طباعة
المجموعة: دراسات وبحوث
الزيارات: 11236

 بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم :

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين محمَّد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:

فقد حظيت بدعوة كريمة للمشاركة في هذه الندوة المباركة المعنونة بـ :       ( تطور العلوم الفقهية في عمان: الفقه الاسلامي : المشترك الإنساني والمصالح)، وقد طلب مني المشاركة ضمن محور : فقه حقوق الانسان في الاسلام ، على أن يكون عنوان ورقتي ( الإنسان وحقوقه في السنة النبوية )  فطابت نفسي ونشطت من عقالها إلى المشاركة مع هذه اللفيفة من العلماء وطلبته ببضاعتي المزجاة ، ومن الله جل وعلا أستمد العون والتوفيق وآمل القبول، ثم منك –أخي القارئ- التمس التوجيه وخالص الدعاء.

إن البحث عن  الإنسان وحقوقه في السنة النبوية ، إنما يتطلب منا الإحاطة بما جاء في كتب الصحاح و المسانيد والسنن التي أوردت الحقوق التي تتعلق بالإنسان  ، وهو أمر عسير  لا يمكن الإحاطة به في هذه البحث المختصر ، ولذا أحاول مجتهدا في أن أذكر بعضا من الحقوق التي ذكرتها السنة النبوية على صاحبه أفضل الصلاة وأزكى التسليم  في هذا البحث المختصر ،وقد قسمت البحث إلى مبحثين  :

 المبحث الأَوَّل: التعريفات وفيه مطلبان

المطلب الأول :  تعريف الحقوق لغة واصطلاحا.

المطلب الثاني : السنة وحقوق الإنسان .

المبحث الثاني : ذكر بعض أنواع الحقوق التي عنيت بها السنة النبوية على صاحبها أزكى الصلاة وأتم التسليم .

المطلب الأول : الحقوق العامة .

المطلب الثاني : الحقوق الخاصة .

الخاتمة : وفيها أهم النتائج التي توصلت إليها ، مع ذكر التوصيات التي يوصي بها الباحث .

المبحث الأول : التعريفات

المطلب الأول : معنى الحق لغة واصطلاحا :

يجدر بنا قبل أن ندخل في موضوع الإنسان وحقوقه في السنة النبوية ، أن نعرف معنى كلمة الحق لغة واصطلاحا مع ذكر دلالتها

اولا : تعريف الحق في اللغة :

الحق لغة ضد الباطل  ، ومنه الحديث (( من رآني فقد رأى الحق ))([1] ) ، ووردت كلمة الحق في اللغة لعدة معان ، منها الثبوت والوجوب والصدق واليقين والأمر المقضي ، والعدل والصحيح ، والمستقيم والواجب ، والعمل الذي يحدث حتما ([2] ) ، وعرف الجرجاني الحق بأنه هو  : ( الثابت الذي لا يسوغ إنكاره )( [3]) .

وقال الفيومي :( الحق: خلاف الباطل ، وهو مصدر حق الشيء ، من بابي

. ( ضرب وقتل ، إذا وجب وثبت )([4] )   ، وهذا المعنى اللغوي -كما يظهر- يتضمن معنى الوجوب والإلزام والثبات والإحكام والصحة ، وهي معاني تظهر دلالاتها عند التعرض لأنواع الحقوق التي أقرتها السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم .

ثانياً: تعريف "الحق" اصطلاحاً:

اختلفت عبارات العلماء والمصنفين ، وتعددت تعريفاتهم لمفهوم "الحق"

في الاصطلاح ، فمن تلك التعريفات :

١) تعريف الجرجاني:( الحق في اصطلاح أهل المعاني: هو الحكم المطابق للواقع ، يطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك)([5]) .

٢) تعريف العيسوي  قال هو : ( مصلحة ثابتة للشخص على سبيل الاختصاص

والاستئثار يقررها الشارع الحكيم )( [6]).

٣) تعريف مصطفى الزرقا : ( هي مجموعة القواعد والنصوص التشريعية التي تنظم على سبيل الإلزام علائق الناس من حيث الأشخاص والأموال  ، وله تعريف آخر له : هو المطلب الذي يجب لأحد على غيره )([7]) .

يتبين مما سبق من التعريفات أن المقصود بحقوق الإنسان هي الحقوق التي تجب للإنسان ، وتلك المفترض أن تكون له كانسان وتلزم له في حياته لزوماً معتاداً، ليعيش في مجتمع حر مستقل بعيداً عن الاستبداد والظلم والتدخل في شؤون الفرد الخاصة، إلا فيما كان وراء ذلك مصلحة عامة للمجتمع أو خاصة بذات الفرد، ومهما يكن، فان الحقوق تتنوع حسب متطلبات الحياة وتطورها، وفي كل يوم يقر للإنسان بحقوق جديدة، والمقصود من بحثنا هذا هو ما قررته السنة النبوية  للإنسان من حقوق، وسنكتفي ببيان بعض الحقوق التي ورد ذكرها في السنة النبوية  .

المطلب الثاني  : السنة وحقوق الإنسان :

إن مسألة حقوق الانسان في الوقت الحاضر يعد من أهم ما يشغل المجتمع الدولي ، بل أصبح من الوسائل المهمة التي تتذرع بها الدول المتقدمة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ، وقد تعالت أصوات بإلغاء مبدأ سيادة الدولة عندما يتعلق الأمر بحماية حقوق الإنسان ، كما حدث ذلك في الدورة الرابعة والخمسين للجمعية العامة للأمم المتحدة لعام 1999/ 2000 م، فقد تعالت الأصوات بأن لا تكون سيادة الدول عائقا أمام تدخل الأمم المتحدة لحماية حقوق الإنسان في الدول الأعضاء .

وإذا كان المجتمع الدولي المعاصر لم يعترف بحقوق الإنسان حتى وقت قريب ، بجانب أن المجتمع الدولي لم يقر حقوق الإنسان إلا بعد الحرب العالمية الثانية وتحديدا في عام 1948، فإن الاسلام قد أقر الحقوق للإنسان رجلا كان أو امرأة حرا كان أو عبدا منذ أن بعث الله عبده ونبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – يعني قبل 1400 سنة ([8] ) .

يعتبر ظهور رسالة الرسول – صلى الله عليه وسلم  _ دين الإسلام _ أعظم حادث في تاريخ العرب خاصة والبشر عامةً بعد أن كانوا في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء لا يهتدي الانسان فيها سبيلا ولا يجد دليلا ، فرسالته عليه أفضل الصلاة والسلام  رسالة شاملة كاملة لكل زمان ومكان ودين الإسلام هو آخر الأديان  ،  أرسله الله تعالى للناس على حين فترة من الرسل وانقطاع من الوحي وضلالة من الأمم وانحطاط من القيم وانحراف من العقول ، فأرسل للعالمين  كافةً و رحمةً منه بعباده ونوراً يهتدي به الذين شملتهم العناية الإلهية بهديه وحده حيث قال سبحانه :             (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) القصص: ٥٦ .

 ويتعذر على الباحث إذا أراد استخراج أحكام الدين الإسلامي عن أمر ما أن يفصل سنة رسول الله محمد – صلى الله عليه وسلم -  عن القرآن الكريم لما لهذين المصدرين الأساسيين في التشريع الإسلامي من ارتباط و ترابط وتشابك كالعروة الوثقى لا انفصام لها .

 فالسنة النبوية الشريفة مسايرة وموافقة للقرآن الكريم أو موضحة ومفسرة لآياته لأن أقوال الرسول وأفعاله اعتبرت سنة له ، يستن بها المسلمون معه وبعده منذ نزول الوحي عليه وبدء رسالة الإسلام العظيمة حتى وفاته صلوات الله عليه .

ولهذا السبب على ما يبدو ولعظيم شأن القرآن وتعهد الله بحفظه منع الصحابة من تدوين أحاديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم -  حتى أيام عمر بن عبد العزيز مخافة أن يختلط الحديث بالقرآن كما جاء في مقدمة السيرة النبوية لابن هشام .

 ولذلك وللضرورة لابد من ذكر بعض آيات القرآن الكريم المناسب ذكرها في حقوق الإنسان رغم التركيز على أحاديث الرسول- صلى الله عليه وسلم - المباشرة الخاصة بهذا الموضوع والجوانب التطبيقية له في حياته عليه أفضل الصلاة والسلام ، وذلك لإتمام المعنى والشمول .. وهذا لا يتعارض مع سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -  التي تشمل أفعاله أيضاً والتي هي من وحي القرآن العظيم .

ومن الجدير بالذكر التنويه إلى أن حقوق الإنسان لم يتفرد لها فصل أو بحث أو كتاب أو باب خاص بها في جميع كتب السنة النبوية الشريفة بل هي موجودة في ثنايا أغلب كتبها وأبوابها تحت عناوين مختلفة تشمل كل أمور الحياة لأن رسالة الإسلام اعتنت بكل أمور الإنسان وما يحيط به ويخصه من مخلوقات إلهية في الأرض والسماء وكلها تعتبر أساساً لحقوق الإنسان وإذا شئنا التفصيل فيها قد نعيد نسخ كتب السنة النبوية كلها لأنها بجميع تفاصيلها هي للإنسان وهدايته وأمره ونهيه ، وذلك في سبيل الارتقاء به وبوجوده وبحياته وبمماته أيضاً .

 ولكن هذا البحث سيخصص للأحاديث النبوية المباشرة و التي توضح ما جاء على لسان رسول الله- صلى الله عليه وسلم -  وأفعاله في مجال ما ذكر في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ليفهمه إنسان اليوم بلغة العصر ومفاهيمه ونبين للناس جميعاً أن ما وضعوه في العصر الحديث هذا ، قد وضعته السنة النبوية قبلهم على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم  بأكثر من أربعة عشر قرناً ، ولا يزال منشوراً على الملأ وفي كل أصقاع الأرض ولا سبق لهم في هذا فعدد المصاحف الشريفة وكتب السنة الصحيحة الطاهرة لا تعد ولا تحصى منذ مئات السـنين وأذن الله لهـا أن تنسـخ وتنتشر في جميع أنحاء المعمورة ،فهـذا الإمام الربيع بن حبيب الفراهيدي العماني والإمام البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داوود وابن ماجه وأحمد ومالك وأبو غانم الخراساني صاحب المدونة  والدارمي وابن أبي شيبة والصنعائي وابن دقيق العيد وابن حجر العسقلاني وزين الدين العراقي وأبو ستة والوارجلاني  ، والشروح التي توالت على كتب السنة كحاشية الترتيب وفتح الباري لابن حجر العسقلاني وشرح مسند الإمام الربيع للإمام السالمي وغيرها من الشروحات التي حفظت الحقوق التي أشار إليها الرسول – صلى الله عليه وسلم – سواء كان في قوله أو فعله أو تقريره .

