طباعة
المجموعة: محاور ولقاءات
الزيارات: 3666

نتيجة بحث الصور عن كهلان

سلسلة إشراقات من التفسير الموضوعي (1): الشورى (ج1)

الدكتور الشيخ كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام للسلطنة

جامع السيدة ميزون (سلسلة محاضرات)

جريدة عمان: الجمعة, 06 مايو 2011

السلسلة محاولة لتصحيح مفاهيم خاطئة عند الكثير من الناس

مفهوم الصلة بالكتاب العزيز يتجلى في التدبر والفهم وحسن التلاوة والترتيل

متابعة - سيف الخروصي

اننا نحمد المولى جل وعلا ان يسر لنا هذا اللقاء في فاتحة هذه السلسلة المباركة بإذنه سبحانه وتعالى والتي هي (اشراقات من التفسير الموضوعي) وسوف نستهلها اليوم بموضع الشورى وانا قبل الدخول في هذا الموضع اريد ان ازجي الشكر لمركز السلطان قابوس للثقافة الاسلامية على ترتيب هذه السلسلة المباركة التي نتوخى منها الأجر والثواب والنفع والفائدة فنسأل الله سبحانه وتعالى الا يحرمنا هذه اللقاءات وان يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون احسنه ولأن الوقت قصير فانني سوف ادخل مباشرة في الموضع.

عنوان هذه السلسلة اشراقات او لمسات من التفسير الموضوعي فما التفسير الموضوعي، وهل سوف تكون دروسنا في هذا الجامع المبارك دروس تفسير خالصة هذا ما كنت اتمنى ان يحصل لكنني لست اهلا لأن اتناول تفسير كتاب الله عز وجل وانما اريد ان احاول تقريب بعض المعاني والموضوعات مما يهمنا في واقعنا المعاصر ومحاولة رد هذه الموضوعات إلى اصولها في كتاب الله عز وجل لكي نهتدي به ذلك ان ان التفسير الموضوعي يعني باختصار شديد افراد موضوع من موضوعات القرآن الكريم بالبحث والدراسة فتجمع الآيات المتفرقة التي تتناول موضوعا واحدا وتقصد بالتأمل والدراسة والبحث ليستخلص منها بعد ذلك المعاني والدلالات ثم تربط بواقع الناس في حياتهم هذا باختصار شديد معنى التفسير الموضوعي يعني يتناول موضوعا بالدراسة والتحليل في كتاب الله عز وجل وموضوعنا اليوم هو موضوع الشورى ولذلك سوف نتناول الآيات التي تتناول الشورى مباشرة او بصورة غير مباشرة ونحاول ان نستخلص منها ما عسى ان يكون له صلة بتصحيح مفاهيم او بتذكيرنا من غفلة او بتنبيهنا إلى بعض القضايا التي نحتاج اليها في فهمنا لديننا وفي سيرنا في هذه الحياة كما يرضي ربنا تبارك وتعالى ولماذا اخترنا اصلا ان نتناول اشراقات من التفسير الموضوعي لأننا نريد ان نصحح فكرة خاطئة عند كثير من الناس هذه الفكرة فكرة محورية لو ان المسلمين اليوم فهموها فهما صحيحا لتمكنوا من إيجاد الحلول للكثير من المشكلات التي يواجهها العالم اليوم انها مشكلة الصلة بينهم وبين كتاب ربهم سبحانه العلاقة بنيهم وبين القرآن الكريم فان كثيرا من الناس لا يزال في عالم المسليمن يظن ان صلته بكتاب الله عز وجل هي صلة التبرك والتلاوة والقراءة والتلاوة والترتيل والتجويد ولا يتجاوزها إلى الفهم والتدبر والعمل مع ان الله عز وجل كما وصف كتابه بانه كتاب مبارك فانه لم يجعل البركة مقصدا يسعى اليه بأنها صفة ملازمة لما نقرأ فهي حاصلة بتلاوتنا لكتاب الله عز وجل وانما جعل المقصد شيئا آخر وهو الذي نفهمه في كتاب الله تبارك وتعالى حينما نقرأ قوله سبحانه (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ).

نحن نريد هذا التدبر وذلك التذكر لأن البركة حاصلة اساسا لأنها كما قلت صفة ملازمة لكتاب الله عز وجل ولهذا لا بد لنا ان نصحح صلتنا بكتاب الله عز وجل ولا بد لهذه الصلة ان تكون صلة تدبر وفهم مع حسن التلاوة والترتيل فالله عز وجل يقول ايضا (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) اذن هذه هي جملة اسباب اختيارنا لهذا الموضع العام واما اختيارنا لموضوع الشورى فلأن جملة من الاسباب سوف تظهر تباعا في هذا اللقاء وهي في مجملها غير خافية الا ان بعضها مما يستدعيه الواقع والبعض الآخر هو لاتصال موضوع الشورى بموضوعات سوف نتناولها في هذه السلسلة لاحقا فحتى نفهم تلك الموضوعات كان لا بد لنا ان نبدا بموضوع الشورى فما معنى الشورى الشورى في معناها اللغوي قريبة جدا من معناها الاصطلاحي وهي بحمد الله تعالى معلومة قد لا تحتاج إلى تعريف الا ان تعريفها بردها إلى اصله اللغوي يعيننا على فهمها فهما صحيحا الشورى مادتها شار من شار العسل شار يشور شورا اذا استخرجه من خليته واجتناه فشار العسل أي جنى العسل واستخرجه من خليته ولذلك تقول العرب شرت العسل واشترته أي اجنيته واخذته من موضعه هذه الصلة الأخذ والجني للعسل من موضعه قريبة من المعنى الاصطلاحي الذي نعرفه نحن اليوم من الشورى وهو استخلاص الرأي وجني الرأي من طرف آخر هذه هي حقيقة الشورى بمعناها اللغوي مع ان من معناها اللغوي ايضا العرض عندما يقال شار الدابة أي عرضها قلبها حتى يحدد بعد ذلك ما اذا كان يريدها ام لا فيقال كذلك شرت الدابة اشورها اذا قلبتها اواذا قلبتها بقصد شرائها ويقال أيضا شار الدابة اذا عرضها أذن هذه المفردات التي ترد في مادة الشورى لغة هي ذاتها الموجودة في المعنى الاصطلاحي الاستخراج العرض التقليب الآراء للخروج برأي أفضل واحسن هذا باختصار معنى الشورى كل المعاني اللغوية داخلة في كلمة الشورى التقليب أي تقليب الآراء ووجهات النظر الأخذ من الموضع فالعقول موضع الآراء فالمستشير ياخذ آراء الآخرين من مواضعها فيقلب الآراء جميعا ويعرضها بحثا وتنقيبا بقصد الخروج لما هو أفضل واحسن من الآراء هذا تعريف الشورى لغة واصطلاحا وهذا المعنى هو الموجود للاستخدام القرآني للشورى ولهذا سوف نستعرض المواضع التي ذكرت فيها الشورى ثم بعد ذلك بعد استعراضنا لهذه المواضع سنحاول ان نستخلص المعاني والدلالات والعبر والعضات والدروس المستفادة من فهمنا وتدبرنا لهذه الآيات لنقف على حقائق تتصل بالشورى قد لا ينتبه لها كثير من الناس في واقعنا اليوم وهذه هي عناصر حديثي في للقائنا الطيب المبارك.

اذن بعد تعريف الشورى سوف نستعرض المواضع التي وردت فيها الشورى في كتاب الله عز وجل ثم سنحاول ان نبحث في شيء من النظرة الفاحصة هذه المواضع في كتاب الله عز وجل ما دلالاتها وكيف نفهمها لنستخلص بعد ذلك جملة من الحقائق بحسبما يسمح به الوقت وبذلك ان سورة في كتاب الله عز وجل تسمى باسم الشورى فسورة الشورى سميت كذلك لأن فيها ذكر الشورى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بينهم).

أذن عندنا في سورة الشورى سببان يتصلان بالشورى تسمية السورة وحينما تسمى سورة في كتاب الله عز وجل باسم ما فهذا يدل على أهمية معنى هذا الاسم وعلى منزلته وحينما نتذكر وهذا مما لا ينتبه له بعض طلبة العلم ان سورة الشورى سورة مكية ليست بالسورة المدنية وهذا يعني انها انزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة وهم لا يزالون هو وصحابته الكرام رضوان الله تعالى عليهم لا يزالون مجرد جماعة لم يؤسسوا مجتمعا بعد كانوا جماعة مضطهدة ومع ذلك توصف هذه الجماعة بالشورى وتسمى سورة تنزل عليهم بالشورى ولهذا من الدلالة ما لا يخفى لأن الصفات المذكورة في هذه السورة للمؤمنين هي الصفات الثابتة الراسخة اما المرحلة المكية حينما أمر المؤمنون بالصبر على الأذى والموادعة والمسالمة وعدم مقابلة الظلم في الرد عليه وانما امروا بالصبر والكف عن المقاتلة هي مرحلة مؤقتة والا فإن الأصل الصفات التي ذكرت في هذه السورة المباركة الموضع الأول هو كون هذه السورة مسماه باسم الشورى ودلالة ذلك مأخوذة من كونها باسمها أولا ثم من كونها سورة مكية اما الآيات التي ورد فيها ذكر الشورى فهي قوله تبارك وتعالى (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

يبدأ القرآن الكريم يذكر صفات هؤلاء الذين يؤثرون ما عند الله عز وجل على متاع الدنيا الزائل وهذه الصفات المذكورة تتذكر انها في العهد المكي يوصف بها المؤمنون في العهد المكي (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ).

***************

سلسلة إشراقات من التفسير الموضوعي (2): الشورى (ج2)

الدكتور الشيخ كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام للسلطنة

سورة الشورى تبين صفات ثابتة راسخة في المؤمنين تدعو إلى التأمل في معانيها

الصحابة فهموا التفرقة بين ما ينبغي أن يستشار فيه وما لا يصح

المسلمون خسروا فـي معركة أحد لكنهم انتصروا بمحافظتهم على مبادئهم

جريدة عمان: الجمعة, 13 مايو 2011

متابعة - سيف الخروصي -

اما الآيات التي ورد فيها ذكر الشورى فهي قوله تبارك وتعالى ((فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)).

يبدأ القرآن الكريم يذكر صفات هؤلاء الذين يؤثرون ما عند الله عز وجل على متاع الدنيا الزائل وهذه الصفات المذكورة تتذكر انها في العهد المكي يوصف بها المؤمنون في العهد المكي ((لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ َالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ)) سورة الشورى.

