بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حسنُ العبادةِ

 

الحمدُ للهِ الذي جعل عبادتَه نجاحاً للعالمين ، وطاعتَه فلاحاً للطائعين ، وتقواه سعادةً للمتقين ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأُثني عليه ، وأستغفرُه من جميعِ الذنوب وأتوبُ إليه ، وأؤمنُ به وأتوكّلُ عليه ، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له ، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، من يُطِعِ اللهَ ورسولَه فقدْ رشدَ ، ( وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) ( الأحزاب/36) ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، أرسلَه اللهُ رحمةً للعالمين ، وسراجاً للمهتدين ، وإماماً للمتقين ، وقدوةً للعابدين ، فبلّغَ الرسالةَ ، وأدّى الأمانةَ ، ونصحَ الأمةَ ، وكشفَ اللهُ به الغمةَ ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه ، وعلى كلِّ من اهتدى بهديه ، واستنَّ بسنتِه ، وسارَ على نهجِه ، ودعا بدعوتِه إلى يومِ الدِّينِ ، أما بعدُ :

   فيا عبادَ اللهِ :

     اتقوا اللهَ ، وأطيعوه ولا تعصوه ، واتّبِعُوا أوامرَه ونواهيَه ، وقِفُوا عند حدودِه ، واحرِصُوا على أن تعبدوه حقَّ عبادتِه كما فرض اللهُ تعالى عليكم ، واعلموا أنّ اللهَ سبحانه وتعالى جعلَ الصِّلةَ بينه وبين عبادِه حسنَ عبادتِه ، فمَن أحسنَ عبادةَ اللهِ كانَ أوصلَ عبادِه باللهِ سبحانه ، فعليكم أن تعبدوه كما أمرَكم ، وأن تُطيعوه في كلِّ دقيقةٍ وجليلةٍ ، في كلِّ أمْرٍ وفي كلِّ نهْيٍ ، واعلموا أنّ العباداتِ المفروضةَ فرضَها اللهُ عزَّ وجلَّ بحسبِ ما عَلِمَ من حاجاتِ العبادِ إليها ؛ فإنَّ الحاجاتِ متفاوتةٌ ، وهو سبحانه يعلمُ السرائرَ من عبادِه ، وهو يعلمُ ما تنطوي عليه فِطَرُهم ، وما تشتملُ عليه طبائِعُهم ، فلذلك شرعَ مِن العباداتِ ما يسدُّ هذه الحاجةَ الفطريّةَ التي هي مركوزةٌ في كلِّ نفسٍ إنسانيةٍ ، وما هذه العباداتُ إلا استجابةٌ روحيّةٌ من هذا الإنسانِ لداعي اللهِ سبحانه وتعالى ، فالإنسانُ الذي يعبدُ اللهَ سبحانه وتعالى تتناسقُ أعمالُه وحركاتُه مع فطرتِه التي فطرَه اللهُ تعالى عليها ،كما تتناسقُ أعمالُه وحركاتُه مع نظامِ هذا الكونِ الذي يسبِّحُ كلُّ شيءٍ منه بحمدِ اللهِ ، ويسجدُ خاضعاً لجلالِ اللهِ عزَّ وجلَّ فاللهُ تعالى يقولُ : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ) ( الحج/18) ، ويقولُ سبحانه : ( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ( الحشر/1) ، ويقولُ عزَّ وجلَّ : ( يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) ( الجمعة/1) ، ويقولُ تباركَ وتعالى : ( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ) ( الإسراء/44)  ، فالإنسانُ الذي يشذُّ عن عبادةِ اللهِ يكونُ منفصِلاً عن نظامِ هذا الكونِ ، كما أنّه أيضاً يؤدي ذلك إلى الاضطرابِ فيما يتعاملُ به مع نفسِه ؛ لأنّ له حركتين : حركةً اضطراريّةً فطريّةً ، وحركةً اختياريّةً كسبيّةً ، فتكونُ بهذا الحركةُ الاختياريةُ الكسبيةُ شاذّةً عن الحركةِ الفطريةِ الاضطرايةِ ، بخلافِ ما إذا أدّى العبادةَ على وجهِها ؛ فإنّ تلك الحركاتِ تكونُ كلُّها متناسقةً بمشيئةِ اللهِ سبحانه .

