بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

التمسك بالقرآن الكريم

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي هدانا إلى الحق بنور القرآن، وبصرنا مسالك الصدق بما أنزل من الفرقان، سبحانه أنزل ذكرا مبينا، وصراطا مستقيما يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأثني عليه، وأستغفره من جميع الذنوب وأتوب إليه، وأؤمن به وأتوكل عليه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله الله بحجة الصدق الجامعة، ودعوة الحق الساطعة، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، وسار على نهجه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله اتقوا الله، واعتصموا بحبله المتين، واتبعوا نوره المبين، وانهجوا صراطه المستقيم، ففي ذلك سلامة الدنيا وسعادة العقبى، فإن الله تبارك وتعالى قد أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم كتابا مبينا يبصّر فيه هذه الأمة ما تأتيه وما تذره؛ بحيث يحل كل لغز من ألغاز هذه الحياة، ويكشف كل سر من أسرارها، ويبين للناس ماذا يفعلون؟ وعن ماذا يزدجرون؟ والله سبحانه وتعالى يصف كتابه هذا بقوله عز من قائل: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) (الإسراء/ 9) وقد سماه الله سبحانه روحا من أمره؛ لما يشتمل عليه من أسرار غيبه؛ ولأنه تحيى به الأرواح كما تحيى به الأبدان بها، فالله سبحانه وتعالى يقول: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الشورى/52) ويقول سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) (يونس/57) فإنه سبحانه وتعالى يشفي ما في صدور عباده باستلهام هذا النور المبين الذي أنزله على قلب خاتم النبيين سيدنا ونبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والتسليم، وسماه الله تعالى نورا فقد قال: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا) (النساء/174) ويقول تعالى: (قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (المائدة/ 15 ـ 169).

وقد أمرنا الله تعالى بالاحتكام إليه، ويجب أن يكون مصدر أحكام المسلمين، وموئل احتكامهم، فقال عز من قائل: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء/59) والرد إلى الله تعالى يعني الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم يعني الرد إلى سنته عليه أفضل الصلاة والسلام، فإذا التبست الأمور، ولم يتبين الحق من الباطل؛ فعلى من يريد الاستبصار أن يرجع إلى هذا النور الذي يميز الله سبحانه وتعالى به بين الهدى والظلال، وبين الحق والباطل، وبين الحقيقة والوهم، وكذلك سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي تفصيل لما أجمل في كتاب الله، وبيان لما انبهم والله، يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل/44) فعلى هذه الأمة أن ترجع في كل دقيقة وجليلة من أمرها إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا الكتاب المبين الذي شفى الله به صدور المؤمنين، فأخرجهم مما كانوا فيه وعليه من الحيرة والضلالة والعمى إلى البصيرة والهدى، فعرفت ما تأتيه وما تذره، لقد شفى الله صدور سلف هذه الأمة بهذا الكتاب المبين، وألف به بين قلوبها المتنافرة، فأصبح السلف الصالح أمة واحدة وصفها الله سبحانه وتعالى بكونهم خير أمة أخرجت للناس، وإنما يعود ذلك كله إلى اعتصامهم بكتاب الله، والنبي صلى الله عليه وسلم أنذر هذه الأمة بأنها ستكون فيها فتن كقطع الليل المظلم، وأمرها أن تحتكم إلى كتاب الله، وأن ترجع إليه لتستلهم منه الحق ولتستبصر به في مسالك حياتها، فقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام: «ستكون من بعدي فتن كقطع الليل المظلم»، قيل له: وما المخلص منها يا رسول الله؟ قال: «كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم والصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرد، وهو الذي لم تنتهِ الجن إذ سمعته أن قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا، من قال قوله صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن اهتدى به فقد هدي إلى صراط مستقيم».