ان سورة الشورى سورة جديرة بأن نقف عندها وان نتامل معانيها لأن هذه الآيات التي تبين صفات ثابتة راسخة في المؤمنين جاءت عقب سياقات قرآنية هل يستغرب بعض الناس ان ترد في العقد المكي لأن المظنون ان السور التي نزلت في العهد المكي سور تتناول ترسيخ العقيدة اقامة الحجج والبراهين العقلية على المناوئين على الخصوم الذين يشركون بالله سبحانه وتعالى في حين اننا نجد في هذه الايات التي تلوتها قيما خلقية رفيعة ونجد ايضا اقامة الصلاة ايتاء الزكاة لأن الزكاة شرعت وفرضت في العهد المكي ونجد اقرار صفة الشورى موصوفا بها جماعة المؤمنين كما نجد ايضا قيما خلقية من نحو (واذا ما غضبوا هم يغفرون) ونجد ايضا قيما خلقية تتصل بالانتصار حينما يبغى عليهم وهذا في العهد المكي هذه كلها وردت وورد قبلها في سورة الشورى آيات لابد ايضا ان ننتبه لها لأهميتها وهذا ما قلت لأجله ان سورة الشورى تدعونا الى ان نتأمل في معانيها كثيرا ومن ذلك قوله تبارك وتعالى في هذه السورة: ((شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ)).

((شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)) وبالمناسبة شرع لكم من الدين سوف تكون موضوع حديثنا في الحلقة القادمة باذن الله عز وجل لأننا سوف نتناول الشريعة ولهذا قلت ان من اسباب اختياري لموضوع الشورى ان الموضوعات التالية تبنى في بعض اجزائها على فهمنا لموضوع الشورى ونحن نجد هنا لأننا نتحد عن الشورى في سورة الشورى في آيات لاحقة لأن الذي تقدمها قبل بضعة ايات شرع لكم من الدين ومما تقدمها ايضا ((فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)) امر بالدعوة الى هذا الدين وبالاستقامة عليه ونهي عن اتباع الهوى مع التأكيد على المبدأ الايماني الراسخ الذي هو الايمان بالله عز وجل والايمان بكتابه ثم بيان هذه الحقيقة الناصحة في مهد الدعوة في بداية الدعوة الى هذا الدين ((وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)) وكأن ما سيأتي من مبادئ للصفات الاساسية التي ويوصف به المؤمنون انما ينبني على هذه الصفات ايضا يبنى على الايمان بالله عز وجل وعلى اجتناب الهوى واتباع الحق ويبنى على الايمان بما انزل الله تعالى من كتاب ويبنى على العدل ((وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)) وهذا في العهد الملكي يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب ليخاطب به المؤمنين والمشركين على حد سواء ((إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ)) فناتي الى دلالات الآيات التي تلوتها من سورة الشورى لكن هناك موضوعا آخر نتعرف عليه ثم بعد ذلك نعود بالتحليل وهو سورة آل عمران ايضا ورد فيها الامر صريحا وسورة آل عمران هي سورة مدنية والعهد المدني هو العهد الذي انزل الله فيه على المؤمنين تفاصيل الأحكام الشرعية لبناء المجتمع واقامة الدولة الاسلامية فاذن لا غرابة ان تنزل مثل هذه التفاصيل ولذلك نزلت بصيغة الامر ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)) في العهد المدني ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)) ثم اقول بان سورة آل عمران سورة مدنية سوف نستغرب حينما نقارن الوصف الذي ورد في السورة المكية في سورة الشورى وبين السياق الذي وردت فيه الشورى في سورة آل عمران المدنية هناك يتوسط وصف المؤمنين لأن امرهم شورى بينهم يتوسط اقامة الصلاة وايتاء الزكاة ((وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)) وقليلة هي المواضع التي يفصل فيها بين اقامة الصلاة وايتاء الزكاة في القرآن الكريم فاذا ما فصل بينهما دل ذلك على ان هذا الفاصل بين اقامة الصلاة وايتاء الزكاة فاصل له عظيم المنزله في هذا الدين واذا ما اتينا الى سورة آل عمران فان سبب نزول هذه الآيات كانت كما تعرفون عقب غزوة احد التي استشار فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم اصحابه في امر الخروج لملاقاة المشركين او البقاء والتحصن في المدينة وتعرفون هذه الحادثة الشنيعة لكن لا ننتبه احيانا الى ان غرس مبدأ الشورى هو الذي اتاح للمسلمين في العام الأول من الهجرة ان يطبقوه تطبيقا حقيقيا بعدما انشأوا مجتمعهم بعد ما اقاموا مجتمعا متماسكا في المدينة المنورة وكانت في تلك السنة الاولى من الهجرة كانت غزوة بدر تعرفون ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما فاتته العير جمع اصحابه من المهاجرين والانصار وقال لهم (اشيروا علي ايها الناس ولذلك كان الأمر محل تشاور بينهم وقد تجاوبوا معه فقد تكلم المهاجرون وتكلم المهاجرون وهو يقول اشيروا علي ايها الناس حتى قال الأنصار كأنك تعنينا يا رسول الله.. الحادثة الشهيرة هذا مجتمع صيغ بفعل آيات كتاب الله عز وجل لأنهم فهموا وتدبروا في هذه الآيات مع ان الذي انزل عليهم قبل ذلك كانت سورة الشورى وهي قوله سبحانه وتعالى: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)).

ثم في الموضع الذي يقاتلون فيه في غزوة بدر ايضا فهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم التفرقة بين ما ينبغي ان يستشار فيه وما لا يصح ان يستشار فيه فلذلك حينما ارادوا ان ينزلوا على ماء بدر قالوا له قال له الحباب بن المنذر اهو منزل انزلك الله اياه أم هي الحرب والمكيدة فقال صلى الله عليه وسلم: بل هي الحرب والمكيدة كما في كتب السير فقال ليس هذا بالموضع واقترح عليه بعد ذلك ان يتقدموا الى ادنى ماء من العدو وان يغوروا ما وراءها فهذا التشاور فيما بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في اول موقف حقيقي يستدعي المشورة ما كان متكلفا ولا كان محتاجا فيه الى ان يعلموا كيف يبدوا آراءهم ولا ان يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ان عليه ان يستشير ولذلك لما جاءت غزوة احد اوثر الحفاظ على مبدأ الشورى فان الرسول صلى الله عليه وسلم كان يميل الى ان يتحصنوا في المدينة وكذا كان رأي كثير من كبار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار الا ان طائفة خاصة من الشباب ممن فاتهم الجهاد في سبيل الله في بدر كان رأيهم الخروج لملاقاة المشركين في احد ومع ما امر به صلى الله عليه وسلم من المحافظة على اماكنهم وما صدر منهم بعد ذلك من المخالفة وما ادى اليه ذلك مع غيره من الاصداف الى ان يرزأ المسلمون وان يصابوا بهزيمة فقدوا فيها ابطالا صناديد صحابة كراما من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشهدوا بسبب ما حصل الا ان الأمر الرباني يأتي فيقول ((فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)).

تأتي المحافظة حتى لا يفقد ذلك لما رأِوا كراهية الرسول صلى الله عليه وسلم للخروج وراجعوه بعد ان استقر الرأي رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يخلع درعه وعدة الحرب التي لبسها لأن فاذا عزمت فتوكل هكذا هي الشورى.

ومع انهم خسروا في المعركة الا انهم انتصروا بمحافظتهم على مبادئهم وكان الضرر البالغ كان يمكن ان يكون ان لو فرطوا في مبدأ الشورى ان لو تراجعوا عما ادى اليه تشاورهم حول الخروج من عدمه.

هذا في سورة آل عمران تجد في السورة وشاورهم هنا مع انهم اتصلوا بأمور الحرب والاستعدادات العسكرية ومواجهة العدو الا ان هذا لا يعني اقتصار امر المشاورة على هذه الجوانب فقط لآن مبدأ الشورى قد رسخ من خلال آيات الشورى ومن خلال ممارسة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وصفه اصحابه بانه ما رأوا اكثر مشورة لأصحابه منه عليه افضل الصلاة وازكى السلام.

******************

سلسلة إشراقات من التفسير الموضوعي (3): الشورى (ج3)

الدكتور الشيخ كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام للسلطنة

جريدة عمان: الجمعة, 20 مايو 2011

الشورى مبدأ أصيل وصفة ثابتة لجماعة المؤمنين

التأكيد عليها جاء في نماذج متعددة في العهد المدني

التطبيق في أحسن الصور وما يناسب معطيات العصر هو المهم ولا تحديد لشكل الممارسة

متابعة - سيف الخروصي -

يقول فضيلة الدكتور الشيخ كهلان الخروصي: نجد نوعا آخر في كتاب الله عز وجل مما يتصل بالشورى وهو الجانب الاجتماعي كما نسميه اليوم او الجانب الأسري وهو في سورة البقرة في قوله تعالى (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) في امر الرضاع والفطام ومع ذلك فان الله عز وجل يامر الأبوين انهما ان ارادا فطام رضيعهما فلا بد ان يكون ذلك مبنيا على تراض منهما وتشاور (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) اذن تعالوا بنا نستخلص الحقائق من هذا المواضع التي ورد فيها ذكر الشورى وهذه ايضا سورة البقرة سورة مدنية تناولت جانبا اجتماعيا اقرار وتأكيد على مبدأ الشورى داخل الاسرة.

ولننظر في الحقائق التي نستفيدها من هذه السياقات القرآنية المتصلة بالشورى.

اولا: هل الشورى من الفواضل وهل هي من النوافل التي يندب اليها المسلمون ام انها مبدأ اصيل راسخ ثابت يتصف به المؤمنون هذه الآيات دلالتها صريحة واضحة لا نحتاج الى كثير عناء لكي نتأمل ونتدبر بعد ذلك نتردد في كون هذه الشورى من الفواضل والنوافل التي يندب ان يمارسها المسلمون رعاة ورعية لا الشورى بهذا مبدأ اصيل ثابت راسخ وصفة ثابتة لجماعة المؤمنين قررت كذلك منذ العهد المكي (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) وكما ان الصلاة عمود الدين (وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم) فكان قوام حياتهم الشورى وهذا من لطائف معاني هذا الاقتران بين اقامة الصلاة وبين وصفهم بان امرهم شورى بينهم ثم اتباع ذلك (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).

فالصلاة عمود الدين وكان الاشارة اللطيفة هنا الى ان الشورى هي عماد قوام حياة المسلمين ثم اذا كانت الصلاة صلة بين العبد وربه وكانت الزكاة عبادة يتقرب بها هذا العبد الى ربه تبارك وتعالى مما فيه تلبية لحاجات الفقراء والمساكين وفيه تطهير لنفسه ولماله فان توسط الشورى بين العبادات التي تتجه صعودا الى الله تبارك وتعالى وتتمدد في الافق لتدفع المجتمع وتبنيه على عدالة اجتماعية وتكافل اجتماعي وتتحقق فيه معاني الأخوة الايمانية ويتحقق فيه معنى وحدة الصف والتعاطف والتواد والتراحم فان ذلك يعني ان الشورى حاضرة في حياة العباد وبها تتحقق كل هذه المعاني حتى المعاني الدينية منها.

