البلوغ الشرعي، وفي هذه السن تبدأ نوازع الفطرة تدعو إلى القيام بواجبات الوظيفة الأولى في طبيعة الحياة، وظيفة الزواج. ويبدأ الأب والأم يفكران في الموضوع بالنسبة لفتاهما أو فتاتهما.

فإذا جاء الفتى أو الفتاة في هذه المرحلة وطلبا من أبويهما تأخير الزواج فترة أخرى قصيرة، لأن كل واحد منهما يملك طاقة الاحتمال والصبر ما لا يغلبه معه الشيطان على نفسه، ولأنه يريد أن يستمر في التفرغ لدراسته حتى ينجزها، كان على الأب أن يوافق إذا أمن الفتنة والفساد من جهة، وكان موضوع الدراسة مما يناسب فطرة كل واحد منهما بأن كانت دراسة الفتى فيما يناسب فطرة الذكور، وكانت دراسة الفتاة فيما يناسب فطرة الإناث، فإذا انحرف أحدهما عن المجرى الطبيعي، فطلب دراسة مالا يوافق فطرته كان على الأب أن يقول له: لا يا ولد حسبك دراسة، وابحث لك عن رفيقة العمر لتعيشا معا في سعادة، أو يقول لهما: لا يا بنت حسبكِ ما حصلت عليه واصبري حتى يقبل عليكِ ابن الحلال لتبنيا معا عش الزوجية السعيد، وتقومي بالوظيفة الأولى في الحياة: وظيفة الزوجة.

والأب في موقفه الأول مع الفتى، وموقفه الثاني مع الفتاة لم يحرمهما من العلم ويمنع عنهما النور، وإنما وَّجه كلّ واحد منهما إلى طريقه الأمثل في الحياة ، ويستثني من هذه الأحوال من الفتيان والفتيات من تظهر عليه بوادر للنبوغ المبكر في فرع من فروع العلم ويرجى منه أن يبلغ فيه درجات تقصر عنها خطوات السير العادي. فإذا تحقق المشرفون عليه أو عليها من ذلك فلا بأس أن يتاح له أو لها إجراء هذه التجربة واغتنام هذه الفرصة، لعل ذلك يعود بالخير على الأمة أو على الدولة أو على الإنسانية، ولو في مجال تخصص الجنس الآخر، ولقد كانت شواذ من النساء بلغت في أعمال الرجولة كالاشتراك في معارك في القتال وقيادة الجيوش- مبالغ فوق ما يستطيع الرجل العادي، وقد كان هناك رجال بلغوا في الأعمال الخاصة بالنساء كالخياطة والحياكة والتطريز- مبالغ تعجز عليها المرأة العادية.

ولكن هذا النبوغ عند بعض الأفراد، والذي يعتبر في حكم الشاذ لا يكون مبررا لأن يفلت قياد الفتى أو قياد الفتاة. وإنما على الأسرة أولا والدولة ثانيا والأمة ثالثا، أن تلزم كل واحد بالسير في منهجه الطبيعي حتى تتخلص من الشذوذ والشواذ.

ولقد يزيد الموضوع إيضاحا أن أقص على القارئ الكريم والقارئة الكريمة، مناقشة أجريتها مع مجوعة من طلاب الجامعة الليبية، وليس سرا أن أقول هنا أن عددا كبيرا من أولئك الطلاب لا يلتزمون الحصانة الكاملة والعفاف التام، أما العدد الثاني من الذين يلتزمون العفاف، ويريدون لأنفسهم الحصانة فهم مجمعون على أن الزواج لا يعوق عن الدراسة، بل إن بعض المتزوجين منهم، ممن أخذ زوجته معه يرى أن الطالب الجامعي المتزوج مستقر نفسيا وعاطفيا، وأنه يقبل على عمله الدراسي بصفاء يساعده كثيرا على الاستيعاب، بينما يعاني الفريق الثاني من الكبت أو الانطلاق، قلقا نفسيا وفراغا عاطفيا وشعورا بعدم الاستقرار والراحة، ما يجعله يحس بالحرمان أو يشعر بالإثم والجريمة.

أعتقد أن هذا يكفي في بيان حقوق الرجل والمرأة في التعليم، ويبقى علي أن أختم هذا الفصل بملاحظة يسيرة، أرجو أن تتأملها فتاة اليوم لتعرف حقيقة الدعاية الهائلة الكاذبة التي كانت تنتصب على أسلافها، وتجرد أمها وجدتها من بواعث الاحترام والتقدير بما يضفي عليها من نعوت الجهل والغفلة والاستعباد والحرمان، فما هي الصورة الحقيقية لهذه الأمة الفاضلة التي أجبتك أنتِ أيتها الفتاة المتعلمة، وأجبت أخاكِ الذي أصبح أديبا أو مهندسا أو طبيبا أو مفكرا أو فيلسوفا.       أحسب ان صورتها لا تخرج من هذا الإطار:-

هي امرأة مسلمة نشأت في أسرة مسلمة متدنية لم يتح لها ان تلبس الفستان القصير، وأن تذهب إلى المدرسة متمائلة متدللة، ولم تجلس على مقعد من الخشب أو الحديد، ولم تتعود أنا ملها حمل القلم لترسم به صورة القط والكلب وابن الجيران، وتكتب به الرسائل بعد ان تصور عليها قلبا مطعونا بسهم ينزف منه الدم. وغنما علمها أفراد الأسرة بالتلقين سورا من القرآن الكريم، وبعض أحاديث الرسول العظيم، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ودربوها بالطريقة العملية على اداء واجباتها نحو ربها من طهارة وصلاة وصيام وما إليها، وملأوا قلبها إيمانا بالله ومحبة للآباء والأبناء والأخوة وسائر الأقارب والمسلمين وعرفوها مكارم الأخلاق، فالتزمتها، كما عرفوها مساوئها فاجتنبتها، وعلومها أن أغلى ما تملكه المرأة إنما هو الحياء والعفاف وطاعة الأب وإرضاء الزوج وحفظ كرامته وماله، في غيابه وحضوره ، ومحبة الأبناء ورعايتهم وتربيتهم، فحرصت أن تقوم بكل ذلك على أحسن ما يقوم أمين بأمانته، وعلموها أن المرأة الصالحة هي التي تستقر في بيتها، تتولى شئونه بنفسها وتربي أبناءها وتتعهد بنصيحتها، ولا تترك منزلها إلا لشأن هام من زيارة تقتضيها صلة الرحم، أو مشاركة في فرح أو مأتم تتطلبها روابط المجتمع، في هذا الإطار العام من صور الحياة كانت تحيا المرأة المسلمة إلا ما شذ، فهل تعتبر هذه المرأة جاهلة يا أختاه؟ إنكِ لا تستطيعين أن تقولي ذلك إلا إذا كنت ممن غرتهم الأكاذيب وخدعتهم الدعاوي الباطلة، ونقموا على كل امرأة شريفة لم تتح لهم من نفسها المتعة، ولم تبح جمالها في كل مجال، ولم تعرض فتنتها في كل سوق.

وصدق الشاعر المبدع سليمان السالمي حينما قال وهو يصف معرض دمشق الدولي:

ومليحة جاءت لتشهد معرضاً ** بقوامها الممشوقِ والوجهِ الوَضِي

ما شاقها شيءٌ هنالك إنما ** جاءت لتَعرضَ نفسها في المعرضِ

****************

الزواج المبكر والوظائف

 لقد سبق أن ذكرنا في فصل سابق أن المراحل التي يمر بها الذكر في حياته هي: أن يكون طفلا معتنى به، ثم ولدا بارا وتلميذا مجدا، ثم زوجا صالحا، ثم أبا كريما، ثم جدا عطوفا- وان المراحل التي تنتقل بينها الأنثى، هي أن تكون طفلة معتنى بها، ثم بنتا بارة وتلميذة مجدة، ثم زوجة صالحة ، ثم أما فاضلة ، ثم جدة حنونا.

هذه هي المراحل الطبيعية والوظائف الأساسية لكل فرد حسبما هيأته لـه الفطرة واعدته للمرور بها إذا قدر له أن يتم عمرا كاملا في الحياة.

فإذا احتاجت المة إلى من يقوم لها بمهمة من المهام، فإنه يجب ان تختاره ممن هيأته الفطرة للقيام بتلك المهمة، مراعا لمصلحة الدولة التي ما هي في الواقع إلا وسائل لسد احتياجات الأمة.

قد يكون في هذا الكلام بعض الغموض أيتها الأخت المسلمة، ولذلك فها أنا أضرب لك المثلة للإيضاح والبيان:

هبي أن ناطقا باسم الدولة قال: إن الدولة رعاية لمصلحة الأمة، تحتاج إلى عدد كذا شخصا، يقومون بمهمة الحراسة أو المحافظة على الحدود أو إدارة أعمال الدولة أو التخطيط لمشاريع معمارية أو الإدارية مؤسسات مصنعية أو تجارية، أو للقيام بحفريات أثرية أو مد سكك حديدية أو طرق صحراوية، أو تدريس في مدارس نسوية أو الانخراط في دورات تدريبية لتخريج قوابل أو غير ذلك من شتى الوظائف والأعمال، مما تتطلبه الحياة وتدعو إليه مصلحة الأمة، ولكل فرد يسند إليه عمل من هذه الأعمال مبلغ كذا وكذا أجرا لـه، وفي رأيي أننا لا نحتاج إلا من ينظم طوابير المتقدمين لاستجابة هذا النداء ، فإن الفطرة قد هيأت لكل نوع من هذه الأنواع وغيرها من الأنواع من يحق لـه أن يتقدم ليقوم بهذه الوظيفة زيادة على وظيفته الطبيعية في الحياة من كونه زوجا أو أبا وكونها زوجة أو أما.

ولا شك أنه حين يتقدم إلينا- لو كنا نحن المنظمين لهذه الطوابير- عدد من الزواج والآباء ممن يأنسون في أنفسهم القدرة على القيام بمهمة الحراسة أو الدفاع عن الحدود أو إدارة الشركات ، فإننا نتخلى لهم عن الطريق ونفتح الباب، لأن الفطرة قد هيأتهم لذلك، وليس في طبيعتهم ولا في طبيعة الحياة ما يمنعهم من مزاولة هذه الوظيفة الثانية.

أما لو تقدم إلينا عدد من الزوجات والأمهات ليقمن بنفس الوظيفة من الحراسة الليلية، أو الدفاع عن الحدود أو إدارة المؤسسات، أو شغل الوظائف العامة للدولة لاستمهلناهن قليلا، وتركناهن يقفن في الطابور حتى نتأكد من حقيقتين: الأولى أنه لا مناص من شغل تلك الأماكن مهما كانت الظروف، والثانية أنه لا يوجد من الأزواج والآباء من يمكن أن يشغلها، وأنه لا مندوحة لنا من شغل تلك الأماكن بهؤلاء الزوجات أو الأمهات الكريمات اللائي تقدمن إلى القيام بهذه الوظائف التي تتنافى مع طبيعة تكوينهن، تضحية منهن لمصلحة الأمة، أو ندعهن واقفات في الطابور حتى نجد حلا للمشكلة عن غير طريقهن.

أما لو تقدم إلينا طابور من الزوجات والأمهات لشغل وظيفة مدرسات في مدارس البنات أو ممرضات في أقسام الولادة أو طبيبات لأمراض النساء، أو قوابل تستقبل ثمرات الحياة البشرية عندما يصافح النور عيونها المغمضة لأول مرة. فإننا نتخلى لهن عن الطريق ونفتح لهن الباب، ليقمن مشكورات بهذه المهام التي تحتاجها الأمة، زيادة على وظائفهن الطبيعية من كونهن زوجات أو أمهات ، لن الفطرة قد هيأتهن لذلك وليس في طبيعتهن ولا في طبيعة الحياة ما يمنع من مزاولتهن هذه الوظيفة الثانية.

أما لو تقدم إلينا طابور من الأزواج والآباء ليشغل بعض هذه الفراغات، فإننا نستمهله قليلا ونتركه واقفا في الطابور حتى نتأكد من حقيقتين: الأولى أنه لا مناص من شغل تلك الوظائف مهما كانت الظروف، والثانية أنه لا يوجد من الزوجات والأمهات من يشغل تلك الفراغات، وحينئذ قد نسمح لأحدهم أن يتقدم مشكورا لشغل ذلك المكان، ريثما يتوافر له من هيأه تكوينه الفطري ليشغله بطريقة تتفق مع طبيعة الحياة، وناموس الكون.

قد يلاحظ القارئ الكريم أو القارئة الكريمة الذكية أنني لم أترك لغير الأزواج والزوجات والآباء والأمهات مجالا للقيام بتلك المهام التي تتطلبها الحياة، فلماذا لا يتقدم لها الفتى قبل أن يكون زوجا وأبا؟ ولماذا لا تتقدم لها الفتاة قبل أن تكون زوجة أو أما؟.

