بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

أثر الإيمان بالله واليوم الآخر في حياة المسلم

 

  الحمدُ للهِ الملكِ المجيدِ ، الذي يُبدئُ ويُعيدُ ، ويفعلُ في خلقِه ما يريدُ ، سبحانه منه المبدأُ وإليه الرُّجعى ، وله الحمدُ في الآخرةِ والأولى ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأُثني عليه ، وأستغفرُه من جميعِ الذنوبِ وأتوبُ إليه ، وأؤمنُ به وأتوكّلُ عليه ، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له ، ومَن يُضلِلْ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهَ وحده لا شريكَ له ، من يُطِعْ اللهَ ورسولَه فقدْ رشدَ ، ( وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) ( الأحزاب/36) ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، أرسلَه اللهُ إلى خلقِه بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى اللهِ بإذنِه وسراجاً منيراً ، فبشّرَ وأنذرَ ، ورغّبَ وحذّرَ ، ودعا إلى اللهِ على بصيرةٍ حتى أتاه اليقينُ ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه ، وعلى كلِّ من اهتدى بهديه ، واستنَّ بسنتِه ، وسارَ على نهجِه ، ودعا بدعوتِه إلى يومِ الدِّينِ ، أمّا بعدُ :

  فيا عبادَ اللهِ :

    اتقوا اللهَ ( وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) ( البقرة/281) ، وزِنُوا أعمالَكم كلَّها بموازينِ الإيمانِ باللهِ واليومِ الآخرِ ، فإنَّ الإيمانَ باللهِ هو إيمانٌ بمُبدِئِ هذا الكونِ الذي أخرجَه من العدَمِ إلى الوجودِ ، والذي منَّ على الإنسانِ بصنوفِ النِّعمِ ، وبوّأَه مُبوّأَ الكرمِ ، ورفعَ قدْرَه ، وأعلى شأنَه إذْ جعلَه خليفةً في هذه الأرضِ ، وسيداً في هذا الكونِ ، وسخّرَ له ما في السماواتِ وما في الأرضِ جميعاً منه ، والإيمانُ باليومِ الآخرِ هو إيمانٌ بالمنقلبِ ، إيمانٌ بالمآلِ الذي يرجعُ إليه كلُّ إنسانٍ ، ويُوفّى فيه كلُّ أحدٍ حسابَه ، ويَلقى فيه كلُّ أحدٍ جزاءَه ، ولا ريبَ أنّ النفسَ البشريةَ تتجاذبُها مطالبُ متنوعةٌ ، ورغباتٌ متعددةٌ ، ونزعاتٌ مختلفةٌ ، ولذلك كانت أحوجَ ما تكونُ في حياتِها هذه إلى الإيمانِ باللهِ واليومِ الآخرِ ، فالإيمانُ باللهِ هو إيمانٌ كما قلنا بالمبدأِ ، والإيمانُ باليومِ الآخرِ هو إيمانٌ بالمصيرِ ، والإنسانُ الذي يفقِدُ صلتَه بالمبدأِ والمصيرِ يفقِدُ صلتَه قبلَ كلِّ شيءٍ بأيِّ هدفٍ من أهدافِ هذه الحياةِ ؛ لأنَّ حياتَه تكونُ عائمةً ؛ بحيثُ تفقِدُ كلَّ مقوِّمٍ من مقوّماتِها ، ولا يستطيعُ الإنسانُ أن يستعليَ على رغباتِ نفسِه ونزواتِها ، ويضبطَ تصرفاتِه وأعمالَه ، ويزِنَ كلَّ شيءٍ في حياتِه هذه بموازينِ الحقِّ إلا إذا كان موصولاً باللهِ واليومِ الآخرِ ، ومن أجلِ ذلك نرى أنّ اللهَ سبحانه وتعالى في كتابِه الكريمِ عندما يحضُّ على أمرٍ أو يحذّرُ من نهيٍ ؛ يقرِنُ ذلك بالإيمانِ باللهِ واليومِ الآخرِ ، فقد قالَ سبحانه : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) ( الأحزاب/21) ، وقالَ عزَّ مِن قائلٍ : ( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) ( البقرة/232) ، ويقولُ تعالى : ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) ( البقرة/228) ، ونجدُ كذلك في حديثِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الحضَّ على الأعمالِ الصالحةِ والتحذيرَ من الأعمالِ الفاسدةِ مقرونَينِ بذكرِ اللهِ واليومِ الآخرِ فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقولُ : « مَن كانَ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فليقلْ خيراً أو لِيصمتَ » ، ويقولُ صلى الله عليه وسلم : « مَن كانَ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فلا يؤذِ جارَه » ، ويقولُ ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ : « مَن كانَ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فليُكرِمْ ضيفَه » ، إلى غيرِ ذلك من الأحاديثِ الكثيرةِ التي يأتي فيها الأمرُ والنهيُ مقرونَينِ بذكرِ الإيمانِ باللهِ واليومِ الآخرِ .