 وكل حديث من أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قد يتساءل المرء إن عاد لأصله وبدأ يقرأ أخبرنا فلان عن فلان تابعي عن صحابي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثال ذلك كما جاء في روايات الربيع أبو عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ...... الخ  أو  قال حدثنا فلان عن فلان عـن فلان عن فلان آخر ..... الخ حتى نصل لقول رسـول الله – صلى الله عليه وسلم – كما في البخاري ومسلم وأصحاب السنن ، أو فعله المذكور من أحد الصحابة الكرام رضي الله عنهم وذلك للقدر الكبير من الدقة والدراسة والتمحيص عندما بدأ كتاب الحديث بتدوينه ولسهولة الرجوع والمقارنة بين مستمعيه أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما أكثرهم من رواة للحديث الواحد حتى ولو اختلفت بعض الكلمات أو الأحرف فيه حسب الراوي أو المستمع تذكر كلها تفصيلاً وما علينا إلا استخلاص العبر منها والاختصار إذا تحقق المعنى بإحداها طالما أن المصادر الأم موجودة لمن أراد العودة إليها والتدقيق بكل دقائقها وحذافيرها .

 ومن الجدير ذكره أن حقوق الإنسان  في السنة الشريفة لم يذكرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وذلك لأنه لم يعترف بأنه أخذ أفضلها عن الدين الإسلامي ومبادئه العظيمة ومازال ينقصه الكثير طالما أنه موضوع من قبل البشر وما تمليه عليهم عقولهم وضمائرهم وأهواءهم فيصيبون حيناً ويخطئون أحياناً  ، ونرفضه نحن كمسلمين ولا نعتبره من حقوق الإنسان ومثالاً على ذلك إطلاق الحريات الشخصية مؤخراً إلى مرحلة الشذوذ الجنسي والاعتراف به على أنه حق من حقوق الإنسان , وغير ذلك والعياذ بالله تعالى .

 

 

المبحث الثاني

ذكر بعض أنواع الحقوق التي عنيت بها السنة النبوية على صاحبها أزكى الصلاة وأتم التسليم

لقد حفلت السنة بكثير من الأحاديث النبوية التي توضح المبادئ والقيم التي أرشد إليه الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم -  في الحياة العامة، وقد جرى تطبيق ذلك عملياً في الصدر الأول للإسلام، على وفق الروح التي جاء بها الإسلام وسعدت بها الإنسانية  ، ونحن في هذا المبحث سوف نتعرض إلى ذكر  شيء من الحقوق العامة التي أرشد الإسلام إلى التخلق بها وذلك لأنه الكيان الذي يدعوا إلى الوحدة وتوحيد الكلمة ورأب الصدع ، وسنتعرض أيضا إلى ذكر بعض الحقوق الخاصة يجب على كل مسلم أن يتخلق بها كذلك ، وهو تصور الوحدة الإنسانية، التي أرشد إليها الدين وبينته السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم  .

المطلب الأول : الحقوق العامة  :

نقصد بالحقوق العامة هي تلك الحقوق التي لا تتصل بالفرد مباشرة وإنما تمس النظام الاجتماعي الذي يعيش فيه ، والحقوق العامة تعنى بحق تقرير المصير والسلام ، وقد بين لنا القرآن الكريم والسنة النبوية حق المصير بشكل إنساني وأخلاقي من ذلك قوله سبحانه (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة: ٢٥٦ ، ( والإكراه الحمل على فعل مكروه ، فالهمزة فيه للجعل ، أي جعله ذا كراهية ، ولا يكون ذلك إلاّ بتخويف وقوع ما هو أشدّ كراهية من الفعل المدعو إليه)([9]) ، ومعنى ذلك ؛ أي لا يجبر أحد من الناس على الدخول في الاسلام إذا أدى الجزية كما قررته الشريعة الاسلامية ، وقيل إن الأنصار قالوا : إنما جعلنا أولادنا على دين اليهود ، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا ، وإن الله جاء بالاسلام فلنكرهنهم ، فلما نزلت الآية خير النبي – صلى الله عليه وسلم – الأبناء ولم يكرههم على الاسلام([10] )  ، وقوله سبحانه : (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) النور: ٥٤ ، فقد أرسله الله سبحانه وتعالى إلى قومه لأجل هدايتهم وإخراجهم من الضلالة إلى الهدى ومن العمى إلى البصيرة ومن الجهل إلى العلم ، وليس له أن يكرههم على الإيمان( [11]) ، فإن بلغ الرسول الرسالة المكلف بها فإنه يكون قد أدى واجبه بصورة صحيحة ، وإذا خالف المرسل إليهم ما ورد في الرسالة فهذا ليس من شأن الرسول ، فالمرسل إليهم هم الذين يتحملون تبعة ذلك .

وقد كان من هديه – صلى الله عليه وسلم – عدم التدخل في شؤون الدول وإنما هي التي تقرر مصيرها ، وكان مما ورد عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال : ( اتركوا الحبشة ما تركوكم )( [12]) ، وروى ثوبان مولى رسول  الله – صلى الله عليه وسلم-  أنه قال : قال رسول الله  – صلى الله عليه وسلم : ( استقيموا لقريش ما استقاموا لكم فإن لم يستقيموا لكم فضعوا سيوفكم على عواتقكم ثم أبيدوا خضراءهم )( [13]) ، وهذا ما يدل على أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – وضع قاعدة مفادها ترك الدول ما دامت لا تتعرض للمسلمين ، أما إذا تعرضت الدولة الاسلامية للعدوان فهنا حينئذ يجب الدفاع عن الاسلام ورد المعتدي على حياضه وبيضته ، ومن الحقوق العامة مايلي :

أولا -  حق تقرير المصير :

إن حق تقرير المصير بالنسبة للدول التي دخلت في الاسلام ، فإن السنة النبوية أشارت إلى أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أبقى ملوكا وأمراء وشيوخ الممالك والقبائل التي دخلت في الإسلام ، بل أرسل إليهم من الصحابة لغرض تعليمهم الاسلام وأخلاقه ، ومن ذلك فعله عليه الصلاة والسلام مع ملكي عمان عبد وجيفر أبناء الجلندى ، فقد بعث إليه النبي – صلى الله عليه وسلم- برسالة مفادها أنه إن أسلم فإنه سيبقيهما  في ملكهما ، وكان مما جاء في هذه الرسالة ( بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى جيفر وعبد ابني الجلندي, السلام على من اتبع الهدى ( أما بعد ) فإني أدعوكما بدعاية الإسلام؛ أسلما تسلما فإني رسول الله إلى الناس كافة؛ لأنذر من كان حيا, ويحق القول على الكافرين وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما؛ وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل عنكما؛ وخيلي تطأ ساحتكما, وتظهر نبوتي على ملككما ) ، وكان الكاتب لهذا أبي بن كعب وهو عليه السلام  المملي عليه, وطوى الصحيفة وختمها بخاتمه المبارك, وكان نقش الخاتم: لا إله إلا الله محمد رسول الله )([14] )   .

ومن الملاحظ في ذلك أن الإسلام أعطى هذه الدول والقبائل حق تقرير مصيرها فأبقى على النظام الذي تطبقه سابقا ، مع احتفاظ هذه الدول والقبائل برؤسائها وشيوخها وعلاقاتها وجيشها وتنظيماتها المالية بغض النظر عما إذا كان الشعب كله دخل إلى الإسلام أو تعددت فيه الشرائع السماوية .

ثانيا -   حق الحرية :

قد يظن البعض أنه مادامت الحرية مكفولة له وحقاً مقرراً شرعاً، فيبيح لنفسه إشباع غرائزه، وإن كان ذلك على حساب غيره، وهذه هي الفوضى التي تقضي على أمن المجتمع واستقراره وسلامته.

أخرج البخاري وغيره عن النعمان بن بشير- رضي الله عنه -  قال سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم -  يقول: ( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فآذووهم. فقالوا: لو أنا خرقنا فى نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)( [15])، وهكذا حالنا نحن في هذه الحياة، نعيش فوق سطح هذا الكوكب الأرضي (كركاب السفينة) فينا البر والفاجر، وفينا الصالح والطالح، فإن تركنا أهل الشر والفساد يسرحون ويمرحون ويفعلون ما يحلو لهم وما يشاءون دون أن نوجه لهم النصح أو نمنعهم عن اقتراف الموبقات والآثام، هلكنا جميعاً، وإن منعناهم منها نجونا جميعاً، فكان في ذلك نجاتنا ونجاتهم، وحياتنا وحياتهم .. فياله من مثل رائع، وتوجيه حكيم، نبهنا إليه رسول الهدى والرحمة ونبي العلم والعرفان. ياله من مثل رائع لو أن الناس كانوا يعلمون .

لقد جعل الإسلام "الحرية" حقاً من الحقوق العامة للإنسان، فلا قيمة لحياة الإنسان بدون الحرية، وحين يفقد المرء حريته، يموت داخلياً، وإن كان في الظاهر يعيش ويأكل ويشرب، ويعمل ويسعى في الأرض. ولقد بلغ من تعظيم الإسلام لشأن "الحرية" أن جعل السبيل إلى إدراك وجود الله تعالى هو العقل الحر، الذي لا ينتظر الإيمان بوجوده بتأثير قوى خارجية، كالخوارق والمعجزات ونحوها قال تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة: ٢٥٦ ، فنفي الإكراه في الدين، الذي هو أعز شيء يملكه الإنسان، للدلالة على نفيه فيما سواه وأن الإنسان مستقل فيما يملكه ويقدر عليه لا يفرض عليه أحد سيطرته، بل يأتي هذه الأمور، راضياً غير مجبر، مختاراً غير مكره.

ونقصد بالحرية هنا هو  قدرة الإنسان على فعل الشيء أو تركه بإرادته الذاتية وهي ملكة خاصة يتمتع بها كل إنسان عاقل ويصدر بها أفعاله ،بعيداً عن سيطرة الآخرين لأنه ليس مملوكاً لأحد لا في نفسه ولا في بلده ولا في قومه ولا في أمته ، وقد أبى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -أن تسلب هذه الحرية من الإنسان الحر فحذر الناس من بيع الأحرار وهددهم بمخاصمة الله تعالى لهم يوم القيامة يوم يحتاج كل إنسان إلى رحمته وغفرانه ورضوانه

فعن أبي هريرة – رضي الله عنه - عن النبي – صلى الله عليه وسلم -  أنه  قال : قال الله تعالى (( ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعط أجره))([16]) .

