بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الدعوةُ إلى اللهِ عزوجل

 

الحمدُ للهِ هادي الخلقِ ، والداعي إلى الحقِّ ، الذي أرسلَ رسلَه وأنزلَ عليهم الكتابَ بالحقِّ ، فيه تبيانُ الأشياءِ ، وهدايةُ الأحياءِ ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأُثني عليه ، وأستغفرُه من جميعِ الذنوبِ وأتوبُ إليه ، وأؤمنُ به وأتوكّلُ عليه ، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له ، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، من يُطِعْ اللهَ ورسولَه فقَدْ رشدَ ، ( وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) ( الأحزاب/36) ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، أرسلَه اللهُ إلى خلقِه بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى اللهِ بإذنه وسراجاً منيراً ، فبلّغَ الرسالةَ ، وأدّى الأمانةَ ، ونصَحَ الأمّةَ ، وكشَفَ اللهُ به الغُمّةَ ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِك ورسولِك سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه ، وعلى كلِّ مَن اهتدى بهديه ، واستنَّ بسنتِه ، وسارَ على نهجِه ، ودعا بدعوتِه إلى يومِ الدِّينِ ، أمَا بعْدُ :

    فيا عبادَ اللهِ :

     اتقوا اللهَ ، وتواصوا بالحقِّ ، وتواصوا بالصبرِ ؛ فإنّ التواصيَ بالحقِّ والتواصيَ بالصبرِ بجانبِ الإيمانِ والعملِ الصالحِ من أسبابِ سلامةِ الإنسانِ من الخسرانِ ، وبما أنّ طبيعةَ الإنسانِ تكمُنُ فيها نوازعُ الشرِّ ؛ جعلَ اللهُ سبحانه وتعالى الدعوةَ إلى اللهِ عزّ وجلّ علاجاً لهذه الطبيعةِ ، وجعلَ فيها إرشاداً لحياةِ الإنسانِ ، وجعلَ فيها أسباباً لسلامةِ الإنسانِ فرداً ومجتمعاً وأمّةً ، لذلك أرسلَ اللهُ عزّ وجلّ رسلَه ، وأنزلَ عليهم كتبَه ، وجعلهم هداةً إلى الحقِّ ، ودعاةً للخلقِ ، يأمرون بالمعروفِ ، وينهون عن المنكرِ ، ويستمسكون بحبلِ اللهِ تعالى المتينِ ، ويتّبعون نورَه المبينَ ، وقد اختتم اللهُ عزَّ وجلَّ رسالاتِهم جميعاً بالرسالةِ الجامعةِ المانعةِ التي بعَثَ بها سيّدَنا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، والتي فيها تبيانُ كلِّ شيءٍ مما تحتاجُ إليه هذه الإنسانيةُ ، ووجّه اللهُ سبحانه نبيَّه صلى الله عليه وسلم إلى الدعوةِ إلى الخيرِ ، فقدْ قالَ عزَّ مِن قائلٍ : ( ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) ( النحل/125) ، وقالَ اللهُ سبحانه : ( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ {فصلت/34} وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) ( فصلت/34 ـ 35) ، وفي هذا ما يدعو الإنسانَ الداعيةَ إلى أن يكونَ صبوراً حكيماً في دعوتِه ، يسلكُ الطريقَ الأمثلَ الذي يؤثّرُ على الناسِ ، ويشدُّ انتباهَهم إلى الخيرِ ، ويباعِدُ بينهم وبين نوازعِ الشرِّ التي تكمُنُ في طبيعتِهم وقرارةِ نفوسِهم .

