طباعة
المجموعة: دراسات وبحوث
الزيارات: 2131

المصالح بين المفتَرَق والمُشتَرك

الإمامان اطفيش والسالمي نموذجين

 للباحث: أ.د: محمد الشيخ

 

-        1 –

النظران  الفلسفي والشرعي في المصالح

 

أن يكون فيلسوف عربي قديم قد خص موضوع "المصالح" بكتاب ـ على ندرة ما كتبه فلاسفة العرب في هذا الموضوع ـ فهذا ما قد لا يُستغرب من الفلسفة التي شأنها أن تهتم بالإنسان من حيث ما هو إنسان، وأن يكون من ضمن ما تهتم به في الإنسان مصالحه اعتقادا وانتقادا. وذاك كان حال الفيلسوف العربي المسلم أبي زيد البلخي (235 – 322 هـ) في كتابه الموسوم باسم "مصالح الأبدان والأنفس" ـ صاحب كتاب "أخلاق الأمم" و"شرائع الأديان" و"وجه الحكمة في الأوامر والنواهي الشرعية" الذي سماه "كتاب الإبانة عن علل الديانة"، بما دل، عنده، على انشغال بالمصالح وبالمقاصد ليس لدى أمة الإسلام وحدها دون عداها وإنما لدى مختلف الأمم؛ أي أنه كان انشغالا كونيا مشتركا لما كانت الأمة الإسلامية تفكر في الجميع وللجميع.

ولا غرابة في هذا الإهتمام، عنده، الجامع بين الحكمة العقلية والحكمة الشرعيةـ وهو الذي أورد له البيهقي ـ في تاريخ حكماء الإسلام ـ القول الجامع: "الشريعة الفلسفة الكبرى، ولا يكون الرجل متفلسفا حتى يكون متعبدا مواظبا على أداء أوامر الشرع".

وفي مقدمة كتابه ذاك عن "مصالح الأبدان والأنفس"، يعلن أبو زيد البلخي: "هذا الكتاب ألفته في مصالح الأبدان والأنفس ... وقسمته مقالتين أحداهما في تدبير مصالح الأنفس ..." والقسم الآخر ـ وهو الأول ـ في تدبير مصالح الأبدان. ويعقد الباب الأول من القسم الأول "في الإخبار عن مبلغ الحاجة إلى تعهد الأبدان ومنفعة ذلك وعائدته"، كما يعقد الباب الأول من القسم الثاني للحديث عن: "في الإخبار عن مبلغ الحاجة إلى تدبير مصالح الأبدان".

وقد بنى البلخي تصوره لمصالح الأبدان والأنفس على تصور للإنسان ذكره في مقدمة كتابه "كتاب مصالح الأبدان والأنفس" على النحو التالي: "إن الله جل ذكره خص الإنسان بقوة التمييز ليعرف النافع فيجتلبه والضار فيجتنبه ليكون ذلك سببا إلى صلاح معاشه ومعاده وذريعة إلى إحراز خير عاجله وآجله، وآلته في اجتلاب المنافع واجتناب المضار نفسه فبدنه، فبصلاحهما يتهيأ له بلوغ الواجب من ذلك عليه إذ ليس للإنسان سواهما. وهما قسما كونه وسببا وجوده في هذا العالم؛ فلذلك يحق على كل عاقل أن يعمل جهده واجتهاده فيما يستديم سلامتهما وصحتهما ويدفع عنهما عوارض الأذى والآفات، وحوادث العلل والأسقام. وأن لا يفيت نفسه حظا من العلم بالأشياء التي يُصل بمعرفتها واستعمالها إلى صلاحهما. وأن يجعل ذلك من أهم أموره إليه، وأولاها بأن يقصر عنايته عليه"[1]. ويبني فكرة "المصالح" هذه ـ مصالح الأبدان ومصالح الأنفس ـ على أن: "الإنسان إنما قوامه بنفسه وبدنه. وليس يتوهم له بقاء إلا باجتماعهما لتظهر منه الأفعال الإنسانية"[2].  

وأن يكون فقيه عربي قديم قد خص موضوع المصالح بكتاب ـ على ندرة من كتب من فقهاء الإسلام في هذا الموضوع ـ فهذا ما قد لا يستغرب له، فلا يستكبر على الفقه ذلك وهو الذي يهتم بالإنسان من حيث هو كائن متعبد بالأولى، ومن بين ما يهم الإنسان المتعبد مصالحه اعتقادا وانتقادا. ذاك حال العز بن عبد السلام (577 أو 578 هـ ـ 660 هـ) في كتابه "قواعد الأحكام في مصالح الأنام". وهو يذكر في مقدمة كتابه أمر الاعتماد في جلب مصالح الدارين ودرء مفاسدهما على ما يظهر في الظنون. ويضيف بأنه: "للدارين مصالح إذا فاتت فسد أمرهما، ومفاسد إذا تحققت هلك أهلها"[3]. ويرى أنه بعامة: "الشريعة كلها مصالح"[4]، وبالتخصيص: "معظم مقاصد القرآن الأمر باكتساب المصالح وأسبابها والزجر عن اكتساب المفاسد وأسبابها"[5]. ويتأول المصالح تأولا أخلاقيا ودينيا: "وقد أمر الله تعالى بإقامة مصالح متجانسة". ويضيف: "ويُعبَّر عن المصالح والمفاسد بالخير والشر، والنفع والضر، والحسنات والسيئات، لأن المصالح كلها خيور نافعات حسنات، والمفاسد بأسرها شرور مضرات سيئات؛ وقد غلب في القرآن استعمال الحسنات في المصالح والسيئات في المفاسد"[6]. ثم إنه يرى أن العقل البشري قادر على التهدي إلى مصالح الإنسان: "معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل (...) إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم المصالح الراجحة على المفاسد المرجوحة محمود حسن، واتفق الحكماء على ذلك. وكذلك الشرائع على تحريم الدماء والأبضاع والأموال والأعراض، وعلى تحصيل الأفضل فالأفضل من الأقوال والأعمال"[7]. غير أنه يستدرك فيرى أن العقل غير قادر على إدراك مصالح الدنيا والآخرة معا: "أما مصالح الدارين وأسبابهما ومفاسدهما فلا تعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها شيء طُلب من أدلة الشرع ـ وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر والإستدلال الصحيح؛ وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك طلب أدلته، ومتى أراد أن يعرف المتناسبات والمصالح والمفاسد وأرجحهما ومرجوحهما فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به ثم يبني عليه الأحكام فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبد الله به عباده ولم يفهم على مصلحته أو مفسدته (...)"[8].

على أنه ما كان الأمر على هذه الشرطية المنفصلة ـ بلغة أهل الميزان ـ إما ... أو ... "إما" يتناول المصالح أهل الفلسفة "أو" يتناولها أهل الفقه، لأن شأن المعارف في الفلسفة الإسلامية أن تتكامل لا أن تتهامل. إذ وُجد ثمة مَن من مفكري الإسلام قد جمع بين الأمرين:

ثمة الفقيه الفيلسوف، وثمة الفيلسوف الفقيه.

فأما الفقيه الفيلسوف (من فقه النفس، لا من فقه البدن)، فهو الراغب الأصبهاني (ت. 502 هـ – 1108 م) ـ وذاك حاله في كتابيه الأساسيين "الذريعة إلى مكارم الشريعة" و"تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين" ـ فقد أفرد الباب الخامس عشر من كتاب التفصيل إلى الحديث عن "هداية الأشياء إلى مصالحها"، ذاهبا إلى أن: "كل ما أوجده الله تعالى فإنه هداه لما فيه مصلحته، كما نبه عليه بقوله تعالى: "أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى" (طه. 5)". وقد قسم مصالح الإنسان هذه إلى ما يمكن أن نسميه "مصالح روحانية" و"مصالح جسمانية": "وقد جعل الله للإنسان حرثين مفيدين في الدارين: أحدهما روحاني كالمعارف والحِكم والعبادات والأخلاق الحميدة، وثمرته الحياة الأبدية والغنى الدائم والاستكثار منه محمود، ولا يكاد يطلبه إلا من عرفه وعرف منفعته. والثاني جسماني كالمال والأثاث (...) وثمرته أن تحصل به الحياة الدنيوية الفانية، ويُسترجَع من الإنسان إذا فارق دنياه، ولا ينتفع منه بشيء إلا بقدر ما استعان به في الوصول إلى الزاد الأخروي (...) ولا يولع بالركون إليه إلا من جهل حقائقه ومنافعه، والاستكثار منه ليس بمذموم ما لم يكن مُثَبطا لصاحبه عن مقصده، وكان متناولا على الوجه الذي يجب كما يجب، ومجعولا في الوجه الذي يُنتفع به في مقصده"[9] . كما يمكن تقسيم المصالح ـ باستيحاء من أفكاره واستمداد ـ إلى "مصالح المعاش" و"مصالح المعاد"، أو قل إلى "مصالح معاشية" و"مصالح معادية" ...

