بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

خطبة يوم عرفة

الحمد لله الذي سبح بحمده الوجود، وافتقر إلى ملكه كل موجود، سبحانه تكفل بخلقه فكفى، وعظم حلمه فعفا، وشهد من عباده السر وأخفى، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأثني عليه، وأستغفره من جميع الذنوب وأتوب إليه، وأؤمن به وأتوكل عليه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالا مبينا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وسراجا للمهتدين، وإماما للمتقين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وكشف الغمة، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، وسار على نهجه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله ما أعظم هذا المشهد في هذا اليوم العظيم الذي اجتمعت فيه هذه الحشود من بقاع الأرض، يحدوها أمل المغفرة، ويحفزها رجاء الغفران، وما أشبهه بمشهد يوم القيامة عندما يقف الناس بين يدي الله سبحانه، وقد تخلى عنهم كل شيء (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) (الأنعام/94)، (إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ * يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ * كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (الإنفطار/1ـ19)

عباد الله:

اتقوا الله تعالى، وأخلصوا لله سبحانه وتعالى عملكم، وقفوا في هذا اليوم خاشعة ألبابكم، راجية، خائفة قلوبكم، دامعة عيونكم، راجين من الله تعالى مغفرته، سائلين جائزته؛ فإن الله تعالى يباهي بعباده الحجاج في هذا اليوم الملائكة الكرام، ويشهدهم أنه قد غفر لهم ذنوبهم، يقول لهم: انظروا إليهم، أتوني شعثا غبرا، أشهدكم أني قد غفرت لهم، فتوبوا إلى الله يا عباد الله، وارجوا الله واليوم الآخر (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) (البقرة/281).

عباد الله:

لقد كان الناس في ضلالة عمياء، وفي داهية دهياء، لا يعرفون قيمة لهذه الحياة، لا يعيشون لمبدأ، ولا يعرفون ما هو المصير، فبعث الله تعالى رسولا من أنفسهم، عزيز عليه ما عنتوا، حريص عليهم، بالمؤمنين رؤوف رحيم، فبلغ رسالة ربه، وجاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين، وقبل ألف وأربعمائة عام وعامين من وقتنا هذا، في مثل هذا اليوم؛ وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى هذه الصخرات؛ ليعلن ما بين هذه الأمة أنه أبلغ دعوة ربه، وأنه أبلغ رسالته، وأدى أمانته، وأعلن ميثاقا ربانيا يكفل للإنسانية حقوقها إلى أن تقوم الساعة، أقام جميع البشرية على قدم المساواة، لا فضل لأحد على أحد إلا بقدر اقترابه من الله بالطاعة وحسن العمل، وقال: «يا أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بالآباء، كلكم لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى»، فتقوى الله تعالى ميزان التفاضل بين الناس، فتسابقوا في هذا المضمار، واتقوا الله تعالى في سركم وجهركم، وادعوه بقلوب خاشعة، راجية خائفة مطمئنة، واضرعوا إليه سبحانه وتعالى يستجب الله تعالى لدعائكم، ويلهمكم الله تعالى رشدكم وخيركم، وتمسكوا بكتاب ربكم؛ فإنه هو الشفاء من كل داء، والنور من كل ظلام، والهدى من كل عمى، واسألوا الله تعالى أن يغفر لكم خطاياكم، وأن يتقبل منكم نسككم.

 اللهم نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد الفرد الصمد الذي (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (الإخلاص/3 ـ 4)، نسألك ربنا أن لا تدع لنا في هذا المقام ذنبا إلا غفرته، ولا عيبا إلا أصلحته وسترته، ولا غما إلا فرجته، ولا كربا إلا نفسته، ولا دينا إلا قضيته، ولا مريضا إلا عافيته، ولا غائبا إلا حفظته ورددته، ولا ضالا إلا هديته، ولا عدوا إلا كفيته، ولا دعاء إلا استجبته، ولا رجاء إلا حققته، ولا بلاء إلا كشفته، ولا ولدا إلا أصلحته، ولا ميتا إلا رحمته، ولا سائلا إلا أعطيته، ولا فقيرا إلا أغنيته، ولا جاهلا إلا علمته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضى ولنا صلاح ومنفعة إلا قضيتها ويسرتها بيسر منك وعافية، اللهم اجعل الموت خير غائب ننتظره، والقبر خير بيت نعمره، واجعل ما بعده خيرا لنا منه، اللهم إنا نسألك أن تهب كلا منا لسانا صادقا ذاكرا، وقلبا خاشعا منيبا، وعملا صالحا زاكيا، وإيمانا خالصا ثابتا، ويقينا صادقا راسخا، ورزقا حلالا واسعا، وعلما نافعا رافعا، ونسألك ربنا أن تهبنا إنابة المخلصين، وخشوع المخبتين، ويقين الصديقين، وسعادة المتقين، ودرجة الفائزين، يا أفضل من قصد، وأكرم من سئل، وأحلم من عصي، يا الله يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا نسألك يا الله أن تجعل جمعنا هذا جمعنا مرحوما، وأن تجعل تفرقنا من بعده تفرقا معصوما، وأن لا تجعل فينا ولا منا شقيا ولا محروما، اللهم كما أبلغتنا بيتك العتيق، وأطفتنا به، وأوقفتنا في هذه المشاعر.

نسألك ربنا أن تجعل جائزتنا غفرانك، وعتق رقابنا من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار، وأعتق رقاب جميع المسلمين من آبائنا وأزواجنا وأمهاتنا وذرياتنا وجميع أحبابنا وجميع المسلمين والمسلمات من النار، اللهم وأدخلنا الجنة مع الأبرار، واجعلنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، اللهم يا ذا الجلال والإكرام نسألك ربنا أن تعز الإسلام والمسلمين، وأن تذل الشرك والمشركين، وأن تقطع دابر أعداء الدين، وأن تستأصل شأفتهم، وأن لا تدع لهم من باقية، اللهم شرد بهم في البلاد، وافعل بهم كما فعلت بثمود وعاد، وفرعون ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، اللهم صب عليهم سوط عذاب، وحل بينهم وبين ما يشتهون؛ كما فعلت بأشياعهم من قبل، اللهم أعز أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأظهرها على جميع أعدائها، اللهم أبرم في هذا الأمة أمر صلاح ورشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، ويحكم فيه شرعك، وتقام فيه حدودك، ويتّبع فيه كتابك، وتتبع فيه سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، ويجار فيه الملهوف، ويغاث فيه المظلوم، ويقهر فيه الظالم.

 اللهم أعنا على كل خير من خير الدنيا والآخرة، إنك ربنا على كل شيء قدير، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر، سبحانك ربنا نستغفرك ونتوب إليك، ونعول في إجابة دعائنا عليك، فلا تردنا ربنا خائبين، ولا تقلبنا خاسرين، يا الله يا ذا الجلال والإكرام  نسألك مغفرتك، ونسألك رحمتك، ونسألك رضوانك، ونسألك ربنا أن تصلح قلوبنا، وأن تصلح نفوسنا، وأن تطهرنا من الرياء والعجب، والكبر والحسد، والأشر والبطر،وجميع الأمراض النفسية، وجميع المعاصي ظاهرها وباطنها، اللهم باعد بيننا وبين خطايانا كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم باعد بيننا وبين خطايانا كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم باعد بيننا وبين خطايانا كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم ألهمنا رشدنا، وأصلح أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، ووفقنا للعمل بما نعلم يا عليم، إنك بالإجابة جدير، نعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بك، نستغفرك ونتوب إليك، ونعول في إجابة دعائنا عليك، وصل اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الصافات/180ـ182).