ولأن مع هذا التاكيد والاقرار في سورة الشورى نجد التأكيد عليها بتفاصيل في نماذج متعددة في العهد المدني في سورة آل عمران في مواقف المواجهة مع العدو والحرب حتى مع وقوع الأخطاء فحتى لا يكون ما وقعوا فيه من الاخطاء مانعا من ان يلتزموا مبدأ المشاورة ياتي مرة اخرى مع كل ما حصل (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ).

لكن هل تقتصر الشورى هذه الحقيقة الثانية مما نستفيدها الآن بعد ان استعرضنا هذه الآيات هل تقتصر الشورى على ما يظنه كثير من الناس من الممارسة السياسية من ادارة شؤون الحياة من ادارة الشؤون السياسية فقط لا يمكن ان يقال ذلك والا كنا قد ضيقنا من مبدأ راسخ في ديننا به تسعد حياتنا وبه يمكن ان ترقى حياتنا وبه يمكن لنا ان ننفي الاستبداد عن واقعنا وما اصاب المسلمين ما اصابهم الا من جراء استبداد الافراد على شؤون عامة الناس فلا يقبلون لما قام عبد الملك بن مروان وقال من قال لي بعد اليوم اتق الله ضربت عنقه قتل مبدأ الشورى لأن المبدأ الأصيل كان هو الذي قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما فهمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال صلى الله عليه وسلم

(اشيروا علي أيها الناس) وهوالنبي المسدد بالوحي لأن الله تعالى قال (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) وكما قال عمر (لا خير فيكم ان لم تقولوها ولا خير فينا ان لم نقبلها منكم) وينبغي لنا ان نفهم ذلك لأنها حقيقة واضحة في كتاب الله عز وجل لا ينبغي لكم ان تظنوا انها محصورة على المجالات السياسية في ادارة الشؤون السياسية في مجتمع من المجتمعات او وطن من الاوطان لأن في ذلك تضييقا لحقيقة الشورى ولذلك نجد انها جاءت حتى في مسألة فطام الرضيع لا بد للزجين ان يتشاورا وان يكون ذلك عن تراض منهما فليس للأم ان تستبد وتقول محافظة على صحتي وعلى جمالي افطم هذا الرضيع وليس للأب ايضا ان يقول لزوجه للأم ان تمتنع عن الرضاع لا بد ان يكون ذلك عن تراض منهما وتشاور اذن مجالات الشورى لا تقتصر على جانب دون آخر في واقع حياة المسلمين ولهذا كان اقرارها منذ اول الامر (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ).

ولهذا فان الشورى اعمق واشمل ولا تظنوا انها تقتصر على ما نعرفه نحن اليوم من المجالس النيابية ومن البرلمانات ومن مجالس الشورى هذا نوع هذا تطبيق لكن لا تحصر الشورى فيه لا بد ان نعي هذه الحقيقة يعني لا بد ان تكون كما في التعابير المعاصرة ان تكون الشورى ثقافة في واقعنا.

ما المانع من ان يستشير الأب اولاده في امر من الأمور المتصلة بالأسرة فبماذا؟ في عملية التعلم والتعليم لا بد ان تكون هناك شورى بين الادارة والمدرسين وبين الطلاب والمعلمين ولا نقصد فقط في رياض الاطفال أو في المدارس الدنيا بل حتى في المراحل العليا لأنها يفترض ان تكون كذلك لأنها كما قلت تنفي الاستبداد وتعودنا على تحمل المسؤولية وعلى ادائها بامانة وعلى ان تغرس فينا مبدأ احتياجنا الى غيرنا وان وحدتنا لا تكون الا باستعراض وجهات نظر بعضنا البعض وبتقليب آرائنا للخروج الى ما هو احسن وافضل ولا ينبغي لنا ان نفهم ايضا ان الذي نحتاج اليه هوالشورى في المجالس النيابية وحوار في واقع حياتنا.

الحوار قد يكون لأجل الحوار فقط نحن نحتاح الى تشاور وهذا التشاور يحتاج الى ممارسة من ذا الذي يقول ان حتى مؤسسات القطاع الخاص ان الصلة بين رب العمل والعمال لا تحتاج الى شورى هذا خطأ وهذا الذي يؤدي الى الوقوع في الاخطاء وهذا الذي يمنع من النماء والتطور والنهضة التي يسعى اليها كل مجتمع في كل مؤسسة من المؤسسات . اذن الشورى عندنا غير محصورة في جانب من جوانب الحياة لها اهميتها في الممارسات السياسية عبر المجالس والبرلمانات وغيرها بكل انواعها لكن اهم من ذلك على ان تكون مبدأ اصيلا راسخا نقبله ونمارسه وان نعلم ان مساحاته ودوائره واسعة لا يمكن ان تغير ولذلك تجدون من يتحدث عن الادارة وعن القيادة يتحدثون عن اهمية الشورى بين رب العمل والعمال بين القائد ومن تحتهم وبين الراعي والرعية بين المدير ومن هم معه وهكذا في كل دوائرها وهذا لا يمكن ان تكتمل ممارسته وتطبيقه الا بالتعود عليه داخل الاسرة اولا بين الوالدين وان ننشأ عليه وان ننشىء عليه اجيالنا الحقيقة الثالثة بعض الناس يسأل كيف نطبق الشورى هذا سؤال وجيه كيف هو النمط الشرعي لممارسة الشورى وتطبيقها وباختصار شديد هذا يحتاج ان يجاب عليه عبر الشورى ما هو الاسلوب الامثل كيف نطبق الشورى لنتشاور في ذلك لأن الشرع لم ينزل علينا قوالب حديدية تصب فيها الشورى ونعطى ايها والا كان ذلك من الحرج علينا في ديننا و في امر دنيانا ما لا يخفى ولهذا نجد انواعا كثيرة من ممارسات الشورى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم احيانا كان يستشير عامة الناس( اشيروا علي ايها الناس) احيانا كان يستشير النفر والنفرين واحيانا كان يستشير صاحبه ابا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه فقط واحيانا كان يخفي امرا من الأمورالا على خاصته حتى في كتابة الرسائل لما انتدب زيد بن ثابت للتعلم وقد تعلم بالمناسبة زيد بن ثابت كثيرا من اللغات لكن لما كانت تاتي الى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسائل بعض الرسائل السريالية فانتدب لها زيد قال (لا اريد ان يطلع على الكتب التي تصلني جمع الناس) هو صلى الله عليه وسلم يقول ذلك يريد ان يستكتم امرا ما يصله في هذه الكتب في هذه الرسائل ان يستكتم من يستامنه من هو امين قائم على ذلك اذن هذه كلها انواع وانماط ونماذج من ممارسة الشورى ليس فيها شكل محدد واحد وفي هذا رحمة للناس وهذا يتناسب مع طبيعة الدين وهكذا شان المبادىء المبادىء التي قررت في هذا الدين من نماذج الشورى والعدالة والمساواة جعلت وعدت مبادىء اصيلة راسخة لكن لم يضيق علينا في كيفية تطبيقها المهم ان تطبق في احسن صورها مما يناسب المجتمع وما وصل اليه ومما يناسب معطيات العصر وما بلغه من رقي وازدهار والوسائل التي افرزها هذا العصر وما يتناسب مع علم الناس وثقافتهم ومعارفهم اذن ظروف الزمان والمكان والانسان كلها داخلة في تحديد كيفية ممارسة الشورى ويكون الجواب عن الوسيلة الفضلى بممارسة الشورى عبر الشورى نفسها.

ويمكن ان استشهد بالكثير من المواقف حتى من ممارسة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فابو بكر الصديق رضي الله عنه لما اراد ان يستخلف منعا للفتنة والشقاق فانه استشار في حياته كبار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ان يعهد بالخلافة الى عمر بن الخطاب فلما استقر رأيهم على ذلك عهد اليه بالخلافة كما ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه فانه عهد بأمر اختيار الخليفة الى ستة من كبار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذن هذه كلها نماذج .

اما بعض القضايا فهي بنص القرآن لا تحتمل الا ان تكون في دائرة ضيقة وسآتي اليها بمشيئة الله تعالى

الحقيقة الرابعة: ان دائرة الشورى لا تقتصر عند حدود أولي الأمر او تقف عند فئة اهل الحل والعقد فقط هذا ايضا من المفاهيم التي ينبغي لنا ان نقف عندها لأنها مما يشير اليها القرآن الكريم ومما نجده في واقع تطبيقات رسول الله صلى الله عليه وسلم لمبدأ الشورى يعني من نستشير وهل تكون الشورى لعامة الناس في كل امر من الأمور ام انه ينبغي لنا ان نلجأ الى اولي الامر واولو الأمر سواء كانوا الأمراء او العلماء والعلماء لا يقصد بهم الفقهاء وانما كل المختصين في سائر المجالات التي يحتاج اليها امر من الأمور هل يقف عند حدود هؤلاء فقط وبالتالي نعتبر ان هؤلاء هم الحل والعقد أم ان دائرة ذلك تتسع هنا تجد الفقهاء والمفسرين منهم من يضيق ومنهم من يوسع والحقيقة ان ذلك كله من الشورى وان ذلك كله من الممارسات الصحيحة للشورى أريد لهذه الامور ان تكون الشورى فيها مبدءا راسخا ممارسا مطبقا تطبيقا عمليا صحيحا فان تم لها ذلك فلا غظاظة في الدائرة التي تكون فيها الشورى ما دام المقصود المحافظة على الشورى ولا يراد للشورى ان تكون وسيلة اخرى من الوسائل التي يحتاج فيها الى الوصول الى الاستبداد والتفرد بالرأي لانه قد يحصل ذلك واليكون القصد هو التطبيق الحقيقي للشورى وان تمارس فعلا في الواقع والا فاننا نجد بعض الأمور لا يمكن ان تكون مما يستشار به عامة الناس كامر السلم والحرب لأن اذاعة بعض الأسرار يمكن ان يحصل حينما يعرض الامر على عامة الناس ولذلك نجد ان الله تبارك وتعالى يشير الى هذا المعنى في قوله (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ) اما ان يكون المقصود المنافقين او ضعاف الايمان في صفوف المسلمين (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ).