وللإجابة على هذا السؤال أعرض ما يلي: إن الذكر من بني الإنسان قد هيأت له الفطرة أن يزاول أول وظيفة بعد البلوغ، وهي أن يكون زوجا، ثم أضافت له بعد ذلك وظيفة ثانية، وهي أن يكون أبا، والذكر الذي لم يجرب الاشتغال بوظيفته الأولى وينجح فيها، لا يزال غير أهل للقيام بوظائف أخرى في الحياة، فإذا استطاع أن يقوم بالوظيفة الأولى التي هيأته لها الفطرة أيضا، كان للأمة أو الدولة، بعد ذلك أن تسند إليه وظائف أخرى إذا أبدى استعدادا للقيام بها، أما الشخص الذي لم يجرب القيام بوظيفته الطبيعية الأولى، أو يفشل فيها، كيف يمكن للدولة أو الأمة أن تثق فيه، فتستند إليه وظائف أخرى حيوية، ولكي يدرك القارئ والقارئة الكريمان الصورة التي أريد أن أضعها بين أيديهما أحب أن يتبعا طريق سير الفتى في مرحلة الحياة، فهو ينشأ طفلا في رعاية أبوين، ثم يتقدم في مراحل العمر فيسلمانه إلى المدرسة، ويتقدم به العمر في مراحل الدراسة إلى سن البلوغ أو بعده بقليل، وفي هذه الفترة يستكمل استعداده ليواجه الحياة. ومطلوب منه في مبدأ معركة الحياة أن يمارس حق الفطرة فيه، فيعمل على بناء العش والاستقرار بالزواج. ولذلك فالمطلوب منه في أواخر مراحل الدراسة، أو بعد الانتهاء منها، أن يشغل الوظيفة الأولى وظيفة الفطرة، وظيفة الزوج، وبعدها ينطلق في ميدان الحياة ويضيف إلى هذه الوظيفة وظائف أخرى إذا كانت مواهبه وكفاءته تساعده على ذلك.

وبناء على هذا الأساس ، فإن الذكر قبل أن يتزوج، لا يمكن أن يجد فراغا لشغل وظيفة من وظائف الدولة ، وليس من حق الدولة أن تطالبه بالوقوف في الطابور ليقوم بعمل حارس أو محارب أو مدير أو مهندس أو طبيب أو غير ذلك ، وإنما له- وعلى الدولة أن تساعده في ذلك- أن يشغل وظيفة الطبيعة الأولى ثم يتقدم إلى الطابور ليأخذ مكانه في الصف حتى يحصل على الوظيفة الثانية.

وشبيه بهذه الصورة ، الصورة التي نضعها للأنثى، فهي تنشأ في رعاية الأبوين ثم تلميذة في رعاية المدرسة، حتى تبلغ بها مراحل الحياة إلى سن البلوغ أو بعد ذلك بقليل، حيث تتهيأ لشغل وظيفتها الأولى، التي أعدتها لها الفطرة ، وهي وظيفة الزوجة. وبعد أن تقوم بهذه الوظيفة وتنجح فيها يحق لها أن تشغل غير ذلك من الوظائف، ويحق للدولة أن تطالبها بالوقوف في طابور الأعمال لتشغل منها ما يوافق طبيعتها وتكوينها، ويلائم مواهبها واستعدادها، وهكذا ترى أيها القارئ الكريم وأنتِ أيتها القارئة الكريمة: أن الطريق طبيعي يسلكه الفتى وتسلكه الفتاة، وترعاهما في ذلك الأسرة والدولة، ولا يمكن أن يحيدا بهما عن هذا الطريق إلا بانحراف في الأخلاق، أو انحراف في الدين، أو انحراف في طبيعة المعيشة عندهما. ولعل القارئ الكريم يدهش لهذا الحديث، لأن المألوف عنده غيره، فهو يرى رجالا يكادون يستنفدون أعمارهم، وقد تقلبوا في عديد من الوظائف ، وهم مع ذلك لم يتزوجوا. أي لم يقوموا بالوظيفة الأولى، ويرى نساء قد امتدت بهن الأعمار وزاولن مختلف المهن، وهن مع ذلك غير متزوجات ، أي أنهن لم يقمن بوظيفة الفطرة الأولى، وأنه قد سمع وقرأ كثيرا عن مضار الزواج المبكر للرجل والمرأة ، وعن وجوب الاستعداد له ، وتكوين الجو المناسب ماديا أو نفسيا أو تجريبيا إلى آخر ما تجود به الفلسفات البشرية الملحدة الضالة. ويهمني هنا أن أقرر في تأكيد وجدّ، أن ذلك كله إنما هو انحراف عن طريق السير الذي تسير به الحياة الطبيعية الهادئة في الكون، وانحراف عن المنهج القويم الذي هيئ للفطرة البشرية، وانحراف عن السنة التي أرادها الخالق سبحانه للإنسان، وانحراف عن الهدى الذي دعا إليه رسول الله e ، وسار عليه المسلمون وعرفوه ، واختبروا صحته وجدواه قرونا طويلة، وأحسب أن تأخير الزواج عن موعده الطبيعي في الأحوال العادية للفتى أو الفتاة إنما هو مرض، قد يكون مرضا فرديا، وقد يكون مرضا اجتماعيا، وسواء كان هذا أو ذاك، فإنه لا ينتج عنه إلا أمراض فردية، وأمراض اجتماعية خطيرة، تنال من شرف الأمة وكرامتها وخلقها ودينها.

إن وقدة الفطرة عند الفتى أو الفتاة في مرحلتها الطبيعية عند البلوغ، لا يطفئها إلا استقرارها الطبيعي ، فإذا تركت وشأنها فإنها لا محالة حاملة صاحبها على إطفائها بوسيلة من الوسائل، وسواء كانت تلك الوسائل شذوذا جنسيا ، بسيطا أو مركبا، وسواء كان إطفاؤها بالانطلاق الكامل المتحرر من جميع القيود أو بالانطلاق المتقيد، أو بما يعبر عنه بالكبت والسيطرة على النفس. فلا شك أن لجميع ذلك مضارها ولعل أخف أنواع الضرر التي تلحق الشخص بسبب تأخير الزواج إنما هي أضرار ما يسمى بالكبت أو الحرمان، لأن هذه الأضرار تكون مقصورة على صاحبها، أما أضرار الشذوذ والانطلاق والتجارب وكل حالة تخالف حالة العفاف فإن مضارها تلحق الفرد وتقوض أركان المجتمع تقويضا.

وكان ينبغي للفتى والفتاة المسلمين حين يقال لعما: هذا حلال وهذا حرام، أو هذا أدب يدعو إليه الإسلام ومنهج يسير عليه المهتدون من المؤمنين- أن يعرف كل منهما الطريق الذي يسلك ، ولكن التزييف في الحقائق، والتشكيك فيها، تركت فوق تلك الحقائق غمائم دكنا يعسر على الإنسان العادي النظر من خلالها فأصبح مطلوبا من علماء الإسلام، أن يوضحوا للشباب المسلم حتى ما كان يعتبر من البديهيات.

***************

الحجاب والسفور

لقد أطال الناس الحديث في الحجاب والسفور، وأعداء المرأة يملأون الدنيا ضجيجا على المرأة المسلمة الحصينة الأمينة، لأنها لم تزاحمهم بنهودها وأردافها في الطرقات، ولم تداعكهم بأفخاذها وأكتافها في المنتزهات، ولم تساررهم بلفتاتها وغمزاتها في المنعطفات، ولم تواعدهم ببسماتها وإشاراتها في الحفلات، ولم تتلو بين أيديهم في المراقص، وتتهافت عليهم في المشارب، وتتجرد لهم في المخادع.

وكان يكفي المرأة المسلمة في موضوع الحجاب والسفور أن يقال لها: قال الله تبارك وتعالى، وقال رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكانت أمهات المؤمنين وأزواج أصحاب رسول الله e يفعلن كذا ويسرن بسيرة كذا وكذا. كان هذا يكفي المرأة المسلمة لتجد طريقها وتسير فيه آمنة مطمئنة ، ولا تهتم بعد ذلك بما يقول الناس في الشرق أو في الغرب فما بعد هدي محمد e ، وهدي أصحابه رضوان الله عليهم من سبيل قويم.

فإذا طلبت مني أيتها الفتاة المسلمة أن أناقش موضوع الحجاب والسفور على ضوء الواقع في المجتمع الإسلامي ، وطبيعة المرأة والرجل ونظرته إليها ومصلحة الأسرة ومصلحة الأمة والدولة. وقبل ذلك وبعد ذلك على السلوك الذي وضعه الإسلام لها- فإنني أتحدث إليك باعتبارك مسلمة معتزة بإسلامها،حريصة على دينها، يهمها أن تحافظ على خلقها- فمن واجبي أن أعرض ذلك عليك لتقديري سلوكك على هدى وبصيره.

يغالي أعداء المرأة في الشرق الذين يريدون أن يجروها عارية أو شبه عارية إليهم، فينحون عليها وعلى مجتمعها باللائمة، ويصفونها ويصفونه بالرجعية والجمود، ويزعمون أن مجتمعها القاسي الذي لا يرحم ، منعها الخروج من البيت وحرم عليها شم الهواء ورؤية نور الشمس.

وهذه أكبر أكذوبة على سمع الزمان وبصره، فما وجد أب أو زوج، منع المرأة من الخروج وحبسها في البيت لا تريم، كما يعبر الرقعاء الذين لا يستحون ، والفواجر اللواتي يهمهن أن يتستر إثمهن في زحمة الكثرة الغالبة، اللهم إلا إذا كان ذلك من شواذ لا يدخلون في حساب، ولا يعتد به في إجراء حكم. ولفتة واحدة إلى الماضي تكفي لمن يريد أن يقتنع.

أي عرس وقع في بلاد الشرق، لم تحضره من النساء من تمت إليه بأوهى الأسباب؟ وأي ولادة وقعت في الشرق لم تجتمع فيها أغلب نساء القرية أو من يمت إليها بأدنى صله إذا كان ذلك في مدينة. وأي مأتم مرَّ دون أن تكون حركة النساء فيه أكثر من حركات الرجال عشرات المرات، فكيف حضرت أولئك النسوة في هذه المناسبات، وهن ممنوعات من الخروج أو مسجونات في البيوت كما يقول أعداء المرأة المسلمة. ثم في أي يوم وأية مدينة خلت الشوارع من النساء غاديات رائحات أفرادا وأسرابا. فكيف يكنَّ مسجونات وهن يملأن الطرق.

إن المراة المسلمة لم تكن في يوم من الأيام ممنوعة من الخروج أو مسجونة بين أربعة جدران. وكل ما في الأمر أن المرأة المسلمة كانت تقيم في البيت وتستقر فيه لأنه مكانها الطبيعي، ومكان عملها، وميدان كفاحها، وقد تخرج من البيت إذا دعت الحاجة إلى خروجها، إنها تزور من تشاء من الأقارب والجيران لمناسبة ولغير مناسبة. وتحضر كل اجتماع يهمّ المرأة، وكانت في العصور الإسلامية الأولى تحضر الصلاة في المسجد، وتستمع فيه إلى دروس الوعظ والإرشاد، وكان النساء يبرزن إلى المصلي في العيد حتى العواتق منهن بل حتى الحوائض اللاتي لا يصلين لتكثير عدد المسلمين. فمن الذي حبسها في البيت وفي أي عصر؟

إن أعداء المرأة لا يهمهم هذه الإقامة في البيت التي تقتضيها مصلحة الأسرة والمجتمع، ولا هذا الخروج الذي تقتضيه مصلحة الأسرة والمجتمع، والسلوك الذي ينبني على الحق والحكمة لا يساعدهم ولا يهمهم، لأن واضعي التخطيط لا يساعدهم أن تكون المرأة مدركة فاهمة لبواعث البقاء في البيوت وملازمتها، أو بواعث الخروج المصلحية منها.

إن الذي يساعدهم على تخطيطهم أن تسأم المرأة المسلمة البقاء في البيت وأن تعتبره تأخرا ورجعية، فتترك رعايته وتدبير شئونه، وتستقبل الأنهج والشوارع، تطوف هنا وهناك متفرسة في أنواع البضائع المعروضة، عارضة في الوقت نفسه بضاعة نفسها على الأعين الجائعة. أما الأعمال التي كانت تقوم بها في المنزل فهي متروكة لغيرها، والأثاث الذي كانت تعده بمعرفتها، والشغل الذي كانت تزاوله بيدها، فمال ذلك إلى الضياع، والدروس العملية التي كانت تعطيها لبنتها أصبحت من غير وظيفتها وقد أسلمت البنت في نصف اليوم إلى المدرسة، وفي النصف الثاني إلى الشارع، تشاكس أبناء الجيران إذا كانت طفلة، وتعاكسهم ويعاكسونها إذا كانت مراهقة، وتلعب بهم ويلعبون بها إذا تجاوزت تلك المرحلة من العمر.

إن البيت المسلم كان عامرا بصاحبة البيت وأفراد أسرتها. وقد حافظ على مستوى أخلاقي رفيع، طيلة العصور الماضية، وهذا ما أحنق أعداء المرأة وأعداء الإسلام، فأرادوا أن يحطموا القيم الأخلاقية، التي تغرسها الأم الفاضلة في أبنائها ذكورا وإناثا، فحاولوا إبعادها عنهم بجرها إلى الشارع.