على أنه بنى ما بناه على تحديد للإنسان بوسمه الكائن المتعبد، حيث يقول في الباب العشرين (البيان في أن من لم يتخصص بالشرع وعبادة الله فليس بإنسان) في موضع: "الإنسان إذن في الحقيقة هو الذي يعبد الله"[10]، ويقول في موضع آخر: "الإنسان تحصل له الإنسانية بقدر ما تحصل له العبادة التي لأجلها خلق، فمن قام بالعبادة حق القيام فقد استكمل الإنسانية، ومن رفضها فقد انسلخ من الإنسانية فصار حيوانا ودون الحيوان"[11]. وأكد في وضع ثالث بالقول الجامع: "الإنسان لا يكون إنسانا إلا بالدين"[12]. وقرر وختم: "الإنسان ما لم يكن عارفا برسوم العبادة ومتخصصا بها لا يكون إنسانا"[13].

بيد أنه لا عبادة ولا مصلحة إلا ومن أمر العقل أن يخالط اختيارها: "من شأن العقل أن يرى ويختار أبدا الأفضل والأصلح في العواقب"[14]. ذلك أنه إلى جانب "الإنسان المتعبد"، ثمة "الإنسان المتنفع"، لكن في حدود، منها حدود الشرع، وذلك باعتبار أن الشرع: "نظام الاعتقادات الصحيحة والأفعال المستقيمة والدال على مصالح الدنيا والآخرة"[15]، وعلى اعتبار أن: "جل الناس نقص في معرفة منافعهم ومضارهم الأخروية (...) [والقرآن] إذا تمسكوا به صلح معادهم ومعاشهم"[16]؛ ومن ثمة كان: "حق العاقل أن يأخذ نفعه ولا يسكن إليه، ولا يعتمد عليه إلا بقدر ما ينتفع به"، بل من شأن الإنسان المتعبد والإنسان المتنفع باعتدال أن يكونا سواء.

وبهذا يقرر الرجل التكامل بين "الشرع" و"العقل" باعتبارهما مصدرين متعاضدين لاهتداء الإنسان إلى مصالحه التي يدلها عليه العقل والشرع معا، وذلك ما دام أن: "أعظم عبادة الله تعالى ما كان عائدا بمصالح عباده"[17]، فإن: "العقل لن يهتدي إلا بالشرع، والشرع لا يتبين إلا بالعقل، فالعقل كالأس والشرع كالبناء، ولن يغني أس ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أس (...) فالشرع عقل من خارج، والعقل شرع من داخل، وهما متعاضدان بل متحدان"[18].

هذا حال الفقية الفيلسوف، وأما الفيلسوف الفقيه، فلا شك أنه ابن رشد. والكتاب الذي ذكر فيه أمر "المصلحة" أكثر من غيره هو بدايته. فهو يعلن فيه أن: "الأحكام المعقولة المعاني في الشرع أكثرها من محاسن الأخلاق، أو من باب المصالح"[19]. ويفصل هذا الأمر بالقول: " (...) ينبغي قبل هذا أن تعلم أن السنن المشروعة العملية المقصود منها هو الفضائل النفسانية. فمنها ما يرجع إلى تعظيم من يجب تعظيمه وشكر من يجب شكره، وفي هذا الجنس تدخل العبادات، وهذه هي السنن الكرامية. ومنها ما يرجع إلى الفضيلة التي تسمى عفة، وهذه صنفان: السنن الواردة في المطعم والمشرب، والسنن الواردة في المناكح. ومنها ما يرجع إلى طلب العدل والكف عن الجور. فهذه هي أجناس السنن التي تقتضي العدل في الأموال، والتي تقتضي العدل في الأبدان، وفي هذا الجنس يدخل القصاص والحروب والعقوبات، لأن هذه كلها إنما يطلب بها العدل. ومنها السنن الواردة في الأعراض. ومنها السنن الواردة في جميع الأموال وتقويمها، وهي التي قصد بها طلب الفضيلة التي تسمى السخاء، وتجنب الرذيلة التي تسمى البخل، والزكاة تدخل في هذا الباب من وجه، وتدخل أيضا في باب الاشتراك في الأموال، وكذلك الأمر في الصدقات. ومنها سنن واردة في الاجتماع الذي هو شرط في حياة الإنسان وحفظ فضائله العملية والعلمية، وهي المعبر عنها بالرئاسة، ولذلك لزم أيضا أن تكون سنن الإئمة والقوام بالدين. ومن السنن في حيز الاجتماع السنن الواردة في المحبة والبغضة، والتعاون على إقامة هذه السنن ـ وهو الذي يسمى : النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، وهي المحبة والبغضة في الدين؛ أي الدينية التي تكون إما من قبل الإخلال بهذه السنن، أو من قبل سوء المعتقد في الشريعة. وأكثر ما يذكر الفقهاء في الجوامع من كتبهم ما شذ عن الأجناس الأربعة التي هي فضيلة العفة، وفضيلة العدل، وفضيلة الشجاعة وفضيلة السخاء، والعبادة التي هي كالشروط في تثبيت هذه الفضائل"[20].

وأما محاسن الأخلاق فهي المندوب إليها في الشرع عامة. مثال ذلك أم الولد التي اختلف الفقهاء فيها إذا ما هي حملت من سيدها: "والقياس أن تكون أم ولد في جميع الأحوال، إذ كان ليس من مكارم الأخلاق أن يبيع المرء أم ولده، وقد قال عليه السلام: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق""، ولذلك فإنه: "من طريق المعنى أنها وجبت لها حرمة، وهو اتصال الولد لها، وكونه بعضا منها"[21].  

وأما المصالح، فإن الحديث عنها ينبَثُّ في ثنايا كتاب البداية، كما يتم الحديث طورا عن "النظر المصلحي" وطورا عن "القياس المرسل" وطورا عن "الاستحسان" ... في تضاعيف الكتاب. وما كان القياس المرسل عنده شيئا آخر سوى النظر بحسب الأصلح في الشرع، لا ولا كان الاستحسان عنده غير الإلتفات إلى المصلحة والعدل. علما أن قيمة "العدل" تلعب، عنده، دورا أساسيا في تحديد المصلحة. إذ مصلحة البشر الأولى تكمن بالأساس في أن يتحقق لهم العدل، وما كانت الفطرة البشرية إلا داعية إليه. هذا مع تقد العلم أن لا عدل بلا جماعة عنده. أَوَ لم نذكر له من قبل أنه يرى أن من الأحكام الشرعية: "ما يرجع إلى طلب العدل والكف عن الجور ـ فهذه هي أجناس السنن التي تقتضي العدل في الأموال، والتي تقتضي العدل في الأبدان، وفي هذا الجنس يدخل القصاص والحروب والعقوبات، لأن هذه كلها إنما يطلب بها العدل"؟ [22]ومن هنا، مثلا، المصلحة المشتركة في حفظ نفس الغير، حتى ولو ما كان مسلما، إذ يذكر مسألة قتل المسلم بالكافر والسلم بالذمي، إذا فسر الكافر بأنه غير المحارب، فإن ابن رشد نقل الأصل الذي اعتمده من قال بأنه يقتل به، وهو :"إجماع المسلمين أن يد المسلم تقطع إذا سرق من مال الذمي، قالوا ماله كحرمة مال المسلم، فحرمة دمه كحرمة دمه" ـ وهذا طريق القياس، وهو الذي يتفق مع أصول الشريعة ومقاصدها في كرامة النفس البشرية، مهما كان وضعها الاجتماعي أو الديني، إلا بالحق في الحرب أو غيرها ...[23]

والذي عنده ـ وهو الفيلسوف ضالته طلب الحكمة ـ أن الأحكام الشرعية أحكام تعقل بالعقل في غالبها، فتوجد تنم عن مصالح معقولة للإنسان، هي ذي "حكمة الشرائع"، وهو ذا شغل "العلماء بحكمة الشرائع": "والمصالح المعقولة لا يمتنع أن تكون أسبابا للعبادات المفروضة، حتى يكون الشرع لاحظ فيها معنيين: معنى مصلحيا ومعنى عباديا. وأعني بالمصلحي ما رجع إلى الأمور المحسوسة و بالعبادي ما رجع إلى زكاة النفس"[24].

