بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الزهد في الحياة الدنيا

الحمد لله الولي الحميد، ذي البطش الشديد، الذي يبدئ ويعيد، ويفعل في خلقه ما يريد، سبحانه منه المبدأ وإليه الرجعى، وله الحمد في الآخرة والأولى، وله الحكم وإليه ترجعون، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأثني عليه، وأستغفره من جميع الذنوب وأتوب إليه، وأؤمن به وأتوكل عليه، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، هو القابض الباسط، الخافض الرافع، المعطي المانع، وهو العزيز الغفار، القوي الجبار، (وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرعد/8) وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله الله إلى خلقه بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فلم يأل في الناس تذكيرا ولا تبصيرا، ولا تحذيرا ولا تبشيرا، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وعلى كلّ من اهتدى بهديه، واستنّ بسنته، وسار على نهجه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (لقمان/33) واعلموا أن من طبيعة الإنسان الميل إلى الدنيا، والاغترار بها، والمسارعة إلى زخرفها، والإعجاب بمظاهرها، ونسيان حق المنعم بها، وتجاهل بطشه وعظمته وقدرته وإحسانه وسلطانه، وقد سجل الله سبحانه وتعالى ذلك في كتابه حيث قال عزّ من قائل: (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ) (العاديات/ 6 ـ 11) وقد حذر من الركون إلى الدنيا الذي يكون على حساب الدين، فقال عزّ من قائل: (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا) (الإسراء/18 ـ 19) ويقول سبحانه: (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) (الشورى/20) ويقول الله عزّ وجلّ: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (هود/ 15 ـ 16).

وقد ضرب الله سبحانه الأمثال في هذه الحياة الدنيا، فقال عزّ من قائل: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (يونس/24)  ثم بين سبحانه وتعالى ما يجب الحرص عليه والمسارعة إليه، وهو الذي يدعو إليه الحق تعالى حيث قال: (وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (يونس/25)  ثم بين مصائر الناس في الآخرة بحسب ما عملوا في هذه الدنيا حيث قال: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (يونس/26ـ27) وقال سبحانه: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) (الكهف/ 45 ـ 46) وقد سمى الله سبحانه وتعالى هذه الحياة الدنيا متاعا؛ لقلة الاستمتاع بها؛ ولسرعة الانتقال عنها، وأضاف هذا المتاع إلى الغرور لما يلابس النفس من الاغترار بها والركون إليها حيث قال سبحانه: (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عمران/185) ويقول سبحانه وتعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد/20). ثم بين سبحانه ما تجب المسابقة إليه؛ حيث قال داعيا عباده إلى هذه المسابقة: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ) (الحديد/21).

فعلى العاقل أن يتدبر آيات الله سبحانه التي تكشف له الدنيا على طبيعتها، وتبين له طواياها، وتبين له الدار الآخرة وسعتها وسعة البقاء فيها واستمرار الحياة فيها؛ لأنها دار الخلد؛ ليدكر الإنسان بذلك؛ وليتزود من هذه الحياة الدنيا الزاد الصالح (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (البقرة/197) فتقوى الله سبحانه وتعالى خير ما يكتسبه الإنسان في هذه الحياة الدنيا، وإن في مصائر القرون الغابرين لعبرا للمعتبرين (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى) (النازعات/26) والقرآن الكريم يشدّ انتباه الإنسان إلى ذلك في آيات كثيرة، منها قوله سبحانه: (أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ[ (الأنعام/6) فكم من قرون مكن لها في الأرض أعظم التمكين، واستخلفها الله سبحانه وتعالى في هذه الأرض لينظر عملها، فعَمَرت الأرض أكثر مما عمَرت الآن، وكانت لها السيادة، وكان لها طول العمر، ولكن الله سبحانه وتعالى أخذها بذنوبها، فأصبحت عبرة للمعتبرين، ويقول سبحانه وتعالى: (أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ) (غافر/21).

فاتقوا الله يا عباد الله، وتزودوا خير الزاد، وهو تقوى الله في السريرة والعلانية، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا بين يدي الله تعالى، واعلموا أن ما ائتمنكم الله سبحانه وتعالى عليه، واستخلفكم فيه من مال؛ إنما هو حق الله عزّ وجلّ والله عزّ وجلّ، سوف يسألكم عما ائتمنكم عليه، وعما استخلفكم فيه، فعليكم أن تراعوا أمانة الله عزّ وجلّ، وأن تراعوا هذه الخلافة وواجباتها، وألا تأخذوا المال إلا من حله، وألا تضعوه إلا في محله، وألا تغتروا بهذه الحياة الدنيا.

فاتقوا الله في سريرتكم وعلانيتكم (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران/ 133 ـ 135).

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروا الله يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم؛ إنه هو البر الكريم.

*           *          *

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأشكره، وأتوب إليه من جميع الذنوب وأستغفره، وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أتباعه وحزبه إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله اتقوا الله حق تقاته، وسارعوا إلى ما أمركم الله تعالى به، واجتنبوا ما نهاكم الله تعالى عنه، وحاسبوا أنفسكم، ناقشوا أنفسكم في حياتكم التي هي منحة من الله سبحانه وتعالى، وحاسبوا أنفسكم على شبابكم؛ فإنه ريعان العمر وربيعه، وحاسبوا أنفسكم فيما علّمكم الله إياه، وفيما آتاكم من مال، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيمَ أفناه، وعن شبابه فيمَ أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وماذا عمل فيما علم».

فاتقوا الله تعالى في ذلك كله، اتقوا الله في هذا العمر القصير الذي تتنقصه الأنفاس، والذي تتنقصه اللحظات، فكل لحظة من اللحظات التي تمرّ بالإنسان إنما هي على حساب العمر، وكلّ نفس يتنفسه الإنسان إنما هو من هذا العمر، ولن تعود لحظة، ولن يستعيض عن نَفَسٍ نَفَسَاً آخر غير الأنفاس التي كتبت له، فاللحظات محدودة، والأنفاس محدودة، والموت بين يدي الإنسان، والشباب هو فرصة للعمل الصالح؛ لما يتميز به من قوة وطموح، فاتقوا الله تعالى في حياتكم، واتقوا الله في شبابكم، واتقوا الله فيما ائتمنكم عليه من مال، واتقوا الله تعالى فيما علّمكم من علم.