هذا مبحث بعنوان "التعليم القرآني من بحث المعارف الدينية في عمان الداخلية" للمستشرق البروفسور . دي . ايكلمان من كتاب حصاد ندوة الدرسات العمانية/ الجزء السادس 243 ـ 269 "نقله للموقع الأستاذ الباحث: فهد بن علي السعدي":

"كانت المدارس القرآنية حتى عام 1970م هي الوسيلة الوحيدة للتعلم، وقد انتشرت هذه المدارس في معظم القرى والأقاليم رغم تباين مستوياتها بين منطقة وأخرى.

وكانت الحلقات الدراسية تعقد في المساجد أو في بيوت الضيافة المعروفة محلياً بالسبل (مفردها سبلة) أو حتى في الهواء الطلق تحت شجرة في بعض فصول السنة (1).

ويبدو للملاحظ بصورة عامة أن هناك تشابهاً شكليّاً بين المدارس القرآنية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، لكن هناك في الواقع اختلافات لها من الأهمية مما جعلنا نرى من المفيد إعطاء وصف دقيق لنظام المدارس العمانية (2).

ويتميز نظام حلقات الدراسة بالساعات الطويلة الرتيبة التي تسير على وتيرة واحدة طيلة اليوم، فالحلقة الدراسية تعقد من طلوع الشمس إلى صلاة العصر تتخللها استراحتان قصيرتان إحداهما في الضحى قبل الظهر لتمكين التلاميذ من تناول الطعام.

وقد خفض عدد الساعات في المدن والقرى التي أحدثت فيها مدارس حكومية بصورة متناسبة مع أوقات الدراسة في هذه المدارس، وعلى العموم فإن حلقات الدراسة تنعقد كل أيام الأسبوع باستثناء ظهر الخميس ويوم الجمعة وأيام الأعياد.

لقد حافظت هذه المدارس إلى الوقت الراهن على كثير من مظاهرها دون تغيير جوهري، فالحلقة الدراسية العادية تضمّ ما بين 20 و 50 تلميذاً تتراوح أعمارهم بين السادسة والرابعة عشر، ومعظمهم من صغار السنّ (3).

وتعطي الحلقة الدراسية انطباعاً عاماً بالفوضى إذ يحشر التلاميذ في مساحة صغيرة ظهورهم إلى ظهور بعض حتى لا يكاد أحدهم يجد متسعاً لتقليب صفحات مصحفه.

والواقع أن هناك حلقات صغيرة تضم الواحدة منها بين خمسة وستة تلاميذ، بينما يتجمع التلاميذ المبتدئون على مسافة قريبة من المعلم أو المطوع، حيث يقوم مساعد له بإرشادهم في تلاوة سور القرآن يعرف بالمذكّر وغالباً ما يكون ابن المعلم أو أحد التلاميذ المتقدمين في الدراسة.

باستثناء هؤلاء التلاميذ الصغار يترك الآخرون لشأنهم في تلاوتهم، فالمعلم يعين للتلميذ سورة أو مجموعة من السور لقراءتها خلال اليوم، يتلوها مرة أولى أمامه ثم يحاول التلميذ في نفس الوقت تتبع تلاوة المعلم بالإشارة إلى الكلمات في النصّ الموجود أمامه.

بعد ذلك يذهب التلميذ إلى مكانه ليقرأ سوره مراراً وتكراراً وبين الحين والآخر ينادي عليه المعلم ليعيد عليه ما قرأه ويصحّح له أخطاءه إذا ما دعت الحاجة لذلك.

ومن الصعب على المعلم الحفاظ على النظام وسط هذه الضجة الشاملة من التلاوات المتنافرة، فليس باستطاعته أن يتعرف على التلميذ الذي يقرأ والذي لا يقرأ باستثناء الموجودين في الصفوف الأمامية.

والنظام في المدارس القرآنية صارم من حيث المبدأ، فعندما يسلّم الآباء أبناءهم المعلم يبيحون له ضربهم إذا ما أساءوا التصرف، لكن الشائع عمليّاً هو أن أقلية من التلاميذ تعير اهتمامها للمعلم وهي التي تكون عادة على مقربة منه، بينما ينغمس الآخرون في اللعب واللهو.

وإذا ما لاحظ المعلم أمثال هؤلاء التلاميذ غير المنتبهين فإنه يحذرهم أولاً ويعاقبهم ثانية بضربهم بعصاة على أيديهم وظهورهم إذا ما كرّروا ذلك. وعملية اختيار مستحق الجزاء تغلب عليها العشوائية، لذا فإن من الأشياء التي يتعلمها التلاميذ بصورة ضمنية في مثل هذه المدارس هي كيفية إظهار الاحترام للسلطة وتفادي الخطأ في نفس الوقت.