     ولا ريبَ أنّ هذه العباداتِ غذاءٌ روحيٌّ هيّأه اللهُ سبحانه وتعالى لأرواحِ البشرِ التي هي في أشدِّ الحاجاتِ إلى هذا الغذاءِ ، وكما أنّ اللهَ سبحانه وتعالى اقتضتْ حكمتُه أن يكونَ غذاءُ الأجسادِ بحسبِ ما تفتقِرُ إليه ، فكلما كانت الحاجةُ إليه أدْعى كانت أيسرَ حصولاً وأيسرَ ممارسةً ، كذلك شأنُ هذه العباداتِ ، فاللهُ سبحانه وتعالى جعلَ حاجةَ الجسدِ إلى الهواءِ هي أشدُّ الحاجاتِ ، ولذلك كان الهواءُ متيسِّراً لهذه الأجسادِ في كلِّ الأحوالِ ، في النومِ وفي اليقظةِ ، في الحركةِ وفي السكونِ ، في الذِّكرِ وفي الغفلةِ ، فالإنسانُ يستنشِقُ الهواءَ في جميعِ الأحوالِ ، وقد هيّأه اللهُ سبحانه وتعالى له بغيرِ عناءٍ ولا ثمنٍ ، ثم تأتي بعد ذلك الحاجةُ إلى الماءِ ، وقد جعلَه اللهُ أيسرَ مما جعلَ الهواءَ ، ثم تأتي بعد ذلك الحاجةُ إلى الطعامِ ، وجعلَ فيه شيئاً من المشقةِ ، كما أنه سبحانه وتعالى جعلَ أيضاً تناولَه يفتقِرُ إلى الثمَنِ ، وكذلك تأتي بعد ذلك الحاجةُ إلى الدواءِ ، وقد جعلَه اللهُ سبحانه وتعالى أشدَّ عُسْراً من الطعامِ ؛ لأنّ الحاجةَ إليه أقلُّ مِن حاجةِ الإنسانِ إلى الطعامِ ، وهكذا عندما يمارِسُ الإنسانُ العباداتِ جعلَها اللهُ سبحانه وتعالى ميسَّرةً له بحسبِ حاجتِه إليها ، فذِكْرُ اللهِ يتيسّرُ في جميعِ الأحوالِ ، فالإنسانُ سواءً كان قائماً أو قاعداً أو ماشياً أو مضطجعاً يتمكّنُ مِن ذكرِ اللهِ سبحانه وتعالى ، ثم تأتي بعد ذلك الحاجةُ إلى الصلاةِ ، وقد جعلَها اللهُ سبحانه وتعالى مجمعاً للذكْرِ ، كما أنّه عزَّ وجلَّ جعلَها تتكرّرُ في اليومِ والليلةِ خمسَ مرّاتٍ على الأقلِّ ، ثم تأتي بعد ذلك الحاجةُ إلى الصيامِ ، والحاجةُ إلى الزكاةِ ، ثم تأتي بعد ذلك الحاجةُ إلى الحجِّ ، وهكذا كلما كانت الحاجةُ إليه أدْعى فرضَه اللهُ سبحانه وتعالى بقدْرِ تلبيةِ هذه الحاجةِ ، وجعلَ ممارستَه أمراً ميسَّراً .

     وعبادةُ اللهِ سبحانه هي الغايةُ التي خلقَ اللهُ عزَّ وجلَّ من أجلِها الثقلين ، فقد قالَ سبحانه وتعالى : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) ( الذاريات/56)  ، فمَن شذَّ عن هذه العبادةِ ابتعدَ عن الغايةِ التي خُلِقَ من أجلِها ، كما أنّ هذه العبادةَ جعلَ اللهُ سبحانه وتعالى فيها تذكيراً بجلالِه ، وتذكيراً بنِعَمِه التي أسبغَها على عِبادِه ، ولذلك عندما أمرَ عبادَه بعبادتِه ذكّرَهم بنِعَمِه الكبرى التي أسبغَها عليهم ، فقد قالْ سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( البقرة/21 ـ 22) ، ترونَ أنَّ اللهَ سبحانه ذكّرَ أولَ ما ذكّرَ بخلْقِ هذه الأنفسِ التي خاطبَها بالعبادةِ ، ثم ذكّرَها سبحانه وتعالى بخلْقِ مَن قبلَها ؛ لأنّه لو لم توجدْ أصولُها لم توجدْ هي ، فقد جعلَ اللهُ سبحانه وتعالى وجودَها امتداداً لوجودِ أصولِها ، ثم ذكّرَ سبحانه وتعالى بعدَ ذلك بأنعُمِه الكبرى التي أسبغَها على هذا الجنسِ البشريِّ ، ومِن بينِ هذه النِّعَمِ أنّه سبحانه جعلَ لهم الأرضَ فراشاً ؛ إذْ ذلَّلها لهم تذليلاً ، وجعلَ لهم السماءَ بناءً ، وآتاهم مما آتاهم من السماءِ والأرضِ ، فقد هيّأ اللهُ سبحانه وتعالى الأسبابَ كنزولِ المطرِ من السماءِ ، وتلقّي الأرضِ لهذا الغيثِ تلقيّاً يجعلُها تتفاعلُ تفاعلاً غريباً مع وجودِه ؛ حتى أنّ اللهَ سبحانه وتعالى جعلَ في كلِّ واحدٍ منهما خاصيّةً ، