بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مكانة تزكية الأنفس في الإسلام

الحمد لله الذي منح أولياءه الصالحين التوفيق، فارتقوا بأنفسهم إلى درجات التزكية والهداية ورمى أعداءه المجرمين بالخذلان، فانحطوا بنفوسهم إلى دركات التدسية والغواية، سبحانه أحمده بما هو له أهل من الحمد وأثني عليه، وأستغفره من جميع الذنوب وأتوب إليه، وأؤمن به وأتوكل عليه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضللا مبينا، وأشهد أن سيدنا و نبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله إلى خلقه بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، وسار على نهجه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله اتقوا الله، وزكوا أنفسكم بالإيمان الصادق والعمل الصالح والإخلاص لله تبارك وتعالى في القول والعمل؛ فإن الله عز وجل يقول: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (الأعلى/ 14 ـ 15) ويقول تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) (الشمس/ 9 ـ 10) واعلموا أن التزكية هي من أعظم المطالب فيما بعث الله سبحانه وتعالى به رسله وأنزل به كتبه؛ فإن الله تبارك وتعالى يقول امتنانا على عباده بأن بعث فيهم عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (آل عمران/164) فذكر التزكية إثر ذكره إنزال الكتاب عليه وتعليمه العباد ما أنزله الله سبحانه وتعالى عليهم، وكذلك يقول الله سبحانه امتنانا على العرب الأميين: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (الجمعة/2)، ويقول حكاية عن عبده إبراهيم عليه السلام: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) (البقرة/129).

فطالب العلم عليه قبل كل شيء أن يزكي نفسه بالعمل الصالح بعد تزكيتها بالإيمان الصادق، وعليه مع ذلك أن يكون في قوله وعمله مخلصا لله سبحانه وتعالى، وكذلك صاحب كل عمل، فإن العلم ثمرته العمل، وثمرة العمل الإخلاص لله سبحانه وتعالى؛ إذ الله سبحانه وتعالى يقول: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (البينة/5)، ويقول سبحانه وتعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف/ 110).

واعلموا أن كل عبادة من العبادات التي شرعها الله سبحانه إنما شرعها لتزكية النفس، فإن الله عز وجل يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/21) فالعبادة تؤدي إلى تقوى الله، ولذلك جعلت التقوى هي الغاية منها، وتقوى الله سبحانه هي منتهى التزكية للنفس؛ لأنها تجمع بين العقيدة الصحيحة  الراسخة في النفس وبين ترك كل ما نهى الله عنه والمسارعة إلى كل ما أمر به سبحانه، ومن ذلك ما يقوله سبحانه وتعالى في الصلاة، فإنه عز وجل يقول فيها: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت/45) وكذلك يقول الله تعالى في الزكاة: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) (التوبة/103) كما أنه سبحانه يقول في الصيام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/183) وذكر الحج مقرونا بالتقوى في كثير من آيات الكتاب، ومن ذلك قوله عز وجل: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) (البقرة/197)، وفي هذا ما يدل على أن التزكية للنفس الإنسانية هي الغاية من كل هذه العبادات المشروعة، فالصلاة بما فيها من ذكر الله سبحانه وتعالى توقظ مشاعر الإنسان، وتنبه أحاسيسه لما فيه خيره في دنياه وفي آخرته، فكل كلمة يأتي بها المصلي في صلاته من ذكر وتلاوة تسكب في النفس البشرية شعورا بعظمة الله سبحانه وتعالى، وأن المنقلب إليه، وأنه لا سعادة للإنسان إلا إذا ما اتقى الله سبحانه وتعالى في سريرته وفي علانيته، وبذلك ينفلت من صلاته نقيا طاهرا نظيفا من كل أكدار المعاصي التي تلبس بها بعد توبته وإنابته إلى الله سبحانه وتعالى منها، ويدل على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما يقول عليه أفضل الصلاة والسلام: «أرأيتم  لو أن بباب أحدكم نهرا جاريا غمرا ينغمس فيه كل يوم وليلة خمس مرات أيبقى من درنه شيء؟» قالوا: لا يا رسول الله، قال: «فذلك مثل الصلوات الخمس». والصيام يصل هذه النفوس ببارئها، فإن فيه صقلا للنفس البشرية عن شهواتها وملذاتها، وفي ذلك تقوية للضمير والإرادة على هذه الشهوات والرغبات، كما أن فيه تذكيرا لهذا الإنسان بأحوال البؤساء والمساكين، فترقّ أحاسيسه ومشاعره تجاههم، ويفيض عليهم مما أتاه الله سبحانه وتعالى من خير، وكذلك الزكاة هي تزكية للنفس البشرية؛ لأنها تطهر هذه النفس من الشح، وتطهرها من الشهوة المالية التي إذا استأثرت بالنفس، فعادت داء عضالا يستعصي علاجه، ويتعذر استئصاله. وكذلك الحج يجمع بين عباد الله تعالى المؤمنين من شتى أقطار الأرض في ذلك المكان الطاهر؛ بحيث تعرج هنالك النفوس إلى بارئها سبحانه وتعالى، وهي تتذكر ما كان من السلف الصالح من تضحية في سبيل الحق من لدن إبراهيم عليه السلام  ومرورا بمحمد صلى الله عليه وسلم  وبصحبه الكرام، وهكذا  فكل عبادة إذا من هذه العبادات تؤدي إلى طهارة النفس الإنسانية.