 قال العلامة أبو الحسن البسيوي : (فَأَمَّا من باع حرّا فَإِنَّهُ لا ثمن له ولا يجوز له وعليه خلاصه، وقد كانوا لا يعذرون في مثل هذا ، والتوبة أن يخرج من باعه في فكاكه وطلبه ولو بجملة مَاله، وإن مات أعتق مثله)([17]) ، ولم يكتف رسول الله – صلى الله عليه وسلم -  بهذا بل حث على عتق العبيد الموجودين أصلاً قبل الإسلام قولاً وعملاً .

ولا يعني بطبيعة الحال إقرار الإسلام للحرية أنه أطلقها من كل قيد وضابط، لأن الحرية بهذا الشكل أقرب ما تكون إلى الفوضى، التي يثيرها الهوى والشهوة ، ومن المعلوم أن الهوى يدمر الإنسان أكثر مما يبنيه ، ولذلك منع من اتباعه، والإسلام ينظر إلى الإنسان على أنه مدني بطبعه، يعيش بين كثير من بني جنسه، فلم يقر لأحد بحرية دون آخر، ولكنه أعطى كل واحد منهم حريته كيفما كان، سواء كان فرداً أو جماعة، ولذلك وضع قيوداً ضرورية، تضمن حرية الجميع ، وتتمثل الضوابط التي وضعها الإسلام في الآتي :

أ- ألا تؤدي حرية الفرد أو الجماعة إلى تهديد سلامة النظام العام وتقويض أركانه.

ب- ألا تفوت حقوقاً أعظم منها،وذلك بالنظر إلى قيمتها في ذاتها ورتبتها ونتائجها.

ج - ألا تؤدي حريته إلى الإضرار بحرية الآخرين.

وبهذه القيود والضوابط ندرك أن الإسلام لم يقر الحرية لفرد على حساب الجماعة ،كما لم يثبتها للجماعة على حساب الفرد ،ولكنه وازن بينهما ،فأعطى كلاً منهما حقه ، ويدخل تحت جانب الحرية حريات أقرها الاسلام ومن ذلك ما يلي :

لقد قرر القرآن الكريم حرية الاعتقاد في كثير من آياته فالله سبحانه وتعالى يقول  : (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة: ٢٥٦ ،  هذه الآية الكريمة الصريحة الواضحة وضعت لرسول الله – صلى الله عليه وسلم - نبراساً وهاجاً يستنير به فكانت كل أقواله وأفعاله لتعليم البشر سبيل الرشد حتى لا يكون للناس على الله حجة بجهلهم هذا السبيل ، فظل يدعو الناس للإيمان والإسلام منذ نزول الوحي حتى مماته ولم يكره أحداً على الإسلام حتى وهو في أوج قوته وانتصاره كما حدث عند فتح مكة إذ دخلها منتصراً دون قتال يذكر بإذن الله تعالى فلم ينتقم من المشركين وما سببوه له من أذى حيث قال :  ((يا معشر قريش ، ما ترون أني فاعل فيكم ؟ قالوا : خيراً ، أخ كريم ، و ابن أخ كريم ، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء .))([18]) .

 وكذلك عندما فر من فر من المشركين خوفاً على أنفسهم من انتقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم -  منهم فقد أعطى رسول الله الأمان لمن طلبه ودخل بيوت المسلمين كالرجلين من أحماء أم هانئ بنت أبي طالب من بني مخزوم اللذين استجارا بها وأراد عليُ أخوها أن يقتلهما ولما أخبرت رسول الله – صلى الله عليه وسلم -  بهما قال لها : (( قد أجرنا من أجرت وأمنّا من أمنت فلا يقتلهما ))([19]) .

وأنكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم - على أحد قواده -وهو خالد بن الوليد - وقوعه في الخطأ وقتل بني جذيمة بن عامر من كنانة بعد أن وضعوا السلاح لأنهم قالوا صبأنا ولم يقولوا أسلمنا ولما انتهى الخبر إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - رفع يديه إلى السماء ثم قال : (( اللهم إنّي أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ))([20]) .

ويقول جل شأنه : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) الكهف: ٢٩ إن الاعتقاد الصحيح ثمرة الاقتناع الكامل والتصديق الثابت، وأنه لا قيمة لعقيدة تأتي نتيجة القهر والتسلط، فحالما تزول أسباب القهر تنتهي وتزول، ولهذا سأل «هرقل ملك الروم»، «أبا سفيان» عن المسلمين، وكان يومئذ كافراً: أيرتد أحد منهم سخطاً على دينه؟ قال: لا، فقال هرقل: وهكذا الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب  ، وإن الإسلام يريد إتاحة الفرصة المتكافئة للناس، كي ينظروا ويختاروا، فلا يجبرهم على شيء لا يرغبونه.

فلم يستأصل النبي – صلى الله عليه وسلم – من شاركه السكنى في المدينة من غير المسلمين ، بل وقع ما يشبه الاتفاقيات التي تنظم العلاقات بين المسلمين وغيرهم ، ولكن بشرط تنفيذ كل من الطرفين ما عليه من واجبات ، ومن هنا فإن رسول السلام قد حفظ العهد مع جيرانه اليهود الذين كانوا يقطنون المدينة المنورة ما حفظوه ، فلما نقضوا العهد وأبدوا المعاداة للرسول – صلى الله عليه وسلم – ولصحابته انتفض عليهم ، وما كان ذلك منه عليه الصلاة والسلام إلا ترسيخا لمادة السلام ([21]).

وما قاتل الإسلام إلا من أجل أن يخلّي بين الناس واعتقادهم على أساس الحرية والاختيار، فكان قتاله من أجل تحرير البشر من الطواغيت والمستبدين، ولم يحدث في تاريخ الإسلام أن أكره أحداً أو أجبر قوماً على اعتناقه، كما حدث ويحدث الآن في تاريخ النصرانية  ، وما أثير حول الإسلام من أنه انتشر بالسيف، فهو افتراء وكذب لا أساس له، ذلك لأن الذي يقرأ تاريخ الإسلام، لا يجد إلا التسامح الديني .

لقد أكد الإسلام في موضوع الحرية  على موضوع حرمة الذات: فالإسلام قد عني بتقرير كرامة الإنسان ، وعلو منزلته. فأوصى باحترامه وعدم امتهانه واحتقاره ، قال تعالى:   (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) الإسراء: ٧٠  ، وقال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) البقرة: ٣٠ ، وميزه بالعقل والتفكير تكريماً له وتعظيماً لشأنه، وتفضيلاً له على سائر مخلوقاته، وفي الحديث عن عائشة – رضي الله عنها – مرفوعاً : ( أول ما خلق الله العقل قال له اقبل ، فأقبل ، ثم قال له : أدبر فأدبر ، ثم قال له عز وجل: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم علي منك، بك آخذ، وبك أعطي، وبك أثيب، وبك أعاقب"، وفي هذه النصوص ما يدعو إلى احترام الإنسان، وتكريم ذاته، والحرص على تقدير مشاعره، وبذلك يضع الإسلام الإنسان في أعلى منزلة، وأسمى مكان حتى أنه يعتبر الاعتداء عليه اعتداء على المجتمع كله، والرعاية له رعاية للمجتمع كله ، وتقرير الكرامة الإنسانية للفرد، يتحقق أياً كان الشخص، رجلاً أو امرأة ، حاكماً أو محكوماً، فهو حق ثابت لكل إنسان، من غير نظر إلى لون أو جنس أو دين ، حتى اللقيط في الطرقات و نحوها، يجب التقاطه احتراما لذاته و شخصيته، فإذا رآه أحد ملقى في الطريق، وجب عليه أخذه، فإن تركوه دون التقاطه أثموا جميعاً أمام الله تعالى، و كان عليهم تبعة هلاكه([22]) ، هذا و كما حرص الإسلام على احترام الإنسان حياً، فقد أمر بالمحافظة على كرامته ميتاً، فمنع التمثيل بجثته، و ألزم تجهيزه و مواراته ،و نهى عن الاختلاء و الجلوس على القبور كما جاء في الحديث الذي أخرجه البيهقي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ أَوْ عَلَى نَارٍ فَتُحْرِقُ ثِيَابَهُ حَتَّى تَخْلُصَ إِلَيْهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ)([23]) .

وقد بينت السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم أنه لا  يجوز التعرض للنفس الانسانية  بقتل أو جرح، أو أي شكل من أشكال الاعتداء، سواء كان على البدن كالضرب و السجن و نحوه، أو السب أو الشتم و الازدراء و الانتقاص وسوء الظن و نحوه، فقد جاء في الحديث عن عبدِ اللهِ بن عمرَ رضيَ اللهُ عنهما أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ( المسلم أخو المسلمِ؛ لا يَظْلِمُهُ، ولا يُسْلِمُهُ ، ومَن كانَ في حاجَةِ أخيهِ؛ كان الله في حاجَتِه، ومَن فَرَّج عن مسلمٍ كُربةً؛ فرَّج الله عنهُ كُرْبةً مِن كرباتِ يومِ القيامَةِ، ومَن سَتَرَ مسلماً؛ ستره الله يومَ القيامَةِ)([24]) ،وقد جاء في خطبة الوداع التقرير من الرسول – صلى الله عليه وسلم – على حرمة دم المسلم وماله وعرضه فعن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم – يوم عرفة قال ( أيها الناس  إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا )([25]) و لهذا قرر الإسلام زواجر و عقوبات، تكفل حماية الإنسان و وقايته من كل ضرر أو اعتداء يقع عليه، ليتسنى له ممارسة حقه في الحرية الشخصية، وكلما كان الاعتداء قوياً كان الزجر أشد ، ففي الاعتداء على النفس بالقتل و جب القصاص، كما قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) البقرة: ١٧٨ ، أو كان الاعتداء على الجوارح بالقطع وجب القصاص أيضاً كما قال تعالى (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) المائدة: ٤٥ ، و منع عمر بن الخطاب –رضي الله عنه – الولاة من أن يضربوا أحداً إلا أن يكون بحكم قاض عادل، كما أمر بضرب الولاة الذين يخالفون ذلك بمقدار ما ضربوا رعاياهم بل إنه في سبيل ذلك منع الولاة من أن يسبوا أحداً من الرعية، ووضع عقوبة على من يخالف ذلك .

