دراسة علمية منهجية موثقة من إعداد:

الأستاذة: صفية بنت عبدالله السعيدية

 --------------------------

* لمحة موجزة تعريفة عن هذه الدراسة العلمية

دراسة بلاغية مفصلة لبعض الفواصل القرآنية؛ التي ينبثق منها الإعجاز القرآني، اشتملت على فواصل آيات الوحدانية في سورة الأنعام (95- 99) وسورة النمل ( 59- 69 ) ومحاولة الربط بين مقاصد العقيدة وأساليب البلاغة من خلال سياق الآيات وربطها بفاصلتها.

 

ثم تحليل آيات البعث في سورة القصص (71- 72 )، وتتبع ذلك التنوع في الفواصل، وبيان أن هذا التنوع لم يكن إلا لِلمح إعجاز، وإدراك أسرار .

 ثم آيات الوصايا العشر في سورة الأنعام ( 151-153 ) وكيف أن فاصلتها اختيرت بعناية فائقة لتناسب كل وصية، وليس كما يظن من أن تنوع الفاصلة في القرآن جاء لمجرد المحافظة على السجع والتفنن في الألفاظ، فالقرآن لم يكن ليغاير بين كلمة( فقه ) وكلمة ( علم ) إلا لأن سياق الآية التي وردت فيها فاصلة ( العلم ) تتطلب العلم، وسياق الآية التي وردت فيها فاصلة ( الفقه ) تتطلب الفقه، وهذا لا يتحصل بالنظرة السريعة، وإنما يحتاج إلى قدر من التروي والتدبر لإدراك الأسرار من وراء هذه الفواصل القرآنية .

 وللتتبع ذلك كان هذا البحث العلمي الموثق بالمراجع في آخر الدراسة.

 أشرف على هذه الدراسة مراجعة وتنقيحاً وتصويباً وتخريجاً وتوثيقاً وطباعة كل من:

 1- الشيخ طالب بن علي السعدي: المدرس والمحاضر بمعهد العلوم الشرعية.

 2- وعبدالله بن سعيد القنوبي "مشرف موقع القبس".

-------------------------------

مقدمة البحث

( من أسرار الإعجاز في نسق الفاصلة القرآنية )

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، الحمد لله الذي أنزل علينا نوراً هادياً، وجعله سراجاً منيرا، والصلاة والسلام على النبي الهادي الذي بلغ الأمانة وأدى الرسالة، فأنار قلوباً بالإيمان، وأحيا نفوساً بالإسلام، وعلى آله وصحبه الغر الميامين مبلغي الرسالة، وهداة الأمة إلى سبيل الرشاد،

 

وبعد :

فقد أنزل الله قرآنه العظيم ليكون هداية للبشرية جمعاء، ينهل من معارفه القاصي والداني، والقرآن الكريم معجز من جهة ألفاظه وأساليبه، وهذا الإعجاز يتجلى في عذوبة لفظه، وجمال أساليبه ودقة دلالته، وتجاذب ألفاظه، فألفاظه ليس بينها تنافر؛ بل هي كالعقد المتراص المنظوم، يشد بعضه بعضاً .

 

" ولعلك إذا قلبت النظر بين ألفاظ القرآن ومعانيه تجد إعجازه يشع عليك منهما معا، فتترتب حروفه بما لها من صفات وإيحاءات، وتناسق كلماته بما لها من شعاع يتألق من رصفها وترتيبها، وتساوق المعاني التي تسابق إلى النفس وقع ألفاظها في السمع، كل ذلك من أسرار الإعجاز البياني في القرآن، فقد قدر في ترتيب حروفه مخارجها ونبراتها وصفاتها، وما يوحي به كل حرف من أثر في النفس، كما قدر في ترتيب الكلمات التناسق العجيب؛ بحيث تكون كل كلمة منها تقفو أختها فلا تجد ما بينها ما ينبو عنه السمع أو ينفر منه الطبع .

 

وما أجمل وصف الأستاذ الرافعي لحروف القرآن، إذ وصف كل حرف منها بأنه يمسك الكلمة ليمسك بها الجملة، وما أروع المثل الذي ضربه للقرآن حيث جعل مثله مثل نظام الكون في ترتيبه الدقيق وتناسقه العجيب بكل ما فيه من الذرة إلى المجرة، وإذا كان الأستاذ الرافعي يراعي في هذا المثل الشبه بين نظام القرآن ونظام الكون في تناسقهما، فإن هناك وجها آخر للشبه بينهما، وهو ما يستجلي بين حين وآخر من أسرار آيات الله الكونية وآياته القرآنية، سواء ما يتعلق ببيان القرآن المعجز أو معانيه الباهرة"1 .

 

ولقد لفتت نظري منذ زمن هذه الفواصل التي تتعدد وتتنوع ، فانصرف ذهني إلى تدبر هذه الفواصل وسر تنوعها في الآيات التي وردت فيها .

 

وقد سلكت في بحثي هذا دراسة بلاغية مفصلة لبعض الفواصل القرآنية؛ التي ينبثق منها الإعجاز القرآني، فكانت دراستي هذه مركزة على فواصل آيات الوحدانية في سورة الأنعام (95- 99) وفي سورة النمل ( 59- 69 ) حيث حاولت الربط بين مقاصد العقيدة وأساليب البلاغة من خلال سياق الآيات وربطها بفاصلتها، وقد لاحظت مدى ارتباط كل كلمة بسياقها في الآية من جهة، وبفاصلتها من جهة أخرى، ثم انصرف ذهني إلى متابعة آيات البعث في سورة القصص (71- 72 )، وتتبعت ذلك التنوع في الفواصل، فأدركت بعد الدراسة المتأنية الدقيقة أن هذا التنوع لم يكن إلا لِلمح إعجاز، وإدراك أسرار .

 

أما آيات الوصايا العشر في سورة الأنعام ( 151-153 ) فأوقفتني معها وقفة طويلة، فقد لاحظت بالتدبر المتأني أن فاصلتها اختيرت بعناية فائقة لتناسب كل وصية، وليس كما يظن من أن تنوع الفاصلة في القرآن جاء لمجرد المحافظة على السجع والتفنن في الألفاظ، فالقرآن لم يكن ليغاير بين كلمة( فقه ) وكلمة ( علم ) إلا لأن سياق الآية التي وردت فيها فاصلة ( العلم ) تتطلب العلم، وسياق الآية التي وردت فيها فاصلة ( الفقه ) تتطلب الفقه، وهذا لا يتحصل بالنظرة السريعة، وإنما يحتاج إلى قدر من التروي والتدبر لإدراك الأسرار من وراء هذه الفواصل القرآنية .

 

والحق يقال: إن دراسة الفواصل القرآنية لم تلقَ اهتماماًً كبيراً من الباحثين في العصر الحديث، لاهتمامهم بقضايا أخرى، بينما اهتم بهذا الفن العلماء السابقون أيما اهتمام كما سنعرف فيما بعد .

 

هذا، وأرجو أن يكون هذا البحث في ميزان حسناتنا يوم القيامة، وأن يتجاوز عنا كل خطأ أو انحراف عن الصواب، إنه كريم وهاب .

 

صفية بنت عبدالله السعيدية

---------------------------

1- جواهر التفسير، سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، ج1

**************

2- التعريف بالفاصلة القرآنية وموقف العلماء منها

تمهيد بين يدي البحث

1- التعريف بالفاصلة :

الفاصلة هي كلمة آخر الآية، قال الداني: " هي كلمة آخر الجملة، وقال القاضي أبو بكر: الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع، يقع بها إفهام المعاني، وتقع الفاصلة عند الاستراحة في الخطاب لتحسين الكلام بها، وهي الطريقة التي يباين القرآن بها سائر الكلام"1 .

 

فنحن متفقون بأن الفاصلة إذن هي ما يقع في آخر الآية مثل قوله تعالى :

( وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ )2 .

 

وهي في الواقع خلاصة مركزة لما بدأت به الآية، ولكن هل جاءت الفاصلة لتلوينٍ في الأسلوب، أو لمجرد التكرار أم أن لها سرا إعجازيا؟ لنستعرض أولا آراء العلماء:

 

2 ـ موقف العلماء من الفاصلة القرآنية :

اختلف العلماء في موقفهم من وجود السجع في القرآن، وان كانوا قد اتفقوا على حقيقة وجود الفاصلة القرآنية، وليست قضيتنا بيان موقفهم من السجع، ولكن تعرفنا على أقوالهم في الفاصلة القرآنية .

 

يقول الرُّماني " إن الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع، توجب حسن الإفهام في المعاني، ووصف الفواصل بالبلاغة، والأسجاع بالعين "3 ، وبهذا قال ابن سنان .

 

ويقول الطاهر بن عاشور: " والذي استخلصه أن الفواصل هي الكلمات التي تتماثل في أواخر حروفها أو تتقارب، مع تماثل أو تقارب صيغ النطق بها، وتكرر في السورة تكراراً يؤذن بأن تماثلها أو تقاربها مقصود من النظم في آيات القرآن كثيرة متماثلة ، تكثر وتقل "4 .

 

وهكذا نرى أقوال العلماء ناصة على وجود الفواصل في القرآن، وأن الفواصل لم تأتِ لتلوين في الأسلوب، أو لمجرد التكرار؛ بل هي دائما تتناسب مع الغرض المقصود، وكل آيه تنادي على فاصلتها، يقول الطاهر بن عاشور: " واعلم أن هذه الفواصل من جملة المقصود من الإعجاز؛ لأنها ترجع إلى محسنات الكلام، وهي من جانب فصاحة الكلام، فمن الغرض البلاغي الوقوف عند الفواصل لتقع في الأسماع فتتأثر نفوس السامعين بمحاسن ذلك التماثل "5 .

 

إذن الفاصلة القرآنية هي من إعجاز القرآن، فكل آيه تنادي على فاصلتها، وهذا ما يتبين لنا من الأمثلة الآتية :

ففي قوله تعالى ( إن تعذبهم فإنهم عبادك ، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) ، فإن قوله ( وإن تغفر لهم ) يوهم أن الفاصلة هي " الغفور الرحيم " ، ولكن إذا أمعن النظرعلم أنه يجب أن يكون ( العزيز الحكيم )؛ لأنه لا يغفر لمن يستحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه، فهو العزيز؛ لان العزيز من صفات الله وهو الغالب ، وذلك من قولهم : عزّه يعزه عزاً إذا غلبه ، ووجب أن يوصف بالحكيم أيضا ؛ لأن الحكيم من يضع الشيء في محله، والله تعالى هو أحكم الحاكمين .

 

إلا أنه قد يخفي وجه الحكمة في بعض أفعاله فيتوهم الضعفاء أنه خارج عن الحكمة، فكان في الوصف بالحكيم احتراس حسن، أي وإن تغفر لهم مع استحقاقهم العذاب فلا معترض عليك لأحد في ذلك ، والحكمة فيما فعلته6 .

 

ويتابع الزركشي كلامه فيقول في قوله تعالى : ( لا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين )7 : " فان قيل: ما معنى (مدبرين ) وقد أغنى عنها (ولوا) ؟ قلت : لا تغنى عنها ( ولوا )؛ لأن التولي يعني من جانب واحد ، أما قوله ( مدبرين ) فهو يبين أنهم تولوا عن الحق من كل جهة وصوب ، حتى لم يدعوا للحق منفذاً إلى قلوبهم وعقولهم ، فعموا وصموا ، وبالتالي حصلت المبالغة في نفي الاستماع "8 .

 

وهكذا نرى أن الفاصلة لم تأتِ لمجرد التكرار، أو لتلوين الأسلوب؛ بل جاءت كل آية تنادي على فاصلتها، وسوف نوضح كيف نادت آية العقل على ما يناسبها، وآية التذكر على ما يتناسب معها، وهكذا دائما ما تتناسب الفاصلة القرآنية مع الغرض المقصود منها .

 

" فالفاصلة في القرآن الكريم لها مزية هامة، ترتبط بما قبلها من الكلام ؛ بحيث تنحدر على الأسماع انحداراً ، وكأن ما سبقها لم يكن إلا تمهيدا لها ؛ بحيث إذا حذفت لا يختل المعنى في الآية ، ولو سكت عنها القارئ لاستطاع السامع أن يختمه بها انسياقا مع الطبع ، والذوق السليم "9 .

--------------------------

1- البرهان ، ج 1 ، ص 83 ـ 84

2- سورة الأنعام الآية ، 98

3- الفاصلة القرآنية، ص 10

4- التحرير والتنوير، ، ج1 ص 75

5- المرجع السابق ،ح1 ، ص76

6- البرهان ، ،ج 1 ص 119

7-النمل، الآية 80

8- البرهان ، ، ج1 ، ص 127 ، بتصرف واختصار .

9- الفاصلة القرآنية ، ص 2

********************

لب الأول

دراسة سياق فاصلة التعقل وتحليلها.

 

قال تعالى : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا ، وبالوالدين إحسانا، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وبطن، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ) .

 

سيقت الآيات السالفة الذكر لإبطال تحريم ما ادعى المشركون تحريمه من لحوم الأنعام، قال تعالى : ( قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ... )2 ، ثم أعقبت ذلك " دعوتهم لمعرفة المحرمات التي علمها حق ، وهو أحق أن يعلموه بما اختلقوا من افترائهم وموَّهوا بجدلهم "3 .

 

والوصايا التي نحن بصدد دراسة فاصلتها تجمع بين صلاح الدنيا والآخرة، وتحمل في طياتها أسرارا عظيمة، وترتبط مع فاصلتها بخيط رفيع متين !

 

ولكن السؤال الآن: لماذا خصت هذه الوصايا بالتعقل ولم تختم بالتذكر أو التقوى ؟ وقبل بحثنا في مادة عقل في المعجم للإجابة على هذا السؤال نحاول سرد مناسبة هذه الوصايا الكريمة، ودراسة الخطاب الإلهي وتقصي دقائقه، ففي قوله تعالى : ( قل تعالوا ... ) لم يقل: ( قل اسمعوا )، وذلك حتى يرفع من منزلتهم ويشعرهم بأهميتهم ، فطلب منهم عدم الإعراض والقدوم إليه بعقول متيقظة، و(قل) من " أساليب الأمر وتلقين الحجة ، يقذفها في وجه الخصم من يأخذ عليه سمعه ، وكلمة (تعالوا ) تتضمن إرادة تخليص المخاطبين ورفعتهم من انحطاط هم فيه إلى علو يراد بهم "4 .

 

ومن الملاحظ أن مقدمة الخطاب لم تأت طويلة، بل هي كلمة واحدة ( تعالوا ) فكانت كافية أن تحيي الضمائر، وتعيد المخاطبين إلى جادة الحق، ثم نلاحظ قوله تعالى : ( أتل ما حرم ربكم عليكم ) فالتحريم جاء بالنص الصريح ( حرّم )، ونلاحظ سر التعبير بكلمة( ربكم ) فالتحريم جاء من ربكم الذي هو المربي العظيم لكم ، وما يتلوه عليكم هو من مقتضيات التربية ، ثم قدم " ربكم " على " عليكم " لذلك أتى بذكر المشرع للتحريم في هذا المقام وقدمه ثم أتبعه ذكر عباده .

 

وبعد أن تحدثنا عن هذه المقدمة الموجزة، جاء دور الحديث عن ارتباط هذه الوصايا بفاصلتها وهى التعقل، وذكر الخيط الذي يربطها بفاصلتها، ونحن عندما نأتي للبحث في مادة ( عقل ) نجد أن العقل يعني " الحِجر والنّهى ضد الحمق ، ورجل عاقل هو الجامع لأموره ورأيه ، وقيل العاقل: الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها، والمعقول ما يعقله ، وسمي العقل عقلاً لأنه يعقل صاحبه من التورط في المهالك "5 .

 

-----------------------

1- تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ج2 ، ص 194

2- الأنعام / 150

3- تفسير القرآن العظيم ج 2 / ص194

4- الفاصلة القرآنية ص97 ، 98

5- لسان العرب ، مادة عقل ، ج9، ص 326

 

--------------------------

4- الوصية الأولى: قوله تعالى ( ألا تشركوا به شيئًا )

الوصية الأولى:

أول ما يقابلنا من هذه الوصايا ( ألا تشركوا به شيئًا ) وهي دعوة أزلية، دعوة الأنبياء والرسل لإرساء قواعد الحاكمية لله وحده ، ولا شك أن الشرك بالله يجر كل المصائب ، وكم وبال أحاط بالإنسانية لعدم خضوعها لله وحده .

 

والسؤال المتبادر إلى الأذهان: هل يشرك بالله عاقل؟ وكيف يتم ذلك ؟ وقد كانت وصية لقمان لابنه تحمل في طياتها التعقل من مغبة الشرك وعاقبته، وذلك في قوله تعالى ( يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم )1 ، فما كانت تلك الوصية من لقمان لابنه إلا إثارة لفكره وعقله ، فالعاقل إذن من يمتثل ، و لفظة " شيئاً " في قوله تعالى ( ألا تشركوا به شيئًا ) جاءت هنا في موقعها ، فهو ينادي العقل: أيها العقل ؛ انتبه واعقل ، فليس المطلوب ألا تشرك بالله إنسانًا أو حيوانًا أو جمادًا بقدر ما هو مطلوب ألا تشرك به أي شيء ، فهو ليس كمثله شيء ، وهو خالق كل شيء ، وما من شيء في ملكوته إلا يعلمه ويبصره ويسمعه ، فكيف يشرك الشيء معه في توحيده ، فهذه أول قضية تنادي بسمو العقل في إدراك هذه الأسرار، وقضية وحدانية الله تخلص العقل من الخرافة والأوهام ، ولو بدأ بالإحسان إلى الوالدين ، أو النهى عن قتل الأولاد ، فلا تظن أن هذا يدعو إلى التعقل مثلما لو بدأ بقضية الكون الكبرى وهي النهي عن الإشراك بالله ، فكم من إنسان توفي والداه وهو صغير، وكم من إنسان لم يرزق بأولاد، ولكن هل هناك إنسان واحد عاقل لا يدرك أن له ربًا وإلهًا واحدًا ؟!

