بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

تعظيم الله عزوجل

الحمد لله الواجب الوجود لذاته، الذي أشرقت على آفاق الوجود أنوار صفاته، وافتقر كل موجود إلى لطفه وهباته، سبحانه هو الواحد الأحد، الفرد الصمد الذي (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (الإخلاص/ 3 ـ 4) أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأثني عليه، وأستغفره من جميع الذنوب وأتوب إليه، وأؤمن به وأتوكل عليه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وعلى كلّ من اهتدى بهديه، واستن بسنته، وسار على نهجه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله إن الإنسان وهو يقلب صفحات هذا الوجود يتملّى فيها آيات بينات دالة على عظمة المعبود، سبحانه الذي لا إله إلا هو، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الشورى/11)، فالإنسان عندما ينظر إلى نفسه قبل كلّ شيء يدرك أنه كان بعد أن لم يكن، وأنه لا بدّ له من مكون، فالله سبحانه وتعالى هو الذي أخرجه من عالم الغيب إلى عالم الشهود، وهو الذي طوّره طورا بعد طور، وهو الذي أسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، فجعله سميعا بصيرا، مفكرا قادرا في حدود المقدرة الإنسانية، وذلك كله مما يدعو هذا الإنسان إلى التعلق بالله سبحانه وتعالى، وإخلاص العبادة له، والإنابة إليه، واستغفاره من كل المخالفات التي وقع فيها سواء كانت فعلا أو تركا، كما أنه عندما يتأمل هذا الوجود بأسره يرى أن هذا الوجود وحدة متكاملة، كل جزء منه مكمّل لبقية الأجزاء، وهو منسجم انسجاما تاما في تكوينه، فكل ذرة من ذراته منسجمة مع أخواتها، وفي هذا أيضا ما يدعو إلى المعبود الحق، وأنه وحده هو الذي أخرج هذا الوجود بأسره من العدم إلى الوجود.

والقرآن الكريم يدعو إلى التأمل في هذه الآيات بأسرها، ويدعو إلى استشعار الإنسان افتقاره إلى الله سبحانه وتعالى في جميع الحالات، فالله تبارك وتعالى يقول: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (الذاريات/20 ـ 21) ويقول عزّ من قائل: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة/164) ويقول تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران/ 190 ـ 191) ويقول تعالى: (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ * كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ * فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) (عبس/ 17 ـ 32) والله عزّ وجلّ عندما يعرف بنفسه عباده في كتابه الكريم يعرّفهم بهذه الآيات البينات التي تدل على عظمته، وتدل على قدرته، وتدل على علمه، وتدل على إحاطته بكل موجود، وتدل على افتقار كل موجود إليه، وأنه تعالى وحده هو الغني المطلق، فهو لا يفتقر إلى أي شيء كان، وكل ما عداه مفتقر إليه، يقول سبحانه: (اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم/ 32 ـ 34) ويقول تبارك وتعالى: (إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ * وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأنعام/ 95 ـ 99) فالله سبحانه الذي خلق هذه المخلوقات بأسرها هو الذي أفاض هذه النعم على عباده، وهو المفتَقرَ إليه في كلّ لحظة من اللحظات ومن كل أحد من خلقه، فما من كائن في هذا الوجود إلا وهو مفتقر إليه، وكل ذرة من ذرات الوجود إنما هي كلمة من كلمات الله سبحانه وتعالى ناطقة بافتقارها إليه عزّ وجلّ، وشاهدة على وجوده سبحانه وتعالى، والإنسان مستخلف في هذا الوجود الذي جعله الله تعالى مناط التكليف، والذي جعله معقد التشريف، هو جدير بأن يعتبر بذلك كله، وجدير أن يفكر في أمره، فيمتثل ما أمره به ربه، ويزدجر عما نهاه عنه، فإن الله تعالى الذي هو قادر على كل شيء، والذي أسبغ هذه النعم كلها ظاهرة وباطنة؛ جدير بأن لا يعصى لحظة بل جدير بأن لا يعصى طرفة عين.

ولئن كان الإنسان من شأنه أن يعظم غيره بسبب تفوقه في العظمة، أو بسبب شعوره بافتقاره إليه وإنعامه عليه؛ فإن الله سبحانه وتعالى أولى وأجل بأن يُقدَّر ويعظّم؛ لأنه تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الشورى/11)، فهو سبحانه وتعالى أعظم من كل عظيم، وأجل من كل جليل، فجدير بسبب ذلك أن يطاع سبحانه وتعالى، ولا يعصى طرفة عين، كما أن الإنسان أيضا يشعر بافتقاره إلى الله سبحانه في جميع أحواله، في سره وفي جهره، في نومه وفي يقظته، في ذكره وفي غفلته، في سفره وفي حضره، في مكرهه وفي منشطه، في سلمه وفي حربه، فجدير به أن يتعلق بربه سبحانه، وأن يبتغي إليه الوسيلة، وذلك بطاعته في كلّ ما أمر به، وفي كل ما نهى عنه، وعندما أقام الله سبحانه وتعالى الحجج والبراهين على أولئك الذين جعلوا معه آلهة أخرى أحالهم على هذه الآيات البينات التي يشاهدونها في أنفسهم، ويشاهدونها في غيرهم، فقد قال تعالى: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (النمل/ 59 ـ 64).

فإذا والإنسان يتأمل هذه الآيات البينات في نفسه وفي سائر الوجود عليه أن يتعلق بمبدع هذا الوجود، وأن يجله سبحانه، وأن لا يتخذ له ندا، وأن لا يطيع غيره في معصيته، وأن لا يتقرب إلى غيره بصنوف العبادات وأنواع القربات، فإن الله سبحانه وتعالى فرض على عباده أن يخلصوا العبادة له، وأن لا يعبدوا معه غيره (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف/110)، (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (البينة/5).

فاتقوا الله يا عباد الله، وأخلصوا لله عزّ وجلّ طاعتكم، وأطيعوه في سركم وفي جهركم، في ليلكم وفي نهاركم، في ذكركم وفي غفلتكم، في جميع أحوالكم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروا الله يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم؛ إنه هو البـر الكريم.

*         *          *

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأشكره، وأتوب إليه من جميع الذنوب وأستغفره، وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أتباعه وحزبه إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله اتقوا الله في سركم وفي جهركم، وفي جميع أحوالكم، وأنيبوا إليه واستغفروه؛ فإن سبحانه وتعالى أمر عباده بالإنابة إليه، وذكرهم باليوم العظيم الذي ينقلبون فيه إليه، فقد قال تعالى: (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) (البقرة/281) ولئن كان الإنسان يجدر به في جميع أحواله أن يطيع ربه؛ لأجل استشعاره عظمة المعبود سبحانه؛ ولأجل استشعاره افتقاره إليه، وأن الله تعالى وحده هو وليّ نعمته؛ فإنه أيضا يجب عليه أن يفكر في منقلبه ومعاده، فإن منقلبه إلى الله، والله يجزيه بالحسنى إحسانا، ويجزيه بالسيئة مثلها (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) (فصلت/46 ) (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (النمل/89 ـ 90)، فاتقوا الله يا عباد الله، وأخلصوا لله عزّ وجلّ جميع أعمالكم، وأطيعوه في جميع أحوالكم.