منزلة العلم في الإسلام

 

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

    الحمدُ للهِ الواسعِ العليمِ ، الخالقِ الحكيمِ ، ( الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) ( العلق/4 ـ 5) ، سبحانه أنزلَ على عبدِهِ ذكراً حكيماً ؛ ليهديَ به عبادَهُ صراطاً مستقيماً ، أحمدُهُ تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأُثني عليه ، وأستغفرُه من جميعِ الذنوبِ وأتوبُ إليه ، وأؤمنُ به وأتوكّلُ عليه ، منْ يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ له ، ومنْ يُضللْ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) ( الجمعة/2) ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه ، وصفيُّه من خلقِه وخليلُه ، أرسله إلى خلقِهِ بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى اللهِ بإذنِه وسراجاً منيراً ، فبلّغَ الرسالةَ ، وأدّى الأمانةَ ، ونصحَ الأمةَ ، وكشفَ الغمةَ ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ، وعلى كلِّ من اهتدى بهديه ، واستنَّ بسنتِهِ ، وسارَ على نهجِهِ ، ودعا بدعوتِهِ إلى يومِ الدِّينِ ، أما بعدُ :

   فيا عبادَ اللهِ :

    إنَّ اللهَ سبحانه وتعالى لم يخلقِ الإنسانَ سُدى ، ولم يتركْه هملاً ، بل خلقَهُ ليضطلعَ بأمانةٍ كُبرى ثقُلتْ على السماواتِ والأرضِ والجبالِ ، فأبينَ أنْ يحملنْها ، وأشفقنَ منها ، وحملها الإنسانُ ، إنَّه كان ظلوماً جهولاً ، هذه الأمانةُ لا يستطيعُ الإنسانُ أن يضطلعَ بأعبائِها ، ويقومُ بها حقَّ قيامِها إلا ببيّنةٍ من ربِّهِ ، ونورٍ في حياتِهِ يستبصرُ به فيما يأتي وفيما يذرُ ، فاللهُ سبحانه خلقَ الإنسانَ ليكونَ خليفةً في الأرضِ ، فهو عبدٌ كريمٌ عند اللهِ تعالى ، وهو في نفسِ الوقتِ سيدٌ كريمٌ في هذا الكونِ ، فاللهُ تعالى سخرَ له منافعَ هذا الكونِ بأسرِهِ من أجلِ أن يسخّرَ هو حياتَهُ للهِ تعالى ، وبذلك يكونُ عبداً كريماًً عند اللهِ ، ومن أجلِ ذلك كان الإنسانُ بحاجةٍ إلى بيّنةٍ فيما يأتيه وما يذرُهُ ، فلم يتركْ له الحبل على غاربِهِ ليتخبّطَ في شهواتِهِ ورغباتِهِ بحسبِ ما يُملي عليه هواه ، وإنما عليه أن يضبِطَ نفسَهُ ويضبِطَ كلَّ حركةٍ من حركاتِهِ بمُوجبِ حكمِ اللهِ تعالى ؛ بحيثُ تكونُ حياتُه مسخرةً لأمرِ اللهِ ، فلا يخرجُ في شيءٍ من تصرفاتِهِ وأعمالِهِ عن إطارِ حكمِ اللهِ ، ومن أجلِ أنَّ الإنسانَ أُنيطتْ به هذه المسؤوليةُ العظيمةُ ، وهي مسؤوليةُ الخلافةِ في الأرضِ والسيادةِ في الكونِ ؛  كان بحاجةٍ إلى العلمِ ، واللهُ سبحانه وتعالى بيّن في محكمِ كتابِهِ الكريمِ ـ عندما ذكر مبدأَ خلْقِ الإنسانِ ـ أنَّ الإنسانَ شُرِّفَ على غيرِهِ بالعلمِ ، ومن أجلِ ذلك استحقَّ أن يكونَ خليفةً في هذه الأرضِ ، فاللهُ تعالى يقولُ : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ) ( البقرة/30 ـ 33) .