فعلى الإنسان أن يتقي الله في سريرته وعلانيته، وأن يعلم أن إيثار شهوة نفسه ورغبتها مما يؤدي به والعياذ بالله إلى الشقاء في الدار الآخرة، فإن الشهوة هي التي تؤدي إلى أن تستأثر بالنفس الرغبةُ في معصية الله عز وجل؛ حتى لا يبالي الإنسان بما يأتيه وبما يذره في سبيل إيثار هذه الشهوة وإشباع نفسه منها. ونجد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدعو إلى التزكية تزكية هذه النفس بالعودة إلى الله تعالى عند مقارفة أي معصية من المعاصي، فإن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام يقول: «إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قبله، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكره الله في قوله: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين/14)» ذلك لأن إيثار المعصية تدسية للنفس، والله سبحانه وتعالى يقول: (وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) (الشمس/ 10).

فاتقوا الله يا عباد الله، وأصلحوا قلوبكم بتقوى الله في سريرتكم وفي علانيتكم، وأخلصوا له جميع أعمالكم وأقوالكم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروا الله يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم؛ إنه هو البرّ الكريم.

*         *        *

الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأشكره، وأتوب إليه من جميع الذنوب وأستغفره، وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله اتقوا الله، وأنيبوا إليه واستغفروه، وحاسبوا أنفسكم على كل ذنب أذنبتموه؛ فإن محاسبة النفس هي التي تؤدي إلى طهارة القلب كما دل عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء في الحديث ما يدل على أن صلاح القلب صلاح للجسم كله، وأن فساده فساد للجسم كله، فالنبي عليه أفضل الصلاة والسلام يقول: «ألا وإن في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»، وصلاح القلب لا يكون إلا بالإيمان الصادق والعمل الصالح؛ أي بالطاعة المطلقة التي تجمع بين فعل المأمورات وترك المنهيات، مع إخلاص ذلك كله لله سبحانه وتعالى، فصلاح القلب هو الذي يؤدي إلى انضباط الإنسان في سلوكه ومعاملاته، ويؤدي إلى أن تكون كل جزئية من جزئيات أعمال الإنسان جزئية بناءة في حياته؛ ذلك لأن الإنسان مطالب في جميع ما يأتيه وما يذره في هذه الحياة بأن يزن أعماله كلها بموازين الله سبحانه وتعالى التي أنزلها، وذلك يقتضي كف النفس عن جميع المعاصي وضبط الجوارح حتى لا تقع في شيء منها، فتقوى الله سبحانه وتعالى تؤدي إلى أن يضبط الإنسان لسانه، فلا يقول زورا، ولا يقع في غيبة ولا في نميمة، ولا يقول أي هجر يحرمه الله سبحانه وتعالى، كذلك تؤدي تقوى الله عز وجل إلى كف اليد عن البطش بغير ما أذن الله تبارك وتعالى به، وتؤدي إلى عدم تناول اليد أي شيء من محارم الله، وعدم إتيانه أي شيء مما هو حرام في شرع الله، كذلك القدم إنما تضبط حركتها بتقوى الله تبارك وتعالى، فعندما يكون العبد متقيا ومنيبا إلى الله عز وجل لا يسعى بقدمه إلى شيء من محارم الله، وكذلك الأذن، وكذلك العين، كل منهما مع تقوى الله سبحانه وتعالى لا تستعمل إلا فيما يُرضي الله عز وجل، وبذلك يصلح القلب؛ لأنه سلطان هذه الجوارح، وبصلاحه تصلح جميعا.

فاتقوا الله يا عباد الله، وأنيبوا إلى ربكم (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) (البقرة/281).