بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

أهميةُ التفقهِ في الدِّين

 

الحمدُ للهِ الذي طهّر بالعلمِ سرائرَ العلماءِ العارفين ، وزيّن بالعملِ ظواهرَ العاملين المخلصين ، سبحانه هو ( الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) ( العلق/4 ـ 5) أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأُثني عليه ، وأستغفرُه من جميعِ الذُّنوبِ وأتوبُ إليه ، وأؤمنُ به وأتوكلُ عليه ، منْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له ، ومنْ يُضلِلْ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) ( الجمعة/2) ، وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، أرسله اللهُ إلى خلقِه بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى اللهِ بإذنِه وسراجاً مُنيراً ، فبلّغ الرسالةَ ، وأدّى الأمانةَ ، وعلّم من الجهالةِ ، وبصّر من العمى ، وأنقذ من الضلالةِ ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه ، وعلى كلِّ من اهتدى بهديه ، واستنَّ بسنتِه ، وسار على نهجِه ، ودعا بدعوتِه إلى يومِ الدِّينِ ، أما بعدُ :

  فيا عبادَ اللهِ :

    اتقوا اللهَ ، وتعلَّمُوا من العلمِ النافعِ ما يبصّرُكم بأمورِ دينِكم وأمورِ دنياكم ، واعلموا أنَّ العلمَ من ضروراتِ الحياةِ الإنسانيةِ ؛ لأنه معقدُ الارتباطِ الاجتماعيِّ فيما بينهم ، كما أنه مناطُ الإصلاحِ النفسيِّ ، ولذلك جعله اللهُ سبحانه وتعالى سببَ تكريمِ الإنسانِ ، ورفعَ  قدرَهُ فوق الملأِ الأعلى كما يدلُّ على ذلك ما أخبرَ اللهُ عز وجل به من قصةِ أبي البشرِ عندما قال عزَّ مِن قائلٍ : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ *قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ) ( البقرة/30 ـ 33) ، فالإنسانُ هو بحاجةٍ إلى معرفةِ شُخُوصِ الأكوانِ ، وذلك يتوقّفُ على معرفةِ أسماءِ الأشياءِ ، ومن أجلِ ذلك جعل اللهُ سبحانه وتعالى عبدَه آدمَ ـ عليه السلام ـ الذي هو أبو البشر مُلْهماً بمعرفةِ الأسماءِ ، وذلك الأمرُ ليس من ضروراتِ شؤونِ الملائكةِ ، فلذلك لم تتوقّفْ شؤونُهم على معرفتِها ، وقد جعل اللهُ سبحانه وتعالى ذلك سبباً لتكريمِ ذلك الإنسانِ ، ورفع قدْرَه في الملأِ الأعلى .

    وقد جاءت رسالاتُ اللهِ سبحانه وتعالى كلُّها رسالاتِ علمٍ ، وعندما أرسلَ عبدَه ورسولَه صلى الله عليه وسلم كان أوّلُ ما أُنِزل عليه دعوة عامّة إلى العلمِ ، تتمثلُ هذه الدعوةُ في ندائِه ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ بأنْ يقرأَ ، معَ أنّ هذا الخطابَ إنما هو خطابٌ لجميعِ الناسِ الذين بُعِث فيهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فقد قال اللهُ سبحانه وتعالى في مطْلعِ ما أَنزلَ على عبدِه ورسولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )  ( العلق/1 ـ 5)  ، وقد جاء القرآنُ الكريمُ دليلاً واضحاً على منزلةِ العلمِ وعلى أقدارِ العلماءِ العاملين ، فاللهُ سبحانه وتعالى يقولُ : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) ( الزمر/9) ، ويقولُ عزَّ مِن قائلٍ : ( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) ( العنكبوت/43) ، ويقولُ سبحانه وتعالى : ( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ( آل عمران/18) ، فذَكَرَ أولاً شهادتَه ، ثم ثنّى بشهادةِ ملائكتِه ، ثم ثلّثَ بشهادةِ أُولي العلمِ من عبادِه ، وكفى بذلك منزلةً لا تُسامى ، وشرفاً لا يُساجَلُ لأهلِ العلمِ الموصُولين باللهِ سبحانه وتعالى .