على أن تبين المصالح ما كان شغل الفقيه الجمَّاعة البهرج وإنما هو شغل الفقيه العلامة المجتهد. والفارق بينهما يضرب له ابن رشد المثل التالي: مثل الفقيه الأول كمثل "من ظن أن الخَفّاف هو الذي عنده خفاف كثيرة، لا الذي يقدر على عملها، وهو بيِّنٌ أن الذي عنده خفاف كثيرة سيأتيه إنسان بقدم لا يجد في خفافه ما يصلح لقدمه، فيلجأ إلى صانع الخفاف ضرورة، وهو الذي يصنع لكل قدم خفا يوافقه، فهذا هو مثال أكثر المتفقهة في هذا الوقت"[25]

والمبدأ عند ابن رشد أن: "كل شريعة كانت بالوحي فالعقل يخالطها، ومن سلَّم أن تكون ها هنا شريعة بالعقل فقط، فإنه يلزم ضرورة أن تكون أنقص من الشرائع التي استنبطت بالعقل من الوحي"[26]. وذلك نقلا عن الفلاسفة في ما ذهبوا إليه من أنهم: "يرون أن الشرائع هي الصنائع الضرورية المدنية التي تأخذ مبادئها من العقل والشرع، ولا سيما ما كان منها عاما لجميع الشرائع"[27]. ولهذه الحيثية، ليس يسمى فقيها عنده على الأحق من: "يحفظ مسائل الفقه ولو بلغت في العدد أقصى ما يمكن أن يحفظه إنسان، كما نجد متفقهة زماننا يظنون أن الأفقه هو الذي حفظ مسائل أكثر"[28]، ولا كما يظنون.  

لكن هل يعد التوسع في القول بالمصالح التي لم يذكرها الشرع بمثابة ما سماه ابن رشد "شرعا زائدا"، أو ما سماه الطوفي: "وضعا للشرع بالرأي"[29]؟

الحق أن المسألة مُشكَلة عند ابن رشد. لكن العبرة عنده بكليات الشريعة لا بالجزئيات، وهي في عداد الثلاث:

-  أولها أن أصول الشرع جميعها تشهد على المبادرة إلى الخير.
-  ثانيها أن أصول الشرع ترجع إلى محاسن الأخلاق وتدعو لها.
-  ثالثها أن الشرع ندب إلى المصالح في كثير من أحكامه المنصوصة.

والحال أن موقف ابن رشد موقف بيني، ما بين الغلاة في رد كل شيء إلى المصالح، والغلاة في نفي المصالح. ففيما يخص من ينفون المصالح، يرى ابن رشد أن التوقف عن اعتبار المصالح يؤدي بالناس إلى أن يتسرعوا إلى الظلم لعدم وجود أحكام وسنن في ذلك الذي يتوقف فيه، ويذهب إلى أنه يفوض في أمثال هذه المصالح الأمر إلى "العلماء بحكمة الشرائع الفضلاء الذين لا يهتمون بالحكم بها [ظواهر الشرع]، وخاصة إذا فهم من أهل ذلك الزمان أن في الاشتغال بظواهر الشرع تطرقا إلى الظلم"[30].

ومن جهة أخرى، علينا ألا ننسى أن المصالح نسبية، ولهذا عسر اتخاذها أداة للأحكام. تأسيسا عليه، أنت واجده يقول عن القياس الاستصلاحي: "وحق لهذا الصنف أن يرفض ولا يجعل دليلا شرعيا لأنه كثيرا ما تتشعب المصالح وتختلف، وذلك بحسب وقت وقت، وحالة حالة، والقائلون بمثل هذا ليس هم في الحقيقة مستنبطين عن الشرع بل هم شارعون (...)"[31].

وبعد، هل بلغ ابن رشد في هذا مبلغ ما بلغه الطوفي من تبويئ المصلحة المكانة الأولى في التشريع، وهو الذي  إذ يصرح: "وبالجملة، ما من آية من كتاب الله عز وجل، إلا وهي تشتمل على مصلحة أو مصالح"[32]، وإذ أثبت رعاية الشرع للمصالح كتابا وسنة وإجماعا وعقلا، وهي المصالح البدئية والعادية والمعاشية، فإنه طرح المسألة الحاسمة: ما الذي ينبغي تقديمه ـ من بين هذه المصادر ـ أصلا في الأحكام الشرعية؟ وكان أن أجاب: "وإذ ثبت رعايته [الشرع] إياها [المصالح] لم يجز إهمالها بوجه من الوجوه، فإن وافقها النص والإجماع وغيرها من أدلة الشرع، فلا كلام، وإن خالفها دليل شرعي وُفِّقَ بينه وبينها بما ذكرناه من تخصيصه، وتقديمها بطريق البيان"[33]. هو ذا ما يسميه: "تقديم رعاية المصلحة على النصوص والإجماع"[34]، ولكن علينا ألا ننسى أن الطوفي يضيف: "على الوجه الذي ذكرناه". فماذا يقصد بذلك؟ وما الوجه الذي ذكر؟  

وهكذا، فإنه بعد أن يذكر أدلة استنباط الأحكام الشرعية التسعة عشر ـ أكان قد اتفق عليها أم اختلف فيها ـ يضيف مبينا دعواه: "وهذه الأدلة التسعة عشر أقواها النص والإجماع، ثم هما إما يوافقا رعاية المصلحة أو يخالفاها. فإن وافقاها فيها ونعمت ولا تنازع؛ إذ قد اتفقت الأدلة الثلاثة على الحكم، وهي: النص والإجماع ورعاية المصلحة المستفادة من قوله عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار"، وإن خالفاها وجب تقديم المصلحة عليهما بطريق التخصيص والبيان لهما، لا بطريق الافتئات عليهما والتعطيل لهما، كما تقدم السنة على القرآن بطريق البيان"[35].

 

 

 

من فقه المصالح الإباضي

الإمامان اطفيش والسالمي  نموذجين

ترى أين هو الفكر الفقهي الإباضي ـ كلاما وأصول فقه وفقه ـ من هذه مسألة المصالح هذه؟ وما قوله في أمر "المصالح المشتركة"؟  

للحديث عن موضوع "المصالح" و"المصالح المشتركة" في الفكر الفقهي الإباضي، لا بد أن يتوفر شرطان منهجيان: أن يكون قد فكر مفكرو الإباضية في موضوع "المصالح" ـ هو ذا شرط جعل الأمر "مسألة" أو "قضية" أو "موضوعا" للنظرـ  وأن يكونوا قد "استشكلوه" استشكالا؛ أي محصوا القول فيه وتساءلوا عن مختلف دلالاته ـ هو ذا شرط "الإستشكال". ولا أظن، إجمالا، إلا أن الإباضية فعلت ذلك، ولو من باب جهد المقل.  

فأما من جهة، لا شك عندي أن ما من فقه إلا ويتضمن القول بالمصالح قلت أم كثرت جلت أم خفت، حتى الفقه الظاهري ـ وهو من أشد مدارس الفقه رفضا للقول بالمصلحة ـ يحضر فيه القول بها على مستوى تعليل الأحكام الشرعية، وإنك لواجد ابن حزم في العديد من المناسبات يحاول تعليل بعض الأحكام الشرعية بالحكمة الربانية المتقصدة مصالح العباد. وما كان الفكر الإباضي عن هذا بمعزل. وذلك مهما بلغت تحفظات بعض أصوله ـ لاسيما المغربية (الواجلاني نموذجا) على المصالح المرسلة التي قالت بها المالكية، ومالكية المغرب على عهده على وجه الخصوص. 

لكن، هل خَرَّج الباحثون ـ من أهل المذهب ـ القول في النظر الإباضي؟ لست تراني أعتقد ذلك. وحجتي أنك لو أنت نظرت في معظم ما كتب عن "فقه المصالح" لألفيت أن التركيز كان يتم، بالأولى، على تخريج قول المالكية، وبالثاني على بقية المذاهب الأربعة. لكن المشكلة هي في الإشارة إلى شأن "المصالح" في من كتبوا عن المصالح من الإباضية، وذلك بحيث أننا  لا نكاد نعثر ـ خارج المراجع الإباضية ـ عمن أفرد لهم قولا أو خرج لهم رأيا اللهم إلا نتف نادرة مفتتة ضائعة بين تفاصيل المذاهب الأخرى، وغالبها لا يكون تحليلات وإنما نقولا. أكاد أجزم في هذا ولا أستثني، وإذا ما أنا استثنيت لربما أستثني من القلائل الذين أشاروا ـ من خارج التقليد الإباضي الحديث ـ إلى موقف الإباضية من "المصلحة" ومن "المصالح" مصطفى أحمد الزرقا في كتابه: "الإستصلاح والمصالح المرسلة في الشريعة الإسلامية وأصول فقهها" (دار القلم. دمشق. 1988)، حيث أفرد فقرة من أقصر الفقر التي خص بها مسألة المصالح لدى المذاهب الأصولية والفقهية في الإسلام إلى الحديث عن "المصالح عند الإباضية". وقد أجمل القول بداية: "ومذهب الإباضية يجري على رعاية المصالح المرسلة، وتعتبر في أصول فقههم من الأدلة الصحيحة"، ثم عطف على ذلك بنقل أقوال للإمام السالمي مستمدة ـ بوساطة من مصطفى زيد صاحب رسالة المصلحة ـ من كتاب "طلعة الشمس" ـ وهو الشرح المعروف على الألفية المسماة "شمس الأصول". وقد خلص من إيراده متناثر أقوال السالمي إلى القول: "ومن هذا الكلام يتضح أن مذهب الإباضية موقفه من الإستصلاح إيجابي تماما لا يختلف شيئا عن المواقف الإيجابية في المذاهب الأربعة"[36].   

