بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

فضل التهجد في الليل

الحمد لله الذي نور بالإيمان بصائر المؤمنين، وطهر بالعبادة سرائر العابدين، وأيقظ بالتهجد عزائم القائمين، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأثني عليه، وأستغفره من جميع الذنوب وأتوب إليه، وأؤمن به وأتوكل عليه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، سبحانه (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)  (الإسراء/44) وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبدالله ورسوله، وصفيه وخليله، أفضل من سجد وركع، ودعا وخضع، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الذين (كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الذاريات/ 17 ـ 18)، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم يبعثون، أما بعد:

فيا عباد الله من حيث إن الإنسان ينوء بتكاليف شخصية واجتماعية، ويتصدى لعوارض ذاتية ومؤثرات خارجية؛ كان أحوج ما يكون إلى رعاية الله سبحانه وتعالى وعونه، وعون الله إنما يأتي بالاستعانة، وأهم طرق الاستعانة أداء العبادة لله سبحانه وتعالى كما شرع، وإن مما يوقظ العزائم ويبعث الهمم اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى في جنح الليل البهيم، ولذلك عندما آذن الله عز وجل عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم بتكاليف الرسالة وأعباء الأمانة العظمى التي يلقيها على عاتقه؛ أمره تعالى بأن يتهجد في جنح الليل مستعينا بذلك على القيام بأمره عز وجل، فقد قال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) (المزمل/ 1 ـ 8) وقد وعد الله تعالى عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم في أمره إياه بأن يقوم الليل بأن يبعثه مقاما محمودا؛ إذ قال عز وجل: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) (الإسراء/79) وأكد الله عز وجل عليه صلوات الله وسلامه عليه بأن يسجد لله تعالى في جنح الليل، وأن يسبحه ليلا طويلا؛ حيث قال له: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا) (الإنسان/26).

ومن هنا كان المقربون إلى الله سبحانه وتعالى من عباده المخلصين لا يفتؤون عن التهجد في جنح الليل، فإذا ما أظلم الليل الساجي، وغرقت العيون في الكرى، وطارت الخيالات بألباب النائمين في أجواء الأحلام، وطاف الليل والراحة للغافلين؛ استيقظت عزائم عباد الله تعالى المقربين، فكادت نفوسهم تزهق من رجفة الخشية لولا ما يغشاها من سكينة الإيمان، وكادت قلوبهم تذوب من حرارة الخوف لولا ما يكون فيها من برد الرجاء، فوقفوا أمام الله سبحانه وتعالى ماثلين، يقضّون ليلهم بين تسبيح وتعظيم وقرآن، وبين ركوع وسجود وقيام، وهكذا شأن عباد الله تعالى المتقين الذين جعل الله تعالى عبادته نصب أعينهم، وجعل رضوانه أهم ما يهدفون إليه، وقد وصفهم تبارك وتعالى بذلك في محكم كتابه العزيز، فقد قال تعالى في الذين يؤمنون حقا بما أنزل: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (السجدة/16)، وأخبر الله تعالى عن صفات أصحاب الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، وكان مما قاله فيهم: (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ) (الفتح/29)، وأخبر الله عن شأن المتقين الذين وعدهم الفوز والنعيم يـوم القيامة فقال: (كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الذاريات/ 17 ـ 18).

هذا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرص ما يكون على امتثال أمره عز وجل، فكان يدأب على قيام الليل، وقد ثبت من طرق كثيرة عن أصحابه عليه أفضل الصلاة والسلام أنهم كانوا يصفون قيامه صلى الله عليه وسلم، فكان بعضهم يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتورم قدماه، وفي رواية: حتى ترم قدماه، وفي رواية: حتى تنتفخ قدماه أو ساقاه، وبعضهم يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تضلع قدماه، وبعضهم يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، وفي رواية: حتى تنفطر قدماه، فيقال له: أتصنع ذلك، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيقول عليه أفضل الصلاة والسلام: «أفلا أكون عبدا شكورا؟!»، وقد روي من طريق حذيفة رضي الله عنه أنه صلى وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ في ركعة واحدة البقرة وآل عمران والنساء، وروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل، فأطال القراءة حتى هممت بأمر سوء، قيل له: وما الذي هممت به؟ قال: هممت أن أقعد وأتركه، هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله تعالى له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، والذي وعده أن يبعثه المقام المحمود يوم القيامة.