وكثيرا ما تجدون في مجتمعاتنا من يحاول ان يتسلق بما اطلع عليه من اسرار سواء كانت اسرار مشاريع اقتصادية او مشاريع تنموية او فرص ادارية او حالات سلم وحرب او حالات امن وخوف لكي يجني ثروات طائلة ولكي يهيء بان يستمد ويغتنم الفرص المواتية ولذلك كانت مثل هذه الحالات كان الأصل فيها ان تكون الشورى في اطار اهل العلم وان يكون القرار فيها الى الذين يستنبطونه منهم (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)

**************

سلسلة إشراقات من التفسير الموضوعي (4): الشورى (ج4)

الدكتور الشيخ كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام للسلطنة

جريدة عمان: الجمعة, 27 مايو 2011

الأولى في المشاورة أن تكون بين أولي الأمر كما بينها القرآن الكريم

الخروصي: للارتقاء بمستوى الأفراد وتعليمهم وتثقيفهم لا بد من دور حقيقي للمجتمع بسائر مؤسساته وعموم أفراده

ومن المواضع التي تجدونها في كتاب الله عز وجل مما تكون الاشارة فيه إلى أن الأولى في المشاورة ان تكون بين اولي الأمر قوله تبارك وتعالى في سورة النساء ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)). كذلك حينما يشتد الخلاف فإن الله تعالى أرشدنا إلى المنهج الذي نسلكه ((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)).

أما استنباط الأحكام الشرعية وهنا نخرج من قضية التشريع إلى موضوع الفتيا اللازمة لاستنباط أحكام شرعية تتصل بحكم واقعة معينة؛ فإن هذه يختص بها أهل العلم المختصين لقول الله عز وجل ((فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) ويكون تحديد أهل الذكر عندها بحسب نوع القضية أو الواقعة، فإذا كانت القضية عسكرية فهل يستشار فيها فقيه اقتصاد؟! او إذا كانت المسألة مسألة ترتيب إداري فهل سيستشار فيها مفسر او سيستشار فيها خبير اقتصادي؟ لا ريب أن الجواب هو النفي، وأن الواجب أن يرجع إلى أهل التخصص: كل بحسب تخصصه وعلمه وما آتاه الله عز وجل من الذكر((فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ )).

لكن بعض القضايا هي مما يهم عموم الناس، فهي من المصالح العامة التي ينبغي ان يستفاد فيها من رأي الناس عموما، وحينئذ لا يصح لنا أن نضيق دائرة الشورى ونقول أن الذي يتحكم في أمر عموم الناس هم فئة منهم فقط دون عمومهم، قد يعترض على هذا بأن عموم الناس يمكن أن يكون فيهم الأمي والجاهل وذو المآرب والغايات الشخصية، لكننا نقول بأنه لا بد من دور حقيقي للمجتمع بسائر مؤسساته وعموم أفراده للارتقاء بمستوى الأفراد وتعليمهم وتثقيفهم، فلا يصح لنا أن نظل في أمية وجهل وأن تنتشر فينا ثقافة الاستهلاك والتسلية والترفيه، وأن نكون بعيدين أيضا عما فيه المصلحة بحسب موازين الشرع، لأن أهم ما يعين على الشورى أن يسود العلم والتقوى والصلاح في واقع حياة الناس، وأن يقوم كل بدوره في سبيل وصول المجتمع إلى هذه المرحلة التي تمكنه من ممارسة الشورى ممارسة صحيحة..

 وهنا سيأتي استنباط خامس: ما هي القضايا التي يستشار فيها؟ ما مجالات الشورى؟ إذا كنا قد تحدثنا عن الذين يستشارون ومن الذين يشاركون فيها، فما هي طبيعة القضايا القابلة للتشاور فيها؟ هذه قضية طويلة لكننا سنحاول تبسيطها قدر المستطاع، فالقضايا التي يكون الحكم فيها بينا في كتاب الله عز وجل فإنه لا يستشار في حكمها، ومثال ذلك أنه لا يمكن أن ندعو الناس للتصويت في حكم الخمر أو الربا، ولا يمكن لنا أيضا في المقابل أن نأتي ونقول هل نكره الناس على اعتناق الدين أولا ونقول تعالوا نصوت إذا كان يوجد في مجتمع من مجتمعات المسلمين أهل ذمة نأتي في برلمان أو في مجلس شورى ونقول: تعالوا بنا نصوت هل نسمح لهؤلاء بممارسة شعائر دينهم أم نكرههم على الدخول في الاسلام؟ الخلاصة إذن أنه لا يمكن ان نضع أمرا شرعيا واضح الحكم محلا للتشاور، أي أن ما كان الحكم الشرعي فيه بينا فلا مجال للتصويت حوله أو أن يكون موضع شورى.

 أما ما كان من الأحكام الشرعية محتاج إلى استنباط وإلى فتوى فهذا أيضا ليس موضع تصويت وتشاور، مثلا: لا يمكن أن نأتي ونقول لا حكم صريح في كتاب الله عز وجل للتدخين فإذن تكون وسيلتنا لتبين الحكم الشرعي هي الشورى! لا يصح ذلك شرعا ونأثم إن فعلنا وإنما مرد ذلك إلى أهل العلم المجتهدين لاستنباط الحكم الشرعي ولهم هم أن يجتهدوا اجتهادا جماعيا يقلبون فيه الآراء ويتبينون جوانبه المختلفة من المختصين ليخرجوا برأي مجمع عليه.

صياغة الحقوق:

أما المباحات وأمور الدنيا فهذه يمكن ان تكون مجالات للشورى، حتى فيما يتصل بتطبيق الأحكام الشرعية وتنزيلها في أرض الواقع، يعني اذا كنا نتحدث عن وجوب إعطاء الأجير أجره، ونريد أن نصوغ قانونا - تشريعا - لحقوق العمال فلا مانع من ذلك شريطة أن نعتمد المبادئ الشرعية المتصلة بحقوق العمال الموجودة صراحة أو إشارة في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذن أن تصاغ الحقوق صياغة تضمن للعمّال ولأرباب العمل حقوقهم وفقا لكتاب الله عز وجل هذا من مجالات الشورى، ويقاس على هذا المثال ما أشبهه من تقييد مباحات أو تقنين أحكام شرعية أو ترتيبات إدارية بحيث لا تخرج عن الإطار الإسلامي في مرجعيتها وأصولها، وما كان من ترتيب أمور الدنيا كالإدارة والسياسة وأنظمة الحكم أوفي مجالات التنمية وتنظيم الأسرة والتعلم والتعليم وغير ذلك فهذا من المجالات التي ينبغي ان تبنى على الشورى وعلى تعدد الآراء وعلى الاستفادة من كل وجهات النظر.

أخلاق:

النقطة الأخيرة التي أختم بها فهي الأخلاق التي ينبغي ان يتصف بها المجتمع حتى تؤتي الشورى ثمارها، ذلك أننا إن مارسنا الشورى هل ستضمن لنا هذه الممارسة بالضرورة الازدهار والرقي ونبذ الاستبداد والاستفادة من الآراء وما نصبو اليه من حضارة ونهضة وعمران؟ أم اننا نحن المؤمنين بحاجة الى جملة من الصفات حتى تحدث الشورى أثرها في واقعنا؟

حينما نتأمل آيات كتاب الله عز وجل التي استعرضناها في بداية الحديث سوف نجد أن هناك جملة من الصفات التي لا بد أن يتصف بها مجتمع المسلمين، حتى يتحقق أثر الشورى في واقع مجتمعاتهم وأوطانهم وهذه الصفات التي نجدها في الآيات السابقة هي:

اولا: الايمان بدليل قول لله تعالى ((وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا)) في صدر الآيات المتصلة بسورة الشورى.

 ثانيا: التوكل (( لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ )) مع الأخذ بالاسباب: فلا بد من التوكل على الله عز وجل، لأننا غير مسؤولين عن النتائج فهي بيد الله تبارك وتعالى، لكننا مسؤولون عن الأخذ بالأسباب وعن الاستعداد والأخذ بأسباب النصر وإعداد العدة و التعلم والتشاور وعن التخلق بأخلاق الاسلام ثم بعد ذلك فإن ما نبتغيه من آمال إنما مرده إلى الله سبحانه وتعالى وتوفيقه لعباده، وهذا نجده أيضا في آية آل عمران ((ِ وشاورهم في الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ )).

 ثالثا: لا بد أن تكون الصلة القائمة بين الراعي والرعية صلة مبنية على الرفق واللين لا على الغلظة والفظاظة لأن الله تعالى قال ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)).

وحينما أقول الراعي والرعية فإني لا أعني بذلك الحكام والمحكومين فقط، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مفهوم الرعاية (ألا كلم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالامام راع وهو مسؤول عن رعيته والرجل راع في بيته وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية عن بيتها وهي مسؤولة عن رعيتها والخادم راع وهو مسؤول عن مال سيده ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) فالصلة بين المدير ومن هم تحته، وبين المسؤول ومن هم تحت مسؤوليته والضابط ومن هو أقل رتبة، بين الزوجين وبين الآباء وأولادهم ... لا بد أن تقوم على هذه الصلة حتى تنتج الشورى ثمارها، أما إذا كانت مبنية على الغلظة وعلى الفظاظة فسوف ينفض الناس عنه ويبتعدون ولن تؤتي الشورى ثمارها، لأنهم عندما يبدون رأيا سوف يبدونه فرقا أو مجاملة، لأنهم يعلمون أن المستشير لا يقبل رأيا آخر فلا يمكن ان يبروه فيما يبدونه له من آراء، أما إذا استنصحهم وعلموا عنه سعة صدر ورفقا ولينا فلا شك انهم سوف ينصحون ويبدون سريرة قلوبهم وخلاصة رأيهم، وهذا مأخوذ من قوله تعالى ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)).

 رابعا: تطهير المجتمع من الفواحش والآثام لأن الله عز وجل قال في الصفات الثابتة الراسخة لهؤلاء ((وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ)). فلا بد أن يسعى المجتمع إلى الطهارة والنقاء، وإلى أن يتخلص من الفواحش وأن يجتنب الكبائر، وأن يكون توجه المجتمع نحو هذه الطهارة والنقاء وصوب الاستقامة والصلاح، أما أن يقروا السوء في أنفسهم وأن يتركوا التناهي عن المنكروالتآمر بالمعروف، فإن ذلك لن يعينهم على جني ثمار الشورى لأنهم يقرون المنكر و يؤثرون متاع الحياة الدنيا الزائلة ويتبعون الهوى واتباع شهواتهم ولذلك لن تؤتي الشورى ثمارها.

خامسا: سعة الصدر والحلم لأن الله تعالى يقول ((وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)) أي فيما بينهم، كما انهم يجتنبون الكبائر والفواحش فإنهم إذا ما غضبوا لا يدفعهم غضبهم إلى ارتكاب الفواحش من القتل والشتم وانتهاك الأعراض والغيبة والنميمة وغير ذلك، يجتنبون ذلك لأنهم يملكون زمام أنفسهم عند الغضب، فلا يقولون هجرا ولا يستجيبون لشهوة الغضب، وإنما يقفون عند حدود الله تبارك وتعالى وهذا مما ينبغي أن تحرص عليه مجتمعات المسلمين فهم في تعاملهم مع إخوانهم المؤمنين لا يندفعون وراء شهوات الغضب المفضي إلى ارتكاب الكبائر أو إلى أنواع من الفواحش بسبب اتباع شهوة الغضب وإنما يملأون صدورهم عفوا وسماحة ومغفرة و يسلمون صدورهم من الأحقاد والحسد والأطماع الشخصية وهذا ما نفهمه من قوله تعالى ((فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)) فلم يؤمر بأن يتجاوز عن خطئهم فقط أو أن يكظم غيظه على ما وقعوا فيه من خطأ وإنما قال له في خطأ الشورى ((فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)) وهذا لا يتحقق إلا من كان صدره سليما على إخوانه من كان محبا لهم راغبا في إيصال الخير إليهم.