 وهل نظر أهل الإباضية حقا في الموضوع: من المعلوم أن النظر في الموضوع إما يكون مقتضبا أو مبسوطا، والمتصفح لبعض ما وصلنا من أصوليات المذهب الإباضي يجد أن جنس نظره في المصالح إنما كان من باب النظر المقتضب.

وهل استشكلوا هم موضوع "المصالح" الاستشكال؟ أظن أن السؤال الثاني فرع عن السؤال الأول، فكما أنه ليس يمكن الزعم أن الإباضية بوأت المصالح مكانة خاصة في مصادر التشريع، على نحو ما فعلته المالكية مثلا، فإنه ليس يمكن بالمثل القول إنها استشكلته الإستشكال. على أن هذا لا ينفي أن نعثر على "إشارات" و"إلماعات" و"إيماضات" لدى فقهاء الإباضية حول أمر "المصالح" ذات دلالة خاصة بهذا الصدد.

بين الشيخين

بين الشيخ اطفيش والشيخ السالمي تقارب من حيث التعاصر: كان كل واحد منهما للآخر عصريه. وذلك حتى وإن توفي الإثنان في السنة نفسها، وليس للثاني من عمر الأول اللهم إلا ما يكاد يكون النصف. وكان بين الإثنين تعارف، بل وتقارظ. إذ لطالما أثنى السالمي على اطفيش في مناسبات عديدة. ومن بينها ما ورد في مقدمة "مشارق أنوار العقول" من قول السالمي في حق اطفيش: "ومهما أطلقت لفظ القطب أو قطب الأئمة، فمرادي به إمامنا محمد بن الحاج يوسف المصعبي اطفيش، متعنا الله بحياته، ونفعنا بعلومه"[37]. وبالمثل، لطالما أثنى اطفيش على السالمي. وقد خاطبه في رسالة مؤرخة في 9 رمضان 1325 هـ / 16 أكتوبر 1907، كان وجهها إليه: "إعلم أنني قد نشرت تآليفك كلها، وأمرت بمطالعتها، والعمل بما فيها، ولا يُشكل شيء إلا بينته لهم، حتى يفهموه بفضل الله، وينقادوا، ويدركوه على قصدك من الوجه الحق"[38].

وعلى الجملة، بين الرجلين اهتمامات مشتركة بالعديد من قضايا الفكر والفقه الإباضي الحديث، وهما مصلحا ومجددا ذاك الفكر وهذا الفقه في عصر النهضة، وكأني بهما جمال الدين الإفغاني ومحمد عبده بالنسبة إلى النهضة العربية الحديثة. وقد تشابهت ظروفهما الإجتماعية والسياسية بأبلغ تشابه يكون. وإن كانا أوليا العناية إلى العقل، ودعيا إلى إعمال الاجتهاد العقلي ضد التقليد، فإنهما ما أفردا في كتاباتهما الغزيرة كتابا يحمل من العناوين عنوان "المصالح"، حتى وإن وجد الحديث عن "المصالح" في ثنايا كتبهما إِنْ تلميحا أو تصريحا.

على أن من غرائب الصدف أن بعض خلافاتهما دارت حول مسألة ذات صلة بموضوعنا ـ ألا وهي مسألة "المصالح". إذ كانت معارضة السالمي لسلطان زمانه تركي بن سعيد وابنه فيصل معارضة جذرية، مراعاة لما عده مصلحة الشريعة، بينما رأى اطفيش أن من مصلحة الشريعة أن ما لا يدرك كله لا يترك جزؤه، فدعا السالمي ـ في رسالة ـ إلى حفظ مصالح الشرع بمداراة السلطان: "(...) وأنصحكم لله أن تطلبوا من الجائر وتداروه ولو بمال أن يخلي بينكم وبين إهراق الخمر وقتل الخنزير وإبطال الدخان، وبينكم وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتكتبوا بذلك، ويكون عونا لكم (...)". وقد أخذ الشيخ السالمي بهذا الرأي، وهو جواز مداراة الجبابرة إذا كانت تلحق أهل البلد مضرة، وتضيع مصلحتهم، شريطة أن لا يكون القصد المعاونة[39].  

فكرة المصالح في فقه اطفيش: الآفاق والحدود

كتاب "جامع الأصل والفرع" نموذجا

ذكر أحد كتاب سيرة الشيخ اطفيش ـ في كتابه: محمد بن يوسف اطفيش (حياته. آثاره الفكرية. جهاده) ـ بأن الرجل كان تفكيره "تفكيرا إنسانيا في أوسع آفاقه"[40]. ترى ما معنى أن يفكر الإنسان "تفكيرا إنسانيا في أوسع آفاقه" إن لم يفكر هو تفكيرا إِنْسِيا ـ إنسانيا ـ في مصالح الإنسان من حيث ما هو إنسان؛ أي في المصالح التي يشترك فيها الإنسان؟ هو ذا السؤال الذي نراه جوهريا لاستشكال فكر القطب في ما يتعلق بأمر المصالح.

بداية، إن الإشارة إلى "المصلحة" وإلى "المصالح" واردة في العديد من كتابات الشيخ. يكفي من البيدر السنبلة. إذيستعمل "المصالح" بمعاني عدة، وهي على الأقل ثلاثة. وأول معانيها عنده معنى "المرافق". فمصالح الإنسان هنا تدل على المرافق التي يرتفق يها. وذلك على نحو ما ورد في موسوعته الفقهية ـ شرح كتاب النيل وشفاء العليل ـ حيث يذكر ـ في الجزء 22 ـ المصالح في مواضع. منها، موضع الحديث عن أخذ الضريبة من التاجر غير المسلم الذي يدخل أرض الإسلام، بحيث ورد: " (وإن دخل مشرك (غير معط للجزية) بتجر أرض الإسلام بأمان ( ولو استأمنه رجل واحد (ترك وأخذ منه ما يؤخذمن تجار المسلمين (وهو الزكاة فقط، قيل ذلك  وما ينوب في إصلاح الطرق وغيرها بحسب المصالح يؤخذ من تجار المسلمين".

ومنها بدلالة المصلحة المعروفة في فقه المصالح المرسلة، وذلك في موضع أخذ الجزية ومقدارها: "باب في أخذ الجزية وهي :عشرة دراهم على اليهود والصابئ، واثنا عشر على النصارى في العام، وقيل : اثنا عشر على كل يهودي أو صابئ أو نصراني،وقيل : خمسة عشر، وقيل : على الغني ثمانية وأربعون وعلى الأوسط أربعة وعشرون، وعلى الفقير اثنا عشر، وإن شاء الإمامفرق ذلك على الشهور أو الأيام، والصحيح الأخير لأن عمر رضي الله عنه كتب به إلى عثمان بن حنيف في الكوفة، وبه قالأحمد وأبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وقالوا : يجوز للإمام أن يزيد على ما فعل عمر ولا ينقص، وصحح بعضهم الأول.والصحيح أن الجزية على قدر ما يرى الإمام من الإكثار على من اشتدت عداوته، والتوسط على المتوسط، والتقليل على غيره، ومن الإكثار إذا احتاج إليه الإسلام وغير ذلك من المصالح، ولو ظهرت له مصلحة في التقليل عن غني، أو شديدالعداوة لجاز، وأما كتابته إلى عثمان فليست حدا مؤبدا.

ومنها دلالة أغراض المسلمين. وذلك في قوله في الجزء التاسع عشر ـ في شأن حاجة الإمام إلى حاجب ـ "ولا يكره للإمامأن يتخذ حاجبا ؛ لأن برقان كان حاجبا لعمر، والحسن كان حاجبا لعثمان، وقنبرا كان حاجب علي، وقد كان حجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عليه الأمان من الله عز وجل، فقال} انصرفوا فقد عصمني الله{، ويجتهد في جميع المصالحفتدعوه الحاجة إلى أن يجعل لكل مصلحة وقتا، ولا يداخله كل أحد فربما يدخله عليه غادر"...

هذا ويحدث أن يعبر الشيخ عن "المصلحة" بما يرادفها وهو "المنفعة"، فيتحدث مثلا عن التعاون على البر والتقوى بوسمه "واجبا من الله"، من جهة، و"منفعة للمخلوق"[41]، من جهة أخرى. 

والحال أنه لئن نحن أمعنا النظر في المصالح التي يدعو الشيخ إلى حفظها لوجدناها عدة.