   وليس إيلاءُ اللهِ سبحانه وتعالى الإنسانَ هذه الكرامةَ العظيمةَ ؛ بحيث جعله يعلمُ ما لا تعلمُه الملائكةُ إلا بسببِ أنه مطالبٌ بأن يتفاعلَ مع هذا الكونِ ، ولا يمكنُ أن يتفاعلَ معه إلا إذا كان عالماً بأسماءِ مفرداتِهِ ليتمَّ له ما أريدَ من أجلِه من التفاعلِ مع هذه المفرداتِ ، وليعلمَ من بعدِ ذلك أحكامَ اللهِ سبحانه وتعالى فيها ، فيتصرّف في كلِّ شيءٍ وفقَ حكمِ اللهِ وأمرِهِ ونهيهِ ، وكما أنَّ تكريمَ اللهِ سبحانه وتعالى لأبي البشرِ كان بسببِ العلمِ فإنَّ اللهَ تعالى كرَّم ذريتَهُ بالعلمِ ، فقد قال عزَّ من قائلٍ : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ )( الزمر/9) ، ويقولُ تعالى : ( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) ( العنكبوت/43) .

     وقد أنزلَ اللهُ كتبَه وأرسلَ رسلَه من أجلِ تبصيرِ الإنسانِ بما يأتيه وما يذرُه ، وعندما شاءَ اللهُ أن يُتِمَّ على عبادِه النعمةَ ، وأن يُكمِلَ لهم الدِّينَ بعثَ رسولَه محمداً صلى الله عليه وسلم ، وكان أولُ ما أُنزِلَ عليه صلى الله عليه وسلم مؤذِناً بأن هذه الرسالةَ التي بُعِث بها ـ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ـ هي رسالةُ علمٍ ، فهي جاءتْ لتبدّدَ ظلماتِ الجهلِ ، وتبصّرَ الإنسانَ بما يأتيه وما يذرُه ، فأوّلُ ما أنزلَ اللهُ تعالى على عبدِه ورسولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) {العلق/1 ـ 5} ، وليسَ إنزالُه قولَه اقرأْ أولَ ما أَنزلَ إلا لأجلِ الدَّلالةِ أنَ الناسَ مُطالَبون بأن يتعلّموا ، فإن اللهَ تعالى لم يخاطِبْ رسولَه صلى الله عليه وسلم بقولِه افهمْ أو بقولِه اعلمْ أو بقولِه أدركْ أو نحوِ هذه الكلماتِ ، وإنما خاطبَه بقولِه اقرأْ ، وفي ذلك ما يدلُّ على أن هذه الرسالةَ رسالةُ قراءةٍ ، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم وإن كان أميّاً إلا أنّ أمّتَه مطالبةٌ بأن تقرأَ وتكتبَ ، وأن تدوِّنَ العلمَ حتى تُحافِظَ عليه ، ومن أجلِ ذلك كان تدوينُ العلمِ مما يُثابُ عليه العبدُ عند اللهِ سبحانه وتعالى في الدارِ الآخرةِ ، وقد جاء في الحديثِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : « رسْمُ المِدادِ في ثوبِ أحدِكم إذا كان يكتبُ به علْماً كالدمِ في سبيلِ اللهِ ، ولا يزالُ ينالُ به الأجرَ ما دام ذلك الرسمُ في ثوبِه » ، وما ذلك إلا لأجلِ حضِّ الناسِ على التعلّمِ ، وحضِّهم على التدوينِ ، وحضِّهم على قراءةِ ما دُوِّنَ .