وهكذا أصبح الأطفال بعد الفترات القصيرة التي يقضونها في المدرسة يقتبسون القيم والمثل من صبيان مثلهم في الشوارع أو من الخدم، لأن الأم التي كانت تقيم في البيت ويكون الأبناء بجنبها، تلاحظ سلوكهم في كل شيء في لهوهم وعبثهم، وفي تنازعهم وخصوماتهم، وفي حزنهم وغضبهم، وفي فرحهم واستبشارهم، وفي أفراحهم وآلامهم، بل وترعاهم حتى في شقاوتهم. وكانت في كل وقت تأمر وتنهى وتهذب حسبما تراه من مصلحة أولادها وطبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه وله، والدين الذي يدينون به.

أصبحت هذه الأم غير موجودة في البيت لأنها في الصباح مشغولة بعمل اغتصبته من الرجل في إحدى الدوائر، وفي منتصف النهار منهكة في لإعادة زينتها، أما في المساء فهي مشغولة بلوك النِكت الباردة في المحلات العامة، تقهقه لها لا لإعجابها بالنكتة، وإنما لإظهار رنة الضحكة، وفتنة البسمة، وميسة القدّ.

هذا أيتها الأخت المسلمة العزيزة، فيما قالوا عنه أن المرأة ممنوعة من الخروج محبوسة في البيت، يقوم عليها سحبان غليظ الطبع، وقد رأيت كذبهم في ذلك وتحريفهم للواقع والوقائع....

أما فيما يتعلق باللباس، فكذبهم فيه أوقح، وغرضهم منه أوضح.... إن المراة المسلمة بلباسها السابغ الفضفاض المعروف، لم تحرم من شيء أبدا، فهي تسير به في كل شارع نشيطة مستورة محترمة، تعرف كيف تسير وأين تسير، ولكن الذي أحنقهم فيه، أنها لم تنسلخ من شخصيتها المسلمة الصيّنة، وأنها تراهم ولا يرونها، وهم يريدون أن يمتعوا أبصارهم الفاسقة. فحرمهم لباسها الساتر من شهوة غالبة ورغبة جامحة فحملوا عليه، إنكِ أيتها الفتاة المسلمة لو قلت لهم اليوم: حسنا يا أتباع كل ناعق، إنكم تنتقدون على المرأة المسلمة أنها بقيت معتصمة بالبيت، محتجبة عن أبصار الفساق، وتريدونها سائرة في الشوارع متنقلة بين الأزقة فها أنا ألبي رغبتكم سائرة في الشوارع والحارات كاشفة عن وجهي إلى منتهى حدود الوجه، فهل يرضيكم ويكفيكم هذا- طلبتم الخروج فها أنا خارجة، وطلبتم السفور فها أنا سافرة الوجه، وما لكم ولشعري وما لكم ولكتفي، وما لكم ولساقي؟ وما لكم ولذراعي، وما لكم ولنحري؟ ما حاجتي إلى كشف ذلك وما حاجتكم؟ وما لكم ولبقية جسمي تريدونه في الثوب الضيق المخنوق المعبر، لو فعلت كل هذا يا أختاه، لما أرضاهم كل ذلك منكِ، ولقالوا إنها لا زالت متخلفة، ولم تنل حقها من المساواة لأنكِ في الحقيقة لم تنحدري إلى آخر أعماق الهوة التي يريدون أن تتمرغي ويتمرغوا معك فيها.

إن المرأة المسلمة في البادية لم تتعود أن تضع نقابا على وجهها ، ولكنها في نفس الوقت لا تكشف عن بقية الجسم، إنها تلبس جلبابا يغطي جسمها ما عدا الوجه، فهل يرى أعداء المرأة أن هذه المرأة أيضا محجبة محروسة محرومة من النور يغلفها الجمود رغم أنها تؤدي أكثر مما يؤدي الرجل من الأعمال، وما رأي أولئك السادة لو أننا طلبنا لفتاة اليوم بلباس شبيه بهذا اللباس. لباس خفيف فضفاض، ساتر لجميع الجسم وتقاطيعه ما عدا الكفين والوجه، هل تعتبر المرأة بهذا الزي أيضا متحجبة غير سافرة؟

لا شك أنهم يرونها كذلك لأن المخططين من أعداء الإسلام وأعداء المرأة المسلمة لا يكفيهم هذا ، وإنما يهمهم أن يستأصلوا الحياء والدين من قلب المرأة، ولا يكفي المفتونين لأن هذا الزي لا يشبع رغباتهم ولا يملأ عيونهم الظمأى....هذه قضية الحجاب والسفور أيتها الفتاة المسلمة عرضتها عليكِ في أبسط صورها، فإذا شئت أن تعرفي أحاك الإسلام وآدابه في الخروج من المنزل، والتسكع في الشوارع، وأن تعرفي أحكامه وآدابه في لباس المرأة المسلمة، فهذا كتاب الله بين أيدينا نحكمه فيما شجر بيننا وهو أصدق الحاكمين.

قال الله تبارك وتعالى في سورة النساء:] وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله، ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما، فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شَجَرَ بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما[.

هذا كلام ربكِ أيتها الأخت المسلمة وهو يأمرك بطاعة الرسول وبين لكِ أن من لم يطعِ الرسول فقد ظلم نفسه، ومن ظلم نفسه عليه أن يعود إلى رحاب الله مستغفرا تائبا لأن الله تواب رحيم، فإذا وقع الخلاف في أمر وجب الرجوع إلى حكم الله على لسان الرسول، ولا يكون الإنسان مؤمنا حتى يحكم الرسول ثم يرضى بحكمه ويقتنع بأنه الحق ويطمئن إليه كل الاطمئنان، ولا يجد في نفسه حرجا من حكم الله وحكم رسوله ثم يسلم لحكم الله وحكم رسوله تسليما ويذعن له إذعانا، فإن لم يفعل فليس له أن يدعي الإيمان.

وأنتِ أيتها الأخت المسلمة وقد أثيرت حولكِ هذه الشبهات عليكِ أن تحكمي الله ورسوله وأن لا تجدي في نفسك من حكم الله حرجا، وأن تسلمي لـه تسليما، فما هو حكم الله في هذا الموضوع؟

قال الله تبارك وتعالى يخاطب أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن، وليس لك قدوة أفضل منهن] وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وأقمن الصلاة، وآتين الزكاة، وأطعن الله ورسوله[.

هذه أوامر الله سبحانه وتعالى لنساء النبي e ، وهن أمهات للمؤمنين لا ينظرن إلى المسلمين إلا نظرتهن إلى أبنائهن، ولا ترتفع أبصارهم إليهن إلا كما يرتفع بصر الابن المؤدب الحيي إلى أمه الوقورة المحبوبة المحترمة، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى يأمرهن بالاستقرار في البيوت وينهاهن عن الخروج والتبرج، ويأمرهن بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله وطاعة الرسول. ألا ترين أنهن لكِ قدوة صالحة، وأن أمهات المؤمنين أمهات لكِ؟ إن كنت مؤمنة والأوامر الإلهية التي أصدرت إلى أمكِ صادرة إليكِ أنت أيضا، فماذا يريد منكِ هؤلاء الذين يتعاوون في كل شارع، يجرونك إليهم عارية من اللباس، عارية من الإيمان.

دعيهم في عبثهم، واستمعي إلى ربك عز وجل يكرمكِ بإصدار أمره إليكِ مباشرة، ] وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن[ لقد صمم الله تبارك وتعالى لك الزي الذي يليق بالمرأة المسلمة ويحق لها أن تلبسه، فإذا شئتِ أيتها الفتاة المسلمة أن تتركي الزي الذي صممه الله لكِ من فوق سبع سماوات لترتدي الزي الذي صممه إبليس أو دعاة الفجور في باريس فأنت وما تختارين، ولكن لا تتشوفي أن تكوني ممن أكرمتهن السماء بتوجيه النداء. إن القرآن الكريم حين صمم لك الزي الذي ينبغي لكِ أن تلبسيه فجعل منه الخمار الذي يستر الرأس وينحدر على الكتفين ثم ينضم على النحر والصدر منسدلا على الذراعين لم يغفل رجليك، فقال تبارك وتعالى :] ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن[ فما رأيك مع هذا النص الكريم في المرأة التي تكشف ما أمر الله بستره وتشمر عن ساقيها إلى الركبتين أو أنصاف الفخذين أو في تلك التي تضع تحت قدميها حذاء بالكعب العالي ، وتبدأ تحجل حجل الغراب، وتتحمل أشد أنواع العذاب لتبرز للناظرين تخلعات الجسم المسكين، وتكشف لهم عن عضلات الساقين، فهل لهذه المرأة بقية من حياء أو دين.

والله سبحانه وتعالى حين امر المراة بالاستقرار في البيت وصمم لها الزي الذي ينسجم مع الإيمان والحشمة والحياة، وامرها بستر زينتها على الأجانب، حدد لها الأشخاص الذين يسمح لها بإظهار الزينة أمامهم ] ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذي لم يظهروا على عورات النساء[.

ما رأيكِ أيتها الأخت الكريمة مع هذا النص في المرأة التي لا تهتم بنفسها وزينتها ما دامت في بيتها فإذا جاء موعد الخروج قضت الساعات الطوال أمام المرآة ليقال عنها فاتنة تخلب الألباب عندما تستقبلها أعين الظامئين، ومجالس المشتهين، وأذرع الراقصين، وأكف العابثين....

هل استمعت هذه المرأة إلى أمر الله سبحانه وتعالى حين قال:] وقرن في بيوتكن [ أو حين قال:] ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى[ أو حين قال:] ولا يبدين زينتهن[ أو حين قال:] وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن[ أو حين قال:] ويحفظن فروجهن[ أو حين قال:] وليضربن بخمرهن على جيوبهن[.

وغن المرأة المسلمة التي أدبها الإسلام يجب أن تكون صورة حية مستوحاة من أوامر الله ، قارة في بيتها، غير متبرجة بزينة، محافظة على الصلاة، آتية للزكاة، مطيعة لله ولرسوله، غاضة لبصرها، حافظة لفرجها، ساترة لزينتها بلباسها الصافي المحتشم، فهل لكِ أيتها الأخت المسلمة أن تكوني من هذا الفريق؟ إنها أوامر الله سبحانه وتعالى والأمر بيديك.

************

الاختيار في الزوَاج

إن موضوع الزواج من أهم المواضيع في حياة الرجل والمرأة على السواء، وقد أشرنا في حديث سابق إلى أن الزواج هو الوظيفة الأولى التي يجب أن يقوم بها الفتى أو الفتاة هند موعدها من بلوغها، ولا يتأخران عن القيام بها بعد البلوغ إلا بسبب قاهر مشروع ، وليس هذا السبب ماديا في جميع الأحوال ولا يتأخر عن القيام بهذه الوظيفة في الحياة من أجل الدولة أو المجتمع إلا منحرفين من الشباب، سواء كانوا ذكورا أو إناثا، ولا يؤخرهم المجتمع أو الدولة إلا إذا كانت منحرفة عن الاتجاه القويم.

هذه الحقيقة- فيما أحسب- بديهية لا تحتاج إلى نقاش، ولو أن الآراء المستورة التي تفسح المجال للانحراف والشذوذ، تدعو إلى تأخير الزواج متعللة بأسباب متعددة ، منها أسباب مادية زاعمة أن نظام الأسرة لا يستقر إذا لم يتسع الوقت للفتى أو الفتاة حتى يكونا ثروة ، ومنها أسباب صحية زاعمة أن الزواج المبكر يضر بصحة الفتى والفتاة ومنها أسباب نفسية زاعمة أن الفتى والفتاة يجب أن يتاح لهما تجارب عاطفية قبل أن يرتبطا بالزواج حتى يسلما من العقد النفسية، ومنها أسباب اجتماعية زاعمة أن الفتى والفتاة لا يقويان على تحمل المسئولية لتكوين أسرة في السن المبكرة، وهذه الآراء المستوحاة من الخارج والتعاليل التي عللت بها ليس لها قيمة حقيقية بالنظر إلى واقع الحياة منذ القرون الأولى، فإن الزواج المبكر كان هو الطريقة المتبعة والغالبة في شعوب العالم أجمع، وإن الرجال الأقوياء الذين تكونوا في تلك الأجيال لا نجد لهم شبيها في هؤلاء المهازيل من رجال اليوم، ولا شك أننا حين نذكر القوة في هذا المجال لا نعني القوة البدنية قط، وإنما نعني القوة بأوسع معانيها، قوة البدن، وقوة الخلق، وقوة العقيدة، وقوة الإرادة، وقوة العقل. وعلى كل فهذا موضوع جانبي بالنسبة لما نريد أن نناقشه اليوم.

لقد اعتاد بعض كتاب اليوم الذين يلتهون وراء الآراء المستوردة أن يطلقوا على إتمام عملية الزواج وتكوين الأسرة- عبارة الشركة- وان يصوروا هذه الوظيفة بتصوير مادي جاف باشتراك طرفين هما شريك الحياة وشريكة الحياة، ويضفون على أحكام هذا الرباط المقدس صبغة مادية تجارية صرفة. ولا شك أن القضية إذا أصبحت شركة تجارية مكونة من رجل وامرأة وجب أن يقدم كل واحد من الطرفين التزامات مادية لتكوين رأس المال الذي تقوم عليه الشركة وأنه من حق كل واحد من الشريكين أن يجرب شريكه تجربة شخصية ليعرف مدى صلاحيته للعمل في الشركة، ثم إن رئاسة الشركة يجب أن تكون لمن يملك أكثر الأسهم، وعندما تنحدر بالرباط المقدس إلى هذا المعنى المادي المنحط فإنه خير لنا أن نلغيه من المجتمع، وان نكف عن الحديث عنه لأنه في ذلك الحين لا يكون رباطا مقدسا، ولا يكون كنا يجد فيه الزوجان الهناء والسعادة ولا محضنا يحضن ثمرات البشرية لإنتاج الإنسان، ولا مهادا تتكون فيه القيم الإنسانية الأولى حسب الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وإنما تكون مكتبا للتعامل وديونا لحسابات الربح والخسارة.

ومعنى هذا أن اختيار أحد الزوجين للآخر على أساس مادي اختيار فاشل، ولذلك فيجب أن نستبعده من تفكيرنا في هذا الموضوع الهام كما نستبعد جميع المكاسب المادية فيه.

فماذا يبقى في الموضوع؟

يبقى في الموضوع حق الاختيار... فما هو حق الفتى في اختيار زوجته؟ وما هو حق الفتاة في اختيار زوجها؟ وكيف يتم اختيارهما؟ وهل كان الفتى والفتاة مظلومين في المجتمع الإسلامي المتحجب دون اختيار أحد الزوجين لزوجته؟

لا شك أن الذين يملأون الدنيا بالضجيج والصخب في هذا الموضوع، يزعمون أن قضية الزواج في الأمة المسلمة كانت تتم بين طرفين يجهل كل واحد منهما كل شيء عن الآخر، ولا شك أن هذا الزعم من أكذب الكذب، ولا شك أن أولئك الذين يزعمون هذا الزعم لا يخرجون عن أحد اثنين: إما جهلة بطبيعة المجتمع وحياة الناس فيه ولا عذر لهم في هذا الجهل، وإما أن يكونوا عارفين لذلك، وغنما ينعقون بما يحسبونه رأيا جديدا وتقدما في عصر التقدم، وإما غفلة وسذاجة وجهلا، وإما رغبة في الشهرة واندفاعا مع التيار...

وعلى كل حال فأنا أدعوكما أيها القارئان المسلمان أن تنظرا معي إلى الصورة التي أضعها أمامكما لمجتمع مسلم متحجب، وكيف يتم الزواج فيه؟ فإذا رأيتما فيه شيئا غير صحيح يتعلق بالفتى أو الفتاة فأرجوكما أن تصححاه وأن تثبتا الحق والصواب.

هذه قرية أو مدينة مسلمة، إذا خرجت فيها المرأة من بيتها لشأن من شئونها، سترت ما أمر الله بستره، وحفظت نفسها من أعين الذئاب، تنشأ البنت في هذه الأسرة طفلة صغيرة تقفز مع أترابها من البنين والبنات في الأزقة والشوارع، ويتقدم بها السن قليلا فتتجنب الأطفال الذكور بفطرتها وتنساق مع أترابها لاعبة لاهية، ويسير بها الزمن قليلا فيبدأ تدريبها على العمل وإرسالها في حاجات البيت، فتدخل وتخرج وتذهب إلى الجيران وتزور الأقارب، وتكون رسولة الدعوات وحاملة الهدايا العادية بين الأسر المتحابة وهي في جميع هذه الأحوال تلبس لباسا بسيطا ساترا لا تحجب وجها ولا تستر قدما ولا تكشف عورة، وأعين المراهقين وطلاب الزواج من الشباب في كل ذلك لا تنحط عنها تتأمل تقاسيم وجهها وتكوين أعضائها وانسجام قدها وأدب مسلكها ثم هم يتحدثون عنها وعن أسرتها في مجالسهم الخاصة ويقارنون بينها وبين زميلاتها حسب آرائهم وأمزجتهم وأذواقهم.

ونستطيع أن نضع عكس الصورة للفتى. فإن الفتيات وهن يلعبن ويرحن ويجئن ويتصلن بين بيوت الأقارب والجيران، يلحظن الشباب لهوهم ومجالسهم ويستمعن إلى أحاديثهم ويتأملن وجوههم وأعضائهم وحركاتهم وما شئن من شئونهم. فإذا بلغت الفتاة سن البلوغ أو قبله بقليل أمرها أهلها بالاحتجاب، فتقر البنت البنت في البيت بعد ان يكون كل الشباب قد عرفوها وتكون قد عرفت الكثير منهم. وفي الأيام الأولى من احتجابها لا تنفك عن اختلاسات وتطلعات بين شقوق الأبواب والنوافذ في غفلة من أشداء أسرتها وعلى مرأى من متساهليهم لا سيما إذا علمت أن أحدا ممن تهتم به يكون فريبا وتمكن رؤيته من ثقب القفل أو شقوق الباب، وقد توارب الباب أو النافذة لترى أو ترى، مظهرة البراءة وعدم القصد.

وإذا كان هذا مسلك الفتاة فإن الفتيان الذين يهتمون بفتاة ما أصبحت محجبة قد يكون أكثر من هذا اللون، ولا شك أنهم يمرون ويعيدون المرور من الشارع ويزورون البيت لأقل سبب إذا كان ذلك ممكنا ويحاولون بما أوتوا من براعة ولباقة أن يلفتوا نظرها إليهم وأن يسترقوا نظرة.

والحقيقة من هذه الصورة أن كل فتاة في القرية قد عرفها جميع الشبان، وان كل فتى قد عرفته جميع الفتيات أو أغلبهن، ويتقدم واحد من أولئك الفتيان لخطبة الفتاة فيتم الزواج أو لا يتم... ويندر جدا أن يتقدم شاب مجهول كل الجهل للفتاة أو يجهلها كل الجهل، فإذا وقعت حالة من هذه فهي حالة شاذة لا تستدعي المناقشة ولا يخشى منها الضرر فإن الاتفاق بين الطرفين غالبا لا يتم.

وعلى هذا ، فالعنصر الأول من المعرفة الشخصية بين الفتى والفتاة كان مكفولا في المجتمع الإسلامي، وصورة الفتى معروفة للفتاة، وصورة الفتاة معروفة للفتى، فلا داعي لأن تشغل أفكارنا بما يبتكره الخيال من المآسي التي تنتج عن مفاجأة أحد الزوجين بقبح الثاني، إلى آخر ما تجود به أقلام أولئك المضللين الذين لا يستهدفون في الحقيقة لا مصلحة الأسرة ولا مصلحة المجتمع ولا مصلحة الفتى والفتاة. وأظن أن هذه الصورة كافية لتبديد ما يقوله أولئك المرجفون. فأية فتاة في طور المراهقة وهي تتوقع كل يوم أن تؤمر بالتحجب والاستقرار في البيت- لم تكن تتطلع إلى الفتيان الذين تمر بهم ويمرون بها وترهم ويرونها، وتتأمل بكل ما تملك من أحاسيس المراهقة صورهم وحركاتهم وأقوالهم؟ وأي فتيات تجمع بينهن خلوة اللعب أو الحديث، لم يكن يستعرضن جملة من الفتيات ويتحدثن عنهم حسب عواطفهن وأمزجتهن ونظرتهن للرجل، ويتمثلن همسة الحب وبناء العش وعيشة السعادة مع هذا أو ذلك؟ وأي فتى بقي مجهولا لم يعرفنه معرفة تكاد تكون كاملة ويستمعن إلى الحديث عنه ويتحدثن؟ أما الصورة المقابلة فهي أوضح. فأي فتى في طور المراهقة لم يكن يتتبع ويتأمل كل فتاة تقترب من سن البلوغ وتتهيأ للزواج؟ وأي مجمع للفتيان في لهو أو سمر لم يكن مدار الحديث فيه عن فتيات القرية أو الحارة، وعن لونها وشكلها وحركاتها وسلوكها وموقف أهلها منها، فأي فتاة بقيت مجهولة منهم. إن من ينكر ذلك إنما ينكر واقعا ظاهرا ظهور الشمس ولا حاجة للبرهنة عليه فإنه يحمل الدليل في قلب كل ذكر وأنثى من سن المراهقة إلى سن اليأس.

فما هي النقطة الثانية التي يريد أن يعرفها الفتى في الفتاة أو هي فيه ما داما قد عرفا منهما الشكل واللون وكثيرا من السلوك.

يقول المفتنون من الكتاب سواء كانوا غلاة في اتباع الآراء المستوردة أو مائلين إلى الاعتدال يريد أن يعرف أخلاقها، وتريد أن تعرف أخلاقه، وكيف يصح لشخصين يجتمعان على رباط يربط بينهما مدى الحياة وكل منهما يجهل أخلاق الآخر، ويبدو هذا السؤال وجيها. وأنا قبل أن أدخل في مناقشة الموضوع أريد أن يفهم الأخوان القارئة والقارئ أنني إنما أتحدث إلى أخوين مسلمين يحافظان على دينهما وخلقهما وشرفهما، ويعتزان بكرامتها ، ويهمهما أن لا يحطما أي مثل من المثل العليا التي دعاها إليها دينهما.

كيف يستطيع الفتى أن يعرف حقيقة أخلاق الفتاة؟ وكيف تستطيع هي أن تعرف ذلك منه؟ هل تتيح لهما تجربة فنضع بين أيديهما سنة أو سنتين أو خمسا يعيشان فيها معيشة الأزواج. فإذا اطمأن كل واحد منهما إلى الآخر ورضي سلوكه نجحت التجربة وسمح لهما بالزواج، وإذا فشلت التجربة التمس الفتى فتاة أخرى، والتمست الفتاة لها فتى آخر لتجربة أخرى، فإذا كتاب القارئ الكريم أو القارئة الذكية يرضى أحدهما هذه الصورة- وقد دعا إليها كتاب في الغرب، ولم يخجل أن يتحدث بها كتاب في الشرق- فله أن يتبعها في نفسه أو أبنائه وبناته، وكل ما علينا له في هذه الحالة إنما هو حسرة على أخ فقدناه أو أخت خرجت من الأمة المسلمة الكريمة إلى أمة لا جنس لها ولا دين ويعوض الله المسلمين عنها خيرا.

أما الصورة التي تكون أخف من هذه التجربة فهي إتاحة اللقاءات المتكررة بين الفتى والفتاة بمحضر أسرتيهما أو أسرة أحدهما في زيارات مفتعلة لهذا، وقد تترك لهما خلوة قصيرة ينفردان فيها ليتحدثا عن همسات الحب ولواعج القلب، وقد ينال منها أو تنال منه في هذه الخلوة أشياء لا تبلغ أن تكون جريمة. ولا تقل عن كونها معصية ، وقد فتن بعض الناس بهذه الصورة وحسبوها حلا وسطا وزعموا أنها لا تتنافى مع الإسلام، وجروا للاستدلال على آرائهم هذه أحاديث شريفة يحملونها مالا تحمله، ويسوقونها لما لا تساق له، وقبل الحكم بأن هذا يجوز أو لا يجوز نريد أن نستعرض حقيقة المعرفة التي تحصل للخطيبين من هذه الزيارة، فهل يستطيع الفتى أو الفتاة أن يعرف أخلاق الآخر في زيارات رسمية يحضرها أفراد الأسرتين أو بعضهم، أو في خلوة مختلسة تتأجج فيها عواطفهما ويتوق كل منهما إلى أن يسمع همسة الحب من صاحبه أو يختطف منه ما يتيسر خطفه. وقد غاب في الحالة الأولى الطبع وحل محله التكلف، وغاب في الحالة الثانية العقل وحل محله العاطفة، فما مقدار هذه المعرفة؟ وما قيمتها؟ ثم إن تلك التجربة سواء كانت التجربة الكاملة كالصورة الأولى أو التجربة المقيدة كالصورة الثانية، لا يكون فيها شيء أبدا غير أن يتكلف الراغب منهما في الارتباط أنواع السلوك الذي يرضي الطرف الثاني حتى تتم عملية الارتباط الزوجي، ثم يظهر الطبع وتتغلب السجية ويذوب التكلف وهكذا لا يستفيد الفتى أو الفتاة من التجربة الشخصية نوع أول أو نوع ثاني أية معرفة حقيقية بأخلاق صاحب الثانية، ومآل تلك المسرحية كلها إلى الفشل ، ويبقى نفس السؤال قائما: كيف يتزوج إنسان بشخص لا يعرف حقيقة أخلاقه؟

إن فتاة الغرب ومن يسير في ركابها من فتيات الشرق هن اللواتي يتزوجن كل يوم بمن لا يعرفن أخلاقه رغم التجارب الكاملة، وإن فتى الغرب ومن يسير في ركابه من فتيان الشرق هم الذين يتزوجون كل يوم بمن لا يعرفون أخلاقهن. ولكي تتضح لك هذه الحقيقة تأمل ما يلي:

إن الفتى والفتاة الغربيين ومن يسير في ركابهما من فتيان الشرق قد افصلوا عن أسرهم فأصبحت لا تهتم بهم الاهتمام الحقيقي النظيف. وأصبح أولئك الفتيان ذكورا وإناثا لا يعتمدون على أسرهم ولا على أصدقاء أسرهم، وإنما يعتمدون على أنفسهم وعلى من شاكلهم من أصحاب التجربة العابرة. وذلك أن الفتاة وقد انفلتت من رباط الأسرة تمضي وهي تتلمس الحصول على زوج مناسب فترمي شباكها على كل من يروق لديها، وتبدي له من الأخلاق ما يستهويه، ويقوم الفتى بنفس الدور وهو يتلمس الفتاة التي يربط مصيرها بمصيره.

