بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

خلافة الإنسان في الأرض

الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، ومنّ فأعطى، سبحانه خلق الإنسان في أحسن تقويم، ومنّ عليه بصنوف التكريم، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأثني عليه، وأستغفره من جميع الذنوب وأتوب إليه، وأؤمن به وأتوكل عليه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، وسار على نهجه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله إنه ليجدر بالإنسان وهو يرى نفسه على قاطرة هذه الحياة، تسير به مع الراكبين عليها إلى حيث يعلم الله سبحانه وتعالى؛ أن يسأل عن المبدأ والمصير، وأن يفكر في أمره، وأن يتبين تكاليفه ليعلم لماذا خلق في هذه الحياة، فإن الإنسان لم يخلق هملا، ولم يترك سدى، وحسبه شاهدا على ذلك ما يراه في نفسه من الطاقات المتنوعة والقوى المختلفة التي ميزه الله سبحانه وتعالى بها عن غيره من الكائنات الموجودة في هذه الأرض، فهو سيد في هذا الكون، من ّ الله تعالى عليه بتسخير منافعه له، وهو خليفة في هذه الأرض، أمّنه الله تبارك وتعالى ما فيها، وجعل له كل ما فيها مسخرا له تسخيرا، فجدير بهذا الإنسان أن يتبين في أمره؛ ليؤدي دوره في هذه الحياة على حسب ما أراد منه سبحانه وتعالى، الذي استخلفه في هذه الأرض، وجعله سيدا في هذا الكون، ولا يمكنه أن يتبين ذلك إلا إذا استلهم هذه الحقائق من وحي الله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل يقول: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات/56ـ58).

 ويبين سبحانه وتعالى أن مصير البشر مرهون بأعمالهم التي يعملونها في هذه الحياة، فالله تبارك وتعالى يقول: (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) (النساء/124)، والله تبارك وتعالى يقول: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (يونس/26ـ27)، والآيات في هذا كثيرة.

فالإنسان خلق ليتحمل أمانة التكليف في هذه الحياة، وهذا التكليف منوط بعقل الإنسان الذي ميّزه الله تعالى به على غيره من الكائنات الموجودة في هذه الأرض، وبسببه استخلفه الله تعالى في هذه الأرض، وبوأه هذا المنصب الرفيع، ورفعه إلى هذا الأوج الشامخ، وبهذا العقل مكّن الله تعالى لهذا الإنسان، فاستخرج رزقه من بطن هذه الأرض ومن أعماق بحارها، بهذا العقل استطاع الإنسان أن يسخر الكائنات المختلفة التي هي موجودة في هذه الأرض لمصلحته، ولم تستطع هي بدورها أن تسخر الإنسان لمصلحتها، وما ذلك إلا لتميّز الإنسان عليها، والتكليف بقدر التشريف، فبقدر ما أعطى الله تبارك وتعالى الإنسان من هذا الخير العظيم؛ جعل كاهله مثقلا بأمانة التكليف العظمى التي ثقلت على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا.  فجدير بهذا الإنسان أن يتبصر في أمره، وأن يدرك أنه أوجد ليحقق أمانة الله سبحانه وتعالى، وليقوم بتطبيق منهج الله سبحانه في هذه الحياة، هذا التطبيق إنما يتم بالخضوع المطلق لأمر الله، والانقياد لحكمه، والإذعان لطاعته، واستلهام كل خير من قبله، وتلكم هي عبادة الله سبحانه التي عناها الحق عندما قال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات/ 56).