     وكلُّ علمٍ يؤدي إلى منفعةٍ دينيةٍ أو منفعةٍ دنيويةٍ هو علمٌ مطلوبٌ ، بل العلومُ الدنيويةُ قد تتحوّلُ إلى علومٍ أخرويةٍ عندما تُسخّرُ لمصلحةِ العبادِ ، وعندما يكونُ صاحبُها متفانياً في خدمةِ الناسِ ، وقد يتجاوزُ الأمرُ ذلك كلَّه إلى أن تكونَ هذه العلومُ سبباً لإلهامِ الإنسانِ خشيةَ اللهِ تباركَ وتعالى عندما يتجاوزُ ظواهرَها الشكليةَ إلى حقائقِها ؛ بحيث يَعتبرُ بما يتجلى من علومٍ دنيويةٍ من آياتِ اللهِ تعالى في الأنفسِ وفي الآفاقِ ، ويدلُّ على ذلك قولُ اللهِ سبحانه وتعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ )  ( فاطر/27 ـ 28) ، ففي الآيتين الكريمتين إشارةٌ إلى ضُرُوبٍ من العلومِ الكونيةِ التي تتعلّقُ بأحوالِ الناسِ ، والتي تتعلّقُ بأحوالِ الجوِّ ، ثم بعد ذلك كانت النتيجةُ خشيةَ الذين آتاهم اللهُ العلمَ من عبادِه عزَّ وجلَّ ، فإذاً هذه العلومُ عندما يتجاوزُ الإنسانُ ظواهرَها إلى بواطنِها تصلُ به إلى خشيةِ اللهِ سبحانه وتعالى .

    ولئن كانت العلومُ كلُّها نافعةً ، وكلُّها تؤدي إلى مصالحَ دنيويةٍ ومصالحَ أخرويةٍ ؛ فإنَّ أسعدَ العلومِ بالخيرِ وأولاها بالاهتمامِ ما كان سبباً لصلاحِ الإنسانِ المعاشيِّ والمعاديِّ ، وذلك هو الفقهُ في دينِ اللهِ تبارك وتعالى ، ويدلُّ على ذلك أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ : « مَنْ يُردِ اللهُ به خيراً يفقِّهْهُ في الدِّينِ » ، فإذاً الفقهُ أمرٌ ضروريٌّ ؛ لأنه تتوقّفُ عليه العباداتُ بجميعِ أنواعِها ، فالإنسانُ مُطالَبٌ بأن يعبدَ اللهَ تباركَ وتعالى على بصيرةٍ ؛ لأنه عندما يعبدُه على جهلٍ وعمى قد تكونُ عبادتُه نتيجتُها عكسيةٌ ؛ بحيث يُفسِدُ من شأنِها أكثرَ مما يُصلِحُ ، وكلُّ إنسانٍ مُطالَبٌ بأن يكونَ مُراعياً لعهدِ اللهِ سبحانه ، وأن يكونَ مُصلِحاً في عبادِ اللهِ بقدْرِ المُستطاعِ ، وذلك كلُّه يتوقّفُ على معرفةِ أحكامِ اللهِ تعالى في أمورِ الناسِ المعاشيّةِ والمعاديّةِ ، وعندئذٍ تكونُ الضرورةُ إلى الفقهِ في مقدمةِ الضروراتِ بأسرِها ، والفقهُ في دينِ اللهِ ليس نظرياتٍ أو مسائلَ يتلقاها الإنسانُ فيَحْشي بها دماغَه ، وإنما الفقهُ في دينِ اللهِ قبلَ كلِّ شيءٍ صلةٌ باللهِ سبحانه وتعالى ؛ بحيثُ يكونُ هذا الفقيهُ خائفاً من ربِّه ، عاملاً بأمرِه ، واقفاً في حدودِه ، وإلا كان مَثَلُه كمثَلِ بني إسرائيل الذين قال اللهُ سبحانه وتعالى فيهم : ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ( الجمعة/5) ، والفقيهُ هو الذي يمكنُه أن يدعوَ الناسَ إلى عبادةِ اللهِ تبارك وتعالى ، وإلى امتثالِ أوامرِه ، والوقوفِ عند حدودِه وعدمِ تجاوزِ شيءٍ من أوامرِه أو نواهيه ، وذلك بطبيعةِ الحالِ يتوقّفُ على كونِه قدوةً صالحةً لهم ، وإلا كان مثَلُه كمثَلِ الذين قال اللهُ تعالى فيهم : ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) ( البقرة/44) ، فمِن هنا كان الفقيهُ أولى ما يكونُ بخشيةِ اللهِ تبارك وتعالى،  واتباعِ أوامرِه ، والازدجارِ عن نواهيه .