    هذا .. وقد أنزلَ اللهُ سبحانه وتعالى على نبيِّه صلى الله عليه وسلم قراءناً حكيماً ، فرقاناً بين الحقِّ والباطلِ ، فيه تبصيرٌ للإنسانِ بما يعملُه وما يتركُه ، وما يُقدِمُ عليه وما يُحجِمُ عنه ، فهو يبصّرُ الإنسانَ بعقيدتِه ، وهو يبصِّرُ الإنسانَ بعبادتِه لربِّه ، وهو يبصِّرُ الإنسانَ بعلاقاتِه مع بني جنسِه ؛ سواءً كانت هذه العلاقةُ علاقةَ أقربين أو كانت علاقةَ أبعدين ، فإنّ القرآنَ الكريمَ وضعَ كلَّ شيءٍ موضِعَه ، وبوّأَ كلَّ أمرٍ مُبوّأَه ، وعرّفَ الإنسانَ ما يأتي وما يذرُ ، وما كانت فيه من مُبهماتٍ فقد فصّلتْه سنةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فاللهُ تعالى وكَلَ إلى رسولِه صلى الله عليه وسلم تبيينَ ما أُجمِلَ من القرآنِ ، وإيضاحَ ما أُبهِم ؛ لأنه ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ أعلمُ الناسِ بمقاصدِ التنزيلِ ومسالكِ التأويلِ ، وقد قالَ اللهُ تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل/44) ، ومِن هنا كان جديراً بالإنسانِ أن يستلهِمَ الحُكْمَ في كلِّ شيءٍ من كتابِ اللهِ ومن سنةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم التي هي في الحقيقةِ تفصيلٌ لهذا القرآنِ الكريمِ .

     هذا .. ولا ريبَ أنّ القرآنَ الكريمَ جاء محذِّراً للإنسانِ من أن يُقدِمَ على شيءٍ  لا يعلمُ حُكْمَه ، فاللهُ تعالى يقولُ : ( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) ( الإسراء/36) ، وكما أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى حذّرَ من العملِ بغيرِ علمٍ شدّدَ التحذيرَ في الإقدامِ على القولِ بغيرِ علمٍ ، بل قرنَ ذلك بالإشراكِ ، فإنَّ اللهَ تعالى يقولُ في محكمِ كتابِه العزيزِ : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) ( الأعراف/33) ، فليسَ للإنسانِ أن يقولَ على اللهِ ما لا يعلمُ ، فإنَّ ذلك من أكبرِ الكبائرِ ؛ لأنَّ أثرَ ذلك يتعداه إلى غيرِه ، فالناسُ قد يغترّون بقولِه ، ويصدِّقونه في دعواه ، ويتّبِعون جهالتَه ، فمِن هنا كان ذكرُ القولِ بغير علمٍ إثماً كبيراً ، فقد جاء في الروايةِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : « مَن أفتى مسألةً أو فسّرَ رؤيا بغيرِ علمٍ كانَ كمَن خرَّ من السماءِ إلى الأرضِ ، فصادفَ بئراً لا قعرَ لها ولو أنّه وافقَ الحقَّ » ، فإذا كان هذا مع موافقةِ الحقِّ فكيف مع مخالفةِ الحقِّ ، فجديرٌ بالإنسانِ إذاً أن يستبصِرَ ، وأن لا يُقدِمَ على قولٍ إلا ببينةٍ من اللهِ تباركَ وتعالى ،كما أنه جديرٌ به أن يضبِطَ جميعَ خطواتِه ، وأن يُقيّدَ جميعَ حركاتِه بأحكامِ اللهِ ، وعندما يقعُ التنازعُ لا بدَّ من الاحتكامِ إلى اللهِ وإلى رسولِه صلى الله عليه وسلم ، فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يقولُ : ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) ( النساء/59) ، والردُّ إلى اللهِ إنما هو بالردِّ إلى كتابِه ، والردُّ إلى رسولِه صلى الله عليه وسلم  إنما يكونُ بالردِّ إلى سنتِه ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ بعدما انتقل ـ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ـ إلى الرفيقِ الأعلى .

     ومن أجلِ ضرورةِ العلمِ للإنسانِ بيّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنّ الخيرَ منوطٌ بالفقهِ في دينِ اللهِ ، فقد قال ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ : « مَن يُرِدِ اللهُ به خيراً يفقّهْهُ في الدِّينِ » ، فالذي يريدُ اللهُ تعالى به خيراً يفقّهْه في الدينِ ويُلهمْه رُشدَه ؛ بحيثُ لا يتجاوزُ حدودَ ما أنزلَ اللهُ في جميعِ تصرفاتِه وفي جميعِ أعمالِه ، ولا يقولُ شيئاً بغيرِ بيّنةٍ من اللهِ تباركَ وتعالى ، والفقهاءُ في دينِ اللهِ هم بمنزلةِ الرُّبانِ الذي يقودُ سفينةَ هذه الحياةِ بين الأمواجِ المتلاطمةِ والأعاصيرِ العاتيةِ إلى برِّ الأمانِ ، فجديرٌ بالإنسانِ أن يقِفَ عند حدودِ ما يبصّرُه به الفقهاءُ عندما يكونُ غيرَ دارٍ بأحكامِ اللهِ ، وجديرٌ به أن لا يتخبّطَ في جهلِه ، وأن لا يتعسّفَ في ضلالتِه ، بل عليه أن يسألَ عمّا لا يعلمُ ، فإن شفاءَ العِيِّ السؤالُ ، وليس له أن يُقدِمَ على شيءٍ بمجرّدِ أنَّ نفسَه تميلُ له وتطمئِنُّ إليه ؛ فإنّ العبرةَ ليس باطمئنانةِ النفسِ ، فقد تطمئِنُّ النفسُ إلى الحرامِ ، ومع وجودِ المعبِّرين الذين يبيّنون للإنسانِ الفارقَ بين الحلالِ والحرامِ يجبُ الرجوعُ إليهم ، ولا يجوزُ للإنسانِ أن يظلَّ سائراً في غيِّه غيرَ مُبالٍ بما يأتيه وما يذرُه .

     فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، وتبيّنوا مسالكَ هذه الحياةِ ؛ فإنّ الإنسانَ بقدْرِ ما يسلكُ في حياتِه هذه يكونُ منقلبُه في الدارِ الآخرةِ ، فالعملُ مربوطٌ بالجزاءِ ، والدنيا موصولةٌ بالآخرةِ ، فاتقوا اللهَ في سريرتِكم وفي علانيتِكم ، وتعلّمُوا مِن أمرِ دينِكم بقدْرِ ما تعبدون اللهَ تعالى على بصيرةٍ ، وبقدْرِ ما تستلهِمون أحكامَ اللهِ في كلِّ ما تأتونه وتذرونه . أقولُ قولي هذا ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ  لي ولكم ، فاسْتغفِرُوا اللهَ يغفِرْ لكم ؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ ، وادعوه يستجِبْ لكم ؛ إنه هو البرُّ الكريمُ .

*         *          *

 الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، والعاقبةُ للمتقين ، ولا عدوانَ إلا على الظالمين ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأشكرُه ، وأتوبُ إليه من جميعِ الذنوبِ وأستغفرُه ، وأؤمنُ به ولا أكفرُه ، وأعادي من يكفرُه ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين ، وعلى أتباعِه وحزبِه إلى يومِ الدينِ ، أما بعْدُ :

    فيا عبادَ اللهِ :

     اتقوا اللهَ ، واعلموا أنّكم مسؤولون عمّا تأتون وما تذرون ، ولئِنْ كانَ الإنسانُ مسؤولاً عن عملِه فإنه أيضاً مسؤولٌ عن علمِه ؛كما جاءَ في الحديثِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في بيانِه ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ ما يُسألُ عنه العبدُ يومَ القيامةِ ومن ذلك : « وماذا عَمِلَ فيما عَلِمَ » ، فإنّ الإنسانَ مسؤولٌ عمّا يعملُه فيما يعلمُه ، وترونَ في كتابِ اللهِ ما يدلُّ على أنّ الذين لا ينتفِعون بعلمِهم مثَلُهم مثَلٌ حقيرٌ دنيءٌ قميءٌ ، فاللهٌ تعالى يقولُ في بني إسرائيلَ : ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ( الجمعة/5) ، ولئِنْ كانَ هذا المثَلُ من حيثُ لفظُه في بني إسرائيلَ فإنَه في معناه يشملُ كلَّ مَن كانَ على طريقتِهم ، فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، واحرصُوا على العلمِ فيما تعملُون ، واحْرِصُوا على العملِ بما تعلمون .