 

ويقول تعالى: ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)2 ، مع قوله سبحانه ( إن الشرك لظلم عظيم )، فالشرك ظلم للعقل عظيم ، فهذه القاعدة هي التي " يرتبط على أساسها الفرد بالله على بصيرة ، وترتبط بها الجماعة بالمعيار الثابت الذي ترجع إليه في كافة الروابط ، وبالقيم الأساسية التي تحكم الحياة البشرية، ولا تظل نهباً لريح الشهوات والنزوات واصطلاحات البشر التي تتراوح بين الشهوات والنزوات "3 .

 

وهكذا لاحظنا ذلك الخيط الرفيع الذي ربط وصية النهي عن الإشراك بالله بالتعقل الذي يفيد حصوله وتحققه، فالعاقل يدرك بأن لهذا الكون إلهًا واحدًا لا شريك له ، فهو ليس أمراً يعتمد على تذكر أمر قد تم نسيانه ، فالأرض والسموات وكل شيء في هذا الكون يشهد بوحدانية الإله الأحد .

 

----------------------

1- سورة لقمان /13

2- النساء / 48

3- في ظلال القرآن ،ج3 ، ص 1230

--------------------

5- الوصية الثانية: قوله تعالى ( وبالوالدين إحسانا )

إدراك العقل وانفتاحه انقياداً للوصية الأولى يزداد وهو يلاقي الوصية الثانية، بعد أن ربطته بالنهي عن الإشراك بالله، قال تعالى: ( وبالوالدين إحسانا )، ونلحظ كيف أن الأسلوب انتقل من النهي عن الإشراك إلى الأمر بالإحسان إلى الوالدين، ولكن هل لهذا مغزى؟ يجيب البقاعي عن ذلك بقوله" وكذا جميع المأمورات ساقها هذا السياق المفهم؛ لأن أضدادها منهي عنها لتكون مأمورًا بها منهيًا عن أضدادها فيكون ذلك أوكد لها وأضخم " 1 .

 

والملاحظ أن هذه الوصايا قد ُبدئت بالنهي وجاءت معظمها في أسلوب النهي، ومن هنا تتجلى بلاغة النهي ، فعندما ينهى عن شيء فهو يأمر بضده ، أما الأمر بالشيء فلا يقتضي النهي عن ضده2 .

 

وارتباط الوصية بالتعقل واضح حتى في سر إيثار لفظ " الوالدين " دون لفظ " الأبوين " ، فليس المراد تحقيق نسب الولد إلى أبويه بقدر ما هو مراد الوصية بالوالدين، فلفظ الولادة يشعر بحال المولود وبرحمتهما له إذ ذاك ، وفيه تذكير بما بذلاه من تربية وجهد .

 

والإنسان العاقل عندما يرى ويدرك هذه الأمور التي تحملها الوالدان لا يسعه إلا أن يحسن إليهما؛ بل ويخفض لهما جناح الذل من الرحمة، واسمع همس هذه الكلمة في بعض مواقعها في القرآن أيها العاقل، قال تعالى: ( وبرًا بوالديه ولم يكن جبارًاعصيًا )3 ، وقال تعالى: ( ربنا اغفرلي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب )4 .

 

والإحسان إلى الوالدين ينبه العقل إلى أهميته، فالمعاملة هي معاملة إحسان وبر وليس فيها منٌّ أو رياء، والإحسان لا يدركه عاقل إلا إذا أدرك أهمية الوالدين، وهكذا فالأمر لا يحتاج إلى تذكر أو اتقاء؛ بل يحتاج إلى عقل وإدراك؛ لأهمية ما للوالدين من منزلة عظيمة عند الله، ولولا ذلك لما ربط الله النهي عن الإشراك به بالأمر بالإحسان إلى الوالدين .

 

-----------------

1- نظم الدرر،ج2 ، ص741

2- مسألة الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده ، وكذلك العكس مما اختلف فيه علماء أصول الفقه، يراجع كتاب طلعة الشمس للإمام السالمي- رحمه الله، ج1 ص ( 56 – 58 ) .

3- سورة مريم /14

4- إبراهيم /41

------------------

6- الوصية الثالثة: ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم )

تأتي الوصية بالأولاد للوالدين لتعالج جانبا من جوانب العقل البشرى، فحق الأولاد محفوظ ومكفول ، والله تعالى هو الرزاق الذي رزق الآباء والأبناء ، فليس من العقل قتل الأولاد مخافة الفقر ، ثم في الانتقال من ضمير الغيبة ( ما حرم ربكم ) إلى التكلم بضمير (نرزقكم ) شأن عظيم، يقول الطاهر بن عاشور في ذلك: " وعدل عن طريق الغيبة الذي جرى عليه الكلام من قوله ( ما حرم ربكم ) إلى طريق التكلم بضمير ( نرزقكم ) تذكيرًا بالذي أمر بهذا القول كله ، حتى كأن الله أقحم كلامه بنفسه في أثناء كلام رسوله الذي أمر به فكلم الناس بنفسه ، وتأكيدًا لتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم "1 .

 

ثم إنه قدم رزق الآباء على رزق الأبناء للإشارة إلى أنه كما رزق الآباء فلم يموتوا جوعًا، كذلك يرزق الأبناء ، كذلك قال: ( أولادكم) فأسند الأولاد إليهم، وذلك ليذكرهم أن أولئك الأولاد هم جزء منهم، فكيف يقتلونهم ؟!

 

ولكن ما هي الأسباب التي كانت تدفع هؤلاء الآباء لقتل أبنائهم؟ وما سر هذه الوصية التي تبعت الوصية بالوالدين وقبلها النهي عن الإشراك بالله؟ خصوصًا أن لهذا الترتيب سراً آخر؟

 

إن التدرج جاء من الوصية الأهم إلى الوصية التي تليها في الأهمية، فسبحان من هذا كلامه!

 

هذا وإذا تأملنا في قوله تعالى ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئًا كبيرًا )2 ، نجدد أنه يوضح أن ضرر الإملاق والخوف من العار والفقر كان أعظم عندهم من قتلهم لأولادهم، ولفظ "الخشية " تبين شدة الخوف التي تنتابهم بين حين وآخر من الفقر بسبب أولادهم، ومدى شدة تلك الهواجس التي تنتابهم، ففي سبيل حماية أنفسهم من ذلك ضحوا بفلذات أكبادهم .

 

هذا ومما لا يغيب عن البال أن قتل الأولاد محرم منهي عنه، سواء كان بسبب الإملاق أو بدونه، وإنما ذكر الإملاق لأنه الأغلب في القتل عندهم، يقول العلامة الخليلي: " ... لأن هذه الدلالة هي من باب مفهوم المخالفة، ومن شرط الاستدلال بالمفهوم أن لا يكون منطوقه وارداً مورد الأغلب المعتاد؛ لأن ما كان كذلك ليس له مفهوم يُعتد به، نص على ذلك الأصوليون، وعوّل عليه الفقهاء، قال الإمام نور الدين السالمي- رحمه الله :

 

وشرطه أن لا يكون مقتضى *** يمنـع من تخصص الحكم الرضا

وذاك مثل عادة للعـــربِ *** في نحو أن يجري مجرى الأغلبِ

 

... ومن هذا الباب قوله تعالى في سورة الأنعام ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم )، وقوله في سورة الإسراء ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ) إذ لا قائل بتقييد النهي عن قتل الأولاد بحالتي الإملاق أو خشيته )3 .

 

أما عن علاقة هذه الوصية بوصية النهي عن الإشراك بالله، فذلك لأن في قتل الأولاد إشراكاً ونقصاً في الوحدانية، ولولاه ما قبلوا بقتل أولادهم، وهكذا فتنفيذ هذه الوصية يحتاج إلى أخذ زمام الأمور وتحكيم العقل، وإدراك الأمور والواقع المحيط بالإنسان .

 

------------------

1- التحرير والتنوير ، المجلد الخامس ج (8 ، 9 ) ، ص159

2- الإسراء / 31

3- فتاوى سماحة الشيخ الخليلي - حفظه الله - الجزء الأول: الملاحق بحث الإسبال، ص 473، 474 .

-------------------------------------

 

7- الوصية الرابعة: ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ):

وتتوالى الوصايا في ترقيها من الأهم إلى التي تليها في الأهمية، وهذه الوصية تنهى هذه المرة عن الاقتراب من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ومطلوب من العقل هذه المرة إدراك الأمور جيدًا،فالأمر يعتمد على النهي عن مجرد الاقتراب من هذه الفواحش التي من شأنها تدنيس كرامته؛ بل إن هذه الوصية تعمل على تعميق شعور العاقل بفظاعة هذه الفواحش، والنهي بالدرجة الأولى عن الاقتراب،فكيف بالوقوع فيها؟! فالعقل يعرّف الفاحشة على أنها تعني ما عظم قبحه، واستقر في نظر العقول بشاعته، وما استهجنته العقول والقلوب معًا، فأي عاقل هذا الذي يفكر في الاقتراب من الفواحش فضلاً عن إتيانها؟ وتعلو حدة التنبيه لهذا العقل، وتحذره أن الفواحش قد تكون ظاهرة واضحة وضوح الشمس، وقد تكون خفية لا يدرك خطورتها وهولها إلا أصحاب العقول اليقظة، والظاهر من قوله تعالى ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) أن هذه الفواحش يحتاج فعلها إلى مقدمات منهي عنها، وعلى ذلك فالمراحل التي تساعد على هذا الفعل منهي عنها، فكيف بالفعل نفسه؟!

 

وعلاقة هذه الوصية بوصية النهي عن الإشراك بالله، هو أن الاقتراب من هذه الفواحش تدنيس للعقيدة ، ولكن هل ثمة صلة بين النهي عن الاقتراب من الفواحش أو النهي عن قتل الأولاد؟ في الواقع الإجابة المباشرة هي نعم، فقتل الأولاد مخافة العار والفقر هو نوع من الفواحش التي يسببها خلل العقيدة، حتى أن الوأد الخفي الذي كان يقع على تلك البنات البريئات مخافة العار هو نوع من الفواحش الخفية، والآن أيفكر عاقل في الاقتراب من إحدى الفواحش ؟!

 

8- الوصية الخامسة: ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق )

وقتل النفس بغير حق يعتبر من أعظم الجرائم عند جميع البشر، وفي الإسلام أن من قتل نفسًا بغير حق فقد ظلم ظلما كبيرا، وغضب الله عليه، ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا قال تعالى: ( ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا )1 .

 

والعقل البشرى يقول: بأن قتل النفس بغير حق حرام، وهو مدرك لخطورة هذا الأمر وفظاعته، وفي قوله تعالى ( إلا بالحق ) توضيح أن هذا الحق هو " ما ثبت أنه غير باطل في حكم الشريعة، وعند أهل العقول السليمة البريئة من هوى أو شهوة خاصة ، فيكون الأمر الذي اتفقت العقول على قبوله ، وهو ما اتفقت عليه الشرائع ، أو الذي اصطلح أهل نزعة خاصة على أنه يحق وقوعه "2 ، فإدراك الأمر وحجر العقل عن السفه والشهوات والنوازع مطلوب في هذا النوع من الوصايا التي تمجد العقل وترقيه حتى توصله لغاية المراد، وأن الحكم هو حكم الله ، وقد فصل الإسلام في الكتاب والسنة ووضح هذا الحق فأعلن أن المرتد عن الإسلام يقتل، وقاتل المسلم بغير حق يقتل، والزاني المحصن يقتل برجمه حتى الموت، وهي أمور يقبلها العقل بل يؤكد واقعيتها ولزومها لاستمرار الحياة .

 

والملاحظ أن هذه الوصايا وقع ترتيبها مناسبًا لتقبل العقل لها؛ لدرجة أننا لو عرضناها على عاقل لتقبلها من حينها .

 

ومن خلال هذه الوصايا الخمس، وبعد التحليل لكل وصية على حدة ندرك تمام الإدراك وقبل أن تنهي الآية أن النتيجة الطبيعية، والفاصلة القارة في مكانها هنا هي قوله تعالى : ( ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ) ، هذا هو المتوقع لكل عاقل ، أما من لم يلتزم المنهج القويم، ووقع في شيء من هذه الموبقات فإنه يعتبر في منزلة غير العقلاء؛ لأن " ملابسة بعض هذه المحرمات يٌُنبئ عن خساسة عقل ، بحيث ينزل ملابسوها منزلة من لا يعقل ، فلذلك رجى أن يعقلوا "3 .

 

وفي قوله تعالى ( ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ) نلحظ ذلك الرباط الوثيق بين الرب والعبد ، ففي نهاية المطاف " يربط كل أمر وكل نهي بالله ، تقريرًا لوحدة السلطة التي تأمر وتنهى في الناس ، وربطًا للأوامر والنواهي بهذه السلطة التي تجعل للأمر والنهي وزنه في ضمائر الناس "4 .

 

يقول صاحب نظم الدرر: " ولما كانت هذه الأشياء شديدة على النفس، ختمها بما لا يقوله إلا المحب المشفق ليتقبلها القلب فقال: ( ذلكم وصاكم به) "5 ، والملاحظ أن كتب التفسير اتفقت على أن هذه المحرمات تحتاج إلى عقل متدبر كي يعيها.

 

وقد ألمح البقاعي إلى ذلك بقوله" ولما كانت هذه الأشياء لعظيم خطرها، وجلالة وقعها في النفوس لا تحتاج إلى مزيد فكر قال:( لعلكم تعقلون ) أي لتكونوا على رجاء المشي على منهاج العقلاء، فعلم من ذكر الوصية أن هذه المذكورات هي الموصى بها والمحرمات أضدادها ، وصار شأنها مؤكدًا من وجهين: التصريح بالتوصية بها، والنهى عن أضدادها "6 .

 

-------------------

1- النساء /93

2- التحرير والتنوير ج8و9 ، ص161

3- المرجع السابق ج8و9 ، ص 162

4- في ظلال القرآن ج3، 1234

5- نظم الدرر ج7 ، ص 318

6- المرجع السابق ج7 ، 318

--------------------

 

9- المطلب الثاني: فاصلة التذكر ( لعلكم تذكرون ) ومناسبتها

قال تعالى: ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسًا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون )1 .

 

والآن ننتقل إلى الوصايا الأربع التي ختمت بفاصلة التذكر، ولكن ما سر هذه الوصايا؟ ولِم لم تختم بفاصلة التعقل؟ وما هو التذكر؟ حقيقة التذكر يعني " محاولة النفس استرجاع ما زال من المعلومات "2 ، والتذكرة " هي ما يتذكر به الشيء، أعم من الدلالة والإمارة، والتذكر له معنيان: أحدهما التلفظ بالشيء، والثاني: إحضاره في الذهن بحيث لا يغيب عنه، وهو ضد النسيان "3 .

 

وباستعراض معاني التذكر هذه؛ نلحظ أننا الآن بصدد دراسة وصايا لا تحتاج إلى إدراك وتدبر بقدر ما تحتاج إلى استمرار تذكرها واستحضارها؛ لأنها قد ُتنسى بسهولة لخفائها، وقد تستحضر ولكن لا يعبأ الإنسان بالانقياد لها، أو العمل بها، وسنتناولها فيما يأتي بشيء من الدراسة :

 

-----------------------

1- الأنعام / 152

2- الكليات ص17

3- المرجع السابق ص312 ، 456

--------------------------------

10- الوصية السادسة: ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن )

إن الصورة التي رسمها القرآن لليتيم هي صورة جد عظيمة، فهي توصي برعايته وعدم أكل ماله؛ بل وعدم الاقتراب من ماله إلا بالتي هي أحسن، واليتيم هو من توفي والده وهو صغير، وأمره في الواقع يحتاج إلى تذكر؛ إذ بفقد اليتيم لوالده يصبح وحيدًا فريدًا، فكيف التصرف في مثل حالته؟ إذن فهو أمر يحتاج لمزيد تذكر وتفكر, فالإنسان لو ترك لشهوته لما أهتم بأمر اليتيم؛ بل إنه سيسعى لاستغلاله هو وماله، إذن فالأمر يحث على الاسترجاع الدائم لهذا الأمر الجلل، وقد لاحظنا في الآية السابقة سر التعبير بلفظ الاقتراب، فمجرد الاقتراب من مال اليتيم منهي عنه، فكيف بأكله والتهاون فيه، إن الإسلام عندما حذر بالنهي عن مجرد الاقتراب كان ينهى عن ذلك لأنها تجر إلى ما بعدها .

 

ويكفي أن نعرف أن هذا الاقتراب لا يكون إلا بالتي هي أحسن، وللطاهر بن عاشور رأي في صيغة التفضيل " أحسن " لا نؤيده فيه وهو أن ( أحسن ) اسم تفضيل مسلوب المفاضلة، أي الحسنة1 ، وفي الحقيقة أن أحسن هي صيغة تفضيل وتعني الإتيان بالخصلة الحسنى والفضلى، فبعد التذكير والتفكير وتحري الأحسن والأفضل نحو مال اليتيم، وتأكده من أنه يستطيع حمل هذه الأمانة يتحمل مشقة المحافظة على هذا المال، وهذا يجعل الولي في مراقبة دائمة للوصول لتلك المنزلة العالية في مال اليتيم .

 

وإن ربط وتوقيت التعامل بالطريقة الحسنى في مال اليتيم ( حتى يبلغ أشده ) يدل على مزيد الحذر، فهذه الطريقة الحسنى في التعامل بماله لا تصلح عند بلوغه مبلغ الرجال، وكون اليتيم أصبح بالغًا راشدًا، هذا يعني تركه وشأنه .

 

ولنا وقفة مع هذه الوصية، فالآية بدأت بأكثر هذه الوصايا أهمية، وإن إسناد المال إلى اليتيم ما كان إلا للتنفير من غصب ماله أو عدم استثماره الاستثمار الأمثل، فهو إذا كان يتيماً يكفي بذلك تنفيراً وبعدًا عن الاقتراب من ماله إلا بالتي هي أحسن .

