بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ثروة الإيمان

الحمد لله رب العالمين، الذي جعل الإيمان أعظم قوة للمؤمنين، وخير ثروة لهم في الدنيا والدين، وجعله تنويرا للبصائر، وتطهيرا للسرائر، وتربية للضمائر، وتزكية للمشاعر، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأثني عليه، وأستغفره من جميع الذنوب وأتوب إليه، وأؤمن به وأتوكل عليه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله الله بالحق المبين، فجعله رحمة للعالمين، وسراجا للمهتدين، وإماما للمتقين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، وسار على نهجه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله، إن أعظم ثروة في الدين والدنيا هي ثروة الإيمان بالله وبما فرض الله الإيمان به من الأركان الستة إيمانا يلامس شغاف القلب، ويمتلك المشاعر والعقل والوجدان؛ فإن الحياة بدون هذا الإيمان حياة خاوية الروح، خاوية الفكر، مظلمة الجوانب، لا قيمة لها عند الله، ولا قيمة لها عند من أدرك الحقيقة بالتلقي عن الله سبحانه وتعالى؛ فإن الإيمان هو الذي يحل ألغاز هذا الوجود، ويفسر حقيقته، ويبين للإنسان مبدأه ومصيره، ويبين له الحكمة من وجوده، ويبين له وظيفته في هذا الوجود؛ ولذلك فإن من حرم هذا الإيمان فقد حرم خير الدنيا والآخرة، ومن رزق الإيمان رزق خير الدنيا والآخرة، والمؤمنون يستمدون بصائرهم من عند الله سبحانه وتعالى، فلذلك جعل الله سبحانه وتعالى في إيمانهم لكل مشكلة حلا، ولكل لغز بيانا، فهم يعلمون من أين مبدأهم، وإلى أين مصيرهم، وما هي وظيفتهم في هذه الحياة، وأي شيء وجدوا لأجله، يعلمون أن الله سبحانه وتعالى هو مبدئهم، وأنه خلقهم؛ ليقيم عليهم حجته، وليفيض عليهم نعمته، وليبتليهم بصنوف ابتلاء التكاليف المختلفة الظاهرة والباطنة؛ سواء ما يتعلق منها بالعقيدة، وما يتعلق منها بالعمل، وأن منقلبهم إلى الله، وأن الله سبحانه وتعالى سوف يجزيهم بما قدموا في هذه الدنيا (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة/ 7 ـ 8)، ولذلك لا يخسر الإنسان أجر ما عمل من خير.

أما الذين حرموا من هذا الإيمان فإنهم في ريبهم يترددون، وفي ضلالهم يتيهون، لا يعرفون من هذه الحياة الزمنية إلا حلقة قصيرة، وهي التي تتمثل ما بين المبدأ والمصير؛ أي هذه الحياة العاملة، ولا يعرفون من الحياة الكونية إلا العالم المادي الظاهر الذي تقع عليه حواسهم، أو الذي يكتشفونه بالآلات، وهي امتداد لهذه الحواس، أما ما وراء ذلك فإنهم يجهلونه تمام الجهل، لا يعرفون من أين مبدأهم، ولا إلى أين مصيرهم، ولا لماذا وجدوا، ولا يعرفون ما هي علاقتهم بهذا الكون، ولا علاقتهم بخالق الكون؛ لأنهم لا يؤمنون بخالق الكون رأسا. إن هذا الصنف من الناس حياته مظلمة الجوانب، لا تفيء بخير على الأمة، وإنما هم مجرد عنت وشقاء، ومحنة وبلاء في هذا المجتمع الإنساني، ليست حياتهم إلا تدميرا للقيم، وقضاء على العقيدة، ومحاولة لنشر الرذائل وبث الفتن بأي وسيلة كانت، وهم بجانب ذلك ناقمون على بني جنسهم، بل ناقمون على الكون بأسره؛ لأنهم لا يعرفون لهم صلة بهذا الكون إلا صلة العِداء، لذلك يتردد على ألسنتهم ما يدل على هذا العِداء كقولهم: قست الطبيعة على فلان، وقهر فلان الطبيعة إلى غير ذلك من العبارات التي ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، فهم يحسون بوحشة في هذا الوجود، وبالذل في هذا الكون؛ لأن بصائرهم مظلمة، وسرائرهم متلوثة، وضمائرهم خبيثة، ومشاعرهم متكبرة، فهم لا يقيمون أي وزن منها لهذه الحياة إلا بقدر ما يلتهمون فيها من الملذات على حساب القيم وحساب الفضائل والأخلاق.