والله سبحانه وتعالى قد أودع هذا الكتاب المبين أسرار هذا الكون التي أخذت تتكشف للناس شيئا فشيئا، وكلما انكشف منها شيء كان تذكيرا واضحا لكتاب الله سبحانه، وبيانا لما أجمل من آيات الله عز وجل التي تتحدث عن آياته الكونية في الأنفس وفي الآفاق، وقد وعد الله تبارك وتعالى أن يكشف لعباده هذه الأسرار الكونية ليتجلى لهم الحق الذي في كتابه العزيز، فقد قال عز من قائل: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ) (فصلت/52 ـ 54) والله سبحانه وتعالى أشار إلى انطواء هذا القرآن الكريم على أسرار السماوات والأرض، فقد قال سبحانه: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) (الفرقان/ 4 ـ 5) ثم رد عليهم بقوله: (قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (الفرقان/6) وليس هذا الرد إلا إشارة واضحة على انطواء القرآن الكريم على أسرار السماوات والأرض، وفي كتاب الله سبحانه وتعالى ما يأخذ ببصائر العباد إلى التفكير في أسرار هذا الكون والتدبر في آيات الله تبارك وتعالى التي تقرأ سطورا على صفحات هذا الكون، وإنما يستبصر بذلك المستبصرون، فالله تبارك وتعالى قد خاطب بهذا القرآن أولي الألباب الذين يدركون هذه الحقائق ويشتغلون بالتفكر في ملكوت الله تبارك وتعالى في هذا الكون، أما الذين انطمست بصائرهم، وانغلقت أذهانهم، وعميت أبصارهم، وتحجرت عقولهم؛ فلا يدركون سرا من هذه الأسرار، وإنما ينحبسون في هذا المضيق مضيق المادة الذي يعيشون فيه، ولذلك لا يطّلعون على ما وراء هذا الكون من أسرار الله تعالى التي تتحدث عنها آياته في كتابه عز وجل.

ولئن كان سلف هذه الأمة عزّ بالتمسك بكتاب الله، واجتمع شمله بالاجتماع على هدي هذا القرآن الكريم؛ فإن خلفها لا يمكن أبدا أن يجتمع شمله، وأن يعز بعد ذله إلا بالاعتصام بكتاب الله سبحانه وتعالى.

فاتقوا الله يا عباد الله، واعتصموا بهذا الكتاب المبين، واتبعوا هذا النور المبين، وعضوا بالنواجذ على هذا الذكر الحكيم، وانهجوا هذا الصراط المستقيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروا الله يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم؛ إنه هو البر الكريم.

*          *            *

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأشكره، وأتوب إليه من جميع الذنوب وأستغفره، وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أتباعه وحزبه إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله اتقوا الله، واعلموا أن هذه الأمة لم تتعلم من جهلها، ولم تهتد من ضلالتها إلا بالاعتصام بما أنزله الله سبحانه وتعالى على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم بعد الإيمان الكامل، فقد امتن الله تبارك وتعالى على المؤمنين بما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم من كتاب وحكمة بعد امتنانه عليهم ببعثه صلى الله عليه وسلم إليهم، فقد قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) (آل عمران/164) فإن الله سبحانه وتعالى قد امتن في هذه الآية امتنانا صريحا ببعثه نبيه صلى الله عليه وسلم إلى المؤمنين، وامتن عليهم امتنانا ضمنيا بإنزاله الكتاب الذي علمهم إياه رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمهم إلا الكتاب الذي أنزله الله تبارك وتعالى عليه، هذا الكتاب المبين الذي جمع هذه الأمة بعد فرقتها، ووحدها بعد تمزقها، فأصبحت أمة واحدة قوية تستبصر بنور الله سبحانه، وتقدم بأمره، وتتبع هديه، وتصدّ عن كل ما أمر الله تبارك وتعالى بالصدود عنه من المسالك الشيطانية، هذه الأمة إنما قويت بعد ضعفها باتباع كتاب الله سبحانه وتعالى، وتعلمت بعد جهلها بالتمسك بهذا الكتاب المبين، فقد حافظت عليه تلاوة ودراسة وتفسيرا وتأملا لما فيه، وبهذا استبصرت كل الاستبصار.

فاتقوا الله يا عباد الله، وتعلموا كتاب الله وعلموه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»، تعلموا القرآن الكريم تلاوة وحفظا وتفسيرا وعلموه، كذلك ورثوه أولادكم، حافظوا على تعويدهم تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى، وعلى تدبر آياته وتفهم معانيه، والاستبصار بما فيه من الذكر والعبر والعظات؛ لتكون هذه الأمة أمة متواصلة الحلقات، يأخذ آخرها عن أولها، ليس بينها أي انفصام، واعتصموا بما أمركم الله تعالى بالاعتصام به، فقد قال عز من قائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران/102 ـ 105).