فمن بينها: حفظ العقل. وقد يقرن أطفيش بين مصلحتي "حفظ العقل" و"حفظ الصحة"، وذلك في حديثه، مثلا، عن فوائد الجماع، من حيث أنه يحقق بقاء النوع البشري، وفي هذا لا شك مصلحة بشرية مشتركة. إذ يقول: "ويترتب على الجماع دوام النوع الإنساني إلى أن يأذن الله تعالى بانقراض الدنيا. ويترتب عنه حفظ الصحة والعقل، فإن في احتقان المني يحدث الوسواس والجنون والصرع وضعف الأعضاء واستداد مجاريها وتقلص الذكر وقلة اشتهاء الطعام وقلة هضمه وعدم التشهي؛ لأن المني إذا استُجلب ذر وإذا ترك فر، وغير ذلك من العلل. وقد يبرئ الجماع من الوسواس والجنون والصرع ويجلب السرور وتطييب النفس، ويذهب الفكر العارض. ومنافعه كثيرة ولا سيما لأهل الرطوبة (...)"[42].

ومصلحة حفظ العقل مصلحة مشتركة بين الأمم، فكلها يحمد الحكمة ويذم الحمقة. ذلك أن مكانة العقل بارزة في فكر الشيخ اطفيش. أَوَ ليس العقل هو الحجة؟ ففي رسالته إلى راشد بن عزيز يقول: "أما الحجة فهي عندي العقل لمن لم يلق من يعلمه، فإنه يعلم بعقله، أن لنفسه وما يشاهده من أرض وسماء وبحر وجبل وشجر ونحو ذلك من الأجسام صانعا، لأنها صفة لا تكون إلا بصانع"[43]. وحجية العقل هذه بادية في احتجاجه بالمثال الذي لطالما احتج به متكلمو الإباضية: مثال الإنسان على الجزيرة. ففي جوابه أهل زواوة يذكر مثال صاحب الجزيرة، ويعقب بأن "حجة الله قائمة بالعقل أول"[44]. ولئن هو كان الأمر كذلك، فلا بد أن يكون العقل مصلحة توحد بين بني البشر. أَوَ ليس يسوغ النسج على غرار قول ديكارت: "العقل أعدل قسمة بين الناس" بالقول: "العقل أشرك مصلحة بين الناس"؟ ولهذا قال اطفيش: "إذا أردت صحبة إنسان فانظر عقله أكثر مما تنظر دينه، فإن دينه له وعقله لك وله"[45].  

أكثر من هذا، يرى الشيخ اطفيش أن للمتشابه في القرآن "فائدة" على المسلمين ومصلحة عائدة، وأنه من "مصالحهم"؛ وذلك بحكم أنه يستنهض همتهم إلى إعمال الفهم طلبا لتحقيق الحق، وإلى إعمال علوم الآلة لتحقيق معنى الغاية، وإلى الاجتهاد بغاية تمحيص التشبيه من التنزيه والممزوج من الصرف، لا سيما لدى العوام: "فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على ما يناسب ما توهمه مخلوطة بما يدل على العقل الصريح"[46].

وشأنه شأن ابن رشد، يتأول اطفيش معنى "اعتبروا" التي يحث فيها القرآن على القياس بمعنى "قيسوا الشيء بالشيء"[47]. فلا غرابة أن يخص ما به يتقوم العقل ـ المنطق ـ بكتاب مخصوص ـ إيضاح المنطق في بلاد المشرق ـ وألا يتنكر لما كان قد تلقاه في بادئة عهده من علوم في المنطق. وفضلا عن الاهتمام بالمنطق والتأليف فيه، ألف اطفيش في العلوم العصرية شأن الطب ـ تحفة الحب في أصل الطب ـ وعلم النبات ـ النحلة في غرس النخلة ...

وتتفرع عن مصلحة العقل هذه مصلحة المعرفة بعامة والمعرفة الفقهية بخاصة. فمن المشترك بين المسلمين إمكان إفادة بعضهم من آراء البعض الفقهية. وقد أبدى اطفيش الكثير من المراعاة لهذه المصلحة المشتركة: "وعملتُ من هو منهم [من أهل المذاهب الإسلامية غير المذهب الإباضي] عدل في شأن العلم ونقلت عنه كما نقل من قبلنا من أصحابنا ممن علموا عدله، فليدع لي بالخير إذا كانت المسألة راجحة من مذهبهم ولو لم تذكر في مذهبنا حق"[48]. أكثر من هذا، مراعاة للمصلحة المعرفية دعا إلى نبذ التعصب من لدن ذويه: "ومن العجيب أن تكون المسألة حقا فتترك لأنها جاءت من مخالف ! هذا غلو !!"[49].

ثاني مصالح الإنسان تحقيق العدل ـ ذاك الذي جعل منه ابن رشد مصلحة جوهرية من مصالح الشرع. فمن مصالح العباد أن يتحقق العدل. ولذلك لما هو قتل أحد الوزراء الفرنسيين بيد أحد الثوار، بعث الشيخ أطفيش رسالة إلى الحكومة الفرنسية يقول فيها: "لو عدلتم فينا، لحفظ الله سمعتكم، وصان كرامتكم، ولكنكم تظلمون المسلمين وتتجبرون عليهم"[50].

وثالث هذه المصالح حفظ النفس. وهكذا ففيما يخص موضوع "الغناء" مثلا يبرر الشيخ اطفيش إباحة بعض أنواعه المشروطة تبريرا مصلحيا، فيقول: "وجاز عندي استماع الغناء من غير امرأة بجائز على قصد أن يخشع لله ويسخو ويعفو وتسمح نفسه ويتذكر أمر الآخرة أو يزيل حزنا كان في قلبه، قيل أو يتلذذ بالصوت الحسن، وأما استماعه انهماكا في أمر الدنيا أو مهملا فحرام (...)"[51].

ومن المصالح ما جمع بين المصلحة الدنيوية والأخروية: "وللمرء أن يرضي من يخشاه بقول لين ويضمر خلافه لجر نفع أو دفع ضر لا مصانعة في معصية، ويجوز الذهاب إلى جائر صرفا لضره واستكفافا لمعصيته وذبا عن غيره، وذلك عبادة، وجاز الصنع لذمي وملك وغيرهما إن أدى إلى تقوية الدين وأمر الآخرة أو قضاء حاجة مباحة"[52]

على أن لفكر المصالح هذا حدودا تجعله يصير، في بعض الأحايين، أمرا مُستَشكلا بمنطق زماننا هذا.

ومن أوجه اشتكاله:  

1-                  مسألة حال التعارض بين مصلحة القوم ومصلحة غيرهم: فقد نصح الإمام اطفيش، والحال هذه، أحد العمانيين بالقول: "وإلا فكأني أراك تستعين بالإنكليز أو غيرهم من النصارى أو من أهل الملة أو من أهل مذهبك ومن لا يتقي الله عز وجل، فيقل أهل عمان، بل هم قليلون ويزدادون قلة وضعفا، وتزدادون ضعفا حتى يذهب عنهم اسم الجماعة"[53].

2-                  مسألة كلامية متعلقة بالولاء والبراء: "والحكمة في سبي أولادهم [يعني أولاد المشركين] ثلاثة أشياء أحدها ليجروهم إلى الإسلام فيكون ذلك سببا لدخولهم فيه، وذلك أنفع لهم، والثاني شفقة بهم حين قتل آبائهم لئلا يموتوا عطشا وجوعا، والثالث تقوية لبيت المال". ههنا تراتبية لثلاثة مصالح: مصلحة الشرع، ومصلحة الشخص، والمصلحة الاقتصادية. وفي ترتيبها اعتبار. وهذا يشبه ما ذهب إليه القديس أوغسطين ما أغنى عنه فكره ولا حكمته من التعصب ضد سائر الأديان غير المسيحية، مبررا ذلك بأن إلزام الأغيار على الدخول إلى المسيحية من شأنه أن يفيد، على الأقل، في تعليمهم! أو كما برر كالفن إحراق سرفت في جنيف في 28 أكتوبر سنة 1553، الذي اتهم بإنكار التثليث، على أن المبتغى منه إنما هو إرادة إنقاذ روحه المعذبة!) مستندا في تبرير دعواه هذه إلى العبارة الواردة في إنجيل لوقا (إصحاح 14، عبارة 23): «أرغموهم على الدخولCompelle entrare».

3-                  مسألة البقاء ببلاد تقام بها شعائر الإسلام بحسب ما يرتضيه غير المسلمين ويرخصون به: "وقيل يجوز اللبث ما وجد أن يقيم دينه كتمانا، والواضح عندي أنه لا يجوز اللبث في دار حكمها لأهل الشرك إذا كانوا فيها وكان الموحدون لا يجدون أن يظهروا من أمر الإسلام إلا ما أراد المشركون"[54]. مما دل على أن أحكام الولاية والبراءة في الفقه الإباضي تحتاج إلى مراجعة شاملة واجتهاد. فقد تصير عائقا أمام رعاية المصالح المشتركة لا سيما مع غير المسلمين.