     ولا ريبَ أنّ هذه الدعوةَ من مُميّزاتِ هذه الأمةِ ، فإنّ اللهَ عزّ وجلّ يقولُ : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ) ( آل عمران/110) ، ويأمرُ اللهُ سبحانه هذه الأمةَ أن تكونَ أمةَ دعوةٍ عندما يقولُ : ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ( آل عمران/104) ، وفي الإتيانِ بهذه الآيةِ الكريمةِ في معرضِ الدعوةِ إلى الاتحادِ ـ اتحادِ هذه الأمةِ وتركِ أسبابِ الفرقةِ والخلافِ ـ تنبيهٌ على أنّ هذه الوحدةَ بين هذه الأمةِ لا تتِمُّ أبداً إلا إذا ما كانت هنالك دعوةُ خيرٍ ، وكان هنالك فيما بينها تآمرٌ بالمعروفِ وتناهٍ عن المنكرِ ؛ لأنهم بذلك يقِفُ كلُّ أحدٍ عند حدودِه ، ولا يتجاوزُ حقَّه إلى حقِّ غيرِه ، ويتجنّبُ كلَّ عدوانٍ على من سواه ، وبذلك تتآلَفُ القلوبُ ولا تتنافرُ ، وبذلك تتحِدُ طوائفُ الأمةِ ولا تختلِفُ ، واللهُ سبحانه بيّنَ أنّ الدعوةَ إلى اللهِ على بصيرةٍ هو منهاجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومنهاجُ أتباعِه ، فقد قالَ سبحانه : ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ( يوسف/108) ، وفي هذا ما يدعو كلَّ أحدٍ إلى أن يكونَ داعيةً إلى اللهِ عزَّ وجلَّ على بصيرةٍ ؛ بحيثُ يتجنّبُ في دعوتِه كلَّ ما لا يتفِقُ معَ مبادئِ الحقِّ ، على أنّ اللهَ سبحانه وتعالى ناط أمرَ الدعوةِ أيضا بالفقهِ في دينِ اللهِ عندما قال عزَّ مِن قائلٍ : ( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ( التوبة/122) ، ذلك لأنّ الدعوةَ عندما لا تكونُ على فقهٍ في دينِ اللهِ لا تكونُ على بصيرةٍ ، فقد يُفسِدُ الإنسانُ من حيثُ يظنُّ أنه يُصلِحُ ، لذلك كانت الدعوةُ بحاجةٍ إلى عُنصُرين ، هي بحاجةٍ إلى فقهٍ في دينِ اللهِ سبحانه ، وبحاجةٍ إلى تطبيقٍ دقيقٍ لمبادئِها ؛ بحيثُ تتمكنُ هذه الدعوةُ في سلوكِ الداعيةِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ ، ومعَ ذلك لا بدَّ من أن يُقارِنَ ذلك الإخلاصُ للهِ سبحانه وتعالى ، فاللهُ سبحانه وتعالى ينعى على أولئك الذين يأمرون بالخيرِ ولا يأتونه عندما يقولُ : ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) ( البقرة/44) ، ولئِنْ كانت هذه الآيةُ من حيثُ لفظُها نزلتْ في أهلِ الكتابِ فإنها من حيثُ مدلولُها الواسعُ تشملُ كلَّ مَن كان على طريقتِهم في الدعوةِ إلى الخيرِ مع عدَمِ الامتثالِ له والانقيادِ إليه ، فلذلك يجِبُ على الداعيةِ أن يكونَ صورةً لما يدعو إليه ، وأنْ يكونَ ترجمةً دقيقةً لمبادئِ الحقِّ بكلِّ مُثُلِها وبكلِّ قِيمِها .