ويلتقي بها أو تلتقي به إما في السينما أو في الحديقة أو في المصنع أو في المتجر أو المكتب أو المعرض أو المنتزه العام أو غير ذلك من الأماكن والمحلات ، فتعجبه صورتها في بادئ المر، أو تعجبها صورته ويبادئها بالتحية والحديث أو تبادئه وتتكون العلاقة الشخصية الفردية المحصنة بين شخصين متباعدين لا صلة سابقة بينهما، وإنما ربطت الصدفة وحدها أواصر علاقتهما كما يربط السوق بين المشتري والبضاعة، وقد يكون الدافع الحقيقي لعملية الشراء إنما هو جوع المعدة عند الشاري وجمال التنسيق الظاهري للبضاعة رغم فجاجتها ومرارة طعمها.

وبعد هذا التعرف يضفي الراغب منهما في إتمام الصفقة على نفسه أكرم الصفات ويتحلى بأحسن الأخلاق، وعندما تتم يبدأ الصبغ الأخلاقي المتكلف في النصول، والطبع الحقيقي في الظهور، وحينئذ يتكشف للواحد منهما في الآخر من العيوب الأخلاقية ما لم يخطر له على بال، ويتضح لكل منهما أنه لم يعرف أخلاق الآخر، وأنه ارتبط به عن جهل، وتبدأ المشكلة في التعقيد....

وإلى جانب هذه الصورة الغريبة يمكن للقارئ والقارئة الكريمين أن يضعا الصورة المقابلة التي عاشت عليها الأمة المسلمة في أكرم عهودها، والتي ما زالت مستمرة إلى الآن رغم انحراف قليل دخلها من قبل، بسبب جهل بعض الأولياء، وأخطار تحف بها اليوم بسبب انخداع شبابنا نصف المثقف ببريق الحضارة الغربية الزائف. وإليك تلك الصورة:

عندما يدخل الفتى مرحلة المراهقة تبدأ أسرته وأقاربه يدرسون أخلاق الفتيات ويتأملون سلوكهن ويتعرفون حياءهن وأدبهن وبراعتهن في العمل إلى آخر ما يطلب في الزوجة الصالحة المحبوبة، ويقارنون بين الفتيات المتقاربات في السن، ويفاضلون بينهن ويستعرضون أثناء ذلك حال أسرهن ومركزها الاجتماعي. وهذا الموقف الذي تقفه الأسرة هو نفس الموقف الذي يتخذه الفتى، فيعرف عنها بطرقه الخاصة أكثر ما يعرفه غيره من الناس، وعندما يتقرر التقدم إلى الخطبة توضع الصورة الكاملة لسلوك الفتاة وأخلاقها في بيت أبيها أمام الفتى، ولا شك أن ذلك السلوك الذي كانت تسلكه الفتاة في بيت أبيها هو خلقها الطبيعي دون تكلف أو تظاهر أو رياء. ويوجه الأولياء فتاهم ويقترحون عليه أو يختارون له، فإذا لم يرق له اختيارهم لأنهم غلبوا الجانب الخلقي أو المركز الاجتماعي على الجانب الجمالي فإن من حقه أن يرفض اختيارهم وأن يختار لنفسه. وليس لهم فوق ذلك إلا أن يبذلوا له الرأي والنصيحة، أما الإقرار والتنفيذ فمن حقه وحده.

وقد يشذ عن هذه الصورة أب أو اهل فيتغلبون على فتى ويزوجونه من يختارونها رغم معارضته، وقد تكون نظرتهم في الموضوع مادية صرفه أو تأثير قرابة محصنة. وهذه الحالة هي الأخرى إنحراف عن النهج الإسلامي في تكوين الأسس السليمة لبناء الأسرة. ويجب أن يبتعد عنها أوليتاء الأمر كما يجب أن يبتعد الشباب عن الانحراف الغربي الحديث. ويبقى الطريق الطبيعي للاختيار والمعرفة، وهو أن يشترك أفراد الأسرة جميعا في البحث والاختيار ، أما الإقرار والتنفيذ فهو من حق الفتى وحده.

وبنفس الطريقة ونفس الأسلوب يتم اختيار الزوج للفتاة، فعندما تدخل الفتاة سن المراهقة يبدأ أفراد الأسرة في البحث والتنقيب والتساؤل والتطلع وتسلك الفتاة نفس المسلك الذي سلكته الأسرة بطريقتها الخاصة، وعندما يتقدم فتى لخطبتها تكون جميع المعلومات المطلوبة عن أخلاقه وسلوكه وحالته الاجتماعية معروفة عند الأسرة وعند الفتاة معرفة كاملة. فإذا اتفقت الأسرة والفتاة على القبول تم الارتباط، أما إذا اختلفتا باعتراض الأسرة أو اعتراض الفتاة، فإن على الأسرة أن تبين للفتاة رأيها وتقدم النصيحة الخالصة، أما القرار والتنفيذ فهو حق للفتاة وحدها، اللهم إلا إذا اعترضت الأسرة بمانع معتبر شرعا كاختلاف الدين مثلا، بأن يكون الخاطب غير مسلم فإن على الفتاة في هذه الحالة أن تستجيب راضية إلى حكم الله.

وقد تشذ عن هذه الصورة حالات خاصة تستمسك فيها الأسرة أو بعض أفرادها برأي خاص وتفرضه على الفتاة رغم إرادتها، وهذه هي الأخرى حالة انحراف عن المنهج الإسلامي يجب أن تقاوم بنفس الشدة التي يقاوم بها كل انحراف.

والآن بعد أن عرضت عليك هاتين الصورتين فأيهما أقرب إلى الحقيقة والواقع وأبعد عن التغرير والتضليل؟ وأي الفتاتين قد عرفت صاحبها معرفة أدق وأصدق من الثانية. تلك الفتاة التي دخلت ملعب الكرة فوقع نظرها على فتى راقتها تقاسيم وجهه فابتسمت له، فابتسم لها وحياها وجلس إلى جانبها حتى انتهت المباراة، وقد اكتشف كل منهما أنه يشجع نفس الفريق الذي شجعه صاحبه، وربط بينهما اتحاد ميولهما في لعبة الكرة فطلب منها أن تصحبه إلى مطعم لتناول العشاء ثم إلى السينما لقضاء السهرة، وتعدد اللقاء بينهما أياما أو شهورا أو سنوات، وكل ما تعرف عنه أنه فتى جميل، يحادثها في الحب ببراعة، وينفق عليها في الملاهي بسخاء، ويصف لها في الخلوات جمال الطبيعة، وبهاء القمر، وقد يتناول الحديث أسرته العريقة أو مركزه الخطير أو وظيفته المحترمة أو ثروته الطائلة، وقد ينفي كل هذا ويبني لها قصور الأحلام في الحياة السعيدة والعش الهنيء الذي يتعاونان في بنائه والحياة فيه، وبعد أن يستمتع بها وتستمتع به تتكشف له فيها عيوب ، وتتكشف لها فيه عيوب، فينفصلان ، لن كل واحد منهما لم يعرف الآخر معرفة حقيقية صحيحة. ويحاول أن يعيد التجربة مع غيرها، وقد تتعدد التجارب ، وتحاول أن تعيد التجربة مع غيره، وقد تتعدد التجارب أيضا، ويتعدد مع تلك التجارب عدم المعرفة الحقيقية، ويتعدد معها الخطأ نفسه، ويتعدد حتى ينتهيا إلى آخر مراحل العمر، أو ينتهي أحدهما إلى ذلك، وقد يركن أحدهما إلى زواج صوري لا يهنأ فيه ولا يستقر لأن الأخيلة في التجارب الماضية لا تزال تملأ فراغ ذهنه، وتشغل ذاكرته، وتعيد في نفسه المقارنة بين ما خسر وما كسب.

إذا وضحت لكِ الصورة السابقة أيتها الأخت المسلمة، وخطر لكِ أن توجهي إلى سؤالا تقولين لي فيه: كيف يحق لي أن اختار زوجي؟

فإليك الجواب:-

إنني أتصورك فتاة تدرسين اليوم في إحدى مراحل التعليم المتوسط، وقد تكونين ممن لزمت بيتها بأمر أسرتها، وأنتِ ولا شك تعرفين كل أو أغلب الفتيان الذين يعيشون في محيطك ، سواء كانوا جيرانا أو أصدقاء للجيران، أو زملاء في المدرسة، أو حتى أفواج الطلبة الذين تلتقين بهم وأنتِ ذاهبة إلى المدرسة أو آتية منها. ولا شك أنكِ تحدثت عن بعضهم مع زميلاتك في خلواتكن ولهوكن وسمركن، وأنتِ تعرفين كل أولئك الشبان أو أغلبهم معرفة سطحية والواضح منها صورهم الظاهرة، فإذا تقدم أحدهم إلى أسرتك يخطبك ، فلكِ الحق كل الحق أن تسألي من تثقين فيه من أفراد الأسرة أو الأقارب أو الأصدقاء عن أخلاقه وسلوكه ومركزه الاجتماعي وما يهمك من شأنه حتى تكوَّني عنه صورة واضحة صادقة تبين عليها حكمكِ بالقبول أو الرفض وليس لأهلك من عمل في الموضوع غير تزويدك بالمعلومات والنصائح- فإذا فرض أن الفتى الذي تقدم لخطبتك لم تقع عيناكِ عليه من قبل، ولم تعرفي عنه ما يجب أن تعرفه الزوجة عن زوجها فلكِ أن تطلبي من أهلك أولا أن يتيحوا لكِ رؤية هذا الرجل، رؤية هذا الرجل، لا في اجتماع متكلف ولكن في وضع طبيعي لا يدري فيه شيئا، حتى تتمكني من معرفة شكله ولونه وتقاسيم وجهه وبناء أعضائه. ثم أن يستمهلوه حتى تعرفي عنه صفاته وأخلاقه بالطريقة السابقة لا بطريقة التجربة ولا بطريقة اللقاء ، سواء كان ذلك بمحضر أفراد الأسرة أو بدون محضرهم فإن الرجل بالنسبة إليكِ لا يزال أجنبيا، وإنما أبيح لنا ولكِ النظر إليه خلسة، وأبيح له النظر إليك خلسة أيضا لئلا يقدم أحدكما على الارتباط برباط شرعي مقدس مع شخص لا يعرف شكله ولونه.

وهذه هي الصورة الوحيدة التي أرشدت إليها السنة النبوية المطهرة تمكين أحد الخاطبين في رؤية مخطوبه في حالة طبيعية غير متكلفة دون أن يهيأ لها الاجتماع والحديث قبل الارتباط بالعقد.

ولا داعي لأن يجمعوا بينك وبينه لا في محضرهم ولا في مغيبهم، فإن الشكل قد رأيته، وأن الخلق والمسالك والمركز الاجتماعي قد عرفته وقد اخترت موقفك منه، ونحن معك في هذا الموقف، سواء كان قبولا أو رفضا. فإذا شك أبوك أو أمك أو أحد من لـه عليك سلطان، أن ينحرف عن المنهج الإسلامي ويرغمك على قبول من ترفضين، أو رفض من تقبلين دون أن ستند إلى حكم من دين الله، فنحن معك في هذا الموقف ، ووليكِ هذا يجب أن يطيع الله فيك قبل أن يأمرك بطاعته في أمر نفسك.

فهل ترين بعد هذا أنكِ مظلومة في اختيار فتى الأحلام ورفيق العمر، وأبي الأولاد؟

إنني أنتظر منك أن تقولي: لقد رضيت ما رضيه الإسلام لي، وليذهب الغرب وأتباعه إلى الجحيم.

أما أولياؤنا ممن يحمله الجهل أو الطمع أو العصبية على الوقوف دون الحق وعلى معارضته شرع الله بعادة أو تقليد أو عرف خاطئ فإنني أرجو أن يزاح القناع عن أعينهم، وان تعمل الدولة على تعليمهم، وان يؤكد علماء الشريعة حق الأبناء على الآباء، وحق الآباء على الأبناء، حتى يسلموا أمرهم لله، ويحرصوا على مرضاته في أنفسهم وفي أبنائهم.

***************

المرأة والاشتغال في المرافق العامة

إن الله سبحانه وتعالى حين خلق الإنسان من ذكر وأنثى ، وجعله خليفة في الأرض، لم يخلقه ليكون عاطلا متبطلا عالة على الغير، ينام الليل كله وبعض النهار ليخدمه غيره ويقدم إليه كل ما يحتاج، وغنما أراده الله سبحانه وتعالى أن يكافح في الحياة وأن يقدم كثيرا من الخدمات لنفسه ولأسرته ولأمته ودولته. فما يحق لرجل أو لامرأة أن تستلقي على الفراش الوثير طوال الوقت تنتظر اللقمة توضع في الفم، والثوب يلقى على الجسم. والصورة التي عاشت عليها الأمة الإسلامية كانت صورة مشرقة من الكفاح والجد والمثابرة على العمل، يشترك فيها الرجل والمرأة، وما عرفت البطالة والكسل والترهل في أي عهد من عهودها، باستثناء بيوت متعددة في كل عهد أفسدها وفرة المال والسلطان لديها، وتلك البيوت المنحرفة لا تدخل في الإطار العام لحياة الأمة المسلمة لأنها تمثل الانحلال والانحراف والترف الذي جاء الإسلام لمحاربته.