سادسا: الاستجابة لله ((وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ)) مع إقام الصلاة ((وَأَقَامُوا الصَّلاةَ)) وإيتاء الزكاة لأن الله عز وجل قال بعد((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)) قال ((وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ )). سابعا: من صفات المؤمنين اللازمة لتحقيق الشورى الانتصار على البغي، فليس لهم أن يقبلوا الظلم بل يجب ألا يقروا أن يبغي عليهم احد ((وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ )) فحينما يقع عليهم الاعتداء من غيرهم فانما يكون انتصارهم بسبب ذلك البغي فلا يكون انتصارا لأهواء أو لغايات دنيوية دنيئة وإنما يكون لردع ذلك الباغي وللدفاع عن أنفسهم .

ومع ذلك فإنهم مدعوون إلى العفو عند المقدرة فهو ليس عفو الضعفاء الذي يعد استسلاما وخضوعا، فهم مدعوون إلى رد البغي والعدوان والظلم الواقع عليهم وقد أعدوا لذلك عدته لكنهم إذا ما قدروا وتمكنوا فانهم يتصفون بما هو أسمى وأعلى و((وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) بعد تحديد الانتصار وأسباب الانتصار يأتي الترغيب في العفو مقترنا بذم الظلم ((فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)) وكل ذلك يحتاج إلى صبر فلا بد أن يتسم المجتمع بالصبر لأن الله عز وجل يقول في نفسه ((وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)) .

إذن هذه هي الصفات التي بتحققها تحيا هذه الأمة افرادا ومجتمعات حياة يمكن أن تحقق لها العزة والكرامة وتنفي عنها الاستبداد في الرأي بكل أنواعه وما أكثر أنواع الاستبداد التي لا يزيل سجفها إلا ممارسة الشورى ممارسة صحيحة، فهناك استبداد بالثروة ((كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم)) وهناك استبداد في الرأي وهو الذي اشرنا اليه في قوله تعالى ((وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا به)). وهناك استبداد الغي والعدوان والجور في اداء الحقوق الى مستحقيها وهناك استبداد داخل الأسرة في ظلم الزوج أو في بغي الزوجة من نشوزها على زوجها، كل هذه لا بد أن تختفي، ولا تختفي إلا بتحقق هذه الصفات عند جماعة المسلمين حتى تكون الشورى فاعلة مؤثرة، عندها يمكن أن يتحقق للمسلمين ما يصبون إليه من غايات نبيلة ومن مراشد وهدايات والحمد لله رب العالمين

*****************

سلسلة إشراقات من التفسير الموضوعي (5): الشريعة (ج1)

الدكتور الشيخ كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام للسلطنة

جريدة عمان: الجمعة, 03 يونيو 2011

الخشية من أن يفقد شبابنا اليوم ثقتهم في دينهم وفي شريعتهم بسبب سوء الأحوال من حولهم

الخروصي: الشريعة مورد يستقي منه الناس يرتوون منه توثيقًا لصلتهم بخالقهم وتبصرًا للمآل الذي ينقلبون إليه

أشار فضيلته إلى أن الاختلاف بين الأمم والتنوع بينها انما يكمن في الشرائع أي في الأحكام التفصيلية مما خوطب به كل رسول ليبلغه إلى قومه مما يتعبدون به ربهم تبارك وتعالى ويتقربون به اليه.

مؤكدا انه لا يمكن لنا ان نواجه صعوبات هذه الحياة ولا ان نتصدى لتحدياتها المتنوعة المتعددة الا بقناعتنا ان في شريعتنا ما يغنينا ويبصرنا.. وإلى ما جاء في الإشراقات:

يشير فضيلة الشيخ إلى ان سبب الاختيار لسلسلة (إشراقات من التفسير الموضوعي) يكمن في محاولة لتقريب بعض مفاهيم كتاب الله عز وجل ومحاولة التأمل في معانيه والتدبر في آياته لأن الله تعالى يقول: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، وان الاتباع وتقوى الله عزَّ وجل لا تكون الا بالتدبر والفهم والتذكر ولهذا قال سبحانه وتعالى:(كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ).

ويقول: التفسير الموضوعي كما تقدم في الدرس الماضي يعني افراد موضوع من موضوعات القرآن الكريم بالدراسة والبحث، فنجمع ما تفرق من آيات الكتاب العزيز حول ذلكم الموضوع ونحاول ان نستجلي معانيها، وان نبين دلالاتها وأن نأخذ منها الدروس والعبر لواقعنا المعاصر.

وكنا قد تناولنا في الدرس الأول موضوع الشورى وبينت يومها سبب الموضوع، اما اليوم فموضوعنا هو "الشريعة" وقد كان من اللائق ان نبدأ بها إلا أنه نظرا لتعلق بعض معاني الآيات التي سوف نستعرضها اليوم بالشورى قدمنا الحديث عنها.

واليوم نتناول موضوع (الشريعة)، وسينبني على ما نتدارسه من خلال فهمنا للآيات التي سنتعرض لها جملة من القيم والقواعد الكلية للدروس القادمة بمشيئة الله تعالى، ولهذا فإننا سوف نسلك اليوم نفس المسلك السابق الذي اتخذناه في «إشراقات من التفسير الموضوعي» حيث نعرف بالشريعة لغة واصطلاحا ثم نستعرض مجمل الآيات التي ورد فيها ذكر الشريعة بلفظها او بشيء من مشتقاتها، ثم نخرج بعد ذلك الى ما نستفيده من هذه الآيات.

اما سبب اختيار موضوع (الشريعة) فيكمن في امرين اساسيين: اولهما محاولة الاجابة على سؤال بسيط في ظاهره لكنه عميق في جوابه، وينبني على الجواب عليه الكثير من المفاهيم التي ينبغي للمسلم ان يتقنها وان يضبطها، وهذه الاسئلة من نحو: كيف يمكن ان يكون حال كل واحد منا بدون شريعة الاسلام؟ وليتذكر كل جوانب حياته الاسرية والاقتصادية والسياسية والعملية الوظيفية او الفنية وسائر صلاته مع الآخرين سواء كانت معاملات مالية أو اجتماعية أو غيرها من الصلات والعلاقات التي تنشأ بين الناس في مجتمعاتهم، مع الخروج قليلا من هذه الدائرة الضيقة للنظر فيما يمكن أن تكون عليه أحوال مجتمعاتنا وأمتنا عموما أن لو خلت حضارتنا وحياتنا من شريعة الاسلام! ووسعوا الدائرة قليلا لتتفكروا في جواب للسؤال نفسه لكن في دائرة أوسع: كيف يمكن أن يكون حال العالم دون شريعة الإسلام؟ هل يمكن أن يسوده الأمن والأمان والسلم والسلام والوئام والتعارف بين شعوبه وقبائله؟ كيف ستكون الروابط الإنسانية التي تجمع بين البشر جميعًا وكيف ستغدو صلات هذه الإنسانية ببعضها؟ كيف هي هوية المسلمين مقارنة بهويات الحضارات الأخرى القريبة أو البعيدة عنها في واقعنا اليوم او عبر تاريخها الماضي.

انا على يقين -ونحن هنا لا نحاول ان نعطي اجابات لأن الجواب واضح- لكنني على يقين من أن كل واحد منا سيدرك سبب اختيارنا لموضوع الشريعة، فنحن بحاجة إلى أن نفهم شريعتنا ونعيها حق الوعي وتمام الإدراك، وهذا هو السبب الثاني في اختيار الموضوع، فهذه الأمة مرت بها أحداث جسام في تاريخها واليوم أيضا تمر بها أحداث كثيرة وكان المأرز الذي يفزع اليه المؤمن دائما هو دينه وشريعته، لكن الذي نخشاه ان يفقد شبابنا اليوم ثقتهم في دينهم وفي شريعتهم، أي أن يفقدوا ثقتهم في غناء شريعتهم ومكنتها من تحقيق السعادة لهم لا قدر الله، وان يكون سبب انعدام ثقتهم اليوم هو سوء الأحول من حولهم أو المفارقة بين النظرية والتطبيق، وبين الأصول والواقع، والمبادئ والممارسة، ولهذا فلا بد من دورة تصحيح نتبين فيها من معنى هذه الشريعة واسرارها ما يمكن ان يصل بين شبابنا وأجيالنا وبين هذه الشريعة التي أكرمنا بها ربنا تبارك وتعالى.

فما هي الشريعة إذن؟ الشريعة لغة: تطلق ويراد بها الطريق الظاهرة البينة التي يوصل منها إلى الماء، وتطلق ويراد بها الشاربة الذي ينحدر اليه الناس ويشربون منه ويستقون، ولهذا فان العرب لا تسمي الموضع شريعة حتى يكون عدا لا انقطاع له، وهذا هو نفس استخدامنا المحلي في لهجتنا العمانية فان الشريعة هي موضع الماء العذب الظاهر البين الذي لا يحتاج الاستقاء منه الى الغرف بالدلاء والرشاء، ولهذا قالوا: أسهل الشرب التشريع لأن النوق تشرب مباشرة من المصدر، كل هذه المعاني هي من معاني الشرع والشريعة في اللغة ومن معانيها أيضا الظهور والسبيل أو الطريق الواضحة.

وفي الاصطلاح: الشريعة قريبة من هذا المعنى اللغوي فحينما نتأمل في الأدلة الشرعية التي ورد فيها ذكر الشرع والشريعة سوف نجد انها تطلق ويراد بها في الغالب معنيان: إما عموم معنى الدين (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ) الآية وسنأتي اليها، أي عموم الدين بما فيه من عقائد وأحكام عملية واخلاق، لكن الذي ينصرف اليه استخدام كلمة (الشرع) و(الشريعة) هو هو الاحكام التكليفية العملية في الدين، فالشريعة يراد بها الاحكام العملية سواء كانت متصلة بالعبادات او المعاملات او العلاقات الدولية او النظم أوغيرها ولا يدخل فيها العقائد، هذا المعنى الثاني هو الاكثر استخداما، فالغالب في الاستخدام المعاصر أن الشريعة اخص من الدين؛ لانها تعني الأحكام العملية التكليفية، فحينما نتحدث عن الشريعة اذن نتحدث عن الاحكام التكليفية التي خوطبنا بها من الأوامر والنواهي والمكروهات والمباحات، والصلة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي أو هذه المعاني الاصطلاحية ظاهرة، فكما ان المعنى اللغوي يتضمن معنى الظهور والبيان والوضوح فان هذه المعاني ملحوظة أيضا في الاستعمال الاصطلاحي، وكما ان كلمة الشريعة في اللغة أيضا تعني الورود والاستقاء من الماء بسهولة ويسر فان معنى الري والارتواء ايضا ملحوظ في المعنى الاصطلاحي للشريعة إذ فيها معنى المورد الذي يستقي منه الناس فيطفئون به ظمأ أرواحهم وعطش نفوسهم فيرتوون منه توثيقا لصلتهم بخالقهم جل وعلا وتبصرا للمآل الذي ينقلبون اليه في الآخرة وطمأنينة ورضا في الدنيا.