 

إذن فالأمر لا يحتاج إلى إدراك وتعقل، بقدر ما يحتاج إلى التذكر الدائم، والترقب المستمر لهذا المال اليتيم .

 

------------------------

1-التحرير والتنوير ، المجلد الخامس ج 8-9 ،ص 163

------------------------

11- الوصية السابعة: ( وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ):

تأتي هذه الوصية، وهي أمر الوفاء بالكيل والميزان وإتمامه بالقسط، وهي تحث على مزيد التذكر والتفكر في أهمية هذا الأمر، ولا شك أن معاملات التجار تعتريها مخاطر الوقوع في المحظور، فكم من تاجر يكون الكذب ديدنه حتى تربح تجارته، وكم ينتشر التطفيف في الكيل بين التجار، ووفاء الكيل والميزان بالقسط أمر يحتاج إلى مزيد إيمان وتذكر، فالمطلوب هو بلوغ غاية العدل في ذلك، وهذا أمر قلما يستطيع الإنسان القيام به وخاصة في أمور التجارة، يقول الشيخ زادة في حاشيته " وقوله تعالى ( وأوفوا الكيل) أي أتموه ولا تنقصوا منه شيئًا، وكل شيء بلغ تمام الكمال فقد وفى وتم وفيته، أي أتممه، و( بالقسط ) أي أوفوهما مقسطين؛ أي متلبسين بالقسط وهو العدل "1 .

 

والملاحظ أن هذه الوصايا أمور خفية بالفعل، وليست خفية فحسب؛ بل هي صعبة التنفيذ و وتحتاج إلى حرص شديد في تطبيقها والعمل بها، ولكن سرعان ما يطمئننا الله تعالى بقوله ( لا تكلف نفساً إلا وسعها )، يقول أبو حيان في ذلك: " أي إلا ما يسعها ولا تعجز عنه، ولما كانت مراعاة الحد من القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان يجرى فيها الحرج؛ ذكر بلوغ الوسع وان ما وراءه معفو عنه، فالواجب في إيفاء الكيل والميزان هو القدر الممكن، وأما التحقيق فغير واجب "2 .

 

وبهذا المعنى قال الألوسي، مع أنه جوز رأيًا آخر وهو" أن يكون جيء بها لتهوين أمر ما تقدم من التكليفات؛ ليقبلوا عليها، كأنه قيل: جميع ما كلفناكم به ممكن غير شاق ونحن لا نكلف إلا ما يطاق "3 .

 

وأما سر مجيء الأمر بإيفاء الكيل والميزان بعد النهي عن القرب من مال اليتيم؛ فليدل على أن بينهما ارتباطا، فهما يرتبطان بالمال والحفاظ عليه، وأخذ كل ذي حق حقه دون زيادة أو نقصان، وهكذا ..، فهي وصايا تحث على مزيد التذكر، وعدم نسيانها مهما طغت الشهوات والنزوات، فكأن التذكر بما يحمل من شحنات إيمانية هو السلاح ضد شهوات الدنيا، وما فيها من متع وشواغل وإغراءات تغري الإنسان وتنسيه جانب العدل في هذه الوصايا .

 

---------------------------

1- حاشية شيخ زادة ، ج2 ، ص222

2- البحر المحيط في التفسير ، ج4 ، ص253

3- روح المعاني ، ج7 ـ 8 ، ص56

---------------------------

12- الوصية الثامنة: ( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى )

وبعد أن ذكر وصية الوفاء بالميزان أتبعها بهذه الوصية العظيمة، قال تعالى: ( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ) :

 

يقول سيد قطب في قوله تعالى ( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ): " وهنا يرتفع الإسلام بالضمير البشري، وقد ربطه بالله ابتداء إلى مستوى سامٍ رفيع، على هدى من العقيدة في الله ومراقبته، فمنها مزلة من مزلات الضعف البشرى، الضعف الذي يجعل شعور الفرد بالقرابة هو شعور التناصر والتكامل والامتداد، وفي قوة القرابة سند لضعفه ، وفي سعة رفعتها كمال لوجوده، ومن ثم يجعله ضعيفًا تجاه قرابته من يقف موقف الشهادة لهم أو عليهم، وهنا يأخذ الإسلام بيد الضمير البشرى ليقول كلمة الحق على هدى من الاعتصام بالله، ومراقبة الله وحده "1 .

 

فهنا يأمر المسلم أن يقول كلمة الحق والعدل وفي كل الأحوال، فالأمر يحتاج لتذكر دائم واستمرار فيه، وذلك لأن القرابة وقوتها وضعف الإنسان أمامها يجعله ينسى قول كلمة الحق والعدل فيها، فتذكر مراقبة الله له هي الكفيلة بأن ترجعه إلى جادة الصواب .

 

ونلحظ أن الله جل جلاله قال: ( ذا قربى )، ولم يقل: صاحب قربى، ومن المعروف أن التعبير بـ ( ذا ) أشرف وأعظم لأن ( ذا ) " يضاف إلى التابع، وفي هذا تفخيم للمسمى بذا، وليس ذلك في لفظ صاحب مثلا "2 .

 

فمهما كان أمر القريب لديك رفيعاً، ومهما علت منزلته، وارتفعت بقرابة أو مصاهرة مثلا، فتذكر أن الله يراقبك، ولتجعل من التذكر سببًا لنسيانك هذه القربى عند تعاملك بالعدل، فهذه الوصية إذن لا تحتاج لعقل أو إدراك، فالأمر مدرك لا محالة، ولكنه ينسى عندما تسيطر شهوة القرابة وسيطرتها على الإنسان، فتنسيه توخي جانب العدل فيها، فلابد من تذكر الله ، وتذكر أن هذا من عهد الله للناس .

 

---------------------------

1- في ظلال القرآن ،ج3 ، ص1233

2- منازل الألفاظ ، ص 45 ،46

---------------------------

13- الوصية التاسعة: قوله تعالى ( وبعهد الله أوفوا )

تأكيدا لمبدأ التذكر ومراقبة الله في الضمير الإنساني؛ تأتي الوصية الأخيرة في هذه الآية لتصهر الوصايا السابقة في قالب واحد، قالب الوفاء بعهد الله، فلا تنسوا وتذكروا أنه من عهد الله لكم على لسان رسله، وفي كتابه العظيم، يقول سيد قطب في الظلال : " ومن عهد الله قول الحق، والعدل ولو كان ذا قربى، ومن عهد الله توفية الكيل والميزان بالقسط، ومن عهد الله ألا يقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، وقبل ذلك ألا تشركوا به شيئًا"1 .

 

إذن فمراقبة الله لا تتحقق إلا بالوفاء بعهد الله، وعهد الله هو القيام على كتابه والعمل به، وبهذا يتضح لنا كم تحث هذه الوصايا على التذكر، فهي أمور قد تنسى سريعا، وتحتاج إلى مزيد تذكر، ولا يتحقق هذا التذكر في النفس إلا بمداومة تذاكر كتاب الله ومدارسته والعمل به، ويكفي أن هذه الأمور الأربعة كانت معروفة لدى العرب، ومعروف لدينا أن العرب كانوا يتنافسون في العمل بها، فأصبحت محامد لهم، ولكن بغلبة الهوى عليهم تناسوها، ونقصوا فيها، نقصوا في الشهادة والكيل والعهد، فجاء القرآن لإعادتها إلى أذهانهم مرة أخرى، يقول ابن عاشور في ذلك:" وهذه المطالب الأربعة عُرف بين العرب أنها محامد، فالأمر بها والتحريض عليها تذكير بما عرفوه في شأنها، ولكنهم تناسوه بغلبة الهوى، وغشاوة الشرك على قلوبهم "2 .

 

ولكون هذه الأمور أيضاً قد يتحكم فيها الهوى بسهولة إن لم تكن هناك مراقبة دائمة لله تعالى، فهي أمور إذن خفية ليس من السهل الاحتياط لها باستمرار، يقول الألوسي: " وقال الإمام - يعني أبا السعود -: والتكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية أمور خفية غامضة لأن فيها من الاجتهاد والفكر الكثير حتى يقف على موضع الاعتدال وهو التذكر"3 .

 

-------------------------

1- في ظلال القرآن ، ج3 ، ص 1233

2- التحرير والتنوير، ج5 ،ص170

3- روح المعاني ، ج 7ـ8 ، ص56

-------------------------

14- الوصية العاشرة: ( وأن هذا صرا طي مستقيمًا فاتبعوه .. )

قال تعالى: ( و أن هذا صرا طي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ):

 

والسؤال المعتاد هنا: لِمَ كانت فاصلة الوصية العاشرة هي التقوى؟ هلا ختمت بالتعقل أو التذكر؟ وهل يوجد هنا ترقٍّ بين الفواصل من التعقل إلى التذكر إلى التقوى؟

 

ما سيجعلنا نعي سر ختم الآية أو الوصية بالتقوى هو تحليل سياق الآية أو الوصية، ومقارنته بالوصايا السابقة، ففي البداية نلحظ أن الله سبحانه قال: (صراطي ) ولم يقل: سبيلي، وما ذلك إلا لسر يتعلق بفاصلة الآية ( لعلكم تتقون )، وقبل التحليل نحاول التعرف على معنى التقوى، التقوى هي مخافة الله بأن تجعل بينك وبين حدود الله ومعاصيه سترًا ووقاية، والتقوى هي إتباع أوامر الله والانتهاء عن معاصيه، فنحن الآن بصدد تحليل وصية تعتمد على التقوى، ولا بد لسلوك طريقها من سلاح قوى منيع.

 

وقد بدأت الآيات بإيثار لفظ الصراط على السبيل أو الطريق " فالصراط هو الطريق السهل القويم "1 ، والصراط كذلك بجانب السهولة يقتضي الوضوح والخوف والحذر، فمن يخاف الله ويتقيه لا بد له من سلوك هذا الصراط، ويجمع ابن القيم أوصاف الصراط في كتابه بدائع الفوائد فيقول: " والصراط ما جمع خمسة أوصاف: أن يكون طريقًا مستقيمًا، سهلاً، مسلوكًا، واسعًا، موصلاً إلى المقصود"2 .

 

وهذا بالفعل ما يتوفر في صراط الله المستقيم المتمثل في كتابه العظيم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فهو صراط مستقيم يستطيع كل إنسان سلوكه، وفي وسعه الالتزام بمنهجه وأوامره، رحبا واسعا بشموله للأوامر والنواهي من الله تعالى، فقد جاء للعالمين كافة، وفي النهاية هو موصل للغاية المقصودة .

 

وابتداء الآية ( بأن المؤكدة ) ثم اتباعها باسم الإشارة (هذا) الذي يستعمل لما قرب؛ لأنه صراط واضح قريب من الأتقياء الذين يخشون ربهم وينفذون وصاياه، ثم في وصف الصراط بالمستقيم لعدم حيدته عن الجادة، فلا اعوجاج فيه ولا انحراف؛ بل إنه يوصل للغاية المقصودة، وفي النهاية هذه الغاية معروفة للمؤمنين والكافرين أيضًا " فالإشارة إلى حاضر في أذهان المخاطبين من أثر تكرر نزول القرآن، وسماع أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم بحيث عرفه الناس وتبينوه، فنزل منزلة المشاهد، فاستعمل فيه اسم الإشارة الموضوع لتعيين ذات بطريق المشاهدة مع الإشارة "3 .

 

ثم إن إسناد الصراط إليه تعالى، فمع وضوح هذا الصراط ومعرفتكم به، فلا تنسوا كذلك أنه صراط الله، جاء من عنده، وفي النهاية هو موصل إليه .

 

ثم الأمر( فاتبعوه )، لا شك بأن هذا الاتباع منوط بالتقوى، فهولا يحتاج إلى تذكر أو تعقل بقدر ما يحتاج إلى تقوى، فهي تضم العقل والقلب معًا مع استصحاب مخافة الله التي تحيط بجميع أعماله ليسلك هذا الصراط المستقيم، فقوله تعالى( فاتبعوه ) يعني " اقتفوا أثره واعملوا به "4 .

 

فاتباع هذا الطريق المستقيم لا يتحقق إلا باقتفاء التقوى، ورعاية بذرتها في القلب يومًا بعد يوم حتى يثمر العمل الصالح، فالأمر في قوله تعالى ( فاتبعوه ) يحث على غاية التمسك بهذا الصراط والبحث الحثيث عنه، وإن وصل إليه المسلم فعليه عندئذ التمسك به بشدة، وعدم الالتفات إلى غيره من الطرق المعوجة .

 

ثم إن أمعنا النظر ولاحظنا الموازنة بين صراط الله والسبل المختلفة، فسنجد من البلاغة والروعة ما يعجز القلم عن تسطير بعضه، فصراط الله جاء مفردًا، بينما جمعت الطرق المختلفة، وذلك لأن " الحق واحد والباطل ما خالفه وهو كثير، فيشمل الأديان الباطلة من مخترعة وسماوية ومحرفة والبدع والشهوات "5 .

 

ونلحظ أيضًا أن لفظ الصراط أضيف إلى الله، بينما لم تضف السبل إلى أحد؛ لأن الصراط الحق له مالك واحد وهو الله، بينما السبل متعددة المُلاك من شياطين الإنس إلى شياطين الجن.

 

ثم أمره باتباع الصراط المستقيم مع عدم بيان نتيجة ذلك الاتباع؛ لأن عاقبة اتباع الصراط المستقيم معروفة وهي جنات عدن، وذكّره عدم اتباع السبل المتفرقة على سبيل النهي، وإيضاح النتيجة المترتبة على ذلك، وهي التفرق والتشتت عن صراط الله للتحذير من عاقبة السبل المتفرقة .

 

ومرة أخرى وعلى طريقة المحب المحرض يعود فيفخم الآيات ويختمها بالتقوى؛ لأن هذا السبيل لا يسلكه إلا من وضع مخافة الله بين عينيه ليل نهار "، وجعل الرجاء للتقوى؛ لأن هذه السبل تحتوي على ترك المحرمات، وتزيد بما تحتوي عليه من فعل الصالحات "6 .

 

وهكذا جاءت كل فاصلة قارة في مكانها، فسبحان من هذا كلامه!!

 

-------------------------------

1- لسان العرب ، ج7ـ8 ، مادة سرط ، ص326

2- بدائع الفوائد ، ج1 ، ص229

3- التحرير والتنوير ، المجلد الخامس، ج8-9 ، ص172

4- روح المعاني ، الألوسي ، ج7ـ8 ، ص56

5- تفسير المنار ، ج8 ، ص194

6- البحر المحيط ، ج4 ، ص692

_____________________

15- المبحث الثاني: من أسرار الإعجاز في فواصل آيات الوحدانية

قال تعالى :

 

( إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ * وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

 

سورة الأنعام، الآيات ( 95-99 )

*******************************

 

الآيات التي نحن بصدد دراسة فواصلها تمثل التدرج والسير مع الكفار من العناد والمكابرة إلى الرضا والقبول بهذا الدين، من خلال تدبر هذا الكون، وتدبر النفوس التي تشهد صنعتها بعظمة الخالق .

 

وفواصل هذه الآيات تتعلق بتقرير وحدانية الله، مع التنبيه على أهمية مظاهر الكون في تثبيت الإيمان بالله، ونريد الآن أن ندرس سياق كل فاصلة، ولِم كانت فاصلة العلم مع خلق النجوم؟ ولِم كانت فاصلة النفس والتفكر فيها ذكر الفقه؟ ولِم كانت آخر فاصلة من آيات إثبات الوحدانية هي ذكر الإيمان ؟ ذلك ما نستوضحه- بمشيئة الله - في الوقفات الآتية:

 

16- الوقفة الأولى: قوله تعالى ( إن الله فالق الحب والنوى .. )

قال تعالى: ( إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون ) .

 

هذا المقطع الذي نحن بصدد دراسة فاصلته ( فأنى تؤفكون ) يمثل خلاصة حياة البشرية، الحياة والموت والإنسان والحيوان والنبات، وخلاصة الكون، وبعد .. ألا يدل ذلك على وحدانية الله الذي خلق كل شيء؟ ومن هذا الدليل تبدأ المواجهة، يبدأها القرآن بمواجهتهم بالأدلة القاطعة، وفي المعسكر الثاني يقف الكفار يواجهون الله ذي العزة والجلال بالانصراف ـ ومن البداية ـ عن الحق .

 

وهذا الدليل لم يخبرنا عن خلق السماوات والأرض، أو عن الأنهار التي تخرج من خلال قرار الأرض؛ بل جاء الدليل لينفذ في البصيرة قبل أن يعيه البصر، فمعجزة فلق الحب والنوى، وإخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي شيء عظيم، وذلك أن النفس لا تكاد تدرك كيف يخرج هذا الحي من العدم، وكيف كان قبل أن يكون عدمًا، إن كل هذا لا يقدر عليه سوى الله .

 

وتبدأ الآية بالاسم الصريح ( الله ) " فمتى أراد تعظيم الأمر جاء بهذا الاسم ظاهرًا؛ لأنه أهيب أسمائه وأحفظها بالتعظيم "1 ، وقد قرر أهل البلاغة أن " وحي الكلمة وعملها بما يثيره لفظها من شؤون النفس لا يستطيعها الضمير العائد إليها، فإن كان الضمير يعطي إشارة ذهنية إلى العائد عليه، تحصره في النفس، إلا أن قدرًا كبيرًا من التأثير يظل الاسم الظاهر محيطاً به "2 .

 

وهذا الدليل هو الوحيد الذي ذكر فيه اسم الجلالة صريحًا في الآية (95) من سورة الأنعام، و بعدها من الآيات (95 ـ 99 ) من سورة الأنعام، وفي أدلة تقرير الوحدانية كان الاسم الموصول هو النائب عن اسم الجلالة، وما ذلك إلا لسر عظيم لا يدركه إلا ذوو الألباب !!