4-                  وأعم منها مسألة الولاء والبراء وما يرافقها من أحكام تتعلق بما يسمى "دار التوحيد" و"دار الشرك". وفيه حالات تراعي مصلحة "الموحدين" وتصطدم مع مصالح العيش المشترك:

أ ـ بداية يحدد اطفيش أحكام دلالة "دار التوحيد" و"دار الشرك". من جهة أولى "دار الشرك"، حسب تعريف أحمد بن محمد بن بكر، هي: "الموضع والحوزة والبلد الذي ظهرت فيه أحكام المشركين وسيرتهم"، ويلزم أن تطبق عليها "أحكام الشرك من السبي والغنيمة في جميع من وجدوا فيها، ولذلك نهى المسلمون عن السفر إليها ومن يسكنها أو يوطنها". أكثر من هذا، قبور أهلها من المسلمين لا ينظر الله إليها يوم القيامة[55]. والذي عند تلميذه: "إذا كان الغالب على بلدة جائرا تجري الأحكام على خلاف قول الله تعالى ورسوله، وكانت أحكام نفاق، وكان موحدا، فهي بلدة توحيد يجوز اتخاذها وطنا ولو كان سكانها مشركين إذا كانوا رعية له والجاري حكمه لا حكم الشرك، وكانوا لا يظهرون الطعن في الإسلام، وكانوا تحت ذمته". ومن جهة ثانية: "وإن غلب عليها [على بلدة] مشرك ولو كتابيا، وكان الحكم الجاري هو حكمه الشركي، فهي دار شرك ولو كانت الرعية فيها موحدين أقاموا فيها جهلا أو تدينا أو قهرا".

ب - وههنا تلزم أحكام: "إن كانوا [الرعايا الموحدون] يظهرون الإسلام وأموره ولا يفتنون عنها أو كانوا معذورين في البقاء فيها بلا قهر بأن يدخلها عليهم قهرا ويتملكها، فإنهم يجوز لهم الإقامة فيها كما كانوا قبل ما داموا يتوصلون إلى دينهم ولو سرا والرجوع إليها بعد الخروج ما لم ينزعوا استيطانهم منها، وأما غيرهم فلا يجوز له اتخاذها وطنا ولو كانوا يتوصلون فيها إلى دينهم جهرا".

وتلك حدود صارت فيها مصلحة الشرع أولى من مصلحة العبد، وفي ذلك حد لفكرة المصلحة عند الشيخ اطفيش ما عاد الزمان ولا المكان اليوم يقبل بها.

 

نور الدين السالمي

سقفا المشترك الإنساني: التوحيد ومكارم الأخلاق

مشارق أنوار العقول نموذجا

 

يرد الحديث عن "المصلحة" وعن "المصالح" مجموعا ومتفرقا في كتابات الإمام نور الدين السالمي. ولا تكاد تجد في كتاب من كتبه ما خلا منها من اعتبار المصالح، ومن حديث عن "المصالح الدنيوية" و"المصالح الأخروية". وقد ورد بجامع الكلام في كتابه  تعليقا على قول الماتن:

"من الإستدلال: المصالح المرسلة. وهي عبارة عن وصف مناسب ترتبت عليه مصلحة العباد واندفعت به عنهم مفسدتهم، لكن الشارع لم يعتبر ذلك الوصف بعينه ولا بجنسه في شيء من الأحكام ولم يعلم منه إلغاء له، وبذلك سمي مرسلا ... وبينا أن للأصحاب به اهتماما فكثير من فروعهم مبني على هذا الاستدلال". ويعلق الشارح: "وإنما كان هذا النوع من الاستدلال؛ لأنه ليس بنص ولا قياس ولا إجماع، وقد عرفت أن ما عدا الثلاثة فهي استدلال"[56].

ونجد لمسألة المصالح هذه أثرا آخر في صورة "جلب المصلحة ودفع المفسدة"، وذلك في النص التعريفي التالي: "إعلم أن كل واحد من جلب المصلحة ودفع المفسدة منقسم إلى ثلاثة أقسام، إلى: ضروري، وحاجي، وتحسيني"[57].

وعلى الجملة، أثر اعتبار المصالح منبث في ثنايا تآليف الإمام، وتبديات القول بها جلية في تضاعيف أعماله. ففي ما يخص القرآن، مثلا، يذكر السالمي أنه: "(...) ثم نزل بعد ذلك منجما حسب المصالح"[58]. وفي ما يخص الحكمة من وروده متشابها ومحكما، فإن لذلك وجوها عدة منها الوجه الخامس. وهو أن: "الأصلح أن يخاطبوا [البشر] بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتوهمونه ويتخيلونه، ويكون ذلك مخلوطا بما يدل على الحق الصريح"[59]. وفي تحديد "الولاية" يدخل مفهوم "الاهتمام بمصالح الغير والاتصال به"[60]، حتى مفهوم "البراءة" من المشركين مرتبط ب"الفساد".

وعلى وجه الجملة، الذي يلزم أن يكون مشتركا بين الموحدين من البشر، عند السالمي، أمران: التوحيد، ومكارم الأخلاق. يقول بهذا الصدد: "وشريعتنا ناسخة لما قبلها من الشرائع، إلا ما لا يصح نسخه كالتوحيد ومكارم الأخلاق، فإنه [النبي] بعث لتتميمها لا لنسخها"[61]. ويضيف في مكان آخر: ""(واعلم) أيضا أن شريعة نبينا عليه الصلاة والسلام ناسخة لجميع الشرائع الأول، إلا ما لا يصح نسخه كالتوحيد ومكارم الأخلاق، فإنه بعث ليتممها لا ليبدلها"[62]. متحدثا في مناسبة ثالثة ضمن الكتاب إياه عن: "ما لا يصح نسخه من مكارم الأخلاق".

وشأنه شأن الشيخ اطفيش، يضع السالمي على رأس مصالح الإنسان الأولية العناية بالعقل. إنما العقل عنده نور. ولهذا تراه يلجأ إلى الإستئناس بآراء العديد من المشتغلين بالعلوم العقلية من المسلمين كالمعتزلة والسعد التفتازاني والجرجاني ... كما تراه يهتم اهتماما بالغا بما يسميه "المنطق الفلسفي"[63]. وإنك لتجده قليل التعصب على المخالفين، فأنت تراه يشتد أحيانا ويلين أحيانا أخرى، وحينما يلين ترد عبارته على النحو التالي الذي يفيد المشترك بين علماء الإسلام: "حكى بعض أكابر أهل الخلاف"[64]. فالحكمة هنا ضالته قال بها من قال. أكثر من هذا: "وإن قال بها من قال من فحول الرجال، فهم بالحق رجال، وغيرهم بالحق رجال". ويقول في إحدى رسائله إلى سليمان الباروني: "وليس لنا مذهب إلا الإسلام، فمن تم تجدنا نقبل الحق ممن جاء به، وإن كان بغيضا، ونرد الباطل على من جاء به وإن كان حبيبا، ونعرف الرجال بالحق، فالكبير عندنا من وافقه، والصغير من خالفه، ولم يشرع لنا ابن إباض مذهبا، وإنما نسبنا إليه لضرورة التمييز، حين ذهب كل فريق إلى طريق؛ وأما الدين فهو عندنا لم يتغير، والحمد لله"[65]. هي ذي مصلحة المسلمين المشتركة التي تقضي بالإجتماع على ما يسميه "الفطرة الإسلامية" ويجد أن هذه "الفطرة الإسلامية" هي "دعاية الإسلام". إلا أن واقعيته تجعله يقر بأن: "جمع الأمة على الفطرة الإسلامية بعد تشعب الخلاف ممكن عقلا مستحيل عادة".  

ومن المصالح التي ينبغي حفظها النفس. ذلك أنه إن نحن عبرنا عن هذه المصلحة على جهة السلب: "إن الشرع نهى عن الضرر بالنفس"[66]، وإن نحن عبرنا عنها على جهة الإيجاب، قلنا: "إن حفظ النفس مشروع وجوبه"[67].

على أنه يضع الدين باعتباره "أهم المقاصد وأجلها" وذلك:"وجد شيء في الدنيا أم لم يوجد، فلا تقيد أهمية الدين وأجليته بوجود غيره"[68] . غير أنه حتى وإن هو جعل من الدين المقصد الأجل، فإنه جعل الدين لا ينافي خير البشر؛ أي مصلحتهم، فمال إلى التعريف الثاني للدين الذي طرحه الباجوري في حواشي الجوهرة: ""الدين وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم المحمود إلى ما هو خير لهم بالذات"[69].

بيد أن الإمام السالمي يضع للمصلحة قيدا ـ هو الشرع. إذ ما يفتأ يعلن رأيه المعارض للمعتزلة: "الذين يجعلون العقل قاضيا على الشرع؛ أي لا يرد الشرع بما يخالف العقل عندهم". والذي عنده، أن هذا يلزم "وجوب مراعاة الصلاحية والأصلحية على الذات". وعنده أن صاحب هذا القول منافق لا مشرك، لأنه ليس ينكر الشرع أصلا.