مشتقات متقاربة:

وقد ورد ذكر الشريعة في بضع آيات من كتاب الله عز وجل بمشتقات متقاربة: فقد ورد في سورة المائدة قوله تبارك وتعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).

هذا الموضع في سورة المائدة (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) يؤكد المعنى الاصطلاحي الغالب (بان الشريعة تعني الاحكام التكليفية العملية) لأن اختصاص كل أمة بشرائع ومناهج لا يتصور في العقائد والأخلاق لأن هذه من ثوابت الدين، فما أُمرت به امة محمد -صلى الله عليه وسلم- من توحيد الله عز وجل واخلاص العبودية له ومن قيم وأخلاق امرت به سائر الامم قبلنا، لكن الاختلاف بين الأمم والتنوع بينها انما يكمن في الشرائع أي في الاحكام التفصيلية مما خوطب به كل رسول ليبلغه الى قومه مما يتعبدون به ربهم تبارك وتعالى ويتقربون به اليه.

الموضع الثاني هو في سورة الشورى في قوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) هذا الاستخدام يؤكد المعنى الاول الذي قلناه، وهو ان الشرع يمكن ان يطلق ويراد به العقائد والأحكام التكليفية معا (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) خاصة ان على القول بان ان مصدرية تفسيرية فان المقصود هو اقامة الدين وعدم التفرق فيه.

وورد ايضا في سورة الشورى قوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وهذا المعنى سوف نأتيه قريبا فقط اريد منكم ان تتذكروا هذا العتاب الذي يعاتب الله عز وجل به هؤلاء المشركين (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) شرعوا لهم من الدين يؤكد المعنى الذي تحدثنا عنه ثم نجد ايضا ان الله تعالى يقول في سورة الجاثية (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).

دلالات:

وسنأتي الى دلالات هذه الآية أيضا لكن لا ينبغي لنا ان نحصر فهمنا وتدبرنا للشريعة من خلال ما ورد النص عليه أي ما ورد فيه ذكر الشريعة نصا؛ لأنه طالما قررنا أن معنى الشريعة يمكن ان يقصد به عموم الدين أو أن يقصد به الأحكام التكليفية العميلة فان هذا يعني أن كل ما ورد مما يتصل بهذين المعنيين هو مقصود ينبغي ان نتأمل فيه حينما نتلو كتاب الله عز وجل، ولهذا فعندما نأتي إلى ما نستخلصه من هذه الآيات سنتعرض لطائفة من السياقات القرآنية التي تؤكد كثيرًا من المعاني المتصلة بالشريعة مما له ارتباط وثيق بواقع هذه الأمة، ونحن في أِمس الحاجة إلى إدراك هذه المعاني لأنها هي التي يمكن لها ان تحقق لنا ما نصبو اليه من سعادة في الدنيا ونجاة في الآخرة، وتبلغنا ما نطمع اليه من رخاء وازدهار وعز وكرامة ونماء وانتاج وعلم وعمل صالح، فكل ذلك لا يتحقق الا بفهمنا وقناعتنا ثم بعملنا وتوكلنا على الله تعالى، كما لا يمكن لنا ان نواجه صعوبات هذه الحياة ولا ان نتصدى لتحدياتها المتنوعة المتعددة الا بقناعتنا ان في شريعتنا ما يغنينا ويبصرنا، وهذا لا يتحقق الا بفهمنا لخصائص هذه الشريعة.

الذي نستفيده من هذه الآيات:

أولا: انه لا يمكن ان نستغني عن الشريعة، ولا يمكن ان تستقيم احوالنا أبدا أفرادا وجماعات وأوطانا وأمة دون شريعة الاسلام، نحن في أمس الحاجة الى شريعتنا التي اكرمنا بها ربنا جل وعلا، ولهذا تلاحظون ان الله عزوجل يقول (شَرَعَ لَكُمْ) لم يقل فرض عليكم قال (شَرَعَ لَكُمْ) وقال ايضا (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) واللام تدل على التملك (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) (شَرَعَ لَكُمْ)، (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ) وعلى تفيد الاستعلاء المجازي يعني التمكن من الشيء كما في قوله تعالى(أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ) اي انهم متمكنون واثقون ثابتون على هذا الهدى من ربهم تبارك وتعالى، اذن المعنى الأول الذي نستفيده انما نلحظه في مطالع هذه الآيات التي استشهدت بها (شَرَعَ لَكُمْ) (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ) وفي قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا).

**********************

سلسلة إشراقات من التفسير الموضوعي (6): الشريعة (ج2)

الدكتور الشيخ كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام للسلطنة

جريدة عمان: الجمعة, 10 يونيو 2011

وضع الشريعة وإنزالها لا يجوز إلا لله تعالى وحده

التفريع والبناء على الذي أنزله علينا ربنا تبارك وتعالى هو المأذون به للناس

اما المعنى الثاني - وهو معنى دقيق ينبغي ان نتنبه له - فهو التفرقة والتمييز بين وضع الشريعة وانزالها وبين البناء والتفريع عليها، لأن وضع الشريعة وانزالها لا يجوز الا لله تعالى وحده ولا يمكن ان يكون لأحد سواه فهو جل وعلا هو الذي انزل علينا هذه الشريعة وهو الذي سنها لنا ووضعها لنا فهو تعالى المصدر.

ولهذا قال (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) وما لم يأذن به الله يعني تشريعاتهم المعارضة والمناقض لما وضعه وانزله ربهم تبارك وتعالى مما يصلح احوالهم، لهذا فإن مصطلحات: التشريع، وسلطة التشريع، ومشروعية عمل ما، هي ـ على ما يظهر من تعقيدها ـ سهلة يسيرة في ديننا، فوضع الشريعة وانزالها لا يكون الا لله تبارك وتعالى، (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ )، (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ويقول أيضا (ألا له الخلق والأمر) (أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) وهذا المعنى مطابق لما نجده هنا في قول الله عز وجل: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) لكن التفريع والبناء على هذا الذي انزله علينا ربنا تبارك وتعالى هو المأذون به للناس، فيكون استنباطهم واجتهادهم في استخلاص ما يصلح احوالهم وما يقيم أود حياتهم على نظم وتشريعات وقوانين وسنن صالحة غير خارج عما انزله ربنا تبارك وتعالى ولا معارض له أو مناقض بل مبني عليه وداخل في أطره العامة وقواعده الكلية ومقاصده الشرعية، وهذا مما دعي إليه الناس في كتاب الله عز وجل (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) ولهذا ايضا قال (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وقال (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) فإذن مشروعية امر ما لا تكون صحيحة الا اذا كانت مبنية على ما انزله الله عز وجل علينا من شرع، أما كيف يكون ذلك؟ فهناك قواعد كلية، و مفاهيم كبرى في هذا الدين، وقواعد أساسية أصلية راسخة في هذا الدين، على الناس أن يرجعوا إليها فيستقوا منها ويرتووا من معينها بإعمال عقولهم وتشاور آرائهم، لأن الله تعالى وكل أمر تطبيقها وترجمتها للواقع إلى الناس رحمة بهم وفضلا منه تعالى لهم، فنحن عندما نتحدث عن مبدأ الشورى على سبيل المثال وهي من المبادئ الاساسية الراسخة الثابتة للمؤمنين فإن تطبيقات الشورى وكيفية ممارستها في الواقع منوط باجتهاد الناس، حينما نتحدث عن العدالة وهذا مبدأ لا مساومة فيه لان الله تعالى يأمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) في نفس السياق الذي استشهدنا به، اذن العدالة مبدأ كلي لا بد من تطبيقه وبسطه في الواقع أما كيفية ذلك فهي غير ذات أهمية، المهم ان يسود الناس العدل وان يقام القسطاس المستقيم في واقع حياتهم، حتى وإن اتخذت العدالة بذلك اشكالا متعددة، ولا يمكن ان تحصر ممارسة هذه المبادئ الكلية الأساسية في أنماط جامدة يلزم الناس بها، عندئذ يمكن ان يستنبط من هذه القواعد الكلية وان يبنى عليها ما يحتاج اليه الناس في واقع حياتهم، فيكون عندئذ التشريع تشريعا مجازيا لانه غير خارج عن الاطار العام لشرع الله عز وجل الذي ارتضاه لعباده.

اما المعنى الثالث الذي نفهمه ونستفيده ونستلهمه من الآيات التي استعرضناها فهو خصائص هذه الشريعة، ولنا أن نتساءل: ما هي خصائصها حسبما نجدها في كتاب الله عز وجل؟ لا ريب أن الإجابة تكمن في الآيات التي استعرضناها وفي عموم السياقات المتصلة بالدين وبأحكام شرع الله عز وجل، وبالاخلاق التي امرنا بها الله تبارك وتعالى، وهذه القضية بالذات – أي خصائص الشريعة – قضية في غاية الاهمية، لان ثقة الناس بما يعرفونه ليست كثقتهم بما يجهلون، ولأن قناعتهم بما يدركون اسراره وابعاده وآفاقه ليست كقناعتهم وثقتهم بما لا يعرفون عنه شيئا ولا يدركون له حكمة أو معنى. ولهذا نحن عندما نتحدث عن الشريعة وعن خصائصها ومزاياها لا بد ان نتبين بأنفسنا وان نبين لشبابنا الذين يكادون يفقدون ثقتهم في شرع الله عز وجل ولكثير من الناس الذين استهوتهم ايضا نظريات وجدليات معاصرة فابعدتهم عن شرع الله عز وجل وظنوا ان المعاني الحقيقية وان ما ينشدونه هو في غير هذه الشريعة ان يبين لهم ما الذي تشتمل عليه شريعتهم من مزايا وخصائص وفقا لما قررته الأدلة الشرعية.