 

وقد أكد هذا الدليل ( بأن ) المؤكدة، فالتأكيد جاء من عند إله لا يحتاج إلى تأكيدات، وما ذلك إلا ليتدبروا في الأمر ويُحكِّموا العقل فيه، فأراد الحق أن يثبت له قدرة فلق الحب والنوى دون غيره، حتى لا تتجاوز هذه الصفة إلى غيره، فجاء باسم الفاعل ( فالق )، ثم إنه فصَّل ( الحب والنوى ).

 

ونلحظ مجيء الآية ( يخرج الحي من الميت ) على صيغة المضارعة، بينما الآيات أوالأدلة الأخرى جاءت على صيغة اسم الفاعل( مخرج الميت من الحي )، والماضي ( وجعل الليل سكنًا )، وهذا ما أجاب عنه الألوسي حيث قال: " إلا أنه عدل عن ذلك إلى المضارع في هذا الوصف وحده إرادة لتصور إخراج الحي من الميت، واستحضاره في ذهن السامع ، وذلك إنما يتأتى بالمضارع دون اسم الفاعل والماضي "3 .

 

وبعد ذلك يأتي فلق الحب والنوى، وما في ذلك من إعجاز، ثم كيف يخرج الله الحي من الميت، ومخرج الميت من الحي، فإخراج الله الحي من الميت أمر مستمر ومتجدد في كل حين، وإخراج الميت من الحي هو أمر ثابت لله تعالى .

 

وبعد ذلك تفاجئنا الفاصلة؛ بأنهم بدل أن يوحدوا الله ابتعدوا عن المنهج الحق وانصرفوا عنه، حيث إن فاصلة هذه الآية بالذات ليست مختومة بالعقل أو التذكر أو حتى الإيمان، وذلك لما فيها من إعجاز، ولأنها حوت كل إعجاز الكون، لذلك أن تكون فاصلتها ( ذلكم الله فأنى تؤفكون ) لتكون ردعاً لهم .

 

ولاسم الإشارة ( ذلكم ) مغزى كبير، فهو يثير ما يثيره في النفس البشرية بما يُوحي من تلك العظمة الإلهية، وهذه الآية هي الوحيدة التي ذكر فيها اسم الجلالة صريحًا، وما بعدها من الآيات كان الاسم الموصول هو النائب عن اسم الجلالة .

 

وبعد ذلك أفلا يستحق أولئك المنصرفون عن الحق للعذاب الأليم " وأي وجوه الصد عن الحق أيها الجاهلون تصدون عن الصواب، وتصرفون ، أفلا تتدبرون؟ فيعلمون أنه لا ينبغي أن يجعل لمن أنعم عليكم بفلق الحب والنوى- فأخرج لكم من يابس الحب والنوى زروعًا- شريكاً في عبادته مالا يضر ولا ينفع "4 .

 

--------------------------

1- منازل الألفاظ ، ص219

2- المصدر السابق، ص220

3- روح المعاني ، ج7 ـ 8 ، ص227

4- جامع البيان ، ج 7 ـ 8 ، ص282

--------------------------

17- الوقفة الثانية: قوله تعالى ( فالق الإصباح وجعل الليل سكنًا .. )

قال تعالى: ( فالق الإصباح وجعل الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا ذلك تقدير العزيز العليم ) :

 

تدفعنا الآيات لنتعرف على محاجاة الكفار دليلاً بعد دليل، وتأتي هذه الآية لتكون دليلاً آخر لأولئك المنصرفين عن عبادة الله وتوحيده، والسؤال هنا: لِمَ ذكرت صفتا العزة والعلم لله تعالى في هذا المقام؟ أولا يصح ورود صفتي الحكمة والملك أو غيرهما من الصفات الجليلة؟ وما ارتباط فلق الصبح؟ وجعل الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا بالعزة والعلم؟

 

أولاً لنتعرف على معنى العزيز، وهو الذي " يقهر ولا يُقهر، وعزة الله هي العزة الباقية الدائمة، والعليم في وصف هو الذي لا يخفى عليه شيء"1 .

 

إذن تطالعنا الآية الكريمة بصفة القهر المطلق للإله الواحد، فهو الذي قهر كل الموجودات لتعمل وفق إرادته، رغم أننا نراها تعمل بواسطة أسباب، ولكن وراء الأسباب مسببًا عظيمًا وهو الواحد القهار، أما علم الله فهو أمر فوق إدراك البشر، ( وفوق كل ذي علم عليم )2 ، " هو الذي وسع كل شيء، وأحاط علمه بكل شيء، ولم يُفلت من علمه شيء "3 .

 

والآية ختمت باسمين لله تعالى لا عاطف بينهما ، وسوف نحاول أن نبحث عن سر عدم العطف بين هذين الاسمين .

 

عندما نمعن النظر في قوله تعالى ( فالق الإصباح ) نجد أن فلق الإصباح نعمة لو تدبر الخلق فيها لتبينوا كم هي عظيمة، فليتصور كل منا أن الصبح لم يطلع ذلك اليوم، كيف سنزاول أعمالنا؟ وهل سنخرج حتى من بيوتنا" وإن فلق الليل عن الصبح أبدع في مظهر القدرة، وأدخل في المنة بالنعمة؛ لأن الظلمة عدم والنور وجود، والإيجاد هو مظهر القدرة، ولا يكون العدم مظهرًا للقدرة إلا إذا تسلط على موجود وهو الإعدام، وفلق الإصباح نعمة أيضًا على الناس لينتفعوا بحياتهم واكتسابهم "4 .

 

وكون الليل جعله الله للراحة والسكن؛ فهذا في حد ذاته يتناسب مع فطرة الناس وما جبلوا عليه، وجعل الله تعالى الشمس والقمر حسبانا أي "على أدوار مختلفة يحسب فيها الأوقات التي نيط بها العبادات والمعاملات "5 .

 

وهذه الأمور لا يستطيع القيام بها إلا إله عزيز قاهر لهذا الكون الذي سيره وفق ما يريد، فلق الصبح وجعل الليل للراحة ، ثم جعل الشمس والقمر لها حساب معين يتناسب أيضا مع مصالح الناس، إن هذا كله لا يعمله إلا إله عزيز، وجلت منه السموات والأرض وقهرها على ما يريد، ومع هذا فهو عليم متصف بالعلم، فهو يعلم في أي الأوقات تكون راحة الناس فجعل لهم الليل سكنًا، وعلم أن الناس سيحتاجون لحساب معاشهم فجعل الشمس والقمر حسبانًا .

 

وهذا الترتيب في الآية ( فالق الإصباح )، ( وجعل الليل سكنًا ) ثم ( والشمس والقمر حسبانًا )، يوحي بأنه كلام العليم القادر، فبدأ بالأهم عند الإنسان وهو الصباح ثم أتبعه بالليل ، ثم بين ما يفلق ظلمة الليل فيبسط الإصباح وهي الشمس، وبَّين بأنها والقمر جُعلا لحساب مصالح الناس .

 

ثم من الملاحظ في قوله تعالى ( فالق الإصباح وجعل الليل سكنًا ) أن( فالق الإصباح ) جاءت جملة اسمية بينما ( وجعل الليل سكنًا ) جاءت جملة فعلية، وحُددت بفائدة ( سكنًا )، وهذا الكلام لا يكون إلا من عليم بذلك، ففلق الإصباح كل مصالحه وفوائده مهمة، أما الليل وكونه سكنًا فهذه هي المصلحة المستفادة منه؛ بل المصلحة الأهم، " فالآية من الاحتباك ، حذف من الأول الحركة ، ودل عليها بالسكن ، وحذف من الثاني السدل ودل عليه بالفلق "6 .

 

وهذا من أقوى الأدلة على عزته وجبروته وعلمه، فهذا الإصباح يشمل الفجر الصادق والكاذب ، وهذا يعلمه علماء الفلك جيدًا .

 

ولا زلنا نبحث عن بعض أسرار فاصلة الآية، ففي قوله تعالى ( وجعل الليل سكنًا ) من المعروف أن السكن ضد الحركة وهذا من آيات الله تعالى، فالنهار فيه الحركة وطلب العيش ( وجعلنا النهار معاشًا )7 ، فهو يتميز بالحركة، بينما الليل يتميز بالسكون، ولو قال: ( جعلنا الليل للراحة ) لما تناسب مع فاصلة الآية؛ لأن الإنسان قد يكون في الليل ولا يكون مرتاحًا، ولكن الحق أن الراحة جزء من السكون، وبالفعل فالمخلوقات جميعها حتى الجماد تسكن في الليل، فهذا إذن لا يكون إلا من عزيز قاهر على عباده، فأسكنهم في الليل وهو عالم بمصالحهم .

 

وعبر" عن الشمس والقمر بالمصدر المبني على صيغة ( حسبانًا ) إشارة إلى أن الحساب بهما أمر عظيم النفع كثير الدخول مع مَالهُ من الدنيا في أبواب الدين "8 .

 

وفي إظهار صيغة المصدر ( حسبانًا ) تعظيم للعزيز العليم، وبغية تمكن هذين الاسمين في قلوب هؤلاء الكفار، فانظروا إلى من جعل لكم الشمس والمقر حسبانًا، هذا لا يكون إلا من قدرة عزيز عليم، ولذلك جاء بالمصدر ليتناسب مع فاصلة الآية وليدعمها ويؤكدها في قلوبهم، لذلك عبر بالمصدر للتأكيد ، فلم يقل، للحساب، وإنما قال ( حسبانًا ) ، فترك العلة وجاء بالمصدر الذي هو الأصل ليؤكد مدى الفائدة العظيمة بالجمع بين أبواب الدنيا والدين، وهكذا هي أسماء الله الحسنى لا تنحصر فوائدها على أمور الدين؛ بل تشمل الدنيا والآخرة .

 

أما لو تأملنا قوله ( ذلك تقدير ) فسنجد فيها ما يعلمنا بقوة العزيز العليم، فاسم الإشارة ( ذلك ) للبعيد لإظهار تلك النعمة والعظمة، فهي إن كانت بعيدة من عقولهم وقلوبهم فليتفكروا فيها وليتدبروا على أنها قدرة عزيز عليم، وتلك القدرة لا تكون إلا من إله واحد قدر ذلك، يستحيل أن يكون ذلك التقدير العظيم من صنع إلهين ، فبرهان التمانع يبطل ذلك، وكما أن كلمة ( تقدير ) تنزهه سبحانه من أن يكون لديه شريك؛ لأن هذه الكلمة توحي بإرادته وقدرته المطلقة التي لا تشاركها إرادة أو قدرة .

 

والآية لم تقل: ( العزيز والعليم ) بل اكتفت بعدم العطف بين الاسمين الجليلين ( العزيز العليم )، يقول ابن القيم في سر عدم العطف بين صفات الله: " فأما ترك العطف في الغالب فلتناسب معاني تلك الأسماء، وقرب بعضها من بعض، وشعور الذهن بالثاني منها شعوره بالأول "9 .

 

 

وبعد هذه الوقفة المتأملة مع هذه الآية الشريفة لا شك بأنها رسَّخت دلالة اسمي العزيز العليم في عقولنا ترسيخاً واضحاً جلياً، والمطلوب توحيد الله ، فهذه الآيات من مراميها نفي الشريك عن الله، فإن الذي فلق الصبح، وأسكن الليل، وجعل الشمس والقمر حسبانًا هو إله عزيز عليم، له الأسماء الحسنى والصفات العلا .

 

----------------------

1- مفردات غريب القرآن ، ص336 ـ 348

2- سورة يوسف، الآية 76

3- ضياء من العقيدة الإسلامية ، ص197

4- التحرير والتنوير ، المجلد 4 (6 ـ7) ص390 ـ 391

5- روح المعاني ، ج7 ـ8 ، ص233

6- نظم الدرر ، ج7 ـ ص679

7- سورة النبأ / 11

8- نظم الدرر ،ج2 ، ص680

9- بدائع الفوائد ، ج1 ، ص190

-------------------------

18- الوقفة الثالثة: ( وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها .. )

قال تعالى: ( وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ) .

وفواصل العلم تتميز دائمًا بالتفرد في خصائص منها: أن الأمور التي تسبق هذه الفواصل هي أمور عظيمة يراها الإنسان عظيمة ويندهش لها، ولو بحث عنها وعرف دقائقها لزاد إدراكه لعظمتها .

 

والعلم هو إدراك الشيء ومعرفته، كما ورد في قواميس اللغة بأنه " إدراك الشيء بحقيقته "1 .

 

والخاصية الثانية أن من دقائق فواصل العلم أنها تربط بين السماء والأرض، فهناك شيء يختفي في السماء بعيدا عنكم، ولكنكم أشد ما تحتاجون إليه، ألا وهي النجوم .

 

فهذه النجوم التي نتمتع كل يوم برؤيتها هل تفكرنا في خلقها؟ كم من مرة كنا ضالين في طريقنا في ذلك الليل الدامس، وما ساعدنا على الاهتداء غير رؤيتنا للنجوم التي أرشدتنا الطريق، وأكثر من يعرف منزلة النجوم وعظمتها هم المسافرون عبر البحار، فظلمات البحر أشد علينا من ظلمة البر، عندها ندرك عظمة هذه النجوم، ونتساءل من خلقها؟ إنه الله العليم الذي وضع أسراراً عظيمة في هذه النجوم، لذلك أقسم بها في كتابه ليلفت أنظارنا إلى بديع قدرته في خلقها، يقول جل جلاله: ( فلا أقسم بمواقع النجوم، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم )2 ، إي وربي إنه لعظيم لو تأملناه حق التأمل .

 

وفي قوله تعالى ( في ظلمات البر والبحر ) يريد الله من هؤلاء المعاندين أن يحسوا وهم يعايشون تلك الظلمات، يعيشون ما فيها من مخاوف وأخطار بظلمات نفوسهم في ذلك الشرك المظلم، فيطلبون الحق والإيمان والهداية كما يطلبون الهداية في ظلمات البر والبحر، وعبر القرآن بالهداية هنا ولم يعبر بالإرشاد ليبين أنهم يتشبثون بتلك الهداية الدنيوية لحاجتهم إليها ، مع غفلتهم عن هداية الإيمان، فالهداية أدق في التعبير القرآني من الإرشاد، لأن الإرشاد له مدى معين سرعان ما ينقضي فيعود مرة أخرى لتلك الظلمات ، أما الهداية فهي تقود في النهاية إلى بر الأمان وعدم الوقوع في شراك تلك الظلمات .

 

وهذا الأمر لا يتطلب مزيد تدبر وتفكر بل يكفي العلم به، فهو أمر معلوم لكل إنسان من خلال معايشته له، فهو أمر معلوم من خلال الدليل الحسي، فهذا يستحق منكم أن تستفيدوا من هذا العلم، ومما يؤيد ذلك أن " العلم هو الإدراك، والإدراك هو عبارة عن كمال يحصل به مزيد كشف على ما يحصل في النفس من الشيء المعلوم من جهة التعقل بالبرهان أو الخبر "3 ، فبهذا يحصل لهم من هذا العلم إدراك أنهم مثلما يحتاجون لهدايتهم في ظلمات البر والبحر يحتاجون أيضًا لهداية الله لهم لطريقه المستقيم .

 

وقال البقاعي عن سر ختم هذه الآية ( قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ) : " ولما كانت هذه الآيات قد بلغت في البيان حدًا علا عن طرق الإنسان والملائكة والجان لكونها صفة الرحمن، فكانت فخرًا يتوقع فيه التنبيه، فقال: ( قد فصلنا ) وبينا بيانًا شافيًا على ما لنا من العظمة ( الآيات ) واحدة في إثر واحدة على هذا الأسلوب المنيع، ولما كانت من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى كثير تأمل قال ( لقوم يعلمون ) أي لهم قيام فيما إليهم، ولهم قابلية العلم ليستدلوا بها بالشاهد على الغائب "4 .

 

والغرناطي له رأي آخر في سر ختم الآية بقوله تعالى ( لقوم يعلمون )، حيث قال: " في هذا نتيجة على معرفة الله والعلم به وبوحدانيته وهو أشرف معلوم ، فأعقب بأشرف ما يوصف به المعتبرون، فقيل: ( لقوم يعلمون ) ولذلك ورد وصفه تعالى بالعلم، ولا يوصف بالفقه أولا بالعقل، فلما كان العلم أشرف المعلومات عبر عن الآيات التي نصبت للدلالة عليه باللفظ الأشرف "5 .

 

والتوفيق بين القولين أن كلاً منهما صحيح ، فظلمات البر والبحر لا تحتاج إلى مزيد تفكر وتدبر فيها، فكل إنسان عايشها وسار فيها، وعرف وعلم في تلك اللحظات من هو معينه، فالهداية تحتاج أول ما تحتاج إلى علم، وبهذا العلم يصل الإنسان لمعرفة الله، وبمعرفته يتجه العقل لتوحيد الله الخالق .

 

وقد أحسن سيد قطب عندما قال :" وتبقى مزية المنهج القرآني في مخاطبة الفطرة بالحقائق الكونية، لا في صورة ( نظرية ) ولكن في صورة ( واقعية )، صورة تتجلى من ورائها يد المبدع وتقديره، صورة مؤثرة في العقل والقلب، موحية للبصيرة والوعي، دافعة إلى التدبر والتذكر، وإلى استخدام العلم والمعرفة للوصول إلى الحقيقة الكبرى المتناسقة، والذين يستخدمون النجوم للاهتداء الحسي، ثم لا يصلون إلى دلالتها ومبدعها، هم قوم لم يهتدوا على تلك الهداية الكبرى "6 .

 

ولا تنسَ أن الفاصلة التي سبقتها ( ذلك تقدير العزيز العليم ) عرفنا من خلالها كيف كان لعزة الله وعلمه الوقع المؤثر لبيان قدرة الحق في فلق الصبح وجعل الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا، فترسخ في قلوبنا هذان الاسمان ( العزيز و العليم )، فكان لنا أن نتخلق بما دل عليه الاسمان الكريمان، فنكون عزيزين في ديننا، نقدم للناس الخير ونحضهم عليه، ونكون شديدي المراقبة للعليم الذي أحاط علمه بكل شيء، ثم جاءت بعد ذلك آية النجوم، ووجهتنا إلى هداية الله لنا ، كما نهتدي بالأفلاك والنجوم في ظلمات البر والبحر، فلا بد أن نستصحب الهداية الربانية في ظلمات الحياة .