والذين ينادون اليوم بحق المرأة في العمل، ومشاركة الرجل فيه إنما ينادون من حيث المبدأ بحقيقة ثابتة لم تتخل عنها المرأة في يوم من الأيام. ومتى كانت المرأة غير عاملة وفي أي فترة من فترات التاريخ؟ إذا استثنينا صورا جانبية اتخذ الترف فيه المرأة أو الرجل أداة لهو واستمتاع، وتلك حالات الدعوات الهدامة اليوم التي يقوم بها ناس يغترون بالمظاهر الخادعة، ويحملون أمهاتهم وآباءهم من الأوزار ما لم يرتكبوا- أن هؤلاء الناس يفكرون كما يفكر الأجنبي الذي لم يعش في الأوساط الإسلامية، ويتكلمون بنفس الطريقة التي يتكلم بها من جاء من أنحاء بعيدة لا يعرف شيئا عن بيئته وأمته، ويريدون أن يصبغوا أمتهم بذلك اللون الذي استمرأته أذواقهم وألفته نفوسهم، واستحوذ على عقولهم إن كانت لهم عقول، وهم يرون أنه ما لم تشتبك الفتاة مع الفتى في نزاع عنيف على كرسي المكتب أو مقود السيارة أو قبة البرلمان، أو جناح الثكنة فهي متأخرة وأمتها متأخرة.

إن العمل مهما كان- ما لم يناقض الدين والخلق- شريف، ومزاولة الرجل والمرأة لأي عمل ما لم يناقض الدين والخلق الكريم، حق له أو لها، وقد يكون في بعض الأحيان واجبا عليه أو عليها، والأعمال في جوهرها ليس فيها عمل أشرف من عمل. فعمل الموظف في نفسه ليس أشرف من عمل المباشر الذي يقدم له المساعدات، ورئيس المصلحة الذي يدير أعمالها ليس أشرف بعمله من العامل الذي يفتح له الباب وينفض الغبار عن مكتبه، وحقيقة الشرف إنما هي في نفس الشخص، في أخلاقه وفي معاملاته وفي سلوكه، وبالجملة في دينه، عن العامل الذي ينظف طرق المدينة ، والحارس الذي يحرس الدوائر الحكومية ويقوم بإعدادها لصلاحية العمل، والموظف القابع على كرسي ينجز الأعمال، ومدير المصلحة الذي يفكر ويخطط لإنجاز مهمات مرفق من مرافق الحياة، والتاجر الذي يدير الحياة الاقتصادية للمدينة أو البلدة، والمدرس الذي يتولى إعداد جيل من أبناء الأمة، والطبيب الذي يعمل بهمة لتخفيف الآلام البشرية، والشرطي الذي يسهر لحفظ الأمن، وغير هؤلاء من طوائف الناس الذين يتولون أعمالا تشتبك بها مصلحة الأمة. ليس واحد في هؤلاء أشرف من الآخرين بسبب المهنة أو الوظيفة المجردة ، وهذه الأعمال كلها شريفة برتبة واحدة ما دامت تتوقف عليها مصلحة الدولة والأمة من جهة، ومصلحة الأسرة التي يمونها القائم بالعمل من جهة أخرى، وكما أن هذه المهن باعتبارها حرفا يزاولها الناس ليس بعضها أشرف من بعض بالنظر إلى العمل نفسه، كذلك ليس بعضها أشرف من بعض بالنظر إلى الأجور المستحقة على أدائها، أو المكاسب المادية المتحصلة عليها، فليست كثرة المال داخلة في حساب الشرف أبدا، وليس الغني باعتباره غنيا أشرف من الفقير باعتباره فقيرا أبدا، ولكن الواحد منهم يكون أشرف من الثاني بما يتحلى به من فضائل الأخلاق، كالصدق في المعاملة والإخلاص في العمل والحرص على أداء الواجب وبذل المجهول في إتقانه ومحبة من يستحق الحب من الناس. وغن الكناس الذي يجمع القمامة من شوارع المدينة بجد وحرص ومثابرة ودقة لأشرف ألف مرة وأكرم من ذلك الشخص الذي يسند إليه مركز هام في مصلحة من مصالح الدولة فلا يحضر إلى عمله إلا بعد مضي نصف الوقت منتفخا بالغرور، فيجلس على كرسي وثير يتبادل البسمات الصفراء مع الزوار، وقد يتطوع فيضع توقيعه الكريم على بعض الملفات والأوراق، وتبقى مصالح الناس معطلة اللهم إلا ما ينجز بهمة موظفي المصلحة الصغار. ثم يقوم لتحمله سيارة الدولة الفارغة فتعود به إلى البيت وإلى ما شاء من الأماكن. لعل القارئة الكريمة تحسب أنني خرجت عن الموضوع الذي وضعت له العنوان، والحقيقة أنني إنما قدمت لها هذه الصورة لأتأكد أنها معي وأنها تزن شرف العمل بميزان الحقيقة لا بميزان المظاهر والقشور، فتوافقني على أن جميع الأعمال شريفة ما لم تكن مخالفة للدين والخلق الكريم.

إن خياطة الملابس أو غسلها وكيها تعتبر اليوم حرفة من الحرف التي تدور على أصحابها أرباحا ويكسبون منها قوتا لأسرهم، ولا يستطيع أحد أن يزعم أن مهنة الخياطة والغسيل والكي مخلة بالشرف، وإن القيام بعمل طبخ الطعام وتقديمه للناس يعتبر اليوم مهنة تدر على أصحابها مبالغ طائلة من المال. ولا يزعم أحد أن هذا العمل مخل بالشرف. وغن التعليم وإلقاء الدروس وتربية النشء عمل يدر مكاسب وتعيش عليه أسر، ولا يوجد أحد يزعم أن هذا العمل مخل بالشرف، بل إن ملاعبة الأطفال وتهيئة وسائل اللهو والعبث البريء لهم وتوجيههم في أثناء ذلك يعتبر اليوم من أهم الوظائف ويدر على أصحابها أموالا غزيرة، وما يوجد أحد يحسب أن ذلك يخل بالشرف. وغزل الصوف وحياكة الثياب أعمال تدر أرباحا ولا يوجد أحد يزعم أن هذه الأعمال لا يقوم بها أصحاب الشرف، وزراعة الأرض وجمع الغلال والقيام بأعمال البناء وغير ذلك كلها أعمال يقوم بها الناس وهم من خيار الأمة شرفا وقدرا، وطبيعة الحياة هي التي تتحكم في الفرد حتى يقوم ببعض الأعمال ليتحصل منها على أجر، أو يقوم بها لنفسه وبيته الخاص ولاستهلاكه، وقد عاش الرجل المسلم والمرأة المسلمة طيلة ثلاثة عشر قرنا يعملون جنبا إلى جنب كل واحد في الميدان الذي يحسنه والذي قد هيأته فطرته وتكوينه ، فلم يشك منها ولم تشكِ منه. إنها لم تقل إن الرجل قد استبد بها فحرمها من العمل، ولم يقل إن المرأة زاحمته فضيقت عليه مجال الكفاح، وإنما كان كل واحد منهما يعمل بجد ومثابرة في ميدانه الذي يعرفه تمام المعرفة، فإذا تعطل أحدهما لسبب من الأسباب استمر الثاني حتى تزاح العقبة عن صاحبه.

وجاء اليوم دعاة التقليد بفتنة المساواة ، يوهمون الرأي العام أن نصف المجتمع الذي هو المرأة معطل، ويشهد الله أن هذا النصف لم يتعطل إلا في المجتمعات التي استجابت لهم والتي تخلت فيه المرأة عن العمل الذي تقتضيه فطرتها إلى عمل بعيد عن تكوينها وميدان حياتها ، جريا وراء فتنة المساواة المطلقة، وإنه لإحراج لهم وللمرأة الساذجة التي انطلت عليها خدعهم وأضاليلهم أن نستجيب إلى قضية المساواة المطلقة من الرجل والمرأة متجاهلين فطرة الله التي فطر الناس عليها، وفي الإمكان أن نقول لهم: حسنا يا دعاة المساواة الكاملة المطلقة هانحن معكم وهيا إلى تنفيذ هذا المبدأ في نظركم. لنبدأ بالتعداد فكل مكان وجدنا فيه عددا من العمال يجب أن نصرف نصفهم ليتولى مكانهم عدد من النساء ولنبدأ هذا التنظيم العصري من أي مكان شاء هؤلاء، لنبدأه من المدينة أو القرية.

هذا مشروع الدولة للإسكان نحتاج فيه إلى قوة كبيرة من العمال لإنجازه في وقت مناسب، ولقد استحوذ عليه الرجال...هيا أيتها الدولة انصفي نصف المجتمع المظلوم واصدري تعليماتك إلى متعهدي البناء وأخبريهم أنهم أخطأوا حين أخذوا كل أعمالهم من الرجال، وعليهم أن يصرفوا نصفهم- وهيا أيتها الفتيات الشديدات تمنطقن والبسن ثياب العمل، قصرن من شعوركن على الطريقة التي يقص بها الرجل،بمبدأ المساواة أولا وحتى لا يعوقكن عن العمل ، لتبحث بعضكن عن خرق تضعها على أكتافها لتقيها ألم الحجارة وهي تنقلها إلى الأسطى، ليضع بعضكن قفافير في أيدهن حتى لا تمجل من حمل جردال الإسمنت أو دفع عربة اليد، لا تهتمي بغيرة الإسمنت التي تغطي وجهك فإنها تكون طبقة صلبة قوية لبشرة الوجه. املأي العربة جيدا وادفعيها بقوة وسرعة حنى لا يتعطل العمل، لقد أخطأت خطأ فادحا حين جئت بالكعب العالي، إنه لا يساعد على العمل البتة، لا تعودي به بعد اليوم.

أنتِ يا وزارة المواصلات كم عدد العمال الذين يشتغلون في الطرق؟ إنهم بضعة آلاف، حسنا اصرفي نصفهم وخذي بدلهم من النساء ، تقدمي أنتِ يا فتاة، امسكي المعول هكذا، وارفعي التراب هكذا، جري العربة، صففي الحجر وامسكي بخرطوم القطران. وأنتِ لا تخافي من الدخان هيا تقدمي. إنك مأجورة ونحن ندفع لك، لا تتأخري ولا تخافي من النار المشتعلة ولكن احذري أن يمس القطران الذائب يديك أو رجليك. ولكن ليس معنى ذلك أن تقفي هكذا مبهوتة فاغرة الفم، هيا اشتغلي.

لا شك أن هذه الصورة البشعة التي توضع فيها المراة، وهذا المأزق الحرج الضيق الذي تدفع إليه عملا بمبدأ المساواة في العمل وإتاحة الفرص للجميع- لم يتخيله طلاب اشتغال المراة في المرافق العامة ومساواتها بالرجل في ذلك، لأن القضية في جوهرها عندهم ليست هي قضية المراة. ولا قضية العمل ولا قضية المصلحة العامة، وإنما كل ما يعنيهم منها أن تكون المراة بين أيديهم وأعينهم، متزينة متبرجة متحررة من قيود الدين والخلق والعرف- مستبيحة ومستباحة. أحسب أن ما قدمته لكِ أيتها الأخت المسلمة يكفي لأن تعرفي أن أولئك الناس حينما طلبوا منكِ أن تشاركي الرجل في العمل لم يكن قصدهم ما تفهمينه أنتِ من حقيقة العمل وشرفه وإنما يريدون منكِ أن تكوني قريبة منهم في متاجرهم ومفاجرهم. وبنظرة بسيطة إلى واقع الأمة المسلمة في العهود التي سبقتك يمكن لكِ أن تعرفي أن المراة في طول العهود السابقة لم تكن عاطلة عن العمل، ولا متوقفة عن مشاركة الرجل في هذه المهمة الحيوية، غير أن الطريقة التي كان يعمل بها كل من الرجل والمرأة، كانت تسير حسب متطلبات الفطرة والطبيعة، فكان كل منهما يعمل حسب إمكانياته واستعدادته الفطرية والجسمية وما تقتضيه مصلحة العمل من جهة ومصلحة الأسرة والأمة من جهة أخرى، مقدرين في جميع ذلك المعاني الروحية والمعاني الجسدية في توازن تام بحيث لا يخل العمل بمطالب الروح ولا بمطالب الجسد ولا يعطل قوى أي منهما. منقادين للعواطف في إطار الصحة النفسية السليمة التي لا انحراف فيها عن سنن الأديان والأخلاق والعرف السليم.