 

فمتى قدر الإنسان على اقتناء مسكنه ،فله حرية ذلك، كما أن العاجز عن ذلك ينبغي على الدولة أن تدبر له السكن المناسب، حتى تضمن له أدنى مستوى لمعيشته ، فقد روى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له)([26])، وقد استدل الفقهاء  بهذا الحديث وغيره على أن أغنياء المسلمين مطالبون بالقيام على حاجة فقرائهم إذا عجزت أموال الزكاة والفيئ عن القيام بحاجة الجميع من الطعام والشراب واللباس والمأوى الذي يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء وعيون المارة، وذكر أهل العلم من أن هناك وجوه للإنفاق، مِنها الإنفاق في تعليم الناس، ومِنها الإنفاق في إيجاد المكتبات التي تُهيئ لَهم أن يرجعوا إليها، ومِنها الإنفاق في بناء المدارس التي يكون الناس بِحاجة إلى التعلم فِيها، ومِنها الإنفاق في بناء المساجد التي تَضُمُّ العابدين الراكعين الساجدين، ومِنها الإنفاق على الفقراء والمساكين، ومِنها إِيِجاد الأوقاف للمصالح كإِيِجَاد الوقف للمسجد أو للمدرسة أو للمكتبة أو لأي شيء مِن هذا القبيل، فذلك كله مِن القُربات التي تقرب إلى الله - سبحانه وتعالى - وقد دل الحديث الشريف على أنَّ الإنسان يُسأل عن ماله سُؤالين، يُسأل عنه مِن أَين اكتسبه .. إذ ليس له أن يكتسب المال مِن أي وجه كان، ويُسأل عنه فِيما أَنْفَقه، لأنَّه لا يُخول بأن يُنفقه في أي سبيل كان، ففي حديث أبي برزة الأسلمي-رضي الله تعالى عنه عند الترمذي([27])-أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يُسئل عن خمس، عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله مِن أين اكتسبه، وفِيما أنفقه، وماذا عمل فِيما علم )([28]).

فنجد في الحديث الشريف ما يدل على أنَّه يُسأل سُؤالين عن المال، يُسأل عنه مِن أين اكتسبه، إذ لا يسوغ له أن يكتسبه مِن أي سبيل كان، وإنَّما يسوغ أن يكتسبه مِن الوجوه المشروعة النَّظيفة، ولا يسوغ-أيضاً-أن ينفقه في أي سبيل كان، ولذلك يُسأل عنه بعد ذلك فِيما أنفقه.

فإذا ما ملك الإنسان مأوى و مسكن ،فلا يجوز لأحد ،أن يقتحم مأواه ،أو يدخل منزله إلا بإذنه، حتى لو كان الداخل خليفة، أو حاكماً أعلى –رئيس دولة- ما لم تدع إليه ضرورة قصوى أو مصلحة بالغة، لأن الله تعالى يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) النور: 27- ٢٨ و إذا كان قد نهى الشرع  عن دخول البيوت بغير إذن أصحابها، فالاستيلاء عليها أو هدمها أو إحراقها من باب أولى، إلا إذا كان ذلك لمصلحة البلاد والعباد ، بعد ضمان البيت ضماناً عادلاً، و هذه المصلحة قد تكون بتوسعة مسجد، أو بناء شارع، أو إقامة مستشفى، أو نحو ذلك من المشاريع التي تخدم المواطن ، و قد أجلى عمر بن الخطاب –رضي الله عنه –أهل نجران، و عوضهم بالكوفة. ولحفظ حرمة المنازل وعظمتها حرم الإسلام التجسس، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) الحجرات:12 ، قال الإمام القطب : ( ولا تجسسوا ) أي  (لا تبحثوا عن عورات الناس ، وتطلبوا أن تحسوها ، بالحاء المهملة ، أي تدركوها بحاسة كالأذن)([29]) وذلك لأن في التجسس انتهاكا لحقوق الغير والتي منها :حفظ حرمة المسكن، وحرية صاحبه الشخصية بعدم الاطلاع على أسراره ، بل و بالغ الإسلام في تقرير حرية المسكن بأن أسقط القصاص والدية عمن انتهك له حرمة بيته، بالنظر فيه و نحوه، يدل على ذلك حديث أبى هريرة –رضي الله عنه-أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : (من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه فقد هدرت عينه)([30]) وهدرت:أي لاضمان على صاحب البيت، فعين الإنسان –رغم حرمتها وصيانتها من الاعتداء عليها وتغليظ الدية فيها –لكنها هنا أهدرت ديتها بسب سوء استعمالها واعتدائها على حقوق الغير.

ثالثا – حق المساواة :

إن من المبادئ الأساسية الجوهرية في الإسلام المساواة، والمساواة من حيث كون الإنسان إنساناً له ما لغيره من الحقوق، وعليه ما على غيره من الواجبات، هذا الإنسان الذي لا يميزه عن غيره كإنسان شيء، ويتميز عند الله بعدة مميزات بينه وبين أخيه الانسان .

والمساواة، تعني المماثلة في الحقوق والواجبات بين بني آدم جميعاً، فلا تمييز لأحد على آخر، بلونه أو وطنه أو قبيلته .. فالكل أمام الله سواء ، ومكانة المساواة من الركائز القوية والدعائم الثابتة التي تعتمد عليها البشرية في تقدمها وتحقيق الفرص أمام أفراد المجتمع للتقدم والرقي، فيشعر الناس في ظلها بالأمن والطمأنينة، وتسود المحبة بين الجميع .

وتقوم المساواة في الجانب النظري على أن الناس سواسية أمام الله من حيث الواجب ومن حيث الجزاء، لا فرق بين غني وفقير، ولا بين حاكم ومحكوم، أو بين مسلم وذمي، فقد كفل الإسلام المساواة في ظل المجتمع الإسلامي لغير المسلمين من الذميين والمعاهدين بالمسلمين، إلا فيما يتصل بقواعد دينهم، وكفل لهم فضلاً عن المساواة حرية العقيدة وحرية السلوك فيما لا يحرّمه دينهم ويحرّمه الإسلام .

وفي الجانب العملي نرى تأكيد الإسلام لمعنى المساواة ماثلاً في أداء الفروض والعبادات فالمسلمون يجتمعون للصلاة في مكان واحد في صفوف مستقيمة وعلى قدم المساواة، يقف الفقير والغني والحاكم والمحكوم والصغير والكبير  إلى جانب بعضهم البعض متجهين إلى الله بقلب واحد، وراء إمام واحد، لا يتقدم فيها واحد أو يتأخر عن مكانته إكباراً لعظيم أو سيد قادم، إلا بقدر ما يوسعون من مكان يقف فيه مشاركاً الجمع صلاتهم لله ، ( ولا نكران أن البشر يختلفون في لغاتهم وألوانهم من الناحية العامة ، لكن هذا الاختلاف لا يؤبه له ، ولا يخدش ما تقرر من تساويهم في الحقيقة الإنسانية الأصلية ، إنه كاختلاف ألوان الورد في البستان ، أو اختلاف الأزياء التي يرتديها الإنسان)([31]) .

وفي أيام الحج يحتشد الناس من كل حدب وصوب  في إزار واحد لا يشذ فيه واحد عن الآخر، ويسعون ويهرولون ويطوفون بالبيت العتيق، فتنمحي بينهم الفروق ويزول التمايز، ويتأكد في هذه الممارسة العملية لشعائر الإسلام معنى المساواة في أروع صورة لها ، وإن الله سبحانه قد فضل أهل التقوى عن غيرهم فقال سبحانه : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات: ١٣ ، بل إن الله سبحانه قد رفع قدر أهل العلم إلى  درجات على أساس أن المساواة لا تكون بين من يعلمون في الدنيا فيعملون، وبين من لا يعلمون فلا يعملون، يقول سبحانه :  (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) المجادلة: ١١  ، وقال :  (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) الزمر: ٩  ، إن هذا التمييز قد  أخّره الله إلى يوم الدين، أما أمام القانون فالجميع سواء لا يفضل مسلم ذو مركز دنيوي على مسلم آخر أقل مركزاً وكثيراً ما وقف الخليفة والشخص العادي أمام القضاء سواء بسواء لا يميزهم إلا الحق الذي يثبت لأي منهم حسب الإثباتات المقدمة كما هو مبين في كتب السيرة ، فـ(  القضاء فريضة محكمة ، وهو الركن الركين والحصن الحصين لحماية حقوق الآدميين )([32]).

لقد حفلت السنة بكثير من الأحاديث النبوية التي توضح مبدأ المساواة في الحياة العامة، وقد جرى تطبيق المساواة عملياً في الصدر الأول للإسلام، على وفق الروح التي جاء بها الإسلام فلا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر إلا بالتقوى.

ولعل أعظم نصر للإسلام أنه حطم التفرقة العنصرية والتمايز بين المسلمين لا في العبادات وحدها، حيث يتساوى الناس أمام الخالق، ولكن في الحقوق والعلاقات الاجتماعية والمعاملات اليومية بين الناس في حياتهم العادية ومن المآثر التي جاءت بها البعثة المحمدية وسعدت بها الإنسانية.

فمن مآثر البعثة المحمدية العظيمة، ومننها الباقية السائرة في العالم، هو تصور الوحدة الإنسانية، فقد كان الإنسان يعيش في ظلمات مدلهمة وتتلاعب به أهواء متنوعة لا يهتدي سبيلا بل ولا يجد دليلا  ، وكان موزعاً بين القبائل والطبقات بعضها دون بعض، وقوميات ضيقة ، وكان التفاوت بين هذه الطبقات تفاوتاً هائلاً كالتفاوت بين الإنسان والحيوان، وبين الحر والعبد، وبين العابد والمعبود، و لم تكن هناك فكرة عن الوحدة والمساواة إطلاقاً، فأعلن النبي – صلى الله عليه وسلم -  بعد قرون طويلة من الصمت المطبق، والظلام السائد، ذلك الإعلان الثائر المدهش للعقول، المقلب للأوضاع: ( أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى)([33]) ، إنها كلمات خالدة جرت على لسان النبي – صلى الله عليه وسلم -  في حجة الوداع .