 فليست العبادة المطلوبة هي في توجّه الإنسان إلى القبلة ليركع ركعات فحسب، أو في أداء جزء من ماله في وقت ما، أو أن يفطم نفسه عن رغباته من الطعام والشراب في جزء من الوقت، ولكن عبادة الله سبحانه وتعالى  تعني الخضوع التام لأمر الله، والانقياد لحكمه عز وجل؛ حتى يكون الإنسان محاسبا لنفسه في كل ما يأتي وفي كل ما يذر، وإذا كان الناس متفاوتين في مختلف المواهب التي وهبهم الله تبارك وتعالى إياها؛ بحيث لا يمكن أن يقاس بين أحد وآخر عندما ينظر إلى من بلغ في هذا الشأو الرفيع، وكان الآخر في الحضيض النازل، فإن التفاوت الحقيقي إنما هو في موهبة الله تبارك وتعالى والتوفيق لعباده، فبقدر ما يوفق الله تبارك وتعالى العبد لأداء هذه العبادة، والاستقامة على الطريقة، والعض بالنواجذ على أوامر الله تعالى ونواهيه، يكون الإنسان قد تميز عن غيره، وفاق أقرانه، ووهب من المنزلة ما وهب، ووهب من النعمة ما وهب، فالله تبارك وتعالى لا يحاسب الناس يوم القيامة إلا على أعمالهم التي عملوها في هذه الدنيا، ومصير الإنسان مرهون بعمله، والناس يتفاوتون يوم القيامة بقدر تفاوتهم في هذه الدنيا في تقوى الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/13).

 والله تبارك وتعالى قد حض عباده على النظر في عاقبة أمرهم، والتفكر في مصيرهم، والتزود من حاضرهم لمستقبلهم، فقد قال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر/18)، فمن تزود التقوى فقد فاز وربح، وعلى الإنسان أن يفكر في أمره، فإن الطريق طويل، والتبعة ثقيلة، والأمر عسير، والمستقبل غيب، فالإنسان تسير به هذه الأيام سيرا حثيثا لا ينقطع في ليله ولا في نهاره، في يقظته ولا في نومه، في ذكره ولا في غفلته، في جميع أحواله تسير به الأيام سيرا حثيثا لا ينقطع بأي حال من الأحوال إلا عندما ينقطع به السير، ويتوقف به الأجل، فعلى هذا يجدر بهذا الإنسان أن يفكر إلى أين ينتهي في هذا السير، فالمستقبل غيب؛ إذ المستقبل إما أن يكون جنة عالية، وإما أن يكون نارا حامية، فأهل السعادة ينعمون في جنة عالية، وأهل الشقاوة والعياذ بالله يتقلبون في نار حامية، ولا يدري الإنسان المصير؛ إذ لا يدري بماذا يختم له، فعليه أن يكون في جميع أحواله متعلقا بربه تبارك وتعالى، يسأله حسن الخاتمة، ويسأله التوفيق للعمل الصالح، ويتزود ما يمكن أن يتزوده من هذه الدار من الأعمال التي تبوأه منصب الخير والرحمة عند الله تبارك وتعالى.

فاتقوا الله يا عباد الله (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) (البقرة/281) (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران/133ـ135).

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروا الله يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم؛ إنه هو البرّ الكريم.

*         *        *

الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأشكره، وأتوب إليه من جميع الذنوب وأستغفره، وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أتباعه وحزبه إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله إن على العبد أن يصلح ما بينه وبين ربه، والله تعالى كفيل بأن يصلح ما بينه وبين خلقه، وعليه أن يصلح أمر آخرته، والله تعالى كفيل بأن يصلح أمر دنياه، فمن تعلق بالله سبحانه وتعالى، وراقب الله في كل ما يأتيه وفي كل ما يذره؛ كان الله سبحانه وتعالى كفيلا له بكل خير من خير الدنيا والآخرة، يقول الله تبارك وتعالى آمراً عباده بتقواه: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) (الطلاق/4)، ويقول سبحانه: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (الطلاق/2ـ3)، فعلى العبد أن يعتصم بعروة التقوى، وأن لا يفرط في شيء من أوامر الله، وأن يتدارك بالتوبة إلى الله عز وجل عندما تبدر منه بادرة تفريط، فالذين آمنوا يلجؤون إلى الله عز وجل، وهم الأوابون الذين إذا عملوا شيئا من المعاصي ذكروا الله تعالى فاستغفروا لذنوبهم، يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) (الأعراف/201), فالشيطان يقف للإنسان بالمرصاد دائما، ولكن العاقل من يحاسب نفسه في جميع أوقاته، ويحرص على أن تكون أعماله كلها وفق أمره سبحانه وتعالى.

فاتقوا الله يا عباد الله، وتزودوا تقوى الله عز وجل لدنياكم ولآخرتكم، فمن اتقى فقد اعتصم بالعروة الوثقى، ومن فرط في تقوى الله فقد فرط في الخير كله.