 

وقد خاطب الله هؤلاء المعاندين خطاباً واضحاً جلياً لا لبس فيه، فقال لهم: أنتم لتحصيل مشاغلكم تحرصون على الهداية في ظلمات البر والبحر، فكيف بظلمات الشرك والكفر؟ ألستم تعلمون أنها أشد خطرًا عليكم؟! وأنها تحتاج إلى علم بها للبعد عنها والانصراف عنها إلى الهداية العظيمة بإسلامكم وترك عبادة ما دون الله من الأصنام .

--------------------------

1- المعجم الوسيط ، ص624

2- الواقعة، الآية 75،76

3- الكليات، ص66

4- نظم الدرر ، ج2 ، ص681

5- ملاك التأويل ،الجزء الأول ، ص336

6- في ظلال القرآن ، المجلد الثاني ، ص1159

---------------------------

19- الوقفة الرابعة: ( وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة .. )

قال تعالى: ( وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ) .

 

هذه المرة لا يتعلق الأمر بالأرض أو بالسماء أو ما يدور حولهما، إنما الأمر يتعلق بشيء من داخل هذا الإنسان، من نفس واحدة كانت، فمستقر ومستودع، فعجبا كيف تكون فاصلتها الفقه، ما هو مدلول الفقه؟ ولماذا كانت بالذات فاصلتها الفقه، وهلا ختمت فاصلتها بالعقل أو التذكر؟!

 

الفقه كما ورد في المفردات " هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد "1 ، فهو أخص من العلم، فلا بد أن يكون وراء المعنى الظاهر معنى خفي لا يستطيع أن يدركه إلا المتمعن المتبصر .

 

والفقه هو أرقى العمليات العقلية، فهو يمثل أرقى مراتب وصول العلم إلى النفس، ويشمل الشعور والإدراك والتذكر والفهم، فهو " العلم بغرض المخاطب من خطابه "2 .

 

فنحن إذن بصدد أمر الإنسان بالفقه؛ لأن هذا الشيء يخصه، فقد لاحظنا ورود فواصل العلم والعقل والتذكر مع أمور خارجة عن دائرة الإنسان، ولكن لما كان الأمر وثيق الصلة به؛ بل هو يسري في جسمه سريان الدم، ويشاهده أمام ناظريه بين حين وآخر، كان لابد من تعلق الفقه بالنفس لشدة تعلق هذا الأمر بالإنسان، فهذا الأمر لا يدرك بالعقل أو التذكر بقدر ما يدرك بالفقه ومعرفة ما وراء المعنى، فهو لا يرى الظاهر بقدر ما يرى النتائج، وبقدر ما يرى ما وراء النتائج يصل إلى الحقيقة الكبرى " إنها اللمسة المباشرة في هذه المرة، اللمسة في ذات النفس البشرية، النفس البشرية الواحدة الموحدة الكنه، والحقيقة في الذكر والأنثى، تبدأ الحياة فيها خطواتها الأولى للتكاثر بالخلية الملقحة، فنفس في مستودع لهذه الخلية في صلب الرجل، ونفس هي مستقر لها في رحم الأنثى، ثم تأخذ الحياة في النمو والانتشار، فإذا أجناس وألوان، وإذا لغات، وإذا شعوب وقبائل، وإذا النماذج التي لا تحصى، والأنماط التي لا تزال تتنوع ما دامت الحياة "3 .

 

إن كلمة ( أنشأكم ) تريد منا فقهًا، فهي لا تعني خلقكم فحسب، فالإنشاء " هو إيجاد الشيء وتربيته أو إحداثه بالتدرج، وقد استعمل في التنزيل في خلق الإنسان بجملته، وخلق أعضائه ومشاعره، وإيجاد الأقوام والقرون من أممه "4 .

 

وفي قوله تعالى ( من نفس واحدة )، نحن كلنا من نفس واحدة، ما أعظم أن نعلم أن بدايتنا واحدة، إن هذا من شأنه أن يجمعنا على المودة والمحبة، إذاً ففي قوله تعالى ( من نفس واحدة ) " أي آدم وهو تذكير لنعمة أخرى، فإن رجوع الكثرة إلى أصل واحد أقرب إلى التواد والتعاطف"5 .

 

وقد اختلف المفسرون في معرفة مدلول المستقر والمستودع، فهو أمر خفي يحتاج إلى مزيد تنقيب وبحث للوصول إلى المعنى المطلوب، وإن اختلفت الآراء في معنى المستقر والمستودع، فهذا يدل على سعة فقه هؤلاء المفسرين، فالمراد من المسلم التدبر في كتاب الله، فقد ميز الله هذه الأمة بالفقه في كتابه، وإدراك أمور الشريعة، والبحث عن مكنوناتها، فمن المفسرين من قال: إن المستقر " هو الأرحام، والمستودع الأصلاب، ومنهم من قال: إن المستقر هو صلب الأب، والمستودع هو رحم الأم، ومن قال: إن المستقر من خلق من النفس الأولى ودخل الدنيا واستقر فيها، والمستودع الذي لم يخلق بعد وسيخلق "6 .

 

هذا الاختلاف وإن كثر فليس سببه تعدد الصفات وتلازمها وتكرارها على الطبيعة الأولى، بل إنه يجب البحث عن المسبب الأول والمصدر الأعلى لهذا كله، ولن يتأتى ذلك إلا بالتدبر في هذا الأمر وفقه ما وراءه، فسنجد حينها أنها من فعل إله خبير مختار، يقول الرازي في ذلك: " إن الأشخاص الإنسانية متساوية في الجسمية، ومختلفة في الصفات التي باعتبارها حصل التفاوت في المستقر والمستودع، والاختلاف في تلك الصفات لا بد له من سبب ومؤثر، وليس السبب هو الجسمية ولوازمها، وإلا لامتنع حصول التفاوت في الصفات، فوجب أن يكون السبب هو الفاعل المختار "7 .

 

من هنا نعلم أن آيات الأنفس غايتها بيان إيجاد البشرية كلها من نفس واحدة مستقرها ومستودعها، وبالفعل إن تكرار ذلك يورث في النفس فقهًا في نهاية الأمر، فهاهي النفس تعود إلى أصلها مناجية إلهاً واحداً لا إله إلا هو، فالنفس وبدايتها وطبيعتها وتكاثرها من أعظم ما أبدع وذرأ وبرأ هذا الخالق العظيم؛ الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، وكل ذلك يتناسب أن يكون مع ذلك الفقه الموصل إلى إدراك دقائق الأمور وسبر أغوارها، والاطلاع على مكنوناتها .

 

" وذكر مع النجوم ( يعلمون )، ومع ذكر إنشاء بني آدم ( يفقهون )؛ لأن الإنشاء من نفس واحدة تقر بفهم بين أحوالهم المختلفة ألطف وأدق صيغة وتدبيرًا، فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقًا له وهو مبنى على الفقه أبلغ من العلم "8 .

----------------------

1- المفردات للراغب ، ص385

2- الكليات ، ص67

3- في ظلال القرآن، المجلد الثاني، ص1159

4- تفسير القرآن الحكيم ( تفسير المنار ) ، المجلد السابع ، ص638

5- روح المعاني ، (7ـ 8 ) ، ص236

6- التفسير الكبير ، المجلد السابع ، ص84 ـ 85

7- المرجع السابق ، ص85

8- روح المعاني ، ج ( 7 ـ 8 ) ، ص236

------------------------

20- الوقفة الخامسة: ( وهو الذي أنزل من السماء ماء .. )

قال تعالى: ( وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرًا نخرج منه حبًا متراكبًا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبهًا وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ) .

 

إن انتهاء فاصلة هذه الآية بقوله تعالى ( إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ) ليستوقفنا وقفة متأنية، فهي آية تختلف عن الآيات السابقة، حاولنا في الآيات السابقة أن نبحث عن بعض أسرار ورود تلك الفواصل بذلك التنظيم، ولكنا نقف مبهورين ونحن ندرس هذه الفاصلة .

 

إن أول ما يتبادر إلى أذهاننا معرفة معنى الإيمان، فنحن نعرف ونكرر معناه دائمًا، إنه التصديق والإذعان لله تعالى، وهذا ما يرد بالفعل في المعاجم، فأبو البقاء يقول في كتابه الكليات: إن الإيمان يعنى " الثقة وإظهار الخضوع وقبول الشريعة، وهو عرفًا : الاعتقاد الزائد على العلم "1 .

 

إذن فنحن الآن بصدد براهين وحجج وآيات تدعو إلى الإيمان، أو ما يؤدي إلى التدبر فيها، ومعرفة بعض دقائقها وهذا يدفعنا إلى الإذعان لذلك النداء الفطري الرباني في النفس البشرية، فهو اعتقاد جاء بعد العلم والفقه، فلم يكتفِ هنا بمعرفة الشيء وإدراكه وتدبر مكنوناته؛ بل هذه الآية تحدو بنا لعالم الإيمان؛ حيث تدخل في رياض الإسلام بكنف الإيمان، فهذه الآية تورث العبد الثقة بالله، فبعد أن اطمأنت الحواس وأدرك العقل معارج الوصول لطريق الله القويم، ليس له إلا الإذعان لأوامر الله تعالى والتسليم لها.

 

وأول ما يقابلنا قوله تعالى ( وهو الذي أنزل من السماء ماء ) فبعد تكرار الضمير (هو)، ثم الاسم الموصول (الذي) اللذين أتيا لتأكيد حقيقة أن مسبب تقرير إنزال الماء واحد وهو الله العليم بمصالح عباده، أنزل الله لنا الماء من السماء بقدرته تعالى .

 

وقد جاءت (السماء) مفردة كما قال السهيلي: " وإذا اعتمد الوصف الشامل لسماواته وهو معنى العلاء والعلو أفرد، وذلك حسب ما يتصل به من كلام، ويقتضيه في بعض الآيات دون بعض إعجاز الانتظام"2 ، فأحيانًا تذكر السماء مفردة وأحيانًا جمعًا، وهنا يقول الحق: إن هذا الماء الذي هو سبب حياتكم وبقائها، جاء من علو وارتفاع، وهذا ليس بفعلكم أو بصنع مظاهر الطبيعة، وإنما هو بقدرة عظيم خلق السماء وأنزل منها الماء، فأخرجنا بعظمتنا وقدرتنا من مختلف النباتات والأشجار، " والالتفات إلى التكلم إظهارًا لكمال العناية بشأن ما أنزل الماء لأجله، أو أنه سبحانه لما ذكر فيما مضى لينبهك على أنه الخالق اقتضى ذلك التوجه إليه حتى يخاطب، واختيار ضمير العظمة دون ضمير المتكلم وحده لإظهار كمال العناية، أي فأخرجنا بعظمتنا بذلك الماء مع وحدته "3 .

 

ثم ينتقل الحديث لصيغة المضارع، فبعد أن استحضرت عظمة الله في الأذهان، وبعد ذلك الخطاب بصيغة العظمة، هاهي الأذهان تستحضر صفة ذلك الحَبِّ المتراكب وطلع النخيل، ولا تزال الصورة مستحضرة، وتتكرر كل ما وقع ناظرا الإنسان على هذه القدرة والإبداع، وفي هذا التفصيل دعوة للعقول والقلوب أن تتدبر لتؤمن بإله عظيم .

 

ولا تكاد صورة النخل وطلعها الداني القريب الذي يشعر بعظيم فضل الله علينا، نقول: لا تكاد تلك الصورة تبعد عن ناظرينا حتى تبهجنا وتشدنا تلك الجنات من الأعناب والزيتون والرمان، فلا نكاد نستطيع أن نصرف أنظارنا عنها، فهي تأخذ اللب والقلب معًا، ويا للعظمة والقدرة ! ويا للإبداع وسر الملكوت ! يالله!

 

وهنا يريد الله أن يعمق ذلك الإيمان في نفس المؤمن، وأن يسرع الكافر ليعلن إيمانه، لذلك يفصِّل تعالى ماهية الجنات فيقول: ( وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبهًا وغير متشابه )، إنه جل جلاله لم يقل هنا: متشابها، وإنما قال: مشتبهًا، والتفسير القرآني لمشتبهاً يوضح أن تلك الجنات بعضها " في غاية الشبه بعضه لبعض حتى لا يكاد يتميز "4 .

 

وحتى لا ينصرف الذهن لذلك التشابه، فيحسب أن غير المشابه قليل وجوده، زاد ذلك تعالى توضيحاً وفصلَّه ( وغير متشابه )، فهل أدركتم هذه القدرة وهذا الإبداع في خلق الله تعالى؟

وبعد ذلك نرى القرآن الكريم بين الحين والآخر يسمو ويرتقي بالفكر الإنساني، يقول سبحانه: ( انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه )، ورغم أن الإنسان ينظر لتلك الآيات بين الحين والآخر، لكن المطلوب هو أعظم من ذلك، إنه التدبر الذي يتبعه الإيمان .

 

وبعد ذلك يظل النداء الأزلي، نداء قضية خلق الكون الكبرى، فهو ليس نداء للمؤمنين بأن يجددوا إيمانهم ويقينهم بالله، كلما نظروا لآيات الله المبثوثة في أنفسهم والآفاق فحسب، وإنما هو نداء أيضًا يستحث الكفار، ويطلب منهم إسراع الخطى نحو ذلك الطريق القويم، طريق الحق والهداية .

 

وبعد هذا الكم الهائل من تعداد النعم ( ومن النخل ... )، ( وجنات من أعناب والزيتون ... ) حيث جاءت بصيغة الجمع النبات الكثيرة رغم وحدة الأصل الأول أو المسبب الأول، ومعه جمال التنسيق والإبداع والخلق ( انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه)، ألا يدعو هذا كله إلى التصديق بخالقها ومبدعها؟ ثم اتباع منهجه، بعد تلك النعم السابقة ( فالق الحب والنوى )، ( وجعل الليل سكنًا )، ( والشمس والقمر حسبانًا )، فالنعم تتوالى على الإنسان فالمطلوب منه أن يعلم ويتعقل، أليس لهذا الإبداع العظيم من خالق؟ وهو وحده لا شريك له، فما بالكم تعبدون الأحجار التي هي دون هذا الخلق العظيم، أنى لها أن تبدع ذلك؟!

 

ثم افقهوا في أنفسكم وتفكروا فيها، كيف انتقلتم من مستقر إلى مستودع؟ وكيف أنتم الآن على وجه الأرض؟ وهذا الترقي في الأسلوب يحطم الأصنام، ويكسر تلك السلطة التي ولدتها في عقولهم، وبهذا يصل بهم في النهاية إلى الإيمان والتسليم.

 

انظروا كيف ربطت السماء بالأرض! ثم كيف فصل هذا الارتباط! ثم كيف وصل هذا الماء للأرض! فهما يشهدان بعظمة خالقهما ووحدته، ثم تفكروا كيف أتى مع النخل بقنوان دانية! فهي أكثر ما يلفت الانتباه، كيف يتدلى! وفي أي وقت تقطف ثمرتها ويتمتع به! كيف حدث هذا؟!

 

ومن ذلك انظر إلى الجنات ، فهي في غاية التشابه، وفي غاية الاختلاف، فانظر إلى النقيضين كيف يجتمعان وكيف يفترقان! وقل: آمنت بالله خالقًا واحدًا لهذا الكون، والله هو العليم كيف تنحرف هذه العقول، وهو يعلم أيضًا كيف تعود في النهاية .

 

وهذا السياق - مثلما قلنا سابقًا- جاء لإثبات الوحدانية، ونفي الشريك عن الله، وهي قضية سورة الأنعام بشكل عام، فناسب ذلك اختتام الآية وتذييلها بقوله ( إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون )؛ لأن التأمل وإمعان النظر في الآلاء المذكورة يقودنا إلى حقيقة الإيمان وجوهرها .

 

ونختم بما ختم به سيد قطب قوله في هذه الآية حيث قال: " الإيمان هو الذي يفتح القلب وينير البصيرة، وينبه أجهزة الاستقبال والاستجابة في الفطرة، ويصل الكائن الحي الإنساني بالوجود، ويدعو الوجدان إلى الإيمان بالله تعالى، وإلا فإن هناك قلوبًا مغلقة وبصائر مطمورة، تمر بهذا الإبداع كله، وبهذا الآيات كلها فلا تحس بها"5 ، وهكذا جاءت كل فاصلة مناسبة لسياق آيتها قارة في مكانها.

----------------------------

1- الكليات، ، ص212

2- منازل الألفاظ ، ص202

3- روح المعاني ، ،ج (7 ـ 8 ) ، ص237

4- نظم الدرر، ج2 ، ص 686

5- في ظلال القرآن ، المجلد الثاني ، ص1161

----------------------------

 

21- المبحث الثالث: من أسرار الإعجاز في فواصل آيات إثبات الألوهية

قال تعالى:

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ )لاسورة القصص (71-72)

 

الآيات التي نحن بصدد دراسة فواصلها, تستدل على انفراده تعالى بالألوهية ببديع مصنوعاته, ويدخل في ضمن هذا الاستدلال إدماج الامتنان على الناس, وتنبيه المشركين الذين يشركون معه آلهة أخرى مع تمتعهم بنعمه.