 وحينما قام النبي – صلى الله عليه وسلم - بهذا الإعلان التاريخي العظيم، لم يكن العالم في وضع طبيعي هادئ يصيغ في هذه الكلمات الجريئة الصريحة ويطبقها بل كانت تتقاذفها تيارات هوجاء كالوثنية والنصرانية واليهودية والمجوسية( والحقيقة الإنسانية ... شوهها الاستبداد السياسي والفوضى الاجتماعية )([34]) ، فما كان منه عليه السلام إلا أن زلزل كيان التيارات و دكدك قلاعهم ، إن في هذا الكون  أشياء قد يتحملها الإنسان بصورة تدريجية إن كان قريبا منها ، وبعضها لا يستطيع ملامستها إلا من وراء ستار ، وذلك مثل الغطاء الذي يغطي الأسلاك الكهربائية ، فقد نلمسه إذا كان مغطى أو داخلاً في باطن الأسلاك، ولكننا إذا لمسناه عارياً أصابتنا صدمة عنيفة أو قضى علينا بتاتاً .

وهذا الإعلان النبوي من سيد الخلق وحبيب الحق  يتضمن إعلانين، هما الدعامتان اللتان يقوم عليهما الأمن والسلام، وعليهما قام السلام في كل زمان ومكان، وهما وحدة الربوبية والوحدة البشرية، فالإنسان أخو الإنسان من جهتين، والإنسان أخو الإنسان مرتين، مرة «وهي الأساس» لأن الرب واحد، ومرة ثانية لأن الأب واحد ، يقول سبحانه : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) النساء: ١  ، ويقول جل شأنه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات: ١٣ ، ونلاحظ أن هذه الآية نزلت في السنة الثامنة للهجرة ، وكان ذلك عندما صعد بلال ظهر الكعبة ينادي " الله أكبر " فاستنكر الناس من قريش على بلال وقالوا أعبد حبشي يعلو ظهر الكعبة بحضورنا ؟؟!! بل إن بعض الجاهليين كان يقول لما أذن بلال – رضي الله عنه -  على الكعبة قال: الحمد لله الذى قبض أبى ولم ير هذا اليوم ، كما نقل علماء التفسير والحديث عن عتاب بن أسيد بن العيص ، وقال الحارث بن هشام : أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا؟ وقال سهل بن عمرو : ان كره الله نبيا يغيره ، قال أبو سفيان : إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبره رب السماء ، فنزل جبريل فأخبره رسول صلى الله عليه وسلم بما قالوا ، فسألهم فاقروا ، نزلت الآية([35]) .

إن هذه الآية التي أعلنت للعالمين تحطيم فوارق الطبقات وتأسس المساواة بين الناس في الخلق ، وأن التفاضل لا يكون إلا بالتقوى فلا اعتبار للون ولا اعتبار لعرق ولا اعتبار لمناصب ومكاسب ولا لمراكب ومراتب ولا اعتبار لأموال وقصور ولا لأولادٍ ودور  .

لقد طبق المسلمون الأوائل قاعدة  أنه لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى ، فقد أرسل عمرو بن العاص عبادة بن الصامت وهو من الصحابة الأجلاء – أسود اللون – وكان رئيس الوفد الذي أرسله عمرو بن العاص لمفاوضة المقوقس عظيم القبط ، فضاق به المقوقس لسواده وبسط جسمه وطلب من الوفد أن يتكلم غيره فرد عليه : إن هذا أفضلنا رأيا وعلما وهو سيدنا وخيرنا وقد أمره الأمير علينا فلا نخالف أمره ، فعجب المقوقس : كيف يكون الأسود أفضلهم !! فردوا عليه بأن الألوان ليست ما تقاس به الرجال وإن الإسلام لا يعرف في تقويم البشر إلا الخلق والمواهب الفاضلة([36]) .

وقد أنكر النبي – صلى الله عليه وسلم – على أبي ذر الغفاري – رضي الله عنه – عندما عير بلالا بقوله : يا ابن السوداء ، فما كان من النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا أنه غضب غضبا شديدا وأنكر على أبي ذر حيث قال : "طف الصاع" أي طفح الكيل يا أبا ذر ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى أو بعمل صالح " فوضع أبو ذر خده على الأرض وقال لبلال : قم يا أخي فطأ برجليك على خدي )([37]) ، إن هذه المشهد الذي وقع فيه أبو ذر يتكرر في أيامنا كثيرا بل لربما يقع فيه أناس يحسبون في الملإ من اهل العلم والتقوى ، بل وكثيرا ما نسمع أصواتهم تجلجل من فوق المنابر يبينون للناس معنى التفاضل فيما ما بين الناس وأنه لا تفاضل إلا بالتقوى ، وهم بأنفسهم في تطبيق معنى المساواة مبتعدين فطالما سمعت من بعض أهل العلم من يصف وينعت  صاحب البشرة السوداء بالعبد  أو من أجعد الشعر بالعبد وهكذا ( والحق أن لون الجلد الإنساني لا يسوغ أن يكون مثار تقديم أو تأخير ، فالمدار على الخُلُق والسلوك في تحديد القيم )([38])، إن هذه الآيات وهذه الأحاديث لا تجد تطبيقا لها عند كثيرين من الناس وإنما هي نصوص نجمل بها خطبنا ومحاضراتنا فقط وفالجانب المقابل نحن في بعد عن التطبيق ، وصاحب هذا الفكر مصاب - في ظني - بمركب النقص وللأسف الشديد ،  ولذا كان لازما وواجبا لكل مسلم أن يراجع نفسه قبل الندم ولات ساعة مندم ، إن احتقار الناس له عواقبه الوخيمة يوم الدين يوم يقوم الناس لرب العالمين ، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – توعد المتكبر بأنه لا يراح رائحة الجنة  ، فعن ابن مسعود – رضي الله عنه -  عن النبي – صلى الله عليه وسلم -  قال:  ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ) فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة، فقال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس)([39]) ،

وقد تقع أخطاء من بعض المسلمين الذين تغريهم الوظيفة فيزعمون أن لهم حقا يمتازون به على غيرهم ، ولكن في ظل هذا الفكر المنحرف عن الجادة هل يسكت قادة الإسلام وحملة دعوته على هذه الأخطاء .. لا بل عليهم أن يعالجوها بصرامة ، ليؤكدوا طبيعة الإسلام في احترام الإنسان وإعزاز جانبه ورفعة شأنه مهما اختلفت الأجناس والمذاهب([40])  .

ويتجلى الهدف من المساواة في ميزان الإسلام هو أن مبدأ المساواة الذي اعتنقه المسلمون، ومحا عن أفهامهم وأقطارهم نظام الطبقات، نابع من عقيدة التوحيد ذاتها، وقد تعلم المسلمون من أصل دينهم أن الذي تعنو له الوجوه، وتسجد في حضرته الأرواح والأجساد وتستجيب لندائه وحكمه الخاصة والعامة، هو قيوم السماوات والأرض وحده.

وإن البشر قاطبة ينتظمهم سلك العبودية المطلقة لله وحده، وأن من حاول التطاول فوق هذه العبودية السارية لدى الأشخاص والأشياء وجب قمعه حتى يستكين في مكانته بحيث لا يتعداها يقول سبحانه : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) مريم: 93 ، 94 ، ٩٥ ، وإن خالق البشر أوردهم بقوى مختلفة ومواهب شتى ليختبر كل امرئ منهم فيما آتاه وليسأله يوم العرض ماذا عمل به..؟!! فليس صاحب السلطة في هذه الدنيا رجلاً محظوظاً شاءت له الأقدار أن يتحكم ولا صاحب الثروة رجلاً كذلك شاءت له الأقدار أن يتمتع، لا ؛ فكلا الرجلين مختبر في وضعه معرض للنجاح والفشل كأي إنسان آخر، مؤاخذ أو مثاب على وفق استقامته أو عوجاجه.

ثم إن المسلم في نظرته إلى الناس قويهم وضعيفهم يعرف أن زمام أمورهم في النهاية بين يدي الله، وأن هذا الزمام لن يفلت منه أبداً، ولن يستطيع أحد إسقاطه من بين يديه ، ومن ثم فهو متوجه إلى الله تعالى برغبته ورهبته وقلقه أو طمأنينته، غير هياب لجبار عنيد أو مبال بذي شديد، قد وثق من قول الله جل شأنه: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) الأنعام: 17، ١٨  ، بهذه الروح المفعمة باليقين والإباء أبى الإنسان المسلم الاعتراف بأن يكون لأحد من الخلق اختراق أسوار المساواة العامة، والاستعلاء على غيره من الناس .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المطلب الثاني : الحقوق الخاصة  :

إذا كانت الانسانية كانت سببا لترتب الحقوق العامة المشتركة بين الناس جميعهم صغيرهم وكبيرهم رجلا كان أو امراة ، من أجل هذه العلاقة التي تربطهم ، وكان الإسلام سببا لترتب حقوق أخرى تجب على المسلم للمسلم بحكم رابطة العقيدة التي تربط بينهم ، فإن هناك حقوقا متعددة تجب بين الناس بحكم العلاقات الخاصة التي تربط بعضهم ببعض وسواء هذه الروابط فطرية كانت أو كسبية ، فقد أكد الإسلام على المحافظة عليها ، وقد أكد الإسلام على هذه الحقوق التي نتطرق إليها وفي هذا المطلب سأتحدث عن ستة من  الحقوق الخاصة وهي كالتالي  :

أولا : حق الوالدين :.

إن من الحقوق الخاصة التي أكد عليها الشرع الشريف حقوق الوالدين ، فبر الوالدين فريضة مقدسة وواجب إنساني وأدب اجتماعي يرتضيه الدين والعقل السليم ، وهو من الحقوق التي تتباهى به شريعة الإسلام ، كيف لا وهو تشريع إلهي يثاب عليه الابن ويرتفع به إلى أعلا الدرجات، وتركه يعد كبيرة من كبائر الذنوب التي لا تغتفر بل يهبط بالإنسان  إلى دركات الجحيم والعياذ بالله  ، والمقصود بالطاعة هنا الاستجابة لأوامرهما ورغبتهما في غير معصية الله . قال الله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الأحقاف: ١٥، ووجب الإنفاق عليهما عند الحاجة : فإن من إكرام الوالدين والإحسان إليهما أن يقدم لهما ما يحتاجان إليه من مال وغيره وخاصةً حين يصبحان غير قادرين على العمل  ، مع الدعاء لهما : قال سبحانه : (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) الإسراء:24  وعن أسيد بن مالك بن ربيعة الساعدي – رضي الله عنه -  قال : بينا نحن عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ جاءه رجل من بني سلمة ، فقال : يارسول الله ، هل بقي من بر أبوي شيءٌ أبرهما بعد موتهما ؟ قال : نعم ، الصلاة عليهما([41]) ، والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهدهما من بعدهما ، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ، وإكرام صديقهما )([42]).

وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : جاء رجل إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، فقال يارسول الله ، من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : " أمك " ، قال ثم من ؟ قال : " ثم أمك " ، قال ثم من ؟ قال : " ثم أمك" ، قال : ثم من ؟ قال : " ثم أبوك " )([43]) ، وعن عبدالله بن عمرو – رضي الله عنه - ، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : رضى الرب في رضى الوالد ، وسخط الرب في سخط الوالد )([44]) .

يقول الإمام السالمي – رحمه الله  تعالى – في جوهره :

( للوالدين يلزمن حق ....... ويحرمن أذاهما والعق

فقد نهاك عن مقال أف ....... رب العلى فسارعن للكف

وهو كناية تكون عن أقل ........ أذاهما فكيف بالأذى الأجل

صاحبهما ما عشت بالمعروف ........ تنل به الفضل من الرؤوف

وقل إلهي ارحمهما كمثل ما ........ قد ربياني وصلن وأكرما

أطعهما ما لم يكن في كفر ........ فطاعة الإله أولى فادر

وقد مضى ما لهما من حق ........ في مال من قد ربيا بحق

وقيل أن صفة العقوق .......... منعهما عن سائر الحقوق

وأصله الشق يقال عقا .......... ثيابه متى لها قد شقا

قلت وهذا الأصل يقضى إنما ......... معنى العقوق فعل ما قد حرما

وهو الأذى أو الجفا فمن جفا ..... فبالعقوق وصفه قد عرفا

ودعوة الوالد فاحذروها ......... أمضى من السيف يقدروها

ودعوة الأم تكون أسرعا ........ إجابة فحاذرن وقع الدعا

ومن يكن قد عق حتى ماتا ........... والده فأمره قد فاتا

لكنه يستغفر الرحمانا ............. ويندمن في الذي قد كانا)([45])

ثانيا : حق الأولاد :

الأولاد في الإسلام هم زهرة الحياة الدنيا وزينتها، وهم بهجة النفوس وقُرَّة الأعين، وقد اعتنى الإسلام بالأبناء عناية خاصَّة، فقرَّرَت الشريعة الإسلامية أنَّ لهم على الآباء حقوقًا وواجبات.

فالابن تتشكَّل في نفسه أَوَّل صُوَرِ الحياة متأثِّرًا ببيئة والديه، لما ثبت عن النبي أنه قال: ( مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)([46]) ، فالوالدان لهما أثر كبير في دين وخُلُقِ الأبناء ؛ لذا فإن صلاح الآباء يتوقَّفُ عليه مصلحة الأبناء ومستقبل الأُمَّة، وعليه فإن حقوق الأبناء ترجع إلى ما قبل الولادة؛ حيث اختيار الأُمِّ الصالحة والأب الصالح، إذا ما وُفِّقَ كُلٌّ من الزوجين في اختيار صاحبه، يأتي حقُّ الولد عليهما في تحصينه من الشيطان؛ وذلك عند وضع النطفة في الرحم، ويظهر ذلك في التوجيه النبوي الشريف في الدعاء عند الجماع، والذي يحفظ الجنين من الشيطان؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي قال( لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا. فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، لَمْ يَضُرُّهُ)([47]) .

ثم كان حَقُّهم - أيضًا - في حُسْنِ التربية وتعليم الضروريات من أمور الدين، وفي طريقةٍ عملية في تربية الأبناء يقول الرسول : ( مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْـمَضَاجِعِ)([48]) ،  كما أمرنا الله أن نحمي أنفسنا وأبناءنا من النار يوم القيامة، يقول سبحانه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) التحريم: ٦  ،هذا بالإضافة إلى رعاية هؤلاء الأبناء وجدانيًّا؛ وذلك بالإحسان إليهم ورحمتهم، وملاعبتهم وملاطفتهم، وقد ورد في ذلك أن الرسول قَبَّل الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلتُ منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله فقال: ( مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ )([49])

وروي أيضًا أنس بن مالك أن رسول الله قال: ( إِنِّي لأَدْخُلُ فِي الصَّلاَةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ)([50]) .

وعلى هذا فثَمَّة حقوق مهمَّة للأبناء على الآباء قد كَفَلَهَا الإسلام لهم، وقد فاقت في شمولها ومراحلها كل الأنظمة والقوانين الوضعيَّة قديمها وحديثها؛ حيث اهتمَّ الإسلام بالأبناء في كل مراحل حياتهم؛ أَجِنَّةً، ورُضَّعًا، وصبيانًا، ويافعين، إلى أن يَصِلُوا إلى مرحلة الرجولة للذكور أو الأنوثة للبنات، بل اهتمَّ الإسلام بهم قبل أن يكونوا أَجِنَّةً في بطون أُمَّهَاتهم! وذلك بالحضِّ على حسن اختيار أمهاتهم وآبائهم كما تقدم  وذلك كُلُّه بهدف إخراج رجال ونساء أسوياء لمجتمع تَسُودُهُ الأخلاق والقيم الحضارية النبيلة ، ومما يلحق بجانب حق الأبناء تعليمهم القرآن الكريم ، فقد أخرج الإمام الربيع بن حبيب عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد أنه قال بلغني عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال : ( علموا أولادكم القرآن فإنه أول ما ينبغي أن يتعلم من علم الله هو )([51]) .

ثالثا : حق الرحم :

من عظيم ما أتى به الإسلام أن الأسرة فيه لا تقف عند حدود الوالدين وأولادهما، بل تَتَّسع لتشمل ذوي الرحم وأُولِي القربى من الإخوة والأخوات، والأعمام والعمَّات، والأخوال والخالات، وأبنائهم وبناتهم؛ فهؤلاء جميعًا لهم حقُّ البِرِّ والصِّلَة التي يحثُّ عليها الإسلام، ويَعُدُّهَا من أصول الفضائل، ويَعِدُ عليها بأعظم المثوبة، كما يَتَوَعَّدُ قاطعي الرحم بأعظم العقوبة، فمَنْ وَصَلَ رحمه وَصَلَهُ الله، ومَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ الله.

وقد وضع الإسلام من الأحكام والأنظمة ما يُوجِبُ دوام الصلة قوية بين هذه الأسرة المُوَسَّعة، بما فيها الأقارب، بحيث يَكْفُلُ بعضهم بعضًا، ويأخذ بعضهم بِيَدِ بعضٍ، كما يُوجب ذلك نظام النفقات، ونظام الميراث، ونظام (العاقلة)؛ ويُرَادُ به توزيع الدِّيَةِ في قتل الخطأ وشبه العمد على عَصَبَةِ القاتل وأقاربه .

وَصِلَةُ الرحم تعني الإحسان إلى الأقربين، وإيصال ما أمكن من الخير إليهم، ودفع ما أمكن من الشرِّ عنهم؛ فتشمل زيارتهم والسؤال عنهم، وتَفَقُّدِ أحوالهم، والإهداء إليهم، والتصدُّق على فقيرهم، وعيادة مرضاهم، وإجابة دعوتهم، واستضافتهم، وإعزازهم وإعلاء شأنهم، وتكون أيضًا بمشاركتهم في أفراحهم، ومواساتهم في أتراحهم، وغير ذلك ممَّا من شأنه أن يزيد ويُقَوِّيَ من أواصر العَلاقات بين أفراد هذا المجتمع الصغير.

فهي إذن باب خير عميم؛ فيها تتأكَّد وَحْدَة المجتمع الإسلامي وتماسكه، وتمتلئ نفوس أفراده بالشعور بالراحة والاطمئنان؛ إذ يبقى المرء دومًا بمنأى عن الوَحْدَة والعُزْلَة، ويتأكَّد أن أقاربه يُحِيطُونَه بالمودَّة والرعاية، ويمدُّونه بالعون عند الحاجة.

وجعل الله صِلَةَ الرحم توجب صِلَتَه سبحانه للواصل، وتتابع إحسانه وخيره وعطائه عليه، وذلك كما دَلَّ الحديث القدسي الذي رواه عبد الرحمن بن عوف قال: سمعتُ رسول الله يقول: قال الله: ( أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِيَ الرَّحِمُ، شَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي، مَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ)([52]).

وبَشَّر الرسولُ الذي يَصِلُ رحمه بسعة الرزق والبركة في العمر، فروى أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله يقول: ( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِه ؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)([53]) .

وقد بين أهل العلم ذلك بأن هذه الزيادة بالبركة في عمره، والتوفيق للطاعات، وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة، وصيانتها عن الضياع في غير ذلك ، قال الإمام القطب في شرح النيل : (وَأَنَّ مَعْنَى زِيَادَتِهَا فِيهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ صُلْبِ وَاصِلِهَا ذُرِّيَّةٌ يَعْمَلُونَ بِطَاعَةٍ فَيَلْحَقُهُ عَمَلُهُمْ ، وَأَنَّهَا تَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ ذَلَقٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : صِلْ مَنْ وَصَلَنِي وَاقْطَعْ مَنْ قَطَعَنِي ، وَأَنَّ صِلَتَهَا بَقَاءٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا ، وَخَيْرٌ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ ، وَأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ الْإِيمَانُ وَصِلَتُهَا ، وَأَبْغَضَ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ الشِّرْكُ وَقَطْعُهَا ، وَقِيلَ : إنَّهَا تَعَلَّقَتْ بِالْعَرْشِ ، تَقُولُ : يَا رَبِّ قُطِعْتُ ، وَمَنْ أَجَارَهَا أَجَارَهُ اللَّهُ )([54]) .

 

 

 

رابعا : حق الجار :

إن صلة الجوار تعد من الصلات الإنسانية التي تقتضي التصافي والتعاون بين الجيران ، مع قطع النظر عن كون الجار قريبا أو بعيدا من حيث العلاقة النسبية ، وكونه مسلما أو غير مسلم من حيث الرابطة الدينية([55]) .

وقد أخرج الإمام الربيع عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد قال : سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر  فليقل خيرا أو يصمت ولا يؤذي جاره أبدا  )([56]) ، وعن أبي هريرة قال : قال  رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – ( لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره ، فإن ذلك حق عليه واجب )([57]) ، فهذا الحديث الشريف يدل على أهمية الجوار ، ووجوب مراعاة حق الجار .

يقول الشيخ خميس : (من حق الجار أن تحتمل أذاه إذا آذاك ، وإذا رأيت له عورة سترتها ، وإن رأيت منه الحسنة شكرتها ، وإن رأيت منه ما لا يجوز نصحته فيما بينكما)([58]) .

خامسا : حق اليتامى :

إن من الحقوق الانسانية التي أكدها الإسلام حق اليتامى ، والأيتام هم رافدٌ من روافدِ السعادة في مجتمع المسلمين؛ لأنَّهم يملؤون فراغاً روحيّاً عند مَن أكرمه الله - تعالى - برقة القلب لهم، والحُنُوِّ الدائم عليهم، فهم من أسباب رقة القلوب الحاضرة، والنُّفوس الشاكرة، ويجمعون - مع ذلك - أرواحاً من شتاتها في بوتقة الإيمان؛ لصيانة سلامة المجتمع وحصاد الحسنات، تلك التي تأتلف على سَوْقِ الأفراح إلى القلوب التي يحتويها اليتم، فيتحول الأسى والحرمان إلى زهور من العطاء والإكرام، بعيداً عن الأحزان.  

إن حق اليتيم في الرعاية والعناية قد أكده كتاب الله تعالى وسنة النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول سبحانه : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) البقرة: ٢٢٠ ، وجاء في الحديث عن ابن عباس – رضي الله عنهما -  أن النبي – صلى الله عليه وسلم-  قال : ( من آوى يتيما لله ، وقام به احتسابا لله ، وقع أجره على الله ، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا )([59]) ، فعلى كافل اليتيم أن يحسن إليه كإحسانه إلى بقية أولاده ، بل إن الإسلام حذر أشد الحذر من أكل أموال اليتامى بالباطل وعده من كبائر الذنوب ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ))، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: (الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ)([60]) ؛  بل أمر بإعطائهم حقوقَهم كاملة العد والقيمة بلا إبطاء؛ قال الله تعالى: (وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا) النساء: ٢ ، فوصف أكل أموالهم بالظلم الكبير، الذي لا يعلم حدوده إلا الله تعالى ، ولهذا كان جزاء من يأكلون أموال اليتامى عاقبة الخسارة والنَّدامة ، فتوجب على كل من كفل يتيما أن يحافظ على حقوقه العشرة([61]) كما بينها القرآن الكريم حتى يبلغ سن الرشد وهي كالتالي :

1) حرمة المال: يقول سبحانه :  (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) النساء: ١٠ ،  ويقول تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) الأنعام: ١٥٢  .  

2) حرمة القهر: القهر: هو الغلبة مع عدم القدرة على الانتصار للحق أو الأخذ علي يد المعتدي يقول تعالى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) الضحى: ٩ .

3) حق الإكرام: الكرم: هو الإعطاء بسهولة دون عوض مادي أو معنوي والكرم إذا كان بالمال فهو الجود وإن كان بكف ضرر مع القدرة عليه فهو العفو وان كان ببذل النفس فهو الشجاعة يقول تعالى: (كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) الفجر: ١٧ .

4) حرمة الدع (الدفع): الدع: الدفع بجفاء وعنف يقول تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) الماعون:1، ٢.

5) حق الإطعام: يقول تعالى :  (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) الإنسان: ٨  ويقول (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ) البلد: ١٥، 16.

6) حق الإيواء: يقول تعالى: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى) الضحى: ٦ .

7) حق حفظ الميراث حتى بلوغ سن الرشد: يقول تعالى: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا) الكهف: 82  .

8) حق الإحسان: وهو فعل ما ينبغي أن يفعل من الخير يقول تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى ..) البقرة: ٨٣  .

9) حق القسط: بكسر القاف وسكون السين هو العدل والقسط لضم القاف هو الجور يقول تعالى: (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ) النساء: ١٢٧  .

10) الحق في الفيء: ومعناه ما يوضع في بيت المسلمين يقول سبحانه : (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) الحشر: ٧ .

سادسا : حق المرأة :

الاسلام رفع من شأن المرأة ، وسوى بينها وبين الرجل في أكثر الأحكام ، فهي مأمورة مثله بالإيمان والطاعة ، ومساوية له في جزاء الآخرة ، ولها حق التعبير ، تنصح وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتدعو إلى الله ، ولها حق التملك ، تبيع وتشتري ، وترث ، وتتصدق وتهب ، ولا يجوز لأحد أن يأخذ مالها بغير رضاها ، ولها حق الحياة الكريمة ، ولا يُعتدى عليها ، ولا تُظلم ، ولها حق التعليم ، بل يجب أن تتعلم ما تحتاجه في دينها ، ومن إكرام الإسلام لها كذلك  أن أمرها بما يصونها، ويحفظ كرامتها، ويحميها من الألسنة البذيئة، والأعين الغادرة، والأيدي الباطشة؛ فأمرها بالحجاب والستر، والبعد عن التبرج، وعن الاختلاط بالرجال الأجانب، وعن كل ما يؤدي إلى فتنتها ، ومن إكرام الإسلام لها أيضا أن أمر الزوج بالإنفاق عليها، وإحسان معاشرتها، الحذر من ظلمها، والإساءة إليها ، بل ومن المحاسن أيضاً ؛ أن أباح للزوجين أن يفترقا إذا لم يكن بينهما وفاق، ولم يستطيعا أن يعيشا عيشة سعيدة؛ فأباح للزوج طلاقها بعد أن تخفق جميع محاولات الإصلاح، وحين تصبح حياتهما جحيماً لا يطاق ، وفي المقابل فقد أباح للزوجة أن تفارق الزوج إذا كان ظالماً لها، سيئاً في معاشرتها، فلها أن تفارقه على عوض تتفق مع الزوج فيه، فتدفع له شيئاً من المال، أو تصطلح معه على شيء معين ثم تفارقه.

ومن صور تكريم الإسلام للمرأة  أن أنقذها من أيدي الذين يزدرون مكانها، وتأخذهم الجفوة في معاشرتها؛ فقرر لها من الحقوق ما يكفل راحتها، وينبه على رفعة منزلتها، ثم جعل للرجل حق رعايتها، وإقامة سياج بينها وبين ما يخدش كرامتها.

ومن الشاهد على هذا قوله-تعالى (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) البقرة: ٢٢٨  ، فجعلت الآية للمرأة من الحقوق مثل ما للرجل؛ وإذا كان أمر الأسرة لا يستقيم إلا برئيس يدبره فأحقهم بالرياسة هو الرجل الذي شأنه الإنفاق عليها، والقدرة على دفاع الأذى عنها ، وجمهور الفقهاء على أن الرجال أولى بالمناصب السياسية والإدارية من النساء ، وعلى ذلك جرت سنة الخلافة الراشدة ، كما جرت سنة الرسول – صلى الله عليه وسلم – من قبل ، فلم يسند منصب رياسي للمرأة([62]) ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن الفرس ولوا بنت كسرى ملكة عليهم أنه قال : ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة )([63]) ،  وهذا ما استحق به الدرجة المشار إليها في قوله-تعالى-: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) وقوله سبحانه :  (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) النساء: ٣٤  ، بل إن الله-عز وجل- قد اختص الرجل بخصائص عديدة تؤهله للقيام بهذه المهمة الجليلة مهمة القوامة ، ومن تلك الخصائص ما يلي:

أ- أنه جُعل أصلها، وجعلت المرأة فرعه، كما قال-تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) النساء: ١.

 ب- أنها خلقت من ضلعه الأعوج، كما جاء في قوله-عليه الصلاة والسلام-: (استوصوا بالنساء؛ فإن المرأة خلقت من ضلَع أعوج، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه؛ إن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج؛ استوصوا بالنساء خيراً)([64]).

 ج- أن المرأة ناقصة عقل ودين، كما قال-عليه الصلاة والسلام-: (ما رأيت ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكن) ، قالت امرأة: يا رسول الله، وما نقصان العقل والدين؟ قال:(أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، وتمكث الليالي لا تصلي، وتفطر في رمضان؛ فهذا نقصان الدين)([65]) ، فعلى هذا لا يمكن للمرأة أن تستقل بالتدبير والتصرف .

د- ما يعتري المرأة من العوارض الطبيعية من الحمل والولادة، والحيض والنفاس، فيشغلها ذلك كله عن مهمة القوامة الشاقة، قال الشيخ الغزالي :         ( ولما كان الرجل بعيدا عن مشاغل الحيض والنفاس والرضاع كان أجلد على ملاقاة الصعاب ، ومعاناة الحرف المختلفة ، وكان الضرب في الأرض ابتغاء الرزق ألصق به هو )([66]) .

 هـ- أنها على النصف من الرجل في الشهادة كما قال الله سبحانه :                (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) البقرة: ٢٨٢  ،  فقد قرر الإسلام  الاستيثاق من شهادتها بضم الأخرى إليها فكان ذلك متمشيا مع ما أكده الطب من تغيرات عامة وهامة تطرأ وتصيبها باستمرار([67]) ، وكذلك هي نصف الرجل في الدية، والميراث، و العقيقة، والعتق ، هذه بعض الخصائص التي يتميز بها الرجل عن المرأة .

الخاتمة :

الحمد لله تعالى على ما أفاض وأنعم ، وأعطى وأكرم ، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير محمد وعلى آله وصحبه أجمعين  وبعد؛

فلقد عشت من خلال هذه الوريقات المتواضعة في روضة من رياض العلم وجنّة من جناته، وارفة الظلال متنوعة الثمار، وأنعم الله عليً بأن كنت أتنقل من غصن إلى غصن، ومن شجرة إلى شجرة، أقطف من كلّ بستان زهرة.

ومما تقدم تبين لنا كيف تتبلور قيمة الإنسان في موازين الإسلام وكيف تصان حقوقه وتصان كرامته ، وتراعى مصلحته في نظام الشريعة الإسلامية ، فالسنة النبوية الشريفة جاءت لتكون مسايرة وموافقة للقرآن الكريم أو موضحة ومفسرة لآياته ، ولقد ذكرت في طوايا البحث  الحقوق العامة التي أرشد الإسلام إليها وأمر الناس إلى التخلق بها وذلك لأنه الكيان الذي يدعوا إلى الوحدة وتوحيد الكلمة ورأب الصدع ، كا تعرضت إلى ذكر بعض للحقوق الخاصة التي يجب على كل مسلم أن يتخلق بها حتى ستقيم الإنسان على المنهج الرباني الذي رسم الله لهم صورته من خلال آيات الذكر الحكيم وأشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في طوايا سنته عليه السلام ، وهو تصور  يدعو إلى الوحدة الإنسانية ، وذلك لينشأ المجتمع على ما يؤلفه ولا يفرقه .