فعندما يخرج الرجل إلى الحقل ليشتغل بالزراعة وتبقى المراة في البيت لتشتغل بالحياكة فهذا تشارك في العمل، وتعاون على متطلبات الحياة، يجري حسب ما هيأته الطبيعة لكل واحد منهما وما تقتضيه فطرته، وعندما يخرج الرجل ليعمل في مصلحة تنظيف الشوارع في المدينة وتبقى المراة لتعمل في تنظيف صالات البيت وحجراته، فإن هذا العمل يجري على سنن الفطرة وما تقتضيه طبيعة كل واحد من الجنسين، وعندما يخرج الرجل ليعمل طباخا في مطعم وتبقى المراة لتطبخ طعام الأسرة في البيت فإن هذا العمل جار على فطرة سليمة، وهكذا بقية الأعمال فإنه لا يوجد عمل بالخارج إلا ويقابله عمل بالبيت، وطبيعة تكوين الرجل تقتضي أن يقوم هو بالعمل الخارجي، وطبيعة تكوين المراة تقتضي أن تقوم هي بالعمل الداخلي ، فإذا وجدت ظروف خاصة في أسرة ما تضطر المراة أن تقوم بالعمل الخارجي أو الرجل أن يقوم بالعمل الداخلي جاز ذلك لهما على أن لا يتعدى ضرورة في الحياة، وشذوذا عن قاعدة عامة، هذا بالنظر إلى الرجل والمرأة بطبيعة تكوينها الجسمي والنفسي والروحي، أما النظر إلى الأسرة والبيت فإن الأسرة تعتمد على أساسين ثابتين في حياتهما، أحدهما مادي يجلب من الخارج وثانيهما روحي ينبع من الداخل. فإذا أناطت الأسرة الجانب المادي لها بالرجل وطالبته بان يوفر لهما متطلباتها من خارج المنزل بأسلوب من أساليب العمل كان هذا يجري حسب الفطرة السليمة. وإذا أناطت الجانب الروحي بالأم وطالبتها بأن تضفي على الأسرة داخل البيت، الجو المناسب من الاطمئنان والاستقرار والسكن وتبادل شعور المحبة والعطف، كان هذا أيضا طبيعيا يتفق مع الفطرة السليمة. أما لو تغير هذا الاتجاه فطلبت الأسرة من الأم أن تقوم في الصباح الباكر لتلبس ثياب العمل ثم تشق الأنهج والشوارع، باحثة عن العمل حتى توفر الجانب المادي الخارجي للأسرة، ثم طلبت من الرجل أن يبقى في ثياب البيت ليوفر الجانب الروحي الذي تحتاجه الأسرة، فإن هذا السلوك يكون انحرافا ومرضا نفسيا وشذوذا عن طبيعة الحياة. ومهما تكن المراة مسترجلة فإنها لا تستطيع أن تقوم بواجبات الرجل، ومهما يكن الرجل متأنثا فإنه لا يستطيع أن يقوم بدور المراة ، ومهما يكن قلبه مفعما بالمحبة والعطف، فإنه لا يستطيع أن يعبر عن مشاعره لأفراد الأسرة المختلفين بالطريقة التي تعبر بها المرأة، ولا أن يضفي على البيت ذلك الجو الذي تضيفه هي عليه.

فإذا أثبت بالواقع الذي عاشته الإنسانية في عمرها الطويل أن المراة تستطيع أن تقوم بعملها لفائدة الأسرة والمجتمع في البيت بجدارة لا يساويها فيها الرجل ولا يقترب منها ، وان الرجل يستطيع أن يقوم بعمله لفائدة الأسرة والمجتمع بجدارة لا تلحقه فيها المراة ولا تقترب منه، فلماذا نحاول أن نغير طبيعة الفطرة فتخرج المراة لتقوم بعمل الرجل ونحبس الرجل ليقوم بعمل المرأة ، أو نجمعهما معا ليقوما بعمل الرجل ويبقى عمل المراة مهملا دون أن يقوم به أحد. إنه بمقدار عدد النساء اللاوتي أخرجناهن إلى العمل في ميدان الرجال نكون قد حرمنا أرباب أسر من العمل وهم مسئولون شرعا وقانونا وعرفا على رعاية تلك الأسر، ووضعنا ما كان يجب أن يؤول إلى تلك الأسر بأيدي أفراد من النساء، هن مكفولات بحكم الشرع والقانون وبقدر عدد أولئك النساء اللاتي أخرجناهن إلى العمل في ميادين الرجال نكون فد هدمنا أسرا وحرمناها من الرعاية والحب والحنان، وأغلقنا بيوتا أو وضعناها تحت تصرف الخدم والأجراء.

ولقد تنخدع الفتاة أو ينخدع الفتى بالنظرة المادية المجردة أو بالنظرة المحصنة، ولكنهما لا ينخدعان أبدا بالنظرة الجماعية، النظرة إلى الأسرة في تكوين الأمة. اللهم إلا إذا كانا متحللين من الأخلاق والمثل ورعاية المصلحة العامة.

إن طبيعة المرأة وتكوينها الخلقي والخُلقي ومواهبها تقتضي أن تقوم بأعمال معينة في مجالات معينة وحدود معينة، وإن طبيعة الرجل وتكوينه الخلْقي والخُلقي ومواهبه تقتضي أن يقوم بأعمال معينة في مجالات معينة وحدود معينة، فإذا شذت امرأة وقامت بأعمال الرجل أو شذ رجل وقام بأعمال النساء فلا بأس من ذلك ولكل قاعدة شواذ، أما أن نجعل ذلك الشذوذ قاعدة فنسوي بين الطرفين في العمل أو نطالب النساء بأعمال الرجل أو الرجال بأعمال النساء فذلك مرض اجتماعي خطير يحتاج إلى علاج. وخروج عن الفطرة البشرية التي جعلت من الإنسان ذكرا وأنثى وجعلت من كل ذكر وأنثى زوجين يكوَّنان أسرة لها خصائص ومميزات. إن كل امرأة تخرج من البيت لتمسك عملا من أعمال الرجال تكون قد أحدثت خللا في التوازن الاجتماعي وذلك لأننا بوضعنا امرأة في المعمل أو المكتب أو المتجر أو المزرعة، نكون قد أخرنا رجلا يمون أسرة بذلك العمل، وحرمنا أسرة من دخل ضروري لها لنضعه في يدي أسرة أخرى قد نالت حظها وحصلت على حقها ، والآن أيتها الفتاة المسلمة احسبني قد وضعت بين يديك الحقائق التي يجب أن تعرفيها وأن أحدا لا يستطيع أن يخدعك، فإذا كان قلبك لا يزال ممتلئا بإيمانه، وعقلك لا يزال محتفظا برجاحته وحكمته فإن السبيل أمامك واضح وإنك في بيتك وبحجابك محترمة حتى من خصومك، محبوبة من الجميع، وإذا شئتِ أن تسلكي مسلك المتبرجات الفاجرات فإنكِ قد تسمعين غزلا لكِ، وقد تسمعين إطراء لفتنتك وجمالك ليلعب بك اللاعبون حتى إذا جف عودك وذوي جمالك وخسرت دينك وأغضبت ربك لفظك أولئك العابثون ولم يبق يرن في أذنيكِ إلا قهقهة الشيطان ساخرة شامتة، " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين ، فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها، وذلك جزاء الظالمين".

*****************

تعَدُّد الزوجَات

هذا موضوع آخر من المواضيع التي كثرت فيها الكتابة في هذه الفترة الحرجة من تاريخ الأمة الإسلامية، وذلك أن الغرب اتباعا للشهوة قد منع تعدد الزوجات في عصبة رجل واحد تحت نظام يكفل لهن الحياة الكريمة ، والعيش الشريف، وحماية الدين والقانون والعرف. وأباحه لهم ولهن بدون تحديد للعدد، وبطرق لا تحفظ للمرأة كرامة ولا حقا، ولا تكفل لها حياة ولا شرفا. واندفع مغترون من أبنائنا وراءهم يلهثون . ويصيحون بنا أن نلحق بهم...

ونحن كأمة مسلمة لا يهمنا ما يتردى فيه الغير ويتخبط فيه إلا بمقدار ما يدرك مدى الخطر والأضرار التي تلحقنا لنتباعد عنها ولننذرهم بسوء العاقبة التي تنجم عن ترديهم باعتبارهم أمة ذات رسالة لإسعاد البشرية.

وإذا قال أولئك الناس البعداء عن النظر في أحكام الله يمنع التعدد أو يجوز بتحديد أو بدون تحديد، أو قالوا غير ذلك فإن كلامهم هذا لا يهمنا، وتشريعاتهم تلك لا تستلفت نظرنا. إن الذي يهمنا ويجب أن نفهمه وان نعلمه وأن نعمل به، إنما هو التشريع الذي أنزله الله خاصا بالأمة المسلمة... وكان يكفي المراة المسلمة والرجل المسلم أن يقال لهما: هذا حكم الله فيذعنا ويسلما تسليما، دون نقاش ودون فلسفة مصلحية أو عاطفية، ودون آراء بشرية، وما دامت إرادة الله تبارك وتعالى تطالبنا بعمل أو بترك ، أو تحرم علينا أو تجيز لنا فليس لنا أن نخرج عن مقتضى تلك الإرادة.

والذي يؤسفنا في الموضوع ليس هو ذلك الهذر الطويل الذي ينعق به أتباع الغرب كل يوم، ولا هو مسلك المنحرفين والمنحرفات عن الدين والخلق ولا المخدوعون ببهرج الحضارة الغربية دون تمييز بما يصلح فيقتبس أو لا يصلح فينبذ، ولا طغيان التحرر الإباحي في بعض المجتمعات فإن ذلك كله لا يقدم ولا يؤخر في حقيقة التشريع ولن يلبث أن يرتد عندما يصدم بصخرة الإيمان.

وإنما الذي يؤسفنا حقا إنما هي أقلام تنتسب إلى العلم وتشتهر في الدراسات ثم تأتي إلى آيات من كتاب الله عز وجل، وإلى أحاديث من رسول الله e فتختلق لها معاني ليس لها، وتتمحل لها المفاهيم وتشتق لها الشروط، وتستخرج منها أحكام تخالف أحكام الإسلام وتناقضها، وتخالف ما اجمع عليه المسلمون منذ خير القرون حتى العصر الحاضر، مستندة إلى منطق مزعوم وفهم أعرج.

ومن أمثلة ذلك مجموعة من الكتاب يخشون أن يرمي دعاة الحضارة الغربية الإسلام بأنه لا يساير ركب الحضارة والتقدم ويصفوه بالرجعية والجمود فيحاولون من جانبهم أن يثبتوا لأولئك الدعاة أن الإسلام يوافقهم ويسير معهم وقد سبقهم.

وفي موضوع تعدد الزوجات كانت الفكرة الغربية تأنف أن تبيح تعدد الزوجات بالقانون ولكنها تبيحه بمنطق التجربة والحرية وغيرها، وخاف هؤلاء الكتاب أن يرمى الإسلام بالتخلف فجعلوا يحاولون أن يوافقوا بين ما جاء في الإسلام وما تجيء به الآراء البشرية من تحريم التعدد فقالوا: إن القرآن الكريم يحرم التعدد ، لأنه يشترط العدل على طالب التعدد، وينص أن الإنسان لا يستطيع أن يعدل ولو حرص. وينتج من هذا أن مريد التعدد في الزواج مطالب بالعدل، وأن العدل مستحيل في طبيعة البشر ، فإباحة التعدد مستحيلة أو غير جائزة.

بهذا المنطق الملتوي والفهم المنحرف يتناولون الآيات البينات من كتاب الله تعالى ليلحقوا حكما من أحكام الإسلام بحكم النصرانية المحرفة لأن الحضارة الغربية اعتنقته حين لم تعرف غيره. والغريب في أمر هؤلاء القوم أنه لا يخجلهم دعواهم أنعهم أفهم للكتاب العزيز من النبي e ومن الصحابة رضوان الله عليهم ومن علماء الإسلام منذ عصر النبوة إلى اليوم. ولم يرتفع إلى أذهانهم أن الأمة بمختلف مذاهبها قد أجمعت على جواز التعدد وأن الإجماع حجة، ولقد عاش رسول الله e طول حياته وأصحابه رضوان الله عليهم يجمعون بين أكثر من واحدة ويطلقون. ولم يعرف عن رسول الله e أنه نهى عن التعدد ، اللهم إلا حالة واحدة ذكرها المؤرخون. وذلك عندما عزم أبو الحسن علي بن أبي طالب أن يتزوج بنت أبي جهل على فاطمة بنت رسول الله e ، فغضب رسول الله e وخطب على المنبر فأثنى على بعض أصحابه خيرا ثم قال:" والذي نفسي بيده لا أحل حراما ولا أحرم حلالا ولن تجتمع بنت نبي الله مع بنت عدو الله". والذي أغضب رسول الله e ليس هو التعدد ولا زواج علي على فاطمة، وإنما أغضب رسول الله e الجمع بينت بنت رسول الله e وبنت أبي جهل عدو الله في بيت واحد، وكأنما خاف النبي e أن يأتي ناس في آخر الزمان يستندون على حديثه هذا ليردوا حكما من أحكام الله. فقرر أنه بموقفه هذا لم ينسخ الحكم الأول بجواز التعدد ، وانه لم ينتهك حرمة أحكام الله، فيحلل الحرام أو يحرم الحلال، إن أحكام الله في الموضوع باقية ثابتة، وإنما الذي أغضبه وجعله يقف هذا الموقف الشديد إنما هو التفكير في الجمع بين نبي الإسلام وبنت عدو الإسلام في بيت واحد وتحت عصمة رجل واحد.

لقد يساعدك أيتها الفتاة المسلمة الذكية أن تتركي كلام البشر وتتأملي كلام الله تبارك وتعالى الواضح البين الصريح وهو يقرر حكمه بشأنك ويصدر أوامره تعالى إليك وإلى زميلك الفتى، اقرأي قوله تعالى:] وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنى ألا تعدلوا، وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا[. ويقول عز وجل في آية أخرى:] ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ، فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة، وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما[.