وهذه الخصائص والمزايا هي:

اولا: لا خلاف ان شرع الله عز و جل موافق للفطرة التي فطر الله عز وجل الناس عليها وموافقة الفطرة ليست نظرية، لان هذه المسألة حاسمة، وسبب كونها كذلك انها تنفي التناقض في هذه الشريعة لانه لو كان هناك تناقض لصارت حياة الناس الذين ينتسبون الى هذه الشريعة فوضى وعصبيات ولتحولت علاقاتهم الى حرب والى اعتداء وبغي وظلم وعدوان وهذا ما نشهده حينما تفقد الشريعة من واقع حياة الناس اما حينما يسود الناس شرع الله عز وجل بهذه الخصائص التي سنذكرها ينتفي التناقض ويحل محل ذلك ما يوافق الفطرة التي فطر الله الناس عليها ولهذا قال (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

واين نجد موافقة الشريعة للفطرة في غير هذا الموضع من الآيات التي استشهدنا بها اول الحديث؟ نجدها ايضا في قوله تبارك وتعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) فلو ان هذه الشريعة غير صالحة لعموم الناس لما كانت مما اوحاه الله عز و جل الى نبيه محمد الخاتم صلى الله عليه وسلم لأنها مما وصى بها الانبياء قبله من لدن نوح عليه السلام وحتى عيسى عليه وعلى نبينا افضل الصلاة وازكى السلام، لو كان هناك تناقض لوقفت هذه الشريعة عند الامة التي عانت من ذلك التناقض ومن نفرتها عن الفطرة السوية التي فطر الله عز و جل الخلق عليها، وهذا ايضا ما نجده في دستور هذه الشريعة في كتاب الله عز وجل (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) قطع بأن هذا الكتاب هذا القرآن لا ريب فيه ولا شك يحوم حوله أو فيه، وانظروا ان كان يوجد مؤلَّف اليوم - غير كتاب الله عز وجل - يصدِّر مؤلفه - وفي حالة القرآن منزله - بأن هذا الكتاب لا خطأ فيه ولا ريب ولا شك، كل مؤلف يعتذر عن الاخطاء لكن هذا الكتاب يقول (لا رَيْبَ فِيهِ) يدعو للاعجاز ولذلك قال (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) هو دعوة ان كنتم تجدون فيه اختلافا فأرونا إياه وقد تحدى هذا الكتاب العزيز صناديد قريش ان يظهروا فيه شيئا من الخلاف فما استطاعوا، اذن هذه الشريعة في ذاتها موافقة للفطرة في عقائدها وفي تشريعاتها واحكامها واخلاقها كما في دستورها وكتابها الذي منه تستقى، لا مناقضة ولا اختلاف ولا نفرة فيما بينها و لا مع فطرة النفس.

مهما حاولوا لن يفلحوا:

الخصيصة الثانية: ان هذه الشريعة تقوم على جوهر عقدي ايماني ولا تقوم على خواء خلقي ولا على فراغ روحي، ومهما حاول الناس ان يقيموا شريعة لا تستند الى عقيدة فلن يفلحوا في ذلك ابدا، ولذلك فإن من ابرز خصائص شريعتنا ان جوهرها الايمان بالله عز وجل، جوهرها عقيدة راسخة في هذه النفس لا تقبل المساومة ولا تقبل شيئا من الريب او الشك ولا الخرافات ولا الاساطير، عقيدة خالصة تؤمن بالله واليوم الآخر، ولهذا نجد في سورة المائدة التي فيها (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) هذا هو الواعز الايماني الذي يقيم اود تلك الشرعة والمنهاج المتين على هذا الجوهر الخالص، (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) فالمصدر من الله عز وجل لانه قال (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) والمرجع الى الله تبارك وتعالى لانه قال (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ثم ايضا في سورة الشورى نفسها في نفس السياق الذي وردت فيه الشريعة نجد (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) كم من المؤكدات في هذه الآية وحدها مما يصل بين اقامة هذه الشريعة والتزامها بالاستقامة على دين الله عز وجل وبالدعوة اليه وبنفي اتباع الهوى كم فيها من المؤكدات التي تصل بين كل ذلك وبين الايمان بالله تبارك وتعالى واليوم الآخر وهذه هي العقيدة الراسخة التي تملأ جوانح النفس (وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ) ثم (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ولهذا حينما نقول ما ثمرة ذلك؟ فإن ثمرتها ان امر الشريعة عندنا لا يخضع للاهواء والشهوات، لان اساس الشريعة انما اقيم على الايمان والعقيدة الصحيحة الخالصة، وهذا ايضا ما نجده نصا صريحا في هذه السياقات التي اقتبسناها.

والله تعالى يقول (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ)، والنهي عن اتباع الهوى واضح صريح (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) نجد ايضا في سورة المائدة صدر بيان جعل الله تعالى للناس الشرعة والمنهاج بقوله تبارك وتعالى (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) اذن كلا الامرين الاصل والثمرة، الاصل (عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) هذا هو المعتقد الايماني، والثمرة (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) لن يخضع امر الشريعة لاهواء الناس، هي فوق اهواء الناس وفوق شهواتهم بل عليهم ان يطوعوا اهواءهم ومسالكهم وفق هذه الشريعة التي انزلها عليهم ربهم سبحانه وتعالى.

الخاصية الثالثة: من الخصائص المهمة انها شريعة تقوم على اعلاء كرامة الانسان، فلا تحط من قدر الانسان ولا تقدس ايضا من مكانته ايا كانت منزلته مجتمعه وفي بيئته، فهو مكرم لذاته الإنسانية فالله تعالى يقول (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) وكون الانسان مكرما واضح جلي في كتاب الله عز وجل، وعندما تتصف الشريعة بأن بناءها يقوم على تكريم هذا الانسان فهذا يؤدي بنا الى ان نوقن ان كل ما شرعه ربنا جل وعلا هو مما يحقق لهذا الانسان كرامته، مما يحقق له الكرامة والعزة والاحترام في هذه الحياة الدنيا (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) هذا في سياق المفاضلة وان التعبير المستخدم هو تعبير المفاضلة في التكريم (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).

الحرية ..يجب ان نعي معناها:

الخاصية الرابعة: بعد تكريم الإنسان ومعه تأتي خصيصة اخرى لا تقل عنها اهمية وهي حرية الارادة، كثير من الناس يتحدثون عن الحرية دون ان يعوا معناها ولا ان يردوها الى متونها الشرعية وكثير منهم يظنون ان كلمة الحرية بالمفهوم الذي نعرفه اليوم لم توجد في تراث هذه الأمة الاسلامية وفيما دونه علماء الاسلام لان مصطلح الحرية في تراثنا الفكري كان مقابلا للرق والعبودية ويظنون انها بالمعنى الذي يستخدمه الناس اليوم وهو فعل الانسان ما يريد دون اكراه او إلجاء او إملاء من طرف آخر مع حفظه ايضا لحقوق الآخرين يظنون ان هذا المعنى غير موجود في شريعتنا وليس الامر كذلك كما سيظهر في الدرس الثالث من هذه السلسلة المباركة بإذن الله.

ولهذا فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا) لم يكن يقصد بها من كان رقيقا او عبدا وانما يقر مبدأ موجودا في كتاب الله عز وجل، في نفس هذا السياق الذي نتحدث فيه الآن عن الشريعة نجد (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فاستباق الخيرات والمسارعة فيها لا يكون الا بإرادة حرة ولهذا نجد (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) ونجد ايضا (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) لم تأت كلمات (يُرِيدُ) و (أَرَادَ) اعتباطا، وانما جاءت لتبين ان للانسان حرية الاختيار، لكن حرية الاختيار تعني تحمل المسؤولية، لذلك نجد ان الله تعالى يقول (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) من هذا الذي يتخذ الى ربه سبيلا؟ الذي يريد، (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا)، ويقول ايضا (ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا) هذه هي حرية الاختيار وهي صفة ملازمة لشريعتنا لا بد ان نعيها ونتقن فهمها ولا يكفينا فقط ايضا أن نفهمها وان نعيها! بل نحن مخاطبون ان نمارسها وان نبينها للناس لانهم يحتاجون اليها، صحيح ان كثيرا من دلالاتها وتفسيراتها تحتاج الى ضبط والى تحليل لكن ذلك شأن ميسر حينما نرد هذا المفهوم الى اصوله الشرعية من كتاب الله عز وجل ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وفق فهمنا الكلي للشريعة التي (نعتز بالانتماء اليها).

عزة المسلم بإيمانه وشريعته:

الخاصية الخامسة: العزة: فالعزة من خصائص هذه الشريعة وهي ليست متعلقة بجانب دون آخر لانها تعني نفي الاستكبار في الارض لكنها لا تعني ايضا الذل والهوان في هذه الحياة الدنيا، ولا تعني الاستسلام للخطوب وللصعاب التي يواجهها هذا المسلم، هذه هي حقيقة العزة التي نجدها في شريعتنا (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) وكيفية تطبيق ذلك نجدها تشريعا قرآنيا يقول (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إذن في مواجهة الخطوب من حروب وصعاب وعقبات وتحديات (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ) هذه العزة التي نحتاج اليها لكن مصدرها (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، فعلوكم انما بإيمانكم وعزتكم انما هي بإيمانكم وشريعتكم ،و كذلك الحال حينما نتأمل بعض صفات المؤمنين ونجد فيها (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).

*****************

سلسلة إشراقات من التفسير الموضوعي (7): الشريعة (ج3)

الدكتور الشيخ كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام للسلطنة

جريدة عمان: الجمعة, 17 يونيو 2011

 العلم فيها يدعو إلى الإيمان وإلى التزام الشرع الذي أنزله الله

منطلق الشريعة العلم:

الخاصية السادسة لهذه الشريعة فهي تلبسها بالعلم تأسيسا وقياما ودعوة وحياة، والادلة كثيرة جدا في كتاب الله عز وجل على أن هذه الدين وهذه الشريعة لا تقوم الا على العلم، وأن العلم فيها يدعو الى الايمان وإلى التزام هذا الشرع الذي انزله الله تبارك وتعالى، فهي صلة متداخلة متكاملة بين العلم والايمان والعلم والشرع، فالشرع يدعو إلى العلم ويحث عليه ويبين منزلته ومنزلة العلماء وهذا العلم يحقق الايمان ويبصر الناس بحقائق شريعتهم، وينور لهم بصائرهم، ويقيم لهم حياتهم على أسس واضحة من حقائق المعتقد والسلوك، والمبدأ والمصير, ولهذا نجد في نفس السياق بعد قوله تعالى (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ، يقول سبحانه بعدها: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) هذا هو موضع العلم: بصائر للناس، هدى ورحمة، لقوم يوقنون، واما الآيات التي تتحدث عن العلم ومنزلة العلماء والفرق بين العلم والجهل، والآيات المشتملة على الدعوة الى التأمل والتفكر والنظر والتدبر وإعمال العقل فهي كثيرة في كتاب الله عز و جل، فلذلك لا بد لنا ان نعي ان شريعتنا تقوم على العلم وتدعو اليه وان حياتنا لا بد ايضا أن تتجاوب مع هذا الذي يدعونا اليه شرعنا، لاننا حينما نتحدث عن العلم لا نقصد به العلم الشرعي فقط، بل نقصد كل انواع العلوم والمعارف التي تنفع الناس وتحقق لهم مصالح وتخدم الانسانية جمعاء، وأعلى هذه العلوم منزلة واعظمها شرفا لا شك هو العلم الذي يبصر الانسان بكيفية عبادته لربه تبارك وتعالى وتوحيده وتنزيهه ونفي الاشباه والاضداد عنه سبحانه.