التوصيات :

مما تقدم من البحث فإني أوصي بما يلي :

 

المصادر والمراجع

 

أولا :  كتب التفسير :

ثانيا كتب الحديث:

ثالثا : كتب متنوعة :

 

 

 

تم بحمد الله

 

 

[1] - أخرجه  البخاري ( 6 / 2568 ) ، ومسلم (4/ 1776 ) من حديث أبي قتادة .

[2] - ينظر المفردات ( 125 ) ، لسان العرب – ابن منظور ( 10 /49 ) ، قاموس القرآن الكريم للدامغاني (139 ) مادة (ح ق ق ).

[3] - ، التعريفات ، الجرجاني (89 ) .

[4] -  المصباح المنير ، ص55 .

[5] - التعريفات ، ص89 .

[6] -  المدخل للفقه الإسلامي ، عيسوي أحمد عيسوبي ، ص338 ، الإسلام وحقوق الإنسان ، د محمد القطب ،  ، ص38 .

[7] -  المدخل الفقهي العام ، 3 / 9-10 .

[8] - حقوق الإنسان في الإسلام ، سهيل حسين الفتلاوي ، ص5 ، دار الفكر العربي ، بيروت لبنان  ، بتصرف .

[9] - التحرير والتنوير ، محمد الطاهر بن عاشور ، ج3، ص25 ، 1997 ، دار سحنون للنشر والتوزيع ، تونس .

[10] - جواهر التفسير أنوار من بيان التنزيل ، سماحة الشيخ العلامة أحمد بن حمد الخليلي ، ج  ، ص  ، بتصرف .

[11] - تفسير كتاب الله العزيز ،  العلامة هود بن محكم الهواري ،  ج3 ، ص103 ، بتصرف .

[12] - أخرجه أبو داود ( 4302 ) .

[13] - رواه أحمد( 22442 )  .

[14] - تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان ، الإمام نور الدين عبدالله بن حميد السالمي  ، ص55، سنة الطبع 1435 -2013 ، مكتبة الاستقامة ، سلطنة عمان .

[15] - أخرجه البخاري  ( 2361 ) .

[16] - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإجارة باب إثم من منع أجر الأجير، (2/792) حديث برقم(2150)، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى(6/121)حديث برقم (11437)..وابن ماجه في سننه (2/816) حديث برقم (2442)، وأحمد في مسنده (2/358)حديث برقم (8677).

[17] -   جامع أبي الحسن البسيوي ، أبي الحسن علي بن محمد بن علي البسيوي  ،  ج2 ، ص96 ، ط2 ، 1431هـ - 2010 م ، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية  ، سلطنة عمان  .

[18] - أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (18276) ، أبو بكر البيهقي ، دار الكتب العلمية  ، تحقيق /محمد عبد القادر عطا ، ط3 ، 1424هـ - 2003 ، بيروت – لبنان .

[19] -  أخرجه الإمام مالك في الموطأ ( 356 ) .

[20] - أخرجه البخاري  ( 6766 ) .

[21] - عهد الإمام الصلت بن مالك وعمقه الحضاري وأبعاده الحقوقية ، د اسماعيل بن صالح الأغبري ،ص15 ، اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان ، سلطنة عمان ، بتصرف  .

[22] - التاج المنظوم من درر المنهاج المعلوم  ،العلامة  عبد العزيز الثميني ، ج6 ، ص446 ، وزارة التراث والثقافة  ، سلطنة عمان.

[23] - أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (7214) .

[24] -  أخرجه البخاري ( 1117 ).

[25] -.أخرجه  الْبُخَارِيّ : كتاب الدعوات ، باب ظهر المؤمن حمى إلا في حد أو حق ، 6/2490 ، رقم ( 6403 ) . والحديث أيضاً في كتاب الإيمان ، باب الإنصات للعلماء ، 1/56 ، رقم (121 ) ، وكتاب الحج ، باب الخطبة أيام منى ، 2/619 ، رقم ( 1652 ) 2/620 ( 1654 ) ، وكتاب المغازي ، باب حجة الوداع ، 4/1599 ، ( 4141 ) ، وكتاب الخصومات ، باب ما جاء في قولالرجل ويلك ، 5/2282 ، رقم  ( 5814 ) ، باب قول الله تعالى ومن أحياها ، 6/2518 ، رقم  ( 6474 ) ( 6475 ) ، وباب قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ، 6/2592 ، رقم ( 6665 ) 6/283 ، رقم ( 6666 ) ( 6667 ) ، 6/284 رقم ( 6668 ) ( 6669 ) ، صَحِيْح مُسْلِم  ، 1/81 رقم ( 65 ) 1/82 ( 66 ) وكتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات ، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال ، 3/1305 رقم ( 1679 ) .

[26] - أخرجه مسلم (1728) عن شيبان بن فرُّوخ، عن أبي الأشهب. ، وهو في "مسند أحمد" (11293)، و"صحيح ابن حبان" (5419).

[27] - أخرجه الترمذي (2341) ، كتاب صفة الرقائق .

[28] - كلام مقتطع لسماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي – حفظه الله -  من برنامج سؤال أهل الذكر ، بتاريخ 3 جمادى الثانية 1426هـ.

[29] - تيسير التفسير ، الإمام القطب  محمد بن يوسف أطفيش  ، ج 13، ص436 ، وزارة التراث والثقافة ، سلطنة عمان .

[30] - ( 5172 ) سنن أبي داود ، أبو داود سليمان بن الأشعث السِّجِسْتاني  ،تحقيق : شعَيب الأرنؤوط - محَمَّد كامِل قره بللي ،  دار الرسالة العالمية  ، الطبعة: الأولى، 1430 هـ - 2009 م .

[31] - حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة ،الشيخ محمد الغزالي ، ص14 ،ط7  2013 ، دار نهضة مصر ، جمهورية مصر العربية .

[32] - أحكام القانون الدولي والعلاقات الدولية في الفقه الإباضي ، د أحمد أبو الوفا ، ج1 ، ص345 ، ط1 ، 1434هـ  - 2013 ، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية ، سلطنة عمان .

[33] - أخرجه أحمد ( 411 ).

[34] - حقوق الإنسان ،الشيخ محمد الغزالي ، ص20 ، مرجع سابق

[35] - تيسير التفسير ، ج13 ، ص446 ، مرجع سابق  بتصرف .

[36] - حقوق الإنسان ، الشيخ محمد الغزالي ،ص17 ، مرجع سابق ، بتصرف .

[37] - أخرجه البخاري ( 30 ) ، ومسلم ( 1661 ) .

[38] - حقوق الإنسان ، الشيخ محمد الغزالي ، ص16 ، مرجع سابق .

[39] -  أخرجه مسلم (265)  ، والترمذي ( 1998 و1999) ا ، و أبو داود  (4091).

[40] - حقوق الإنسان ، الشيخ محمد الغزالي ، ص21 ، مرجع سابق ، بتصرف .

[41] - أي : الدعاء لهما .

[42] - أخرجه أبو داود ( 5142 ) واللفظ له ، وابن ماجه ( 3664 ) ، وابن حبان ( 418 ) .

[43] - أخرجه البخاري ( 5971) واللفظ له ، و مسلم ( 2548 ).

[44] - أخرجه الترمذي ( 1899) واللفظ له ، والبزار ( 2394) ، وابن حبان (429) ، والحاكم ( 4/ 151- 152 ) ، والبيهقي في شعب الإيمان ( 7829 – 7831 )

[45] - جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام ، الإمام نور الدين السالمي ، ص317 ، ط14 ، 1427 – 2006 ، مكتبة الإمام نور الدين السالمي ، سلطنة عمان  .

[46] -  أخرجه البخاري ( 1270 ) .

[47] - أخرجه  البخاري (5165) كتاب النكاح، باب ما يقول رجل إذا أتي أهله،  ومسلم (1434 ) ، وأبو داود  (2161 ).

والترمذي ( 1092 )بلفظ مختلف، وقال هذا حديث حسن صحيح ، وابن ماجه ( 1919 ) ،و أحمد ( 1908 ) .

[48] - أخرجه أبو داود (495) في كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة .

[49] -  أخرجه البخاري( 5652) كتاب الأدب  .

[50] - أخرجه البخاري (709) ، ومسلم (470) من طريق سعيد بن أبي عروبة، بهذا الإسناد، والترمذي (377) من طريق حميد، كلاهما عن أنس، و أحمد (12067)، و ابن حبان(2139).

[51] - أخرجه الإمام الربيع ( 4) .

[52] - أخرجه أبو داود ( 1694).

[53] - أخرجه البخاري (5991) .

[54] - شرح كتاب النيل وشفاء العليل ،  العلامة قطب الأئمة محمد بن يوسف أطفيش ، ج 5، ص49 ، ط3 ،1405 – 1985 ،  مكتبة الإرشاد جدة ، المملكة العربية السعودية .

[55] - الحقوق في الإسلام ، سماحة الشيخ أحمد الخليلي ، ص37 ، مرجع سابق ، بتصرف .

[56] -أخرجه  الربيع ( 692) .

[57] - أخرجه  الربيع ( 698 ) .

[58] - منهج الطالبين وبلاغ الراغبين ، العلامة خميس بن سعيد الشقصي ، ج2 ، ص125 ، ط1 ، 1427هـ - 2006 ، مكتبة مسقط ، سلطنة عمان .

[59] -أخرجه  الربيع (697 ) .

[60] -  أخرجه النسائي، ( 3673 ) .

[61] -  من حقوق اليتيم في الإسلام  ، د فهد بن عبدالرحمن السويدان   ، http://www.al-jazirah.com/2012/20120803/rj1.htm ، بتصرف .

[62] -  حقوق الإنسان ، الشيخ محمد الغزالي ، ص108 ، مرجع سابق ، بتصرف  .

[63] - أخرجه البخاري ( 7099 ) .

[64] - أخرجه البخاري ( 5186 )  ، وابن أبي شيبة في المصنف ( 19272) .

[65] - أخرجه ابن ماجه  ( 4003) .

[66] - حقوق الإنسان ، الشيخ محمد الغزالي ، ص105 ، مرجع سابق  .

[67] - مرجع سابق ، ص108 ، بتصرف .