   ولا ريبَ أنَّ الإنسانَ العاقلَ عندما يعرفُ أنّ اللهَ سبحانه وتعالى الذي برَأَه من عدَمٍ ، وهو الذي بوّأَه هذه الدرجةَ العاليةَ ، وأفاضَ عليه صنوفَ الكرمِ ؛ يُحِسُّ بافتقارِه إلى اللهِ عزَّ وجلَّ ، ويُحِسُّ بجانبِ ذلك بافتقارِه إلى طاعةِ اللهِ تباركَ وتعالى ، وذلك يجعلُه يقيسُ كلَّ شيءٍ بمقاييسِ الحقِّ التي أنزلَها اللهُ ، فلا يُقدِمُ على شيءٍ ، ولا يُحجِمُ عن شيءٍ إلا ببيّنةٍ من ربِّه وبصيرةٍ من دينِه ، ولكنْ ربما توسّوِسُ له نفسُه أن يتجاوزَ حدودَ اللهِ بسبب ضرورتِه التي يتخيّلُها إلى كثيرٍ من الأعمالِ المخالفةِ لأمرِ اللهِ سبحانه وتعالى ، فقد يتخيّلُ الإنسانُ الشيءَ غيرَ النافعِ نافعاً بسببِ هواه وميلولتِه إليه ، ويتخيّلُ بجانبِ ذلك أنّه مضطّرٌ إليه معَ أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى لم ينهَ الإنسانَ إلا عمّا فيه مضرتُه ، ولم يأمرْه إلا بما فيه خيرُه وسلامتُه ، إلا أنّه بجانبِ ذلك عندما يكونُ مؤمناً بالمَعادِ لا شكَّ أنه يحرِصُ على أن يربِطَ مصيرَه بمصيرِه ، وعملَه بجزائِه ، فيحرِصُ على أن يكونَ عملُه وِفْقَ أمرِ اللهِ سبحانه وتعالى ؛ لأنه يدرِكُ أنَّ قيمةَ هذه الدنيا لا تُساوي شيئاً بجانبِ الحياةِ الآخرةِ ، فالحياةُ الدنيا محدودةٌ ، والحياةُ الآخرة غيرُ متناهيةٍ ، وما قيمةُ هذه الحياةِ التي يتحوّلُ عنها الإنسانُ بين لحظةٍ وأخرى ، ويصبحُ في عِدادِ المعدومين ، ويصبحُ في خبرِ كانَ بعدما كان ملءَ السمعِ والبصرِ ، فإيمانُه بلحظاتِ الآخرةِ يجعلُه يستعلي على ما يتصوّرُه من ضروراتِ نفسِه ، ويستطيعُ أن يُوجّهَ ميولَه ورغباتِه الوِجهةَ المرضيّةَ التي تُرضِي اللهَ سبحانه وتعالى ،كما أنه يستطيعُ بهذا الإيمانِ أن يُقيّدَ شهواتِه ، وأن يقيّدَ نزواتِه بما يقتضيه هذا الإيمانُ من العملِ الصالحِ ، فيكونُ مسخراً لكلِّ طاقةٍ من طاقاتِه للأعمالِ الصالحةِ التي تقرّبُه إلى اللهِ تباركَ وتعالى زُلفى .