ومن ثمة، فإنه يرى أن: "العقل لا وجوب له على شرع شيء من الشرعيات، بل الناصب للأحكام الشرعية هو الشارع لا غير"[70]. كلا، ما كان العقل ـ على خلاف ما ذهبت إليه المعتزلة ـ "قاضيا على الشرع"، ولا ينبغي له. لكن هذا لا يمنع من أن بعض الإباضية يجعلون العقل حاكما وقاضيا عند عدم ورورد الشرع، كما أنهم يجوزون أن يرد الشرع بخلاف العقل، فإن ورد بما خالف العقل أوجبوا المصير إلى الشرع.

ومن هنا، فإن: "مذهبنا أن العقل لا حكم له في شيء من الأحكام الشرعية، وإنما الحاكم بذلك هو الشرع، والعقل طريق لمعرفة بعضها، كما أن السمع أيضا طريق لمعرفة البعض الآخر"[71].

وهكذا، مثلا، في مسألة الاجتهاد إذا ما ألجأ المسلم إلى الاختيار بين الراجح من الرأي والمرجوح، فإن الأصل أن يأخذ بالراجح، لكن: "ما إذا كان في الأخذ بالأعدل تأس بكافر، وكان في فعله وهن في الدين، جاز له أن يترك الراجح إلى المرجوح، رعاية لتلك المصلحة ودفعا لتلك المفسدة (أورده السالمي إفادة من ابن أبي نبهان)"[72].

وهنا يثار من جديد مثال "صاحب الجزيرة" الذي يكاد يشبه مثال "الوضع الأصلي" في أدبيات العدالة الحديثة (جون راولز)، لكن مع الأسف ظل في الأغلب عند مفكري الإباضية متعلقا بمسائل لاهوتية ـ الاستحسان العقلي ـ ولم يتعداه إلى مسائل اقتصادية واجتماعية وسياسية تفضي بهم إلى النظر في مسألة المصالح الإنسانية المشتركة بوسمها ميثاقا أو عقدا أو عهدا.

على أن ثمة على التحقيق موقفان إباضيان في مسألة صاحب الجزيرة: موقف جعل العقل حاكما في وجوب معرفة الله تعالى (أبو يعقوب الوارجلاني، والقطب اطفيش). وموقف جعل العقل حاكما في "المفهومات"، يشمل ذلك "معرفة" الله تعالى، و"العدل"و"الإنصاف" و"تحريم الظلم" (الإمامان أبو سعيد الكدمي وابن بركة). والحال أنه لو تم تطوير هذه الأفكار لأفضت إلى نظريات عقلية في "العدل" و"الظلم" و"الإنصاف" قد تشكل "مساحة مشتركة" بين البشرية جمعاء على أساس "الحق الطبيعي" وليس على أساس "الوضع الشرعي".

غير أن السالمي يستشكل موقف الإمام ابن بركة بقوله: "أما ابن بركة، فقد أوجب على صاحب الجزيرة الذي لم يبلغه حلال ولا حرام أن يترك ما قبح في عقله فعله كذبح الحيوانات، فإنه حيوان مثله والعقل يقبح ذبح مثله لو لم يرد شرع بتحسينه". ووجه الإشكال الذي وجده الإمام السالمي هو:"(وأما) مذهب الإمام ابن بركة، فلا يخلو من أحد أمرين: لأنه إما أن يريد بالعقل المقبح هو العقل الصحيح السليم، فيهلك من قبح في عقله خلاف ما قبح في العقل السليم إذا ارتكب ما يقبح في العقل السليم تركه، فيلزمه التهليك بغير شرع. وإما أن يريد بالعقل المقبح عقل كل شخص بالنسبة إليه، فيجب على خلاف  ما يجب على الآخر، لتفاوت العقول، فتتعدد الواجبات بحسب تعدد أشخاص العقلاء". والحال أن الإمام ابن بركة قصد الوجوب فيما إذا وافق العقل الشرع. فكان أن أراد بالتقبيح المكلف بتركه تقبيح العقل السليم، فمن كان ذا عقل سليم ففعل ما يقبح العقل السليم فعله هلك عنده. والفرق بين مذهب هذا الإمام ومذهب المعتزلة أنه يقول بتحكيم العقل حال غياب الشرع، وهم يقولون به في كل الأحوال: ورد الشرع أم لم يرد[73]. وحاصل الأمر أن ما تدركه العقول نسبي، وما يورده الشرع مطلق. وأين النسبي من المطلق؟

مما يفتح المجال أمام مفهوم "التفويض"؛ أي تفويض أمر مصلحة الإنسان إلى الخالق، وذلك بما التفويض، كما يتحدد، هو: "ترك اختيار ما فيه الخطر إلى اختيار المدبر العالم بمصلحة الخلق". وتعليل القول بالتفويض أنه رد على "بعض الملاحدة" حيث قالوا إن العقل يهتدي إلى معرفة الحسن فيفعله والقبيح فيتركه، والأشياء التي لم يحكم فيها العقل بحسن ولا قبح تفعل عند الضرورة وتجتنب عند عدمها. وجواب السالمي: "أن العقل لا يدرك التكاليف إلا بعضها. فلا يدرك ما كان كالصلاة ووظائفها ولصوم ووظائفه ونحو ذلك، فلا غنى عن الرسول به. ولو سلمنا أنه يدرك ذلك لكان إدراكه له متفاوتا محتاجا إلى مدة طويلة، وربما وقع في مهلكة قبل إدراكه لها". وهنا يقدم السالمي قياس المماثلة التالي: "الرسول كالطبيب الحاذق الذي يعرف الداء والدواء وطبائع الأدوية، فيخبر الناس أن هذا لكذا وهذا لكذا وذا لكذا، فإنه وإن أمن أن الناس يدركون طبائع تلك الأدوية وأسرارها بمحض التجربة، فلربما وقعوا في مدة تجربتهم لها في الدواء القاتل لهم، فظهرت حكمة وجود الطبيب لهم"[74]

والمستفاد من هذا الأمر، أن السالمي يتحفظ على إعمال الإستصلاح، وذلك لسبب أساسي هو أنه قد تخفى المصلحة على الإنسان، فلا يمكنه أن يعلم مصلحته على وجه الدوام. وهذا "الخفاء" هو الذي يسوغ فكرة "حكمة" الخالق. إذ يذكر السالمي ـ في باب الرزق ـ  أنه لا يسوغ، مثلا، أن نقول عن الحق ـ تعالى ـ "إنه مفسد الأشياء الفاسدة"، حتى "وإن كان في الحقيقة هو الذي فعل ذلك؛ غير أن فعله بالنسبة إليه تعالى ليس بمفسدة، بل هو حكمة خفيت علينا، فكانت بالنسبة إلينا مفسدة لعلمنا بظاهر المضرة وجهلنا بما فوق ذلك"[75].

ولئن كان بعض فقهاء الإسلام قد حددوا المصالح بالملاذ (العز بن عبد السلام في كتابه المذكور، والرازي في كتاب المحصول حيث يقول: "والمنفعة هي اللذة أو ما كان وسيلة إليها، ودفع الألم أو ما كان وسيلة إليه. وبتعبير آخر هي اللذة تحصيلا أو إبقاء. فالمراد بالتحصيل جلب اللذة مباشرة، والمراد بالإبقاء الحفاظ عليها بدفع المضرة وأسبابها")، وجعلوا الملذة مصلحة، فإن جواب السالمي هو أن: "الشرور لذيذة"[76]، بما ينتهي إلى نقض فكرة أن الملاذ بالضرورة مصالح.

على أن مسألة تقويم المصالح هذه تبقى من بعض جوانبها مسألة نسبية. وهكذا، مثلا، بينما يجد الكثيرون في علم البيطرة تحقيقا لمصالح الحيوان، وبالتبع لمصالح الإنسان، يرى الإمام في حكمه على البيطرة أنها علم: "مكروه لا فائدة فيه دنيا وأخرى"[77] !!! 

يبقى أنه مهما اتسعت مساحة مشترك المصلحة الإنسانية مع الموحدين، فإنها قد تضيق أحيانا بسبب من التاريخ ـ الاستعمار. وهذا ما يعكسه تأليف "بذل المجهود في مخالفة النصارى واليهود". وقد تضمن التحذير من "مدارس النصارى"، لأن الهدف منها، حسب تصوره، سلخ المسلمين عن دينهم وقيمهم، علما أن مصلحة الدين والشرع أعلى عنده من أية مصلحة كانت ما كانت واعتبرت ما اعتبرت. كما تضمن التحذير من التزيي بزيهم، ووجوب منع تعلم اللغات الأجنبية اللهم إلا للضرورة (مترجم الملك ونحوه). إذ في رده على أهل زنجبار لم يعتبر الإمام السالمي بالمصلحة ـ ما اعتذروا به من ضياع حقوقهم ضرورة ـ وإنما اعتبر بمخافة نشر الإنجليز "أفكار الشرك" و"محو الشخصية الإسلامية"، فكان رأيه أن عدم تعلمها سلامة للدين وحفظ للغة العربية ـ وتلك مصلحتان تتقدمان عنده على أية مصلحة أخرى.