 

22- الدليل الأول: ( قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا .. )

قال تعالى (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون ) :

في البداية نلحظ أن الآية الأولى ختمت فاصلتها بـ( أفلا تسمعون)، والآية الثانية بفاصلة (أفلا تبصرون ), ما علاقة الليل بالسمع؟ والنهار بالإبصار؟ ولِمَ كان اختيار هذا الاستدلال ليدل على وحدانية الله؟

 

وتحليلنا للآية الأولى نبدأه بالنظر في معنى السماع الذي هو" كل ما يستلذه الإنسان من صوت طيب"1 ، وعلاقته بهذا الدليل ، حيث إننا نجد ثمة علاقة ورابطاً بينهما، فما هذه العلاقة وما هذا الرابط؟ إن هذه الآية جاءت للاستدلال على ألوهية الله بنعمة تتكرر أمام أعين هؤلاء المشركين, وتبدأ الآية بـ( قل) حتى تمهد لختمها بـ( أفلا تسمعون ), فلابد من تقريرهم على ألوهية الله, أي: قل لهؤلاء المعاندين هذه الآية، وأخبرهم عن هذا الدليل, ثم وجه الخطاب وعبر عنه بالجمع في قوله ( أرأيتم )؛ لأن الفاصلة لم تأتِ لشخص معين؛ بل لخطاب الجمع منهم, وفي هذا " دلاله على الإلزام وأعظم في الإفحام"2 .

 

ثم قوَّى فاصلة الآية وزادها رفعة وعلواً بقوله ( إن جعل الله... ) فجاء بالاسم الصريح الظاهر (الله) " فمتى أراد تعظيم الأمر, جاء بهذا الاسم ظاهرا؛لأنه أهيب أسمائه, واحفظها بالتعظيم"3 .

 

إذن فهذا الدليل بالإضافة إلى أثره في حياتهم, هو أيضاً مُعظّم؛ لأنه من خالقهم الذي لاشريك له, والأولى بهم أن يستمعوا إلى وقع هذا الدليل في قلوبهم .

 

والآن لندخل في خضم هذا الدليل, سنجده دليلاً عظيماً, وعظمته تتجلى في اعتداله ووسطيته, فمن تمام نعمة الليل وكونه سكناً أن له وقتاً وزماناً محدداً, وقد جاء الدليل لإظهار مدى عظمة هذه النعمة التي تستوجب عدم اتخاذ شريك مع الله, فجيء بحرف الشرط ( إن) وجعل " الشرط مفروضا فرضا مخالفا للواقع"4 .

 

ومخالفة الواقع تكون بديمومة هذا الليل, حتى إن لكلمة "سرمدا" وقعها الدلالي , فإنها تنبئ عن شدة وقع هذا الحدث, وأثره العظيم على جميع أحوال الناس, فالحياة لن تستمر بليل دائم, ولو قال: (الليل دائما) عوض عن (الليل سرمدا ) لما أعطت المعنى الدلالي المشحون بعدم الانقطاع, وتعطل حياة الناس بسبب هذا السرمد الدائم, وهذا أوقع في الآذان لأن تسمع وتنصت؛ بل إن الآذان والأنفس ترتقي إلى مرحلة أعلى وهي مرحلة التدبر, فالذي هو في الليل لابد أن ينتفع بسمعه أكثر من بصره, وذلك لتغطية الظلام على الأرض, ثم نلحظ مرة أخرى الترقي في هذا السمع, حتى يصل إلى التدبر, لا بل يصل بهم إلى إثبات وحدانية الله في نفوسهم, فنجد الغاية تسير بأسماعهم ليس لمدة محددة بل هي إلى يوم القيامة, إذن فالمراد بالغاية في قوله ( إلى يوم القيامة ) " إحاطة أزمنة الدنيا, وليس المراد انتهاء جعله سرمدا"5 .

 

وهنا نقف لنرى نزع الاعتراف منهم, والإنكار عليهم بشيء يتنازع مع هذا الاعتراف, فجاءت " مَن إلهٌ " جملة مكتملة تتكون من المبتدأ والخبر, ثم أتبع ذلك بقوله " غير الله ", فمن ذا الذي يأتيكم بالبشرى لو تحقق الشرط، ثم جاءت الصفة التي انتزعت منهم الاعتراف, وأسمعتهم غاية الاسماع في قوله تعالى ( يأتيكم بضياء )، وهذا كله يدور على" الإلزام والتبكيت"6 ، والخطاب لا يزال للجمع منهم ( يأتيكم )، وعُدِّيَ الفعل إلى ضمير المخاطبين " إيماءً إلى أن إيجاد الضياء وإيجاد الليل نعمة على الناس، وهذا إدماج للامتنان في أثناء الاستدلال على الانفراد بالإلهية "7 ، وياليتهم بعد ذلك يسمعون!

 

وهكذا كان اعترافهم يتطلب أن يكونوا من أهل السماع والتدبر, أما وقد استمروا على عبادة الأصنام بعد ظهور هذا الدليل, جُعِلوا كأنهم " لا يسمعون هذه الآيات التي أقامت الحجة الواضحة على فساد معتقدهم "8 .

 

وهكذا تبين لنا ارتباط فاصلة نفي سماع الكفار بهذا الدليل, فهم أصبحوا كإنسان لا يسمع في ذلك الليل السرمد، وعدم سماعهم للآيات يدل على أنهم عطلوا سمعهم؛ بل مداركهم كلها.

---------------------------

1- الكليات، ص 495

2- نظم الدرر، ج5، ص 524

3- منازل الألفاظ، ص219

4- التحرير والتنوير، المجلد العشر، ج20،21، ص 169

5- التحرير والتنوير، ج19، 20، ص 169

6- روح المعاني، ج19، 20، ص 106

7- التحرير والتنوير، المجلد العاشر، ج 20، 21، ص 170

8- المرجع السابق .

---------------------------

23- الدليل الثاني: ( قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا .. )

قال تعالى: ( قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ):

 

أما هذه الآية التي فاصلتها ( أفلا تبصرون )، فتنطوي على أسرار تتوافق مع فاصلة الآية, والإبصار هو " إدراك العين "1 ، ولكن ما علاقة هذه الفاصلة بالآية؟ لا بد من ارتباط فاصلة " أفلا تبصرون " بهذا الدليل؛ بل والاتحاد معه, وهذا ما سنراه من خلال تحليلنا لمعنى الآية الكريمة .

 

قد كرر الله جل جلاله الأمر بالقول، وذلك في مقام التقرير؛ لأن " التقرير يناسبه التكرير"2 ، ثم كان الاستدلال الذي احتوى في مضمونه المنة على العباد، وهذا الاستدلال عكس الاستدلال السابق, فجاء بفرض أن يكون النهار سرمدا أي دائما إلى يوم القيامة, وهكذا نرى المسايرة في الدليل والترقي في إثبات وحدانية الله, والمعنى: تبصَّروا في هذا النهار لو جعلناه سرمدا، ولم يقل: ( لو جعلناه دائما ) ليبين مدى ما سيكونون عليه من العنت والشدة وسوء الحال بهذا الوضع, وذلك لو صار الشرط بخلاف الواقع وتحقق الأمر المفروض, ثم يرتقي بهم بغية الإمعان في قوة الدليل لعلهم يتبصرون, فأبصروا بأم أعينكم لو صار النهار سرمدا بإحاطته بأزمنة الدنيا كلها، كل ذلك في قوله تعالى ( إلى يوم القيامة ) .

 

وهنا يأتي السؤال التقريري الذي جاء بعد السؤال الإنكاري السابق؛ الذي يسجل عليهم ما يجب أن يقال في فاصلة( فلا تبصرون ), فإذا اعترفوا عندها يزيد عليهم وقع التهويل وزيادة المنة عليهم في قوله (مَن إلهٌ غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه …)؛ بل إننا لو نظرنا لبلاغة العبارة, فسنرى مناسبتها لفاصلتها, إذ قال ( يأتيكم ) ليبين مدى المنة عليهم وأنها منه مستمرة, وأن هذه المنة تستلزم التبصر والتدبر فيها، ثم يتبعها الإقرار بوحدانيته .

 

ثم نكَّر الليل فقال: (بليل ) ليدلل على عموم هذا الليل وسكونه لاتحاد الأرض كلها، ثم وصف هذا الليل فقال: (تسكنون فيه)، وفيه أيضاً إدماج للمنة في أثناء الاستدلال على وحدانية الله, وجاء الفعل بصيغة المضارع ( تسكنون فيه ) لاستمرارية الأمن والسكن في الليل باستمرارية إثبات الليل للدنيا, ثم قال: ( فيه) ليشعر بمدى عظمة هذه المنة, وكأن الليل بيت تسكن فيه وتطمئن إليه.

 

أليس من المتوقع بعد ذلك التبصر والتأمل في هذا الأمر الواضح, وهو الإقرار بوحدانية الله, فالطريق أصبح واضحا, والنهار يختص بالإبصار, وبعد الإبصار لهذا الدليل وإدراكه الإدراك الواضح, لابد من اهتداء البصيرة لخالق هذا الدليل وموجده، إذ كيف تتفق الآلهة على فعل هذا الأمر الذي أورد الحديث عنه هنا لكثرة حدوثه أمام أبصار الناس وأسماعهم .

وبعد ذلك ( أفلا تبصرون ) فهم إذن يستحقون " تنزيلهم منزلة من لا يبصرون الأشياء الدالة على عظيم صنع الله وتفرده"3 .

 

وهكذا نرى كل فاصلة جاءت قارة في مكانها, مناسبة لآيتها, فالنهار يتناسب معه الإبصار, والليل يتناسب معه السمع لعدم وجود الضوء فيه, قال ابن هبيرة: قال ابن المبرد: " سلطان السمع في الليل، وسلطان البصر في النهار "4 ، فسبحان من هذا كلامه !!

------------------------

1- الكليات، ص 247

2- التحرير والتنوير، ج 20 ، 21 ، ص 170

3- التحرير والتنوير، ج 19، 20، ص 170

4- نظم الدرر، ج5، ص514، نقله البقاعي عن ابن المبرد .

***************

24- المبحث الرابع: من أسرار الإعجاز في فواصل آيات البعث

قال الله تعالى :

( قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ) المؤمنون /85- 89.

 

نلحظ أن الآيات التي نحن الآن بصدد دراسة فواصلها جاءت أدلة شاهدة على الذين ينكرون البعث ووحدانية الله، إذ جاء بعضها بفاصلة إنكار عدم التذكر، وجاء بعضها لتنكر عدم التقوى، وجاءت الأخرى لتتعجب من سحر عقولهم .

 

ولابد لنا قبل أن نتعرف على أسرار هذه الفواصل من دراسة سياقها، وتحليل هذا السياق، فنحن لن نصل نهاية الطريق إلا إذا مررنا بالطريق من أوله إلى آخره .

 

25- الدليل الأول: ( قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون )

قال تعالى: ( قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل أفلا تذكرون ) :

 

نلحظ أن هذا الدليل جاء على هيئة استفهام تقريري، قال تعالي: ( قل لمن الأرض ومن فيها ؟ ) يريد منهم الإقرار بأن الملكية ليست للأرض في حد ذاتها؛ بل هي وما فيها وعليها له تعالى، و( قل) من أساليب الأمر وتلقين الحجة، فهذه الحجة تدحض حجج الكفار، وفي البداية يقررهم أن ملكية الأرض ومن فيها لله، فجاءت (من ) لتشمل العاقل وغير العاقل، وهنا نلاحظ كيف ينزع الله الاعتراف من الكفار، ففي قوله (سيقولون لله ) يدل على أن علمهم لملكية الأرض ومن فيها لله شيء واضح، لدرجة أنهم يعترفون بذلك فـ " بديهية العقل تضطرهم إلي الاعتراف بأنه تعالى خالقها "1 .

 

وبعد هذا الاعتراف الذي سجله عليهم جاء هذا الاستفهام الإنكاري ( قل أفلا تذكرون ) منصباً على عدم التذكر، فهو تعالى بعد أن نزع منهم الاعتراف، أنكر عليهم شيئا يتنازع مع هذا الاعتراف، فكأن اعترافهم يتطلب أن يكونوا من أهل التذكر، فهم عندما يعترفون ولا يتذكرون فهذا هو الإنكار بعينه، فجاء بهذا التنبيه ( أفلا تتذكرون ) عما غفلوا عنه وهو بين أيديهم، يلمسونه ويشاهدونه، وبعد ذلك " أتعلمون وتقولون ذلك أفلا تذكرون؟ أي من فطر الأرض ومن فيها ابتداءً قادرٌ على إعادتها ثانية فإن البدء ليس بأهون من الإعادة بل الأمر بالعكس في قياس المعقول "2 .

 

وهكذا تناسبت فاصلة الدليل الأول ( أفلا تذكرون ) مع سياق الآية؛ بل إن سياق الآية هو الذي قاد إلي هذه الفاصلة، فسبحان من هذا كلامه !!

------------------------

1- تفسير أبي السعود، ج(5- 6 ) ، ص147

2- روح المعاني / ج ( 17- 18) ص 58 .

------------------------

26- الدليل الثاني: ( قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم )

قال تعالى: ( قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم، سيقولون لله قل أفلا تتقون ) :

 

ويتردد السؤال لِمَ ختم هذا الدليل بفاصلة إنكار عدم التقوى؟ لنبدأ أولاً تحليل السياق، فالسياق يبدأ بـ" قل" لهم يا محمد، وكن وسيطاً يبلغهم هذه الرسالة، فحمَّل الله رسوله هذه الرسالة دون أن يوجه لهم الخطاب مشافهة حتى يقيم الحجة عن طريق رسول الله لهم، وأنهم أيضاً ليسوا أهلاً لمن يخاطبهم الله مباشرة، فأهانهم الله فلم يتجه إليهم إلا بواسطة، وهذه هي بلاغة كلمة ( قل ) ثم جاء الترقي ليعلي من نبرته في خطابهم، ومع هذا الترقي نصل إلى السموات السبع ورب العرش العظيم، وترقى أيضا في الفاصلة ( أفلا تتقون )، فلا بد إذاً أن تكون الفاصلة مناسبة لهذا السياق، وقارة في مكانها .

 

وإذا أتينا إلى معنى التقوى فالتقوى تعني " جعل النفس في وقاية مما تخاف "1 ، فلا بد إذن من صون النفس حتى لا تقع في المكروه، حسب هذا المعنى، فهم عليهم بهذا الدليل، أن يحترسوا خاصة بعد أن اعترفوا بربوبية الله للسموات السبع وهو رب العرش العظيم، فهو تعالى هنا أثبت الملكية له جل جلاله، مع سبقها بنبرة الاستفهام التقريري؛ وأتي بالفظ الصريح ( رب )؛ بحيث لا يمكن أن ينازعه أحد في هذه الملكية، وهكذا نلحظ ثبوت هذه الوحدانية لله وتأكدها مع ترقيتنا لكل لفظ .

 

ثم إنه تعالى بعد أن أفرد الأرض، جمع السموات ووصفها، فقد ترقى من العظيم إلى ما هو أعظم، ثم ترقي إلى ربوبية العرش، ثم وصفه بالعظيم، فهو العظيم الذي ينبغي أن نتقيه ونخاف عقابه؛ لأنه رب السموات السبع ورب العرش العظيم ومليكها .

 

وفي وصف العرش بالعظيم " تنويه بشأن العرش ورفع لمحله من أن يكون تبعا للسموات وجودا وذكرا "2 .

 

ونلمح سراً آخر في الترقي إلى رب العرش العظيم، وهو أن هنالك الأمور الغيبية، فينبههم الله ويخوفهم في وسط إقرارهم وأثنائه بما غاب عنهم، وبما يعترفون به؛ ليبين لهم مدى عظمته ووحدانيته، غير أن المشركين لم يزعموا " إلهية أصنامهم في السموات والعوالم العلوية"3 ، وعلى هذا فالأمر واضح لا يحتاج إلى تذكر بقدر ما يحتاج إلى اتقاء الله، بعد نزع الاعتراف منهم وللمرة الثانية من دون أي شك منهم أو اعتراض .

 

وهنا نلحظ أيضاً الترقي حتى في نبرة التهديد، فحدته تزداد بعد كل دليل، وفي كل مرة يخاطب الله الرسول ليخبرهم، ولكن كلمة ( قل) هذه المرة جاءت أقوي وأشد حدة وتهديداً، رغم لمسة التودد إليهم علهم يخضعون لربهم؛ الذي هو العالم بمصالحهم ومآلهم، ثم جاءت الفاصلة لتناسب هذا السياق الذي يحث أول ما يحث على التقوى، فحلول السخط والعقاب يكاد يقع عليهم، فعليكم أن تجعلوا بينكم وبين حلول العقاب وقاية وستراً، عليكم بالاحتراس وشدة المراقبة، والخوف من ربكم العزيز الجبار، إذ دليل السموات والعرش العظيم دليل قوي عظيم، يوحي بالخوف من الجبار الخالق لهذه الآيات الباهرات والدلالات المعجزات .

----------------------------

1- المفردات ، ص545

2- التحرير والتنوير ، المجلد التاسع ، ص111.

3- روح المعاني ، ج17، 18، ص 58 .

----------------------------

27- الدليل الثالث: ( قل من بيده ملكوت كل شيء .. )

قال تعالى: ( قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل فأنى تسحرون ) :

 

هذه المرة يبدو أن فاصلة الآية جاءت لتثير التعجب، فهذه الأدلة رغم وضوحها لا تكفيهم دليلاً على وحدانية الله، فاستكبارهم يصرفهم عن الحقيقة كما لو أنهم سُحِروا، فهل يا ترى سُحِروا حتى انصرفوا عن الحق مع وضوحه؟ ففاصلة الآية تتساءل كيف وجد السحر إلى عقولهم سبيلا؟! والسحر هو " في أصل اللغة الانصراف "1 ، " يقال: سحر الشيء عن وجهه صرفه "2 ، فلا بد أن هناك أمراً غريباً يصرفهم عن الحقيقة الواضحة، وهي حقيقة وحدانية الله، ووضوح هذا الدليل الأخير تتجلى في :

 

1- تكرار قوله ( قل ) لاستقرار المحاجّة والأسلوب القائم على الأدلة من قبل الله، والعناد من قبلهم .