أما المؤمنون الذين لامس الإيمان شغاف قلوبهم؛ فهم يعلمون أنهم إنما خلقوا لعبادة الله سبحانه وتعالى، وأن الكون بأسره مسخر بأمر الله، فإذا اكتشفوا أي جانب من جوانب هذا الكون، وأي ظاهرة من ظواهر الطبيعية؛ ضموا إلى رصيدهم رصيدا جديدا من الإيمان والنور، النور الذي يتوقد في أفكارهم، ويتوقد في عقيدتهم، والذين لا يؤمنون بالله ـ وإن اكتشفوا ما اكتشفوا ـ فإنما يزدادون بذلك حيرة، ويزدادون بذلك ضلالة؛ لأنهم لا ينطلقون في فكرهم إلا من زاوية الحياة المادية فحسب، والذين يؤمنون بالله سبحانه وتعالى يأنسون بالله سبحانه وتعالى في كل لحظة من اللحظات؛ لأنهم يذكرون الله آناء الليل وآناء النهار، فهم يتدبرون آيات الله، وينظرون إلى هذا الكون الواسع الفسيح؛ ليستجلوا منه مشاهد جلال الله وجماله وعلوّه وكبريائه وعزته سبحانه وتعالى ونعمته على خلقه، فهم كما قال الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) (آل عمران/190 ـ 194) فيأنسون بالله سبحانه وتعالى، ويأنسون بهذا الكون بأسره؛ لأنهم يعلمون أن هذا الكون يدور في محور واحد، ويسير في اتجاه واحد، فهو مسخر بأمر الله سبحانه وتعالى، ويخضع لحكم الله سبحانه، وهو لا يخرج عن النظام الذي سنه الله تبارك وتعالى لهذا الوجود، ولذلك فإن كل ذرة من ذراته تسبح بحمد الله سبحانه، وتسجد خاضعة لجلال الله، فيشعر المؤمن عندما يسبح بحمد الله أن الكون كله يشاركه في هذا التسبيح، وعندما يسجد لجلال الله وعزته أن الكون بجميع جزئياته وجميع ذراته يشاركه في هذا السجود العظيم لله سبحانه وتعالى رب العالمين، وما أقدس تلك المشاعر التي تملأ وجدان الإنسان وهو يتملّى آيات الله سبحانه وتعالى التي تدل على هذه الحقيقة عندما يستشعر معاني قول الله سبحانه وتعالى (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (الإسراء/44) وقوله سبحانه وتعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الحشر/1) وقوله تعالى: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (الجمعة/1) وقوله عزّ من قائل: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) (الحج/18) ما أعظم هذا الأنس العظيم الذي يشعر به العبد في صلته بالله سبحانه وتعالى، وفي علاقته بالكون عندما يملأ الإيمان جوانبه! ولذلك فلا يحاول الانتقام، ولا يحاول التشفي، ويرضى بكل قضاء الله، مؤمن بأن الكون بأسره يسير حسب قضاء الله تعالى وقدرته، مستشعر معاني قوله عزّ من قائل: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة/51).

فاتقوا الله يا عباد الله، وأخلصوا لله تعالى إيمانكم، وطهروا سرائركم ووجدانكم، وزكوا مشاعركم بهذا الإيمان بالصلة بالله سبحانه وتعالى وذكره في آناء الليل وفي آناء النهار.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروا الله يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم؛ إنه هو البـر الكريم.

*         *          *

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده سبحانه بما هو أهل من الحمد وأشكره، وأتوب إليه من جميع الذنوب وأستغفره، وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، وسار على نهجه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله اتقوا الله، واحذروا سخطه، وأطيعوه في كل ما أمركم به ونهاكم عنه، ولتكن أعمالكم كلها منطلقة من إيمانكم بالله واليوم الآخر؛ فإن الإيمان بالله واليوم الآخر ميزان لصالحات الأعمال، فمن وجد عمله مطابقا لما يقتضيه إيمانه بربه وإيمانه بمصيره فقد أفلح، ومن كان عمله مخالفا لما يقتضيه إيمانه بربه وإيمانه بمصيره فقد خسر خسرانا مبينا، واعلموا أن في صفوف المسلمين قوما من أبناء جلدتهم، ويتحدثون بألسنتهم؛ ولكنهم يحاولون غرس الشكوك في نفوسهم؛ ذلك لأنهم قطعوا صلتهم بالله سبحانه وتعالى، فهم يحاولون التشكيك في الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، ويريدون لهذا الإنسان أن يتربى في دركات الهوان، وأن يصل إلى حضيض العذاب والعياذ بالله، فهؤلاء أعداء أنفسهم وأعداء الإنسانية، يمجدون أولئك الذين هم أساتذتهم وقادتهم في هذا الطريق، ويحاولون أن يعظموهم في أعين الناس وفي قلوبهم؛ ليتخذوهم قدوة في البعد عن الله تعالى، والشك فيما أنزل، وعدم الإيمان بما فرض الإيمان به، فاحذروا أولئك، وربوا أولادكم على العقيدة الصحيحة الناصعة البيضاء التي جاءت في كتاب الله وفي سنة رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام، وطهروا سرائرهم بالإيمان، وقدسوا نفوسهم بذكر الله سبحانه وتعالى واليوم الآخر، واغرسوا في نفوسهم اليقين، وصلوهم برب العالمين، واكشفوا لهم ما انبهم عليهم من آيات الله سبحانه التي تتجلى للمتدبر في الأنفس وفي الآفاق.