ترى هل يمكننا اليوم أن نحيا في عالم سالمي؟  أكاد أجزم أن الإمام السالمي نفسه ـ وبحكم مرونة فكره وأريحية عطائه وقبوله التحول عن بعض أفكاره ـ لو كتب له أن يعيش في عالمنا اليوم لما عاش في عالم سالمي أو لما  كان سالميا هو نفسه. 

  

 

 

 

 

 

 

 

 


 

 

[1]  أبو زيد البلخي: مصالح الأبدان والأنفس. تقديم ودراسة مالك بدري ومصطفى عشوى. مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية. 1424 هـ ، ص. 110.

[2]  المصدر نفسه، ص. 116.

[3]  العز بن عبد السلام: قواعد الأحكام في مصالح الأنام. دار الكتب العلمية. 101. ص. 7.

[4]  المصدر نفسه، ص. 11.

[5]  المصدر نفسه، ص. 10.

[6]  المصدر نفسه، ص. 8.

[7]  المصدر نفسه، ص. 8.

[8]  المصدر نفسه، ص. 11.

[9]  الراغب الإصبهاني: تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين. تحقيق عبد المجيد النجار. دار الغرب الإسلامي.الطبعة الأولى 1988، بيروت، ص. 137-138.

[10]  المصدر نفسه، ص. 149.

[11]  المصدر نفسه، ص. 150.

[12]  المصدر نفسه، ص. 150.

[13]  المصدر نفسه، ص. 151.

[14]  الراغب الأصفهاني: الذريعة إلى مكارم الشريعة. دار إقرأ. الطبعة الأولى 2001، دمشق، ص. 48.

[15]  الراغب الأصبهاني: تحصيل النشأتين وتفصيل السعادتين. ص. 142.

[16]  الراغب الأصفهاني: الذريعة إلى مكارم الشريعة. ص. 125.

[17]  المصدر نفسه. ص. 292.

[18]  الراغب الأصبهاني: تحصيل النشأتين وتفصيل السعادتين. ص. 140-141.

[19]  ابن رشد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، دار المعرفة، بيروت 1409 هـ /1988 م، ج1، ص. 25.

[20]  المصدر نفسه، ج 2، ص. 476.

[21]  المصدر نفسه، ج 2، ص. 393-394.

[22]  المصدر نفسه، ج 2، ص.475-476.

[23]  عمار الطالبي: "أصول الفقه والاتجاهات المعاصرة في فلسفة القانون"، ضمن كتاب: ابن رشد فيلسوف الشرق والغرب، في الذكرى المئوية الثامنة لوفاته. المجلد الثاني. المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، منشورات المجمع الثقافي، تونس 1999، ص. 614.

[24]  المصدر نفسه، ج1، ص. 16.

[25]  المصدر نفسه، ج 2، ص. 195.

[26]  ابن رشد: تهافت التهافت. تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف  بالقاهرة، 1981، ص. 866.

[27]  المصدر نفسه، ص. 866.

[28]  المصدر نفسهـ ج 2، ص. 195.

[29]  الطوفي: البلبل في أصول الفقه. مكتبة الإمام الشافعي. الرياض. الطبعة الثانية، 1410 هـ  ص. 144.

[30]  ابن رشد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ج 2، ص. 46.

[31]  ابن رشد: الضروري في أصول الفقه أو مختصر المستصفى، تحقيق جمال الدين العلوي، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1994، ص. 128.

 

 

[32]  الطوفي: رسالة في رعاية المصلحة. تحقيق أحمد السايح. الدار المصرية اللبنانية. الطبعة الأولى 1993، ص. 30.

[33]  المصدر نفسه. ص. 33.

[34]  المصدر نفسه، ص. 34.

[35]  المصدر نفسه. ص. 23-24.

[36]  مصطفى أحمد الزرقا: الإستصلاح والمصالح المرسلة في الشريعة الإسلامية وأصول فقهها، دار القلم. دمشق. 1988. ص. 83.

[37]  نور الدين السالمي: مشارق أنوار العقول. تحقيق عبد المنعم العاني. مكتبة الإمام نور الدين السالمي. السيب. عمان 2000، ص. 9.

[38]  أورد الرسالة مصطفى بن محمد شريفي في مقاله: "قراءة في نماذج من مراسلات القطب إلى أهل عمان"، ضمن: مجلة الحياة. العدد 16، رمضان 1433/غشت 2012 م، ص. 185.

[39]  أورد الرسالة مصطفى بن محمد شريفي في مقاله: "قراءة في نماذج من مراسلات القطب إلى أهل عمان"، ص. 199-200.

[40]  بكير بن سعيد أعوشت: محمد بن يوسف اطفيش (حياته، آثاره الفكرية، جهاده)، مكتبة الضامري للنشر والتوزيع. السيب. سلطنة عمان. المطبعة العربية. غرداية. 1998، ص. 71.

[41]  أنظر مثلا:محمد بن يوسف اطفيش: شامل الأصل والفرع. ج1. وزارة التراث والثقافة. سلطنة عمان. 2006. ص.65.

[42]  المصدر نفسه. ج1. ص. 115.

[43]  بكير بن سعيد أعوشت: محمد بن يوسف اطفيش (حياته، آثاره الفكرية، جهاده)، ص. 100.

[44]  المرجع نفسه. ص. 101.

[45]  محمد بن يوسف أطفيش: شامل الأصل والفرع. ج1. ص. 117.

[46]  محمد بن يوسف اطفيش: شامل الأصل والفرع. ج1. وزارة التراث والثقافة. ص. 51-52.

[47]  المصدر نفسه. ج1. ص. 10.

[48]  أورد الرسالة مصطفى بن محمد شريفي في مقاله: "قراءة في نماذج من مراسلات القطب إلى أهل عمان"، ص. 191.

[49]  أورد الرسالة مصطفى بن محمد شريفي في مقاله: "قراءة في نماذج من مراسلات القطب إلى أهل عمان"، ص. 196.

[50]  بكير بن سعيد أعوشت: محمد بن يوسف اطفيش (حياته، آثاره الفكرية، جهاده)، ص. 98.

[51]  محمد بن يوسف اطفيش: شامل الأصل والفرع. ج1. ص. 72.

[52]  المصدر نفسه. ج 1.ص. 119.

[53]  أورد الرسالة مصطفى بن محمد شريفي في مقاله: "قراءة في نماذج من مراسلات القطب إلى أهل عمان"، ص. 193.

[54]  محمد بن يوسف اطفيش: شامل الأصل والفرع. ج1. ص. 66.

[55]  المصدر نفسه. ج 2. ص. 259.

[56]  نور الدين السالمي: طلعة الشمس. وزارة الأوقاف والشؤون الدينية. سلطنة عمان. الطبعة الأولى، 1432 هـ / 2011، ص. 419.

[57]  المصدر نفسه. ج 2. ص. 186.

[58]  نور الدين السالمي: مشارق أنوار العقول. تحقيق عبد المنعم العاني. مكتبة الإمام نور الدين السالمي. السيب. عمان. 2000، ص. 320.

[59]  المصدر نفسه. ص. 328.

[60]  المصدر نفسه. ص. 437.

[61]  نور الدين السالمي: مشارق أنوار العقول. تحقيق عبد المنعم العاني. مكتبة الإمام نور الدين السالمي. السيب. عمان. 2000، ص. 39.

[62]  المصدر نفسه. ص. 306.

[63]  نور الدين السالمي: مشارق أنوار العقول. تحقيق عبد المنعم العاني. مكتبة الإمام نور الدين السالمي. السيب. عمان. 2000، ص. 72.

[64]  المصدر نفسه. ص. 60.

[65]  من رسالة أوردها مصطفى بن محمد شريفي في كتابه الشيخ نور الدين السالمي (مجدد أمة، ومحيي إمامة). جمعية التراث. المطبعة العربية. دار الخلدوني. الطبعة الأولى، 2011. ص. 302.

[66]  نور الدين السالمي: مشارق أنوار العقول. ص. 80.

[67]  المصدر نفسه. ص. 81.

[68]  المصدر نفسه. ص. 45.

[69]  المصدر نفسه. ص. 46.

[70]  المصدر نفسه. ص. 70.

[71]  المصدر نفسه. ص. 128-129.

[72]  المصدر نفسه. ص. 112.

[73]  المصدر نفسه. ص. 142-144.

[74]  المصدر نفسه. ص. 286.

[75]  المصدر نفسه. ص. 353.

[76]  المصدر نفسه. ص. 78.

[77]  المصدر نفسه. ص. 73.