     والإيمانُ باليومِ الآخرِ جاءَ في كتابِ اللهِ سبحانه وتعالى ـ كما قلتُ ـ مقروناً بالإيمانِ باللهِ في مواضعَ كثيرةٍ ؛ لأنّ مَن آمنَ باللهِ واليومِ الآخرِ كأنما أمسكَ بحبلِ الإيمانِ مِن طرَفَيْهِ ، أو تناولَ شُعبَه من قُطْرَيْه ، فإذاً جديرٌ بهذا المؤمنِ باللهِ واليومِ الآخرِ عندما يرسخُ هذا الإيمانُ في قرارةِ نفسِه أنْ يكونَ مُقيِّداً لجميعِ أعمالِه وِفْقَ ما جاء من أمرِ اللهِ سبحانه في كتابِه ، وعلى لسانِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؛ بحيثُ لا تخرجُ  ذرةٌ من ذراتِ أعمالِه إلى قَبُولِ المخالفةِ لأمرِ اللهِ وأمرِ رسولِه صلى الله عليه وسلم ، فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يقولُ : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) ( الأحزاب/36) ، وإذا ما وقعَ الإنسانُ في ورطةٍ بسببِ سهْوٍ أو غفلةٍ ، فسُرعانَ ما يرجعُ إلى نفسِه بدافعِ هذا الإيمانِ إيمانِه باللهِ وإيمانِه باليومِ الآخرِ كما يقولُ اللهُ تباركَ وتعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) ( الأعراف/201)  ، وهؤلاءِ هم الذين وعدَهم اللهُ جنةً عرضُها السماواتُ والأرضُ عندما قالَ عزَّ مِن قائلٍ : ( وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( آل عمران/133 ـ 135) .

    وقد جاءتْ دعوةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في وسَطِ مجتمعٍ جاهليٍّ ما كانَ يؤمنُ باليومِ الآخرِ ،كما أنّ إيمانَه باللهِ كان مشُوباً بالبدْعِيّاتِ والشرْكِيّاتِ التي قضتْ عليه ولم تجعلْه شيئاً يُذكرُ ، فجاءَ القرآنُ الكريمُ مواجهاً تحدِّياتِ أولئك المشركين الذين كانوا يجحدون اليومَ الآخرَ بالبراهينِ التي تأتي على جميعِ شُبَهِهم ، فاللهُ سبحانه وتعالى يقولُ في محكمِ كتابِه : ( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) ( يس/77 ـ 79) ، وقالَ تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ) ( الحج/5 ـ 7) ، وعندما قالَ المشركون : ( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) ( ق/3) ردَّ اللهُ تعالى عليهم بقولِه : ( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ) ( ق/4) ، فاللهُ سبحانه يعلمُ ما يتحوّلُ من خلايا أجسامِهم إلى ذرّاتٍ ترابيّةٍ عندما ينتقلون إلى القبورِ ، فمَن كان عليماً بذلك ، ومحصياً لهذه الدقائقِ بأسرِها ؛ لا يُعجِزُه أن يُعيدَ الإنسانَ كرّةً أخرى كما أنشأَه أوّلَ مرّةٍ ، وأقامَ اللهُ سبحانه وتعالى على ذلك البراهينَ والحُججَ على أولئك المشركين من عرْضِ آياتِه في خلْقِ السماواتِ والأرضِ وخلْقِ أنفسِهم ، فمَن كان قادراً على أن يُنشِئَ الإنسانَ من عدَمٍ ، وأن يجعلَه حيّاً سميعاً بصيراً متكلماً قادراً ؛ هو قديرٌ سبحانه وتعالى أن يُعيدَه مرّةً أخرى كما بدأَه أوّلَ مرّةٍ ، وكذلك الذي خلَقَ السماواتِ والأرضَ وما فيهما هو قادرٌ على أن يُنشِئَ  الإنسانَ مرّةً أخرى كما بدأَه أوّلَ مرّةٍ ، كلُّ ذلك من أجلِ ترسيخِ الإيمانِ باللهِ واليومِ الآخرِ في قرارةِ نفوسِ العبادِ ؛ حتى تكونَ هذه النفوسُ موصولةً باللهِ ، وحتى يكونَ المصيرُ مرتبطاً بالمصيرِ ، وحتى يكونَ العملُ مرتبطاً بالجزاءِ .

    فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، واعملُوا من الصالحاتِ ما يُقرِّبُكم إلى اللهِ عزَّ وجلَّ زُلفى ، وآمِنُوا حقَّ الإيمانِ باللهِ واليومِ الآخرِ ، إيماناً يرسَخُ في قرارةِ نفوسِكم ، ويقودُكم إلى الأعمالِ الصالحةِ ، ويباعِدُكم من الأعمالِ السيئةِ . أقولُ قولي هذا ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ، فاستغفِرُوا اللهَ يغفِرْ لكم ؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ ، وادعوه يستجِبْ لكم ؛ إنه هو البرُّ الكريمُ .

*         *        *

     الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، والعاقبةُ للمتقين ، ولا عدوانَ إلا على الظالمين ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأشكرُه ، وأتوبُ إليه من جميعِ الذنوبِ وأستغفرُه ، وأؤمنُ به ولا أكفرُه ، وأُعادي من يكفرُه ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين ، وعلى أتباعِه وحزبِه إلى يومِ الدِّينِ ، أما بعدُ : 

    فإنّ اللهَ سبحانه وتعالى سمَّى اليومَ الآخر بأسماء كثيرةٍ في كتابِه الكريمِ ، ومِن هذه الأسماءِ يومُ الدِّينِ ؛ لأنه يُدانُ فيه الإنسانُ أن يُجزى بعملِه الذي قدَّمَه ، ويُحاسَبُ على الدقيقِ والجليلِ بحيثُ لا تخفى من أعمالِه خافيةٌ ، وقد أخبرَ اللهُ سبحانه وتعالى عن حقيقةِ ذلك اليومِ يومِ الدِّينِ عندما قالَ : ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) ( الإنفطار/17 ـ 19)  ، ويقولُ سبحانه وتعالى في وصفِ ذلك اليومِ : ( وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) ( البقرة/281)  ، ويقولُ أيضاً في وصفِ ما يُجزى به الإنسانُ ذلك اليومَ : ( لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ) ( النساء/123 ـ 124) ، ويقولُ سبحانه وتعالى في وصفِه أيضاً : ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) ( عبس/34 ـ 37) ، ويقولُ عزَّ وجلَّ : ( يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ) ( المعارج/11 ـ 14) ، ويبيّنُ اللهُ سبحانه وتعالى كيف أنّ الإنسانَ الذي يعيشُ في زخرفِ هذه الحياةِ الدنيا متنعِّماً في الجاهِ والسُّلطةِ والمالِ يُسلَبُ منه ذلك كلُّه في ذلك اليومِ عندما يقولُ تعالى : ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ) ( الأنعام/94) ، ويبيّنُ سبحانه وتعالى أنّ جميعَ الصِّلاتِ تتقطّعُ بين الناسِ في ذلك اليومِ ؛ سواءً كانت هذه الصِّلةُ صِلةً نسبيّةً أو كانت صِلةً سببيّةً ، اللهمّ إلا ما يكونُ من صِلةِ التقوى بين عبادِ اللهِ تعالى المتقين ، فقد قالَ عزَّ وجلَّ : ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ ) ( المؤمنون/101) وقالَ : ( الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ) ( الزخرف/67)  .

     فإذاً جديرٌ بالإنسانِ الذي يقرأُ هذه الآياتِ الكريمةَ أو تُقرَأُ عليه أن يُعِدَّ عُدّتَه لذلك اليومِ ، وألا يَغُرَّ نفسَه بالأماني الفارغةِ والآمالِ الكاذبةِ ، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ : « الكيّسُ مَن دانَ نفسَه وعمِلَ لما بعد الموتِ ، والأحمقُ مَن أعطى نفسَه هواها ، وتمنَّى على اللهِ الأمانيَّ » ، فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ( وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( آل عمران/133 ـ 135)  .