الشمول:

كذلك فإن من خصائص شريعتنا (الشمول)والشمول يظهر في تناولها لكل مفردات الحياة، فكما تُعلِّم هذه الشريعة الناس الطهارة فإنها تعلمهم الاخلاق وتعلمهم كيف يقيمون الحكم على اسس من الشورى والعدالة والمساواة وسلطة العدالة والنظام، (ما فرطنا في الكتاب من شيء) وبهذا نفهم قول الحق جل وعلا (قل انني هداني ..العالمين) وشمول الشريعة يعني أنها عامة شاملة لكل الناس ايضا، وحينما نقول ان من خصائصها شمول كل الناس وان المخاطبين بها هم كل البشر فإن هذه ايضا ينبغي ان يذكرنا بما تنفيه عنا هذه الشريعة مما تعاني منه حضارات ونظم بشرية عديدة من عنصرية وطبقية وعصبية عرقية وإثنية مما تؤدي إلى الاستبداد والجور والطغيان، مثلما نجد ممن يرون انفسهم شعب الله المختار أو يرون انهم اهل السيادة والسلطة والتحكم في مصائر الشعوب أو أن دماءهم دماء مستمدة من الآلهة ...الخ، هذه الشريعة تنفي كل هذه الأنواع من العنصريات والعصبيات والطبقية، ولا تجعل لها وجودا ولا اعتبارا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) وهذه من الخصائص التي ينبغي ان تدرس وتبحث لانها تقرب الناس الى هذا الدين وتبين لهم خصائصه التي تدعوهم بعد ذلك الى القناعة به والى اعتناقه والى الذود عنه مع نشره والدعوة اليه.

وهل يعني هذا الشمول ايضا طغيان جانب على آخر او غلبة جانب على ما سواه؟ هذا أيضا لا وجود له في شريعتنا، لأن من خصائصها انها متوازنة، ومعنى التوازن فيها انها توازن بين مطالب الروح ومطالب الجسد، وأنها تلبي حاجات العقل وحاجات الوجدان، كما تملأ العاطفة وتشبع فراغ الروح، انها تدعو الى السعي في هذه الارض وإلى العمل وعمارة الأرض وإصلاحها وتنهى عن الفساد فيها، كل ذلك في تشريعات متزنة يسيرة لا حرج فيها ولا مشقة، ولا عسر ولا غموض، ويمكننا ان نستشهد لهذه الحقيقة بقول الله تعالى (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).

عالمية:

والخاصية التالية لما سبق ذكره هو كونها عالمية الطابع والمضمون والخطاب، وهذا من خصائصها الهامة التي تثبت من عدة وجوه، إذ عندما نتحدث عن الشريعة فإما ان ننظر الى خصائصها مما ورد فيها في ذاتها او باعتبار مصدرها الذي هو الحق تبارك وتعالى او باعتبار مبلغها الذي هو رسولنا الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، ومن كل هذه الوجوه هي شريعة عالمية، فرسولنا بعث ليكون رسولا للناس كافة (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) فإذن دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دعوة عالمية، مما يعني بالضرورة ان يكون ما يدعو اليه ايضا صالحا لخطاب الناس جميعا، وأنه يتناول كل بني البشر، ولذلك نجد الخطاب في القرآن الكريم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) و (يَا بَنِي آدَمَ) ونجد ايضا خطابا للمؤمنين – كل المؤمنين، لكن على المسلمين اليوم أن يتقنوا هذه الخاصية وأن يعرفوا كيف ينتفعون بها التزاما اولا ودعوة للغير اليها ثانيا. وهنا يجب أن ننبه إلى أنه لا ينبغي لنا ان نظن أن كل هذه الخصائص والمزايا هي شيء آخر غير الشريعة أو أنها صفات خارجة عن مضمونها أو نتكلف في إعمال عقولنا بعمق وبتدبر مبالغ فيه حتى نتملى بهذه المعاني، فليس الامر كذلك، بل هذه الصفات مصاحبة لذات الشريعة ملازمة لمضمونها، ظاهرة بينة في كل أصولها وقواعدها وفروعها، لذلك قلت في اول الامر تصوروا ان لو كانت حياة المسلمين اليوم دون شريعتهم! او كان وجود هذه الانسانية دون شريعة الاسلام! كيف يمكن ان يكون الحال؟

لا حرج فيها:

ومن خصائصها التي لا بد ايضا ان نعيها انها شريعة لا حرج فيها، تقوم على التيسير ورفع المشقة والحرج عن الناس بنص الكتاب العزيز (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وحينما يقول (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).

ومن الخصائص الهامة التي نفهمها من الآيات التي تعرضت لذكر الشريعة صراحة ومن عموم ما امرنا به ربنا جل وعلا أو نهانا عنه في كتابه العزيز او ما خاطبنا به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم انها شريعة واسعة متجددة، نامية الفروع باسقة الأغصان، ومكمن مرونتها وسعتها واستيعابها لكل جديد هو ما فيها من مبادئ كلية وقواعد عامة ومفاهيم كبرى، وهذه هي التي يفرع ويبنى عليها ما يحتاج اليه الناس في واقع حياتهم المتجدد ليستنبط العلماء ما فيه صلاح احوال الناس في الدنيا و الآخرة. فإذن السعة والتجديد من الصفات الملازمة لهذه الشريعة لا يمكن لها ان تجمد في قوالب معينة او ان تتوقف في وقت من الاوقات فلا تستوعب مشكلات الناس، وان حصل ذلك فانما هو بتقصير المسلمين انفسهم، بتقصير علماء المسلمين او بابتعاد الناس عن العودة الى شريعتهم.

 وهذه هي القضية التي دعتنا الى ان نتحدث عن هذا الموضوع القيم، فان فقدان المسلمين لثقتهم في شريعتهم كارثة كبرى قد تؤدي إلى العزوف عنها وإلى تلمس الحلول واستجدائها من غيرها، ومن أهم الأسباب المؤدية إلى ذلك طغيان الجهل في المجتمعات، أو تخاذل العلماء عن أداء دورهم، أو محاربة الشريعة من ذوي الأطماع والأمراض، لكن حينما يتمكن اهل العلم من تقريب الشريعة للناس بإعطائهم حلول مشكلاتهم وايجاد الوسائل النافعة الصالحة لاقامة حياتهم على اسس من الرحمة والعدل والشورى والمساواة امام القضاء وغير ذلك من القواعد الكلية التي يشتمل عليها ديننا ويجدون عقولا واعية لهذا الخطاب وقلوبا متشوقة لما فيه خلاصها ونجاتها فلا شك ان هذا هو الذي يؤدي بعد ذلك الى فاعلية الشريعة في واقع حياة الناس، لان الشريعة لم يرد لها ان تكون نظريات تملأ بها بطون الكتب أو أن نتلوها في كتاب الله عز و جل وفي سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإنما اريد لها ان تكون فاعلة في واقع حياة الناس، وكل ما تقدم من معانيها وخصائصها يؤكد ويستدعي بالضرورة ان تكون موجهة لحيا البشر متناولة بالعلاج النافع لقضاياهم ولمشكلاتهم.

تكامل مكوناتها:

أما الخاصية الاخيرة التي يمكن لنا ان نستنبطها مما استعرضناه من آيات فهو تكامل مكونات هذه الشريعة، وهذه مسألة ايضا لا بد ان نقف عندها ونتأملها تأملا واعيا، لان بعض الناس يجتزئ من هذه الشريعة قضايا بأعيانها ويبعد او يغفل النظر عن باقي مكونات هذه الشريعة، فإذا به يجد مدخلا لطرح الشبهات واثارة الشكوك والريب حولها، وللأسف فإننا لا ننتهي نحن في ردنا على هذه الاباطيل والشبهات لهذه الخاصية فننساق للدفاع وللتبرير وأحيانا لتطويع الادلة ولي اعناقها لنعلن براءتنا من الشبه والأباطيل المنسوبة إلى شريعتنا، فإذا ما تحدثنا على سبيل المثال عن قضية المرأة ومنزلة المرأة ومكانتها فتأتينا بعض الشبهات حول حقوق الميراث على سبيل المثال فتثار شبهات حول هذه القضية فننبري نحن للدفاع عنها مجتزئين ايضا موضوع الميراث او المسألة المالية من مجموع نظام هذه الشريعة والمنهاج الذي نسير عليه، حينما نتناول مثلا قضية اجتماعية فإن بعض الناس ينسى ان هذا التقسيم انما هو للتبسيط والتفهيم والتقريب لكنه لا يعني انبتات هذه الجوانب عن النظم الاقتصادية وعن تشريعات الحكم والسياسة ولا يعني انقطاعها عن عقيدة الايمان بالله واليوم الآخر، فلا بد ان تعالج في ضوء هذه المنظومة المتكاملة ولذلك فإن بعض الناس حينما يأتي الى مسألة قانون العقوبات او التشريعات الجنائية في الاسلام سيتصور ان في ذلك قسوة وعنفا، بينما الحقيقة أنه ينظر الى جانب مجتزء مبتور من هذه الشريعة، ولا تصح المعالجة والرد دون النظر الى تكامل سائر مكونات هذه الشريعة ضمن هذا النظام الذي وجد فيه هذا التشريع الخاص، وهذا ما نحتاج اليه اليوم ايضا في كثير - كما قلت– من كتاباتنا وما نطرحه في خطابنا الاسلامي عموما في وسائل الاعلام المتنوعة المختلفة لا يصح ان نظل ايضا منساقين وراء بتر مكونات هذه الشريعة بعضها عن بعض، نعم هناك حكم ومقاصد في خصوص التشريعات جميعا لكنها ايضا لا تنفك عن عموم الحكم والمقاصد المصاحبة لعموم هذه الشريعة.

هكذا استعرضنا باختصار شديد ما يتصل بالشريعة محاولة منا لفهمها ولتدبر معانيها وللتعرف على خصائصها وكل ذلك انما نريد منه بعد التدبر والفهم ان تعود لنا عزتنا وثقتنا في شريعتنا وان نسعى عاملين بما اكرمنا به الله سبحانه وتعالى مبتغين ما فيه رضاه ومصوبين انظارنا نحو الحياة الآخرة ومؤثرين ما عند الله عز و جل على متاع الدنيا وان نسير في هدى وفي نور من العلم والبصيرة التي ارادها لنا ربنا عز وجل حتى نكون فعلا منتسبين انتسابا صحيحا الى هذه الشريعة الغراء والى هذه الحنيفية السمحاء.