وأحسب أنكِ لستِ في حاجة إلي أيتها الفتاة الذكية لأساعدك على فهم الآية الكريمة التي تخاطب الرجل تكون تحت رعايته فتاة يتيمة يتولى تربيتها والإشراف على شئونها فتنازعه نفسه إلى الزواج بها لجمالها وشبابها، أو لمالها وثروتها، أو أنه يستطيع أن يحصل عليها دون أن يدفع لها ما يدفع لمثلها.

والله سبحانه وتعالى يخاطب ذلك الرجل ويأمره أن ينظر إلى تلك الفتاة بحقيقة العدل والشهامة ، فإذا كان الدافع إلى الزواج بها هو دافع المحبة والمودة فقط، ولم يكن بينهما فرق في السن يتيح عنه بعد في المشاعر والأحاسيس وكانت الفتاة بعملية الزواج به لا تحس بأي غبن أو حرمان أو ظلم ، جاز له أن يقدم، أما إذا كان هنالك سبب مصلحي يدعوه إلى الزواج بها وليس بها فيه أية مصلحة فإن الله يأمره أن يعرض عن ذلك وفي إمكانه أن يجمع بين عدد من النساء مثنى وثلاث ورباع حتى يسد عن نفسه الفراغ الذي يحسه بحرمانه من تلك الفتاة التي قد تكون جمعت بين المحاسن الوضيئة، والروح الرضية، والمال الوفير، والعقل الرصين، والشريعة الاسلامية حين تنقذ هذه الفتاة اليتيمة من أن تكون ضحية للعرفان بالجميل فتظلم في نفسها أو في مالها تبيح للرجل أن يعوض عن تلك المكاسب المادية أو النفسية بأن يجمع في بيته من يجد عندها الجمال أو المال أو الخلق الكريم والدين القويم لئلا يشعر هو الآخر بأنه ظلم وحرم من جزاء إحسانه وتضحياته لمن تولى رعايتها، ولكنه في ذلك يحذر أيضا من ان يعتقد أن تلك الاباحة مطلقة ويطالب بمراعاة العدل. والله سبحانه وتعالى يجعل على الرجل في الحالتين رقيبا لا يغيب ولا يغفل ذلك الرقيب هو إحساسه الاسلامي المرهف، وضميره اليقظ الحي:] وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى[، ] وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة[. إحساس الرجل بالخوف من عدم الإقساط في أمر اليتيمة وإحساسه بالخوف من عدم العدل في التعدد هو مناط الحكم، وعليه مدار الإقدام أو الأحجام. إن الرجل عندما يفكر في الزواج من اليتيمة التي يرعى أمرها ولم يحس بأي خوف من انه يستغلها بسبب إحسانه إليها وأنه لم يهدف مطلقا إلى تحقيق شهوة أو مصلحة لنفسه على حسابها، وكان إحساس هذا الرجل حيا، وقلبه مفعما بالإيمان ، فإن له أن يقدم على الزواج في حالة الأمن وأن يعرض عنه في حالة الخوف، ولو عوض ما فقد منها بتعدد الزوجات.

وفي أمر التعدد نحتاج إلى نفس الموقف نحتاج إلى الإحساس الحي والقلب المفعم بالإيمان، فإذا وجد عند الرجل الدافع إلى التعدد ولم يفتح أمامه الطريق على مصراعيه هكذا، وإنما يطالب باستشارة قلبه، فإن أحس بالخوف من عدم العدل، وجب الإحجام عن التعدد، وغن أحس بالاطمئنان والاستئناس والقدرة على العدل جاز الإقدام على التعدد، ولا شك أن القلب الذي حكم هذا التحكيم، ويوزن به هذا الوزن، وتعلق على حكمه مصائر أفراد من البشر إنما هو القلب المؤمن الحساس الذي يراقب الله ويخشاه، أما القلب الذي رانت عليه الشهوة، وغلبت عليه الشقوة فليس له في هذا المجال حساب.

واضح من سياق الآية الكريمة أنها أباحت لكافل اليتيمة أن يتزوج مثنى وثلاث ورباع حتى لا يظلم اليتيمة في نفسها أو مالها، وحتى لا يحس بأنه محروم في أمرها، ولكنها أمرته بالاقتصار على الواحدة إذا خاف من نفسه عدم العدل ولم يطمئن إلى قوة إرادته في التغلب على النوازع والمشاعر والميول، فتؤثر على سلوكه مع أزواجه، وواضح منها أيضا أن التعدد إنما يبيح فيما يشبه أن يكون ضرورة تفرضها النفس البشرية ونوازع الفطرة وحياة المجتمع. وإن تلك الضرورة عند الرجل الذي يستجيب لها تتلاشى إذا خاف من نفسه عدم العدل. ويجب عليه الاقتصار على الواحدة.

فإذا شئتِ أيتها الفتاة المسلمة أن تنتقلي إلى تأمل الآية الأخرى يتضح لكِ الحكم الاسلامي في الموضوع ويستبين لكِ معناه الكامل الذي تناولته الآيتان فافعلي:

] ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة، وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما[.

هكذا تقرر الآية الكريمة في صراحة ووضوح أن الرجل لا يستطيع أن يعدل في النساء ولو حرص والقرآن الكريم ينفي هذه الاستطاعة بـ "لن" التي تفيد تأبيد النفي واليأس من وقع المنفي، حتى لو حرص الرجل على الإتيان بالعدل، لأن العدل الكامل ليس من طبيعة البشر ولا في إمكانه، وعقب على هذا الحكم القاطع بعدم استطاعة الرجل للعدل بقوله ] فلا تميلوا كل الميل[ أي عن بعضهن إلى بعضهن دون البعض، فتبقى الواحدة منهن كأنها معلقة ليست متزوجة ولا مطلقة، ولاشك نفي المولى سبحانه وتعالى لاستطاعة الرجل العدل ولو حرص ثم نهيه لـه أن يميل كل الميل هو إباحة التعدد مع تحقق عدم استطاعته العدالة وإنما ينهاه عن الجور في الميول أو الميلان فيما تمكن فيه الاستطاعة أن تعدل في النساء ولو حرصت فاجهد أن تعدل فيما تستطيع العدل فيه، ودع مالا تستطيعه إلى خالق الرجل والمرأة وما لهما من حقوق وواجبات، ثم أرجع سلوك الرجل والمرأة جميعا إلى الإحساس الإسلامي والقلب المفعم بالإيمان وبين لهما أن سلوكهما إذا كان منبعثا عن إرادة الإصلاح وعن التقوى واستشعار خوف الله فإن الله غفورا رحيما.

ويوضح الرسول e هذا المعنى حين يتجه إلى مولاه عز وجل يعرض سلوكه في أهله، ويعتذر عما في نفسه:" اللهم هذا قسمي فيما أمللك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك".

ويسرني أيتها الأخت الكريمة أن تتناولي بيديك اللطفيتين الطاهرتين مصحفا شريفا ثم تجلسي في مكان طاهر وتفتحي على سورة النساء ثم تبدئين التلاوة من أول السورة في تدبر وإمعان وخشوع وفهم إلى نهايتها، وعندما تمرين بالآيتين الكريمتين فأطيلي فيها الوقوف والتأمل مع ملاحظة السياق، وإذا شئتِ أن تستعيني ببعض كتب التفسير فقد تفيدكِ في زيادة الفهم والرضا بحكم الله.

بعد هذا كله أحب أن أقول لكِ إن القرآن الكريم قد أباح تعدد الزوجات في عصمة رجل واحد، بحيث لا يتجاوز عددهن أربعا في وقت واحد. على أن تكفل لكل واحدة منهن حقوقها وكرامتها، وقد جرى على ذلك الناس في عهد رسول الله e وفي عهد أصحابه من بعد، وقد كانوا- ولا شك- أفهم للقرآن ، وأحفل به منا وأحرص على التقيد بأحكام الله. فإذا جاء اليوم متكلف يتكلف للقرآن الكريم معنى يناقض المعنى الذي فهمه الرعيل الأول من هذه الأمة، وسيره غير السيرة التي سار عليها أولئك المعتدون، ففهمه وسيرته مردودان عليه.

ولقد كان يكفي هذا المقدار ليرضى المؤمن وترضى المؤمنة أنه لو لم يرد نص في كتاب الله يبيح التعدد لكان يكفينا تشريعا أن يثبت أن التعدد واقع في عهد رسول الله e وأنه علم به ولم ينه عنه.

ومن البديهي عند المؤمن والمؤمنة أن الحق إنما هو الحق الذي أعطاه الله لهما أو لأحدهما، وأن ما حرمه الله عنهما أو عن أحدهما فليس له بحق. فإذا أباح الله للرجل أن يجمع بين أربع زوجات فذلك من حقه، لأن الله تبارك وتعالى هو الذي خوله هذا الحق. وإذا طلب الرجل زيادة عن أربع فليس ذلك من حقه لأن الله لم يتح لـه هذا الحق، ولم يبحه لـه، وما يقال للرجل يقال للمرأة ، فإن الله حين أباح لها أن تتزوج رجلا واحدا فهذا حقها لها أن تطالب به، وتحصل عليه، وعندما حرم الله عليها الزيادة على الواحد فليس من حقها أن تطالب بالزيادة عليه لأن ذلك ليس من حقها.

فإذا جاء اليوم ناس يطالبون بتساوي الرجل مع المراة في الحقوق والواجبات ، قلنا: حبا وكرامة. إنه يجب أن يتساويا فيما ساوى الله بينهما فيه. وان يختص كل واحد منهما فيما لـه من حقوق أو عليه من واجبات فيما خصص الله كلا منهما به. ومن الخطأ أن تتجاهل أحكام الله لنراضي عواطف الرجل أو عواطف المراة، أو نسترضي بشرا لا يبلغ ما لديهم من علم وفكر غير تجارب ناقصة لم تكتمل ولن تمتد أكثر من بضع سنوات.

وإنه لحق على المؤمنة أن تعتبر كل حكم جاء به الإسلام هو حق يجب أن تستمسك به، فإذا شكت في الحكم هل ينبني على أسس الإسلام، أم انه تقليد أو عادة ألصقته بالإسلام أفهام بشرية في بعض العصور فإن لها الحق وكامل الحق في البحث والمناقشة والرجوع بالموضوع إلى أصول الشريعة من الكتاب والسنة والإجماع وسيرة السلف من أصحاب رسول الله e وفي ذلك الحجة الكافية لها أو عليها، وعليها أن تقبل ما يثبت من مصادر التشريع ، سواء وافق مشاعرها وهواها وعواطفها أو خالف كل رغباتها.

ونحن حين نتحدث عن تعدد الزوجات نقول للأخت المسلمة: عن الله سبحانه وتعالى قد أباح للمسلم أن يجمع بين أربع زوجات فأقل ، بشرط أن يحفظ لجميعهن حقوقهن وكرامتهن، وليس لكِ أن تعترضي على حكم الله ، ويجب أن ترضي به وتسلمي تسليما.

على أننا لسنا ندعوا إلى التعدد ما لم توجد أسبابه ووسائله، وتتهيأ ظروف إقامته على أساس سليم من العدل الممكن، ومراعاة الحقوق المتساوية والمعاملة الطيبة الكريمة، وتدعوا إليه ضرورة اجتماعية تحتم الالتجاء إليه صيانة للمجتمع من فساد ينشأ عن زيادة عدد النساء عن الرجل. أو ضرورة شخصية معتبرة شرعا. ثم إن الزوجة الثانية فما بعدها مخبرة في الموافقة على التعدد والدخول إلى بيت فيه زوجة أو زوجات.

وأستطيع أن ألاحظ هنا أن نية المراة وأسباب دخولها إلى بيت عامر بامرأة أخرى أهم شيء في الموضوع. فإذا كانت الظروف التي تحمل المراة الثانية على القبول ظروفا معقولة ومقبولة شرعا بالنسبة لها وللزوج والزوجة الأولى، وكانت نيتها سليمة ، كان ذلك أمرا لا يستدعي منا الشكوى، أما إذا كانت الأسباب داخلة في باب التحدي أو الانتقام أو المغامرة أو غلبة الهوى والعواطف وما إلى ذلك. فإن الحساب سينصب عليها وسيتولى الله سبحانه وتعالى إيقاع العقوبة عليها نظير ما سببته من تنغيص وألم لأختها المسلمة.

وما قلناه في موضوع القصد والنية للزوجة الثانية نقوله للرجل أو للزوج الذي يسعى إلى التعدد ، فإنه لا يحق له أن يفكر في التعدد ما لم يكن الدافع إليه نابعا من روح الإسلام مجردا من الهوى بعيدا من تحكم الشهوة ودافع المتعة. فإذا أقدم على الزواج المتعدد وفي إحساسه شيء من الكيد للزوجة الأولى أو تنغيص حياتها أو الانتقام منها أو الرغبة في تعذيبها أو القصد إلى إهمالها وتعطيل حقوقها فإنه حينئذ لا يكون إلا مجرما أثيما يستحق أشد أنواع العقاب، والذي يتولى عقابه في هذه الحالة وينتصر للزوجة المظلومة هو الله الواحد القهار.

*انتهى الكتاب*