أول ما يتعلمه التلميذ في المدارس القرآنية هو قراءة وكتابة الحروف ثم ينتقل منها إلى "الأبجدية" وهي طريقة ربط الحروف بعضها ببعض، بعدها يتعلم كتابة فاتحة القرآن وكتابة اسمه.

وغالباً ما كانت هذه الخطوة تهمل في مدارس القرى الصغيرة، ثم ينتقل التلميذ إلى قراءة جزء عمّ "أي الجزء الأخير من القرآن الكريم الذي يشتمل على قصار السور" وأخيراً يقرأ القرآن بترتيبه العادي.

وتتوفر للتلاميذ اليوم نسخ مطبوعة من القرآن، وقد كان الأمر كذلك في الماضي حتى بالنسبة لتلاميذ مدارس بعض المدن، ولم تكن هذه هي الحال بالنسبة للمدارس الأخرى حيث كان على المعلم، أو أحد التلاميذ المتقدمين في الدراسة أن يخطّط للتلميذ على لوح خشبي أو عظمة كتف جمل الآيات المراد قراءتها.

ويعيد التلميذ كتابتها مستخدماً نوعاً محليّاً من الحبر يعرف ب"الحصا" يصنع من مزيج من نبات البرسيم المحروق والحنطة والدهن والماء، أما الورق فلم يكن متوفراً، وعندما ينتهي التلميذ من قراءة ما كتب يمحو لوحه ليعود ويكتب عليه آيات أخرى.

ولا تعطى للحفظ أهمية كبرى في المدارس الداخلية كما هو الحال في بعض أنحاء العالم الإسلامي كالمغرب مثلا حيث يجب على التلاميذ أن يحفظوا القرآن بكامله كمقدمة لمزيد من التعلم (4).

فعلى التلميذ العماني أن يتعلم التلاوة الصحيحة لسورة مختارة لينتقل بعدها لقراءة سورة أخرى، وإن لم يتعلم التلميذ السور المعينة له في بضعة أيام يعاقب بالضرب أو باستبقائه في مدرسة المسجد ظهر يوم الجمعة.

ولا يعدّ الذهاب إلى المدرسة القرآنية ولو لعدة سنوات في حدّ ذاته مقياساً للتعلم، فمعدل الانقطاع عن الدراسة كان عالياً في هذه المدارس وينصرف التلاميذ عن إتمام دراستهم قبل أن يجيدوا تلاوة القرآن والكتابة بشكل كافٍ، فليس غريباً أن تجد في بعض المدن والقرى التي لا يوجد بها مدارس حكومية أشخاصاً قضوا في المدارس القرآنية أربع أو خمس سنوات غير قادرين على تلاوة القرآن بأنفسهم أو كتابة جملة بسيطة.

وعلى العموم يشكل تعليم الكتابة جزءا أساسياً من مهمة المدارسة القرآنية إذا ما استثنينا كتابة عدد محدود من الآيات.

ليست هناك مستويات شكلية تفصل بين تلاميذ الحلقة الدراسية، فالأفراد الذين سبق لهم وأن تعلموا في المدارس القرآنية قبل إحداث المدارس الحكومية يقولون بأنهم تعلموا كتابة الجمل الأساسية في مدة تتراوح بين أربعة أشهر وسنتين، وأجادوا تلاوة القرآن بكامله بين سنتين وخمس سنوات، وعندما يصل التلميذ إلى درجة تلاوة القرآن بكامله يعرف آنذاك باسم "خاتم القرآن"، وقد ختم بعض التلاميذ القرآن مرتين أو ثلاثة قبل أن يتركوا المدرسة، والواقع أن التلاميذ المتقدمين يتذكرون عدد المرات التي ختموا فيها القرآن أكثر مما يتذكرون عدد السنوات التي قضوها في الدراسة.

ويجدر بنا أن نؤكد أنه كان على التلميذ أن يتعلم فقط تلاوة القرآن ولم تكن مناقشة ما يقرأ أو طرح الأسئلة حوله من الأمور المسموح بها.

وترجع نسبة مهمة من أسباب الانقطاع عن الدراسة إلى أسباب اقتصادية فقد كان التعليم القرآني مجانياً تقريباً، والمعلم يرتزق من أموال الجماعة المعتمدة خصيصاً للأنشطة الدينية وإن كان مرتبه زهيداً في الغالب لا يختلف عن أجر العامل الزراعي الذي لا يملك أرضاً( البيدار) .

وكان يدفع التلاميذ له مرتبه على دفعات ضئيلة كل يوم خميس (عرفت بالخميسية نسبة إلى اليوم الذي تدفع فيه)، كما كان يحصل على بعض الهدايا البسيطة في بعض المناسبات الخاصة كحفل ختم القرآن.