    ولئن كانت عبادةُ اللهِ تبارك وتعالى أمراً مشتركاً بين جميعِ العبادِ ، ولا يوجدُ أحدٌ من الناسِ هو معذورٌ عن عبادةِ اللهِ ؛ لأنّ العبادةَ هي الغايةُ من خلْقِ الناسِ في هذه الحياةِ كما دلَّ على ذلك قولُ اللهِ سبحانه وتعالى : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) ( الذاريات/56) ؛ فإنّه من الضرورةِ بمكانٍ أن يحرصَ كلُّ أحدِ بأن يتفقّهَ في دينِ اللهِ تباركَ وتعالى بقدْرِ ما يعبدُ اللهَ عزَّ وجلَّ على بصيرةٍ ، وبقدْرِ ما يؤدي واجباتِه في حياتِه على بصيرةٍ ومعرفةٍ ؛ حتى لا يتخبّطَ في هذه الحياةِ وظلماتِها ، وهذا لا يُنافي أن تكونَ للناس تخصّصاتٌ متنوعةٌ في العلومِ ، كما تكونُ لهم اختصاصاتٌ مختلفةٌ في الأعمالِ ، وإنما يجبُ أن يضبِطَ كلَّ ذلك بالفقهِ في دينِ اللهِ سبحانه وتعالى ، ومعَ ذلك فإنّ الناسَ بحاجةٍ إلى علماء ربانيين وفقهاء متبحرين ، يعرِفون ما يأتون وما يذرُون ، يُفتُون الناسَ في أمورِ معاشِهم وأمورِ مَعادِهم بما يستنبطونه من كتابِ اللهِ ومن سنةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وهؤلاء هم المتبحرون في شريعةِ الإسلامِ ، وهم الذين يغوصون في أعماقِ الكتابِ والسنةِ بدراسةِ ما فيهما ، ومعرفةِ ظواهرِ أحكامِهما وبواطنِهما ؛ حتى يُفتُوا الناسَ على بصيرةٍ من أمرِهم ، وهؤلاء هم الأحرى بأن يكونوا قدوةً للناسِ في أعمالِ الخيرِ بأسرِها ، وأن يكونوا قادةً لهم في السبيلِ الأمثلِ ، يسيرون بركبِ الحياةِ البشريةِ في الطريقِ القويمِ الذي يُفضي إلى سلامةِ الدنيا وسعادةِ العُقبى ، وجديرٌ بالناسِ أيضا بأن يَرجِعوا إلى هؤلاء في حلِّ مشكلاتِهم ، ومعرفةِ ما يأتونه وما يذرُونه من شؤونِ حياتِهم ، عندئذٍ تلتحِمُ حياةُ الناسِ بأسرِها ، وتكونُ حياةً مستقيمةً تسيرُ في الدربِ الصحيحِ ، ولا يؤدي الأمرُ إلى مشكلاتٍ ، ولا يؤدي الأمرُ إلى تناقضَ ونزاعاتٍ فيما بين الناسِ ؛ لأنهم يصدرون عن رأي علماء ربانيين يأمرونهم بالخيرِ ، ويأمرونهم بالمعروفِ ، وينهونهم عن المنكرِ ، وجديرٌ بهؤلاءِ العلماءِ الذين يتبحرون في الشريعةِ الإسلاميةِ أن يعرفوا أيضا أحوالَ الناسِ في معاشِهم وفي أمورِ معادِهم ، وذلك يتوقّفُ على دراسةِ التطوراتِ البشريةِ ، فإنّ هذه التطوراتِ تفرِزُ مشكلاتٍ متنوعةٍ ، وهذه المشكلاتُ لا بدَّ لها من حلولٍ ، ومن الذي يستطيعُ أن يقومَ بحلِّها إلا الذين تصوروها تمامَ التصورِ ، ومع ذلك غاصوا في أعماقِ الشريعةِ الإسلاميةِ لاستجلاءِ الحلولِ لها .

      فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، واحرصوا على تعلّمِ ما ينفعُكم في دينِكم وفي دنياكم ، واحرصوا على التقرّبِ إلى اللهِ سبحانه وتعالى بأنواعِ القرباتِ وصنوفِ الطاعاتِ ، ومن هذه القرباتِ البذلُ في سبيلِ العلمِ ، فإنّ البذلَ في سبيلِ ذلك من أعظمِ القرباتِ ؛ إذ البذلُ في سبيلِ العلمِ إنما هو بذلٌ في سبيلِ اللهِ سبحانه وتعالى ، فبالعلمِ تصلحُ أحوالُ الناسِ ، وتقوى صلتُهم باللهِ تباركَ وتعالى ، ويتعاونون على الخيرِ ، واحرصوا بجانبِ ذلك على أن يكونَ علمُكم وعملُكم خالِصَينِ للهِ سبحانه وتعالى ، فإنَّ العلمَ من أعظمِ القرباتِ وأحسنِ العباداتِ ، فاللهُ تباركَ وتعالى يقولُ : ( فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) ( لكهف/110) ، ويقولُ عزَّ وجلَّ : ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) ( البينة/5) .

     وعبادةُ اللهِ ـ كما قلتُ ـ إنما هي بالعلمِ وبالعملِ جميعاً ، وقد جاءَ في حديثِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ما يدلُّ على وجوبِ الإخلاصِ في طلبِ العلمِ للهِ عزَّ وجلَّ ، فقد قال ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ : « من تعلمَ العلمَ ليُباهيَ به العلماءَ أو ليُماريَ به السفهاءَ لقيَ اللهَ وهو خائبٌ من الحسناتِ » ، فساءتِ الحالةُ أن يلقى العالِمُ الذي آتاه اللهُ سبحانه وتعالى ما آتاه من العلمِ أن يلقى ربَّه وهو خائبٌ من الحسناتِ .

     فاتقوا اللهَ في سريرتِكم وعلانيتِكم . أقولُ قولي هذا ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ، فاستغفِرُوا اللهَ يغفرْ لكم ؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ ، وادعوه يستجِبْ لكم ؛ إنه هو البرُّ الكريمُ .

*         *        *

     الحمدِ للهِ ربِّ العالمين ، والعاقبةُ للمتقين ، ولا عدوانَ إلا على الظالمين ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأشكرُه ، وأتوبُ إليه من جميعِ الذنوبِ وأستغفرُه ، وأؤمنُ به ولا أكفرُه ، وأعادي من يكفرُه ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين ، وعلى أتباعِه وحزبِه إلى يومِ الدِّينِ ، أما بعدُ : 

    فيا عبادَ اللهِ :

    اتقوا اللهَ ( وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( آل عمران/133 ـ 135) ، واعلموا أنَّ ذلك كلَّه إنما يتوقّفُ على العلمِ النافعِ ، فإنَّ الإنسانَ لا يمكنُه أن يتقيَ اللهَ حقَّ تقاتِه كما أمرَه سبحانه وتعالى إلا إذا كان على بصيرةٍ بما يأتيه وما يذرُه من شؤونِ هذه الحياةِ ؛ بحيثُ يحكّمُ العلمَ النافعَ في جميعِ أمورِ حياتِه ، ويرجعُ إلى حكمِ اللهِ تباركَ وتعالى الذي يطلبُه من كتابِه ومن سنةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) ( الأحزاب/36) ، وبجانبِ ذلك أيضاً فإنّ التعايُشَ فيما بين الناسِ على أساسِ التقوى مِن اللهِ سبحانه وتعالى ؛ بحيثُ تكونُ العلاقةُ بينهم علاقةَ تقوى وصلاحٍ وإصلاحٍ لا يمكنُ أن ينبنيَ إلا على أساسِ العلمِ ، فإذاً جميعُ هذه الأمورِ تتوقّفُ على العلمِ النافعِ ، ولذلك كان العلمُ في مقدمةِ ما امتنَّ اللهُ تباركَ وتعالى به على عبادِه ببعثةِ عبدِه ورسولِه صلى الله عليه وسلم ، فقد قالَ اللهُ تعالى : ( لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( آل عمران/164) ، وامتنَّ تباركَ وتعالى بذلك على الأميين العربِ الذين كانوا في مؤخرةِ الأممِ من حيث العلمُ عندما قال : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) ( الجمعة/2) ، ثم امتنَّ على سائر الشعوبِ عندما قال : ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) ( الجمعة/3 ـ 4) .

    فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، وتعلموا من أمورِ دينِكم ودنياكم ما يقرّبُكم إلى اللهِ عزَّ وجلَّ زُلفى وما يُصلِحُ أمورَ معاشِكم ومعادِكم ، واتقوا اللهَ في سريرتِكم وعلانيتِكم ( وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) ( البقرة/281) .