 

2- في قوله تعالى ( من بيده ملكوت كل شيء ). فالملكوت فيه مبالغة في الملك، واليد تدل على القدرة، فالقدرة والتصرف والملك لا يكون إلا عن قدرة قادر لا شريك له، وإن كان ثبوت والقدرة والتصرف والملك في نفس الوقت، فهذا يدل على قدرته على إعادتهم عند البعث، ثم أكد القدرة والملكوت بأنها تحتوي كل شيء، فأكدها بمؤكد معنوي ( كل )، ثم احتوى الجمادات والكائنات الحية بقوله (شيء ) . فسبحان من هذا كلامه!!

 

وما دام قد تأكد أمر القدرة والتصرف والملك، فمن ثَم سيكون قد تأكد أمر البعث أيضا؛ لأن البعث يحتاج إلى إله لديه القدرة على الإعادة، ثم المُتصرِّف في هذه الإعادة، يكون أولاً وآخراً مالكا لها .

 

3- في قوله تعالي ( وهو يجير ولا يجار عليه ) انظر يا أيها المتكبر إلى هذه الآية ترى عظمة هذا الناصر، فقد أتي بالضمير" هو " لتوكيد هذه الإجارة، ثم أتي بالفعل المضارع لتجدد الأمر واستمراره، وليفتح الباب أمام كل الناس للإسراع إلى هذا الناصر الذي نصرته وإجارته دائمة، ثم أكد بأنه يختص بهذه الإجارة، ولا تطلب من غيره، وأكد هذا التخصيص له بقوله ( ولا يجار عليه )، ثم بنى فعل الإجارة " للمجهول لقصد انتفاء الفعل عن كل فاعل فيفيد العموم مع الاختصار"3 .

 

مطلق هذا التصرف في ملكوت كل شيء، وهذه النصرة والإجارة قد يغفلون عنها، أو تخفى عنهم فيحتاج منهم إلى تدبر و تأمل، فأكد ذلك بقوله ( إن كنتم تعلمون )، أفبعد هذا الدليل الناصع يرتدّون ، ويستكبرون ؟!! .

 

ولكن العجب العجاب أن الإقرار والتوكيد يتواصل منهم؛ بل إننا نلحظ الترقي حتى في هذا الإقرار وزيادة حدة نبرته وهم كأنهم في حرب نفسية، حتى كأن كل جوارحهم تنطق وتشهد بقدرة هذا الناصر، ولكن يبدو أن هناك صارفا أقوى من السحر من أنفسهم الضعيفة تصرفهم عن قبول الحق رغم إقرارهم به .

 

وهكذا يتأكد لدى كل سامع لهذه الأدلة ما أصاب نفوسهم وعقولهم فصرفهم، وقد يكون هذا السحر بواسطة شياطين نفوسهم أو أرباب الكفر وأعوانهم، إذن نادت كل آية على فاصلتها، فسبحان من هذا كلامه !!

--------------------------

1- الكليات، ص 510.

2- المعجم الوسيط، ص 419

3- التحرير والتنوير، المجد التاسع، ص 112.

*****************

28- المبحث الخامس: من أسرار الإعجاز في فواصل من سورة النمل

قال الله تعالى :

( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ* أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ* أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) ( النمل ، 59-64 )

 

***************************

 

إذا تأملنا آيات هذا المبحث سنجدها أدلة جاءت تثبت وحدانية الله عن طريق مشاهد الكون، و قد افتتحت هذه الأدلة بقوله تعالى" قل الحمد لله و سلام على عباده الذين اصطفي ءالله خيرٌ أما يشركون " .

 

الملاحظ في قوله تعالى ( قل الحمد لله و سلام على عباده الذين اصطفي آلله خيرٌ أما يشركون ) أن النتيجة النهائية سبقت الأدلة على وحدانية الله و تمام قدرته، أي: " آلله الذي له الجلال و الإكرام خيرٌ، أي لعباده الذين اصطفى فأنجاهم أمَّا " يشركون " يا معاشر العرب من الأصنام و غيرها لعابديها ومحبيها، فإنهم لا يغنون عنكم شيئا، كما لم يغنوا عمن عندهم من هؤلاء الذين أهلكناهم شيئا، و لا يقرعون عند شدائدهم إلا إلى الله وحده "1 .

 

و جاءت " خيرٌ" هنا " لإلزام الخصم والتنبيه على ظهور خطئه المفرط، و جهله المورط إلى حد لا يحتاج إلى كشف لأعلى بابها "2 .

------------------

1- نظم الدرر، ج5، ص 437

2- المرجع السابق، ج5، ص 437

------------------

29- المطلب الأول: دراسة سياق فاصلة العدول عن الحق

لقد عودنا القرآن اتباع وحدانية الله دائما بأدلة دامغة عقلية، ونحاول الآن أن نكشف عن بعض أسرار فواصلها و يقابلنا في البداية قوله تعالى:

 

( قل الحمد لله و سلام على عباده الذين اصطفى ءالله خيرٌ أمَّا يشركون، أمن خلق السموات و الأرض و أنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أءله مع الله بل هم قوم يعدلون ):

 

يا ترى ما سر ارتباط هذا الدليل، و سياق هذه الآية مع فاصلة الآية نفسها ( بل هم قوم يعدلون ) ؟

 

إن معرفة سر خاتمة الآية تتطلب منا تحليل سياقها، فالآية تبدأ بالاستفهام ( أمَّن ) " و كان الأصل ( أم هو )، ولكنه عبر بالاسم الموصول، أصل وصفه لذي العلم، ووصله لا يصح أن يكون لغيره، لتكون كالدعوى المقرونة بالدليل، فقال: ( خلق السموات و الأرض ) "1 .

 

والأدلة المستعرضة في سياق الآية تثبت وحدانية الله في أفعاله " فنلاحظ الانتقال من الاستفهام التقريري، و من المقدمة الإجمالية وهي قوله تعالى ( ءالله خيرٌ أما يشركون ) إلى الغرض المقصود وهو الاستدلال، و هو استدلال مشوب بامتنان؛ لأنه ذكرهم بخلق السماوات و الأرض، فشمل ذلك كل الخلائق التي تحتويها الأرض من الناس و العجماوات، فهو امتنان بنعمة إيجادهم و إيجاده به شؤونهم في الحياة "2 .

 

و بدء الآية بالاستفهام التقريري، وأن يكون هذا الاستفهام مع خلق السموات والأرض أمراً يحثنا على التدبر، فالكفار يعتقدون أن الله هو خالق السموات والأرض، والواقع أنه" لم يكن أحد من المشركين يزعم أن هذا الكون قائم بنفسه مخلوق بذاته، فكان مجرد التذكير بوجود السموات و الأرض،والتوجيه إلى التفكير فيمن خلقها كفيلاً بإلزام الحجة، و ودحض الشرك و إفحام المشركين"3 .

 

وفي قوله تعالى ( و أنزل لكم ) التفات من ضمير الغائب إلى مباشرة الخطاب، وذلك " لتشديد التبكيت و الإلزام "4 على أولئك الكفار، فخطاب الله لهم مباشرة يثير في النفس رهبة، و ينبهها إلى ما غفلت عنه، و هذه النعمة ( لكم ) خاصة، جاءت لمنفعتكم فـ " زاد في تقريعهم و تبكيتهم و توبيخهم بقوله ( لكم ) أي لأجلكم خاصة، وأنتم تكفرون به، و تنسبون ما تفرد به من ذلك لغيره "5 .

 

ثم أكدت الآية اختصاص فعل الإنبات بالله وحده في قوله ( فأنبتنا )، و" أكد هذا الاختصاص بقوله تعالى بعدها ( ما كان لكم أن تنبتوا شجرها )، و معنى الكينونة الانتفاء، أراد أن تأتِّيَ ذلك محال من غيره6 ، وفي قوله تعالى ( ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ) تنبيه لهم، فهم لا يستطيعون أن ينبتوا شجرها، فكيف بالجواهر التي يعيدونها، و لهذا أبطل حجة عبادتهم للأصنام، فيبني لهم بحجة حسية ماثلة أمامهم، فكان من المتوقع أن يذعنوا لله الواحد القهار .

 

ولكنهم للأسف بعد كل دليل يراهم يحيدون عن الطريق و يعدلون عنه، فتارة بعدولهم " يسوُّون آلهتهم بالله في العبادة، و تارة يحيدون عن الحق الواضح البين بإشراك أحد مع الله في العبادة، وكلا الأمرين تصرف عجيب لا يليق بهم"7 ، فرغم الكم الهائل من الاستفهامات التقريرية الإنكارية التي كان آخرها ( أإلهٌ مع الله ) أي" هل معه معبود سواه أعانه على خلق أصول الكائنات، وأنزل ما ينبت به أرزاق المخلوقات، و ليس له شريك في ذلك؟! "8 .

 

و قد ناسب هذا الدليل الواقعي العدول عن الطريق دون التذكر أو العلم أو غيره، وذلك لأن هذا الدليل لا يناسبه فواصل الحث على التذكر أو العلم؛ لعدم الحاجة لهذه الفواصل مع دليل خلق السموات و الأرض، فطبيعة الدليل يحمل شحنات دلالية إعجازية تحث على التذكر و التقوى و العلم و التعقل، فهو جماع لكل المدارك العقلية، فإما قبول هذا الدليل و الخضوع له، و إما العدول عنه، فاختاروا العدول عنه، فبئس الاختيار كان.

----------------------

1- نظم الدرر، ج14 ، ص 158

2- التحرير والتنوير، ج 10 ، ص 10

3- في ظلال القرآن ، المجلد الخامس، ص2656

4- روح المعاني ج (19 ، 20 ) ، ص 4

5- نظم الدرر، ج 5، ص 437

6- الكشاف ج3، ص 155

7- في ظلال القرآن، المجلد الخامس، ص 2656

8- حاشية شيخ زاده على تفسير البيضاوي، ج 3، ص 498

--------------------------------

30- المطلب الثاني: دراسة سياق فاصلة العلم وتحليلها

قال تعالى: ( أمَّن جعل الأرض قراراً و جعل خلالها أنهاراً و جعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً أإلهٌ مع الله بل أكثرهم لا يعلمون ):

 

الدليل الثاني من أدلة وحدانية الله جاء يحث على طلب مزيد من العلم، فدائماً ما تدعم أدلة وحدانية الله بأدلة علمية، فالعلم يفتح العقل لهذا الكون الكبير .

 

والآية تبدأ مرة أخرى بالاستفهام التقريري، فتقرِّر لهم مِن جعل الأرض قراراً، والقرار مصدر قرَّ " إذا ثبت و سكن و اطمأن "1 ، يقول ابن عاشور في الآية: " والمعنى جعل الأرض ثابتة قارة غير مضطربة، و هذا تدبير عجيب، ولا يدرك تمام هذا الصنيع العجيب إلا عند العلم بأن هذه الأرض سابحة في الهواء، متحركة في كل لحظة، وهي مع ذلك قارة فيما يبدو لساكنها، فهذا تدبير عجيب، وفيه مع ذلك رحمة ونعمة، و لولا قرارها لكان الناس عليها مزلزلين مضطربين، و مع جعلها قراراً أجرى خلالها الأنهار"2 .

 

ويقول: " في تكوين الجبال حكمة لدفع الملابسة من الأرض لتكون بسيرها في الكرة الهوائية معدلاً غير شديد السرعة، و بذلك دوام سيرها، و جعل الحاجز بين البحرين من بديع الحكمة، و هو حاجز معنوي حاصل من دفع كلا الماءين، أحدهما يحجز الآخر عن الاختلاط به، بسبب تفاوت النقل النسبي لاختلاف الأجزاء المركب منها الماء الملح والماء العذب، فالحاجز حاجز من طبعهما، و ليس جسماً آخر فاصلاً بينهما "3 .

 

الملاحظ أن الشيخ ابن عاشور قد فسر هذه الآيات تفسيراً علميا، و ضَّح فيه مدى الإعجاز العلمي في دقة الصنع وعظيم الجعل، و لما كانت هذه الأشياء من قبيل التحسينات في المخلوق، كان إيثار كلمة " الجعل " دون " الخلق "؛ لأن خلق الشيء إيجاده من العدم، و الجعل هو ما ظهر على هذا الشيء من تحسينات .

 

ولما كانت هذه المسائل دقيقة، وهذه الأسرار خفية، وهي ترتبط بالعلم وبالاكتشافات العلمية، كان إيثار فاصلتها بالعلم ( بل أكثرهم لا يعلمون )4، وهي دقائق لا يـدركها إلا من لديه مزيد من علم .

 

يقول الغرناطي في ملاك التأويل:"إن تمهيد الأرض للسكنى وتفجير الأنهار خلالها، و حجز ما بين العذب والمالح من مياهها ليس مما ظهور الاعتبار به و بيانه في الجلاء و الوضوح، كخلق السموات والأرض، وأنزل الماء، فلما كان التذكر بما في الآية أخفي، أعقب هذا بقوله تعالى ( بل أكثرهم لا يعلمون ) .

 

وبعد كل دليل نرى قوله تعالى ( أإله مع الله ) يحمل في طياته التنبيه لهم، وتقريرهم بوحدانية الله في خلقه وأفعاله، وفي هذا تبكيت لهم .

 

ولقائل أن يقول: إن هذه الاكتشافات، وهذه الدقة في الجعل، هي وليدة قرن الاكتشافات العلمية، يجهلها من عاش في مجتمع الرعي و التجارة، أي مجتمع المشركين، لكن يجاب عن ذلك بأن الآية يحتمل أن يكون المراد بها إقرار عدم علمهم بهذه الدقائق، وخفايا هذه الأمور، فكأن الآية تقول لهم: إن أكثركم لا يعلم أسرار هذه المخلوقات، ولو علمتموها لما وسعكم إلا الإيمان بخالقها، و لكن ما يعلمون منها وما يشاهدونه فيها كافٍ لأن يؤمنوا، فانظروا إلى هذه المخلوقات بقدر علمكم، وبقدر معارفكم الصحيحة التي لا يشوبها كبر ولا جحود، و ستدركون الصانع الحكيم .

 

يقول ابن عاشور في ذلك :" وأوثر هنا نفي صفة العلم عن أكثر المشركين لقلة ما ينظر إلى دقائق هذه المصنوعات و خصائصها منهم، فإن اعتبار مشاهدتها من أول نشأة الناظر يذهله عما فيها من دلائل بديع الصنع، فأكثر المشركين يجهل ذلك، ولا يهتدي بما فيه، أما المؤمنون فقد نبههم القرآن إلى ذلك فهم يقرأون آياته المتكرر فيها الاستدلال والنظر "5 .

-------------------

1- المعجم الوسيط، مادة قر، ص724

2- التحرير والتنوير، ج10، ص13

3- التحرير والتنوير، ج10، ص13

4- ملاك التأويل، السفر الثاني ، ص 755

5- التحرير والتنوير، ج10، ص 14

-------------------

31- المطلب الثالث: دراسة سياق فاصلة قلة التذكر وتحليلها

قال تعالى: ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه و يكشف السوء و يجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما تذكرون ):

 

ثلاثة أدلة هي براهين تدل على وحدانية الله، هذه المرة خُتِمت بفاصلة قلة التذكر؛ بل ندرته، والتذكر يراد به " تذكر ما تم نسيانه"1 ، إذن فهي أدلة ماثلة أمام الجميع، ولكن ينساها الإنسان بسهولة، ويعود فيتذكرها أحيانا .

 

والآية تبدأ بالاستفهام التقريري ( أمَّن ) كالآيات السابقة، وهذا الاستفهام كفيل بتذكيرهم، كما أن ما بعده من الأدلة كفيل بتذكيرهم ما نسوه من وحدانية الله وعظمته التي تظهر في إجابة المضطر إذا دعاه، وكشف السوء، فهو عز وجل" يجيب الذي أحوجته شدة من الشدائد، وألجأته إلى اللجاء و الضراعة إلى الله تعالى"2 .

 

ثم جاءت صيغة المضارعة واضحة على الآية؛ لاستمرار مثولها أمامنا في كل حين، لحدوث هذه الأدلة باستمرار في كل زمان و مكان .

 

ثم إنه في قوله تعالى ( إذا دعاه )، دلالة على سرعة إجابة الله لهذا المضطر، و سمته الآية بالمضطر؛ لأنه أصبح لا مفر له إلا دعاء الله حتى ولو كان كافراً، فالكافر في لحظة الاستغاثة، وخاصة في لحظات طلب النجاة في البحر، نراه يلجأ إلى الله، وهو يقر بوحدانية الله سبحانه و تعالى، فمن عرَّفه بالله وهو كافر إلا الفطرة فهي التي أيقظت فيه الإحساس بوجود الخالق، وجعلته يوقن أن لهذا الكون إلهاً واحداً .

 

وفي قوله تعالى ( و يكشف السوء ) نجد استعمال كلمة ( الكشف ) دون غيرها لدقة مدلولها وكبير حثها على التذكر والتدبر، فالكشف لا يتأتى إلا بعد انقطاع السبيل والأمل، و السوء هو الأمر الصعب الشاق، وانكشاف السوء يأتي بعد تبدد طاقة الإنسان على التحمل، فلا يجد إلا ملجأ واحداً و هو الالتجاء إلى الواحد الأحد، و مرة أخرى يتذكر، لا يتذكر الآلهة كالأصنام أو الشمس أو القمر، حتى و لو كان كافراً، يتذكر الله فحسب .

 

والمسلم كذلك لا يتذكر المتاع الدنيوي، إنما يتذكر الإله الواحد الأحد، إذن ففاصلة الآية جاءت مناسبة قارة في مكانها، إذ إن أدلتها و سياقها من مبدئه إلى مختتمه يحث أول ما يحث على التذكر، فمهما نسي الإنسان مسلما كان أم كافرا هذه الأدلة فسيتذكرها مرة أخرى .

 

وفي قوله تعالى ( و يجعلكم خلفاء الأرض ) يقول الزمخشري: " و ذلك توارثهم سكناها، والتصرف فيها قرنا بعد قرن، أو أراد بالخلافة الملك والتسلط "3 ، أما الطبري فيقول: " ويستخلف بعد أمرائكم في الأرض منكم خلفاء أحياء يخلفونكم"4 .