كان المعلمون الذين يقومون بمهمة تدريس القرآن من رجال القبائل الفقراء الذين لا يملكون من الأرض ما يكفيهم للعيش أو ممن لم يكن لديهم من المال ما يمكنهم من القيام بأعمال أخرى، وعلى العموم فإن هذا المستوى من التعليم لم يكن من مهام ذوي المكانة المتميزة، والتقدير كان يذهب إلى تلاوة القرآن وليس بالضرورة إلى أولئك الذين يعلمونه.

ولم تكن مساهمة أهل التلاميذ في كلفة الدراسة السبب الوحيد للانقطاع عنها، فهناك عامل أهم ألا وهو عدم استعداد عائلة التلميذ للاستغناء عن خدماته في كثير من أعمال الزراعة والرعي، وفي المناطق التي لا يوجد فيها مدارس حكومية لا تزال نسبة الحضور خلال السنة تختلف بصورة واضحة حسب دورات الرعي والزراعة ومسؤوليات التلميذ اليومية في بيئته حتى يومنا هذا.

ولذلك فإن التلاميذ الذين يقضون في المدرسة مدة طويلة هم في الغالب ممن تستطيع أسرهم الاستغناء عن مساهمتهم الاقتصادية.

هذا ونظراً لأن كثيرا من الجوانب اللازمة لترسيخ المعرفة بالقراءة والكتابة كانت تكتسب خارج دائرة المدرسة هذه فقد حظى التلاميذ المنتسبون إلى النخبة القائمة أو الأسر المتعلمة بميزات أكيدة عن غيرهم، فقد كان من الشائع في هذه الأوساط أن يطلب الوالد أو أحد الأقارب من الطالب دروسه يومياً بعد صلاة الفجر، وهي الفترة التي يتلو فيها الكبار في أوساط المتعلمين القرآن.

وحين يبلغ طور النضج يشجع على الانضمام إلى الحلقات الدراسية التي يجتمع فيها الرجال في المساجد أو في أماكن أخرى لقراءة القرآن في أوقات أخرى من اليوم، وبطبيعة الحال فإن مستوى هذه التلاوات يفوق بكثير المستوى السائد في المدارس القرآنية.

وعلى العموم فإن أمثال هؤلاء التلاميذ كانوا يتعلمون من آبائهم وأقاربهم من الذكور قراءة وكتابة المواد غير القرآنية، أما التلاميذ الذين لم يكن باستطاعتهم الوصول إلى مثل هذه الأنماط الخاصة من الدراسة فقد كانت حظوظهم في التعلم أقل.

ـــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) كان الأثراء يسعون لتعزيز مكانتهم عن طريق القيام بأعمال البرّ والتقوى كبناء المساجد والمدارس. في هذا الباب انظر مخطوطة الشيخ إبراهيم بن سعيد العبري المتوفى في سنة 1975م/1395هـ.
"كتاب تبصرة المعتبرين في تاريخ العبريين" مخطوط تحت رقم 1978/ 59ـ1985. ص106 وأماكن أخرى في الكتاب.

أودّ أن أشكر هنا السيد جابر بن موسى العبري الذي سمح لي بدراسة نسخته من هذا المخطوط.
(2) راجع دراسة المؤلف "في الحفظ، التعليم الإسلامي وتوليده الاجتماعي"
Dale F.Eickelman, (The Art of Memory : Islamic. Education and Its Socail Reproducation) Comprative Studies in Society and History 20 (1978) : 485-516

وكذلك دراسة دانييل أ. واجنر وعبدالحميد لطفي
Daniel A.Wagner and Abdelhamid Lotfi, (Traditional Islamic Education in Morocco : Sociohistorical and psychological Perspectives,) Comprative Education Review 24 (1980) : 238-251.

(3) يفصل بين التلاميذ الذكور والإناث في معظم المدارس القرآنية في عمان الداخلية وإن كانت هناك مدارس مختلطة في عدد قليل من القرى.

وعلى العموم فإن العدد القليل من الفتيات الحاضرات يكنّ في صحبة ورعاية الأخ الأكبر الملتحق بالمدرسة، أما في المراكز الكبرى مثل نزوى والحمراء وبهلاء فكانت هناك مدارس خاصة بالإناث تسيرها معلمات، والواقع أن بنات الأسر الموسرة هنّ اللواتي يلتحقن أساساً بهذه المدارس.

(4) انظر مقالة المؤلف ـ عن الحفظ في المرجع السابق ـ ص 492/496 ، وكذلك مقالة واجنر ولطفي ـ المرجع السابق.