وقد حض رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما حض على التهجد في جنح الليل، وكان يبدأ عليه أفضل الصلاة والسلام بحض أهله على ذلك عملا بقول الله سبحانه: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (طه/132) فقد روت أم سلمة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من الليل في ليلة وقال: «لا إله إلا الله، ماذا أنزل من الفتنة الليلة؟ ماذا أنزل من الخزائن الليلة أو قال: ماذا فتح من الخزائن الليلة؟ من يوقظ صواحب الحجرات ليصلين، رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة»، ويريد بصواحب الحجرات أزواجه عليه أفضل الصلاة والسلام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «رحم الله رجلا قام من الليل فصلى، ثم أيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء»، وجاء في الحديث عنه عليه أفضل الصلاة والسلام: أن الرجل إذا أيقظ أهله وصليا ركعتين كتبا في الذاكرين الله كثيرا والذاكرات، ومثّل الرسول صلى الله عليه وسلم حالة الذين يقومون الليل، وحالة الذين يتهاونون بالقيام؛ إذ قال عليه أفضل الصلاة والسلام: «يعقد الشيطان على قافية أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة مكانها عليك ليل طويل فارقد، فإن هو قام وذكر الله انحلت عقدة، فإذا توضأ انحلت عقدة، فإذا صلى انحلت عقده كلها، فأصبح طيب النفس نشيطا، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان»، وذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجل نام حتى أصبح، ولم يقم إلى الصلاة؛ أي إلى صلاة الليل، فقال له صلى الله عليه وسلم: «ذلكم رجل بال الشيطان في أذنيه»، وهكذا كان عليه أفضل الصلاة والسلام يحض المؤمنين على التهجد في جنح الليل، ويحذرهم من التفريط في ذلك، وقد أخبر صلوات الله وسلامه عليه عن فضل الله على عباده الذين يتهجدون في جنح الليل؛ إذ يكتب لهم أجر تهجدهم ولو غلبهم النوم ما داموا ناوين التهجد، فقد جاء في الحديث عنه صلوات الله وسلامه عليه: «ما من امرئ تكون له صلاة بالليل، فغلبه عليها النوم إلا كتب الله له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة».

فاتقوا الله يا عباد الله، واحرصوا على ما يقربكم إلى الله تعالى زلفى، واجعلوا لأنفسكم نصيبا من الليل تتضرعون في ذلك القسط منه إلى الله عز وجل، وتجأرون إليه، وتستغفرون مـن خطاياكم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروا الله يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم؛ إنه هو البرّ الكـريم.

*         *        *

الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأشكره، وأتوب إليه من جميع الذنوب وأستغفره، وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أتباعه وحزبه إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله إن على الشباب أن يحرصوا جهدهم على انتهاز الفرص في جنح الليل، وأن لا يركنوا إلى الدعة والراحة والنوم والطمأنينة، وأن لا يكون نصيبهم من الليل سهرُ أوله في المجون وقضاء آخره  في النوم الثقيل، إنما عليهم أن ينتهزوا فرصة شبابهم ونشاطهم وقوتهم، فيجأروا إلى الله سبحانه وتعالى مستغفرين لذنوبهم، راجين منه عز وجل أن يوفقهم لطاعته، وأن يقربهم إلى مرضاته، وأن يكونوا خلفا للسلف الصالح الذين استقاموا على الطريقة حتى لقوا الله عز وجل فيه، وأن يتذكروا دائما قوله عليه أفضل الصلاة والسلام: «لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيمَ أفناه، وعن شبابه فيمَ أبلاه» إلى آخر الحديث، فلينتهزوا فرصة العمر في طاعة الله سبحانه وتعالى ، ولينتهزوا فرصة شبابهم ونشاطهم في التهجد والضراعة إليه عز وجل، والتبتل بين يديه والتذلل والرجاء فيما عنده؛ فإن ذلك خير لهم وأنفع.

فاتقوا الله يا عباد الله، واحرصوا على طاعته سبحانه وتعالى، وتقربوا إليه زلفى بصنوف الطاعات وأنواع القربات.