     والدعوةُ إلى اللهِ سبحانه وتعالى يجبُ أن تكونَ واضحةً للداعيةِ بحيثُ لا يُغالي في تصوّرِ هذه الدعوةِ ولا يُفرِّطُ فيها ؛ فإنّ الإفراطَ والتفريطَ كلٌّ منهما يؤدي إلى نتائجَ عكسيةٍ ، فقد يُفرِّطُ الإنسانُ في تصوّرِ الدعوةِ عندما يتصورُ أنه مسؤولٌ عن إصلاحِ نفسِه فقطّ ، وليس عليه من شأنِ غيرِه شيءٌ كما هو قولُ كثيرٍ من الناسِ الذين يتذرّعون إلى هذا المفهومِ الخاطئِ بقولِ اللهِ سبحانه وتعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) ( المائدة/105) ، وهذه الآيةُ يحمِلُونها على غيرِ محمَلِها ، ويؤوّلونها بغيرِ تأويلِها ، فإنها في حقيقةِ الأمرِ لا يتجاوزُ أن يكونَ معناها أنّ عملَ الإنسانِ عندما يكونُ عملاً صالحاً ، وعندما يوفَّقُ إلى دعوةِ غيرِه إلى الخيرِ وأمرِه بالمعروفِ ونهيه عن المنكرِ لا يَضرُّه انحرافُ ذلك المدعوِّ ، معَ هذا فإنه عندما يهتدي إلى الخيرِ ويعملُ به لا يَضرُّه ضلالُ من ضلَّ ، ولا يعني ذلك أنْ يُقِرَّ غيرَه على ضلالِه ، أو ألا يأمرَه بالخيرِ ولا يباعِدَه عن الشرِّ ، أما التصوّرُ الآخرُ الذي فيه إفراطٌ فهو أن يتصوّرَ الداعي أنه لا بدَّ له أن يؤثّرَ في نفوسِ المدعُوّين ، وإلا كانت الدعوةُ قاصرةً ، وهذا التصورُ خاطئٌ أيضاً ،كيف واللهُ سبحانه وتعالى يبيّنُ أنّ الداعيةَ ليس مسؤولاً إلا عن إبلاغِ الدعوةِ ، أما التأثيرُ على النفوسِ فإنه بيَدِ اللهِ عزَّ وجلَّ ، اللهُ تباركَ وتعالى يقولُ لنبيِّه ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ : ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) ( الرعد/7) ، ويقولُ سبحانه وتعالى : ( لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ * وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ) ( يس/6 ـ 10) ، فهم بهذهِ الحالةِ التي يعلمُها اللهُ ، ولكنه مع ذلك أرسلَ رسولَه صلى الله عليه وسلم داعياً لهم إلى الخيرِ ، ويقولُ عزَّ وجلَّ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم : ( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ) ( الكهف/6) ، ويقولُ تعالى : ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) ( الشعراء/3) ، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم مع عِظَمِ شأنِه ومع عُلُوِّ قدْرِه ومع منزلتِه عند اللهِ سبحانه وتعالى إلا أنه ليس عليه إلا أن يدعوَ إلى الخيرِ ، أما التأثيرُ على النفوسِ فإنّ ذلك مردُّه إلى اللهِ سبحانه الذي يُقلّبُ القلوبَ كما يشاءُ ، فهو سبحانه وتعالى يُقلّبُ القلوبَ .

     وقد بيّنَ لنا اللهُ سبحانه وتعالى في كتابِه كيف كانت حالةُ أولئك الذين افترقوا إلى ثلاثِ طوائفَ من بني إسرائيلَ حولَ العدوانِ في السبتِ إذْ قالَ سبحانه : ( واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) ( الأعراف/163) ، ثم قالَ : ( وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ) ( الأعراف/164 ـ 165) ، فتَرون أنّ اللهَ سبحانه وتعالى بيَنَ هنا أنَّ بني إسرائيلَ انقسموا في هذا الأمرِ إلى ثلاثِ طوائفَ : طائفةٌ اعتدتْ في السبتِ ، ولم تُبالِ بأمرِ اللهِ تعالى ونهيه ، وطائفةٌ وقفتْ موقفَ المتفرِّجِ ، وكانت مع ذلك تعذِلُ أولئك الذين ينهون عن السوءِ ، وطائفةٌ أخرى أخذتْ تنهى عن السوءِ ، وهذه الطائفةُ هي الطائفةُ التي نجتْ ، إذ أنجى اللهُ تعالى الذين ينهون عن السوءِ كما نصَّ على ذلك في هذه الآياتِ الكريمةِ ، على أنّ أولئك الذين وقفُوا موقفاً سلبيّاً ، ولم يشاركوا دعاةَ الخير ـ لم يشاركوهم في الدعوةِ إلى الخيرِ وفي الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكرِ ـ هم في ضمنِ أولئك الذين أُخِذُوا كما يدلُّ على ذلك قولُه سبحانه : ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ) ( المائدة/78 ـ 79) .

     ومِنْ هنا يجبُ على كلِّ فردٍ من هذه الأمةِ أن يحرِصَ على الخيرِ لنفسِه والخيرِ لأمتِه جميعاً ، وأن يكونَ داعياً إلى اللهِ على بصيرةٍ ، يأمرُ بالمعروفِ ، وينهى عن المنكرِ بحسَبِ ما آتاه اللهُ سبحانه وتعالى من معرفةٍ ، وأن لا يقتحِمَ لُجَجَ الأشياءِ إلا على بيّنةٍ من اللهِ سبحانه وتعالى على بصيرةٍ ،كما يجبُ على الأمةِ جميعاً أن تتعاونَ على ذلك ، وأن تتآزرَ على دفْعِ المنكرِ ومقاومتِه ، وعلى تأييدِ المعروفِ ، وتأييدِ القائمين به .

      فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، واعملوا بما أمرَكم اللهُ سبحانه وتعالى به ، واحذروا ما نهاكم عنه ، وأطيعوه في كلِّ دقيقةٍ وجليلةٍ ، وتآمروا بينكم بالمعروفِ ، وتناهَوا عن المنكرِ ، وتواصَوا بالحقِّ ، وتواصَوا بالصبرِ . أقولُ قولي هذا ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ  لي ولكم ، فاستغْفِرُوا اللهَ يغفِرْ لكم ؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ ، وادعوه يستجِبْ لكم ؛ إنه هو البَرُّ الكريمُ .

*         *          *

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، والعاقبةُ للمتقين ، ولا عدوانَ إلا على الظالمين ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأشكرُه ، وأتوبُ إليه من جميعِ الذنوبِ وأستغفِرُه ، وأؤمنُ به ولا أكفرُه ، وأُعادِي من يكفُرُه ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ  ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين ، وعلى أتباعِه وحزبِه إلى يومِ الدِّينِ ، أما بعدُ :

   فيا عبادَ اللهِ :

     اتقوا اللهَ ، واستمسِكُوا بحبلِه المتينِ ، واتّبِعوا صراطَه المستقيمَ ، وتآمرُوا بينكم بالمعروفِ ، وتناهَوا عن المنكرِ ، وكونوا أمةَ خيرٍ تحرصون على الخيرِ لأنفسِكم ، وتحرصون على الخيرِ لأمتِكم جمعاءَ ، وكونوا سبّاقين إلى كلِّ ما فيه مصلحتُكم في دنياكم وفي أخراكم .

    هذا .. واعلموا أنّ الدعوةَ إلى اللهِ سبحانه وتعالى طريقُها شائكٌ محفوفٌ بكثيرٍ من المخاطرِ ، فقد يتنكّرُ للداعيةِ أقربُ أقربائِه ، ويقِفُ في سبيلِ دعوتِه ؛كما حصلَ ذلك لرُسُلِ اللهِ سبحانه وتعالى المصطَفين الأخيارِ ، فقد تنكّرَ لإبراهيمَ عليه السلامُ أبوه ، وتنكّرَ لنوحٍ عليه السلامُ ابنُه ، وتنكّرَ للوطٍ ونوحٍ امرأتُهما ، كما أنّ نبيَّنا صلى الله عليه وسلم  كان عمُّه أوّلَ من وقفَ في دعوتِه عندما قالَ له : تبّاً لك سائرَ اليومِ ألهذا جمعتَنا ؟! واللهُ سبحانه وتعالى عندما أمرَ نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يُعلِنَ للناسِ ما هو سبيلُه وما هو سبيلُ أتباعِه ؛ أتبعَ ذلك ما يبيّنُ أنّ هذه الدعوةَ إنما تُؤتي أُكُلَها بعدَ جُهْدٍ جهيدٍ ، وبعدَ صبرٍ متواصلٍ ، إذْ قالَ سبحانه وهو أصدقُ القائلين : ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ( يوسف/108) ، ثم اتبعَ ذلك قولَه سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ( يوسف/109 ـ 111) ، فلئِنْ كان رسُلُ اللهِ سبحانه وتعالى مع أنهم هيأهم اللهُ عزَّ وجلَّ لتحمّلِ أمانتِه ، وجعلَهم دعاةً لنورِه وهداةً لخلقِه ، يصِلُ بهم الأمرُ إلى مُشارفةِ اليأسِ لهولِ ما يلقَون وهم يدعون إلى اللهِ سبحانه وتعالى ؛ فما بالُكم بغيرِهم ، وفي هذه الحالةِ تُؤتي الدعوةُ ثمارَها ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ) ( يوسف/110) .

   فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، وتواصَوا بالخيرِ ، وتآمرُوا به ، وادعوا إلى اللهِ عزَّ وجلَّ على بصيرةٍ .