ومهما تعددت المعاني فالأمر بالفعل مدعاة لتذكره، ففي غمرة شهوة السلطة والملك كثيراً ما ينسى الإنسان أن هنالك أناسا قبله عمروا الأرض أكثر مما عمرها، و لكنهم في النهاية يتذكرون حقيقة ذلك الأمر، وتذكر الأمر وهو أمر الجعل يذكر الإنسان أن هذا الجعل يتغير، فأمر الخلافة في الأرض يتبدل، فالبقاء في النهاية لا يكون إلا لإله واحد لا شريك له .

 

وتعلو نبرة الحث على التذكر عند قوله تعالى ( أإله مع الله )، ولابن القيم كلام يقول فيه: " يحتج عليهم بأن من فعل هذا وحده، فهو الإله لهم وحده ، فإن كان معه رب فعل هذا فينبغي أن يعبدوه، و إن لم يكن معه رب فعل هذا فكيف يجعلون معه إلهاً آخر؟! فلهذا كان الصحيح في تقدير الآية " أإله مع الله فعل هذا " حتى يتم الدليل، فكيف يعبدون آلهة أخرى سواه باطلة ؟! كما أن ربوبية ما سواه باطلة، بإقراركم و شهادتكم"5 .

 

وتختم الآية بأنه يظل هذا التذكر قليلاً كما صرحت الآية ( قليلاً ما تذكرون ) " أي تذكراً قليلاً أو زمانا قليلاً تتذكرون، و ما مزيدة لتأكيد معنى القلة التي أريد بها العدم، أو ما يجري مجراه في الحقارة وعدم الجدوى "6 .

 

وفي النهاية فهذه الأدلة لا تخفي على أي إنسان، فلو أنكر أموراً من حياته، فليس بإمكانه أن ينكر هذه الأدلة؛ لأنها من الوضوح بحيث يكفي التدبر فيها أن يشهد الإنسان بوحدانية الله وعظمته، يقول أبو السعود: " و في تذييل الكلام نفي التذكر عنهم إيذاناً بأن مضمونه مركوز في ذهن كل ذكي وغبي، وأنه من الوضوح بحيث لا يتوقف إلا على التوجه إليه و تذكره "7 .

---------------------

1- لسان العرب ، مادة ذكر، ص49

2- روح المعاني، ج( 19-20) ، ص6

3- الكشاف ، ج3 ، ص155

4- جامع البيان ،ج (19،20،21 )، ص8

5- بدائع التفسير، ص133

6- تفسير أبي السعود ، ج5-6، ص295

7- المرجع السابق، ج (5-6 ) ص295

---------------------

32- المطلب الرابع: دراسة سياق فاصلة تنزيه الله عن الشريك

قال تعالى: ( أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بُشراً بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون ):

 

هداية الله في ظلمات البر والبحر، وإرسال الرياح بشراً بين يدي رحمته نِعمٌ عظيمة قلَّ من يتدبر فيها، و فاصلة الآية ( تعالى الله عما يشركون ) جاءت قارة في مكانها، وتوحي بأسرار عظمته، وحتى نتذوقها لا بد من دراسة سياق الآية ( تعالى الله عما يشركون ) تعني: تنزه الله عن إشراكهم معه آلهة، إذن فلا بد أن يكون سياق الآية يحمل آيات وعلامات تؤكد على وحدانية الله؛ بل هي من أعظم الدلالات في السموات والأرض على وحدانيته و تنزهه أن يكون معه شريك .

 

وجاءت صيغة التساؤل الإنكاري ( يهديكم) بصيغة المضارعة، فهي صورة مستمرة ماثلة أمامنا باستمرار، فهداية الله في ظلمات البر والبحر كل منا عايشها، الصغير والكبير، الرجل و المرأة، ثم إنها ليست ظلمة واحدة بل ظلمات، ثم إن الظلمة توحي بجرسها الموحي بالرهبة والخوف، وتردد الأصوات المخيفة، فهي ليست ظلمات البر فقط،؛ بل هي ظلمات البر والبحر، وعرَّف البر والبحر لزيادة تذكيرهم بتلك الظلمات، فهم عهدوها وعايشوها بكل ما فيها من أهوال و متاعب، ففي تلك اللحظات المظلمة لا يمكن أن يكون الكافر والمسلم سواء في اعتقاده أن مع الله إلها آخر .

 

قال تعالى: ( قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفيه لئن أنجانا من هذه لنكون من الشاكرين، قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون)1 .

 

وإرسال الرياح بالمطر مبشرات برحمته تعالى يستوجب التفكر والتدبر في هذه النعمة، فجاءت صيغة المنة بالنعمة على صيغة المضارع؛ الذي يجعل صورة الرياح وهي تأتي بالبشرى ماثلة أمامنا، وفي قوله تعالى ( بُشراً ) تحمل مدى عظمة هذه البشارة، وأنها جاءت بعد يأس، فهي بشرى للأرض الجدباء، وبشرى لمن فوق تلك الأرض الجدباء، و زيد في عظمة تلك البشرى فوصفها أنها من عند الله تعالى؛ لأنها جاءت بقدرته وإرادته ورحمته بالعباد .

 

فعند تلك اللحظات لا يمكن أن يخطر ببال أحد أن مع الله إلها آخر، فهي ساعة رجوع النفس والفطرة إلى طبيعتها، ولكن ما بعد العدول والانصراف عن الحق ما بعده إلا الرسوخ في ظلمات الشرك، فإجابة الكفار ستكون بلا شك أن من يهدي في ظلمات البر والبحر، ومن يرسل الرياح المبشرات هو الله ولا أحد غيره، فيرد الله عليهم ( أإله مع الله ) فجو الاستفهامات الإنكارية التعجبية بلغت هنا حداً أقصى من الترقي، وقاربت على الوصول إلى نهاية طلب الإتيان بالبرهان الذي سيفصل المعركة النهائية !

يقول البقاعي: " و لما ذكر حالة الاضطرار، وأتبعها من صورها ما منه ظلمة البحر، وكانوا في البحر يخلصون له سبحانه ويتركون شركاءهم، نبههم على أن ذلك موجب لاعتقاد كون الإخلاص له واجبا دائما، فأتبعه قوله على سبيل الاستعظام، معرضاً عنهم بإجماع العشرة، إعراض من بلغ به الغضب فـ( تعالى الله )"2 .

 

وهنا نلحظ أن اسم الله قد أظهر، وهذا " للإشعار بعلة الحكم أي تعالى الله، و تنزه بذاته المنفردة بالألوهية المستتبعة لكل صفات الكمال المقتضية لكون كل المخلوقات مقهورة تحت قدرته، ( عما يشركون ) أي عن وجود ما يشركون به تعالى لا مطلقاً، فإن وجوده مما لا مرد له؛ بل عن وجوده بعنوان كونه إلهاً و شريكا له تعالى، أو عن إشراكهم "3 .

 

وخاتمة الآية جاءت مفحمة تروي قصة قلوبهم، و كيف ستقلب أفئدتهم في الجحيم، فأجابتهم عما يجول في صدورهم ( فتعالى الله عما يشركون )، و" ذيَّل هذا الدليل بتنزيه الله تعالى عن إشراكهم معه آلهة؛ لأن هذا خاتمة الاستدلال عليهم بما لا يتنازعون في أنه تصرف الله، فجيء بعده بالتنزيه عن الشرك كله "4 .

------------------------

1- الأنعام، الآية 23

2- نظم الدرر، ج5، ص443

3- تفسير أبي السعود ، ج (5 ، 6 ) ، ص 295-296

4- التحرير والتنوير ، ج10، ص17

------------------------

33- المطلب الخامس: تحليل سياق فاصلة طلب الإتيان ببرهان على دليل صدقهم في دعواهم .

 

قال تعالى: ( أمَّن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) :

 

وخاتمة هذه الأدلة جاءت قاطعة، فمثلما أقمنا عليكم البرهان فهاتوا برهان حجتكم، ولكن أنى لهم ذلك! و نلحظ أن هذا الترتيب في الأدلة جاء " ترقياً من الأعم إلى الأخص، و من أرض إلى سماء، ختمها بما يعمها وغيرها، إرشادا لما غاب منها على ما شوهد، فلزم من ذلك قطعاً القدرة على الإعادة، فساقها لذلك سياق المشاهد المُسلَّم، وعد من أنكره في عداد من لا يلتفت إليه "1 .

 

وهذا الدليل جاء ليقطع كل حججهم، وختم بقوله تعالى ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين )، فصدقهم في صدورهم عن الحق يقتضي منهم الإتيان بالأدلة والبراهين التي تثبت أنهم على الطريق المستقيم، فبراهين وحدانية الله ها هي شاخصة أمامكم، والآن ما هي براهين قدرة آلهتكم التي تعبدونها وتتخذوها شريكاً مع الله؟! فأتوا بها إن كنتم صادقين فيا تقولون، وتفعلون من تقديس أصنامكم " وهذه هي طريقة القرآن في الجدل عن العقيدة، يستخدم مشاهد الكون، وحقائق النفس، فيجعل الكون كله إطارا للمنطلق إلى تقرير الحقائق العميقة الثابتة في تعميم الكون وأغوار النفس "2 .

 

فمن يبدأ الخلق ثم يعيده هو إله واحد، ومن يرزق الخلق من السماء والأرض هو إله واحد، إذ لو كان هناك إلهان يعملان ذلك لتنازعا، ونلحظ سراً لطيفاً في هذه الآية، وهو الجمع بين البداية والنهاية والحالة الوسطى بينهما، يقول الإسكافي: " أي من البداية والنهاية وهو خلقكم ، ومن الانتهاء بعثكم لمجازاتكم، ومن محال المتوسطة بين هذين، وهو حفظ حياتكم بأقوالكم، و أرزاقكم من السماء و الأرض "3 .

 

وفي بداية الآية قال لهم - على سبيل مسايرتهم فيما يقولون، قال لهم- : أيّهما أقوى ابتداء الخلق أم إعادته على مثال سابق؟ وهذا إما يتناسب مع عقولهم، فكان الأهون عليهم طبعاً هو إعادة الخلق، إذن فالله وحده لا شريك له هو القادر مثلما خلق الخلق أن يعيده، فنحن نحاجكم بالخلق فأثبتوا أن هناك خالقاً؛ لأن صفات الكمال لا تكون إلا لإله، والخلق من الكمال، فأثبتوا بالبرهان العقلي أن هناك خالقاً، فإن أثبتم فقد سلمنا لكم، وبهذا فالعاقل يأتي بالدعوى والدليل الذي يثبت صدقه؛ لأن كل دعوى بلا دليل تعتبر مكابرة، وهذا من باب استدراجهم حتى يقروا في النهاية بوحدانية الله، و يكفي مجيء قوله تعالى أإله مع الله ) في كل مرة؛ لزيادة الخصوصية ونفي الشركة، فلا بد أن يقرر بمن تنسب له وتختص له، و بهذا يقيم الدليل على انفراده ووحدانيته .

 

وفي النهاية يستمر النداء لهم إلى يوم القيامة: هاتوا دليلكم" على نفي شيء من ذلك عن الله، أو إثبات شيء منه لغيره؛ لتثبت دعوى الشركة في الخلق فتسمع دعوى الشركة في الألوهية، وليكن إتيانكم بذلك ناجزاً من غير مهلة؛ لأن من يدعي العقل لا يقدر على شيء إلا ببرهان حاضر، و المراد بالإتيان به تهكمٌ بهم، و تنبيهٌ على أنهم أبعدوا في الضلال، حيث رضوا لأنفسهم بتدين لا يصير إليه عاقل إلا بعد تحقق القطع بصحته"4 .

 

وفي قوله تعالى ( أإله مع الله ) انتقال بهم من الاستفهام التقريري إلى الإنكار ، فصعد بهم درجة، فكأن الكافر يثبت بنفسه في النهاية أنه لا إله مع الله، وهذا من أسلوب القرآن التعجيزي .

 

وهكذا هو في كل أسلوب ودليل برهان يحطم الآلهة والأصنام، فيسلب منفعتها المتوهمة من أذهان المشركين، و يعريها من ذلك البريق الأخَّاذ، حتى يصل بهم في النهاية ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين )، فبعد تمجيد هذه الآلهة، ها هي تتهاوى تحت أرجلهم .

 

وهكذا، بعد أن بيننا فواصل هذه الآيات التي جاءت لترسيخ مبدأ الوحدانية، وتمكينه في النفوس لا تنسَ مدى علاقة هذه الآيات مع سورة النمل التي نادت في كثير من آياتها على الوحدانية، وذلك كمثل قوله تعالى في قصة ملكة سبأ مع سليمان عليه السلام، فعندما تم لها البرهان، وقامت عليها الحجة، أحست بالعجز، وأقرت بألوهية الواحد الأحد، ( قالت: ربي إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين )5 .

-------------------

1- نظم الدرر ، ج5، ص443

2- في ظلال القران ، المجلد الخامس ، ص 2660 ، 2661

3- درة التنزيل ، ص336

4- نظم الدرر، ج 5 ، ص443

5- سورة النمل، الآية 44

**************

 

34- خاتمة البحث : في نماذج من أسرار الفاصلة القرآنية

الحمد لله وكفى، والصلاة على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه .

وبعد:

 

فقد عشت مع هذا البحث أكثر من سنة ونصف، عشت معه وأنا أبحث وأتدبر وأتقصى، عشت معه لأرى الإعجاز في نسق فواصله، وكيف ناسبت السياق الذي وردت فيه أيما مناسبة، والبحث يطول في هذا الموضوع، فهناك آيات كثيرة تحتاج إلى بحث أسرار ورود فواصلها بذلك النحو، ومناسبتها للسياق الذي وردت فيه، مثل الآيات ( 11- 13) من سورة النحل، وغيرها من الآيات العظيمة؛ بل كل آيات الكتاب العزيز بحاجة إلى دراسات مستفيضة توقف العبد أمام روائع أسرار الكتاب العزيز، وكلي أمل وشوق لمتابعة هذا البحث في الأيام القادمة - إن شاء الله .

 

وأرجو أخيراً أن يكون هذا البحث قد أعطى ثماره المرجوة منه، كما أرجو من القارئ الكريم أن لا يبخل عليّ بملاحظاته الهادفة من أجل الوصول إلى غاية المأمول، بإذن سبحانه وتعالى، هذا وبالله التوفيق .

---------------------------

35- مراجع البحث العلمية موثقة بدور النشر وطبعاتها

1- القرآن الكريم، كتاب رب العالمين .

2- البحر المحيط في التفسير، أبو حيان الأندلسي، دار الفكر ،1412-1992م .

3- بدائع التفسير، ابن القيم ، دار ابن الجوزي، السعودية، الطبعة الأولى ،1993م .

4- بدائع الفوائد، ابن القيم الجوزية، دار الكتاب العربي، بيروت/ لبنان، 1982م .

5- البرهان في علوم القرآن، الزركشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، المكتبة العصرية ، صيدا / بيروت.

6- التحرير والتنوير، ابن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع/ تونس.

7- تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة ،بيروت، لبنان ، الطبعة الأولى 1407 - 1987م .

8- تفسير أبي السعود، أبو السعود ، دار إحياء التراث العربي، بيروت / لبنان .

9- التفسير الكبير ، الفخر الرازي ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت/ لبنان ، الطبعة الثانية ،1417هـ-1997م .

10- تفسير المنار، محمد عبده ، بيروت / لبنان ، ط- 2.

11- جامع البيان من تأويل آي القرآن المعروف ( تفسير الطبري ) ضبط وتعليق محمود شاكر ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان ، الطبعة الأولى 1421هـ -2001م .

12- جواهر التفسير أنوار من بيان التنزيل، سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، مكتبة الاستقامة ، سلطنة عمان ، 1409هـ/1988 .

13- حاشية محي الدين شيخ زادة القاضي البيضاوي ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت / لبنان .

14- درة التنزيل وغرة التأويل ، الإسكافي ، برواية أبي الفرج الأردستاني ، دار الآفاق الجديدة ، بيروت / لبنان ، الطبعة الرابعة ،1401 هـ-1981م .

15- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، دار إحياء التراث العربي، بيروت/ لبنان ، ط-4 ،1405هـ - 1985م.

16- ضياء من العقيدة الإسلامية ، د/ فرحات الجعبيري ، المطابع العالمية ، روي / سلطنة عمان ، ط-1 ، 1413هـ 1992م .

17- الفاصلة القرآنية ، عبد الفتاح لاشين ، دار المريخ ، الرياض / السعودية ، 1402هـ .

18- الفتاوى- سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي- الكتاب الأول - دار الأجيال- روي- ط 1- 1421هـ/ 2001

19- فقه دلالة الخشية والخوف في الذكر الحكيم ، أحمد طلحة ، مطبعة حكاية .

20- الكليات ، أبو البقاء ، مؤسسة الرسالة ، لبنان ، ط-2، 1409- 1998م .

21- لسان العرب ، ابن منظور ، دار إحياء التراث العربي، بيروت / لبنان ، ط-2، 1412- 1992م

22- معاني القرآن وإعرابه ، الزجاج ، تحقيق: عبد الجليل شلبي ، دار الحديث ، القاهرة، مصر .

23- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ، المكتبة الإسلامية ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت/ لبنان .

24- المعجم الوسيط ، إبراهيم مصطفى وآخرون ، المكتبة الإسلامية ، استانبول / تركيا ، ط-2.

25- المفردات في غريب القرآن ، الأصفهاني ، دار المعرفة ، بيروت / لبنان .

26- ملاك التأويل ، الغرناطي ، تحقيق محمود كمال، دار النهضة العربية بيروت / لبنان ،1405هـ-1985 م .

27- منازل الألفاظ في ( النظم القرآني عند السهيلي )، أحمد طلحة ، مطبعة حكاية ، ط-1، 1421هـ -2000م.

28- من أسرار اسم التفضيل في الذكر الحكيم ، أحمد طلحة ، دار الغدير ، المنصورة / مصر.

29- نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ، البقاعي ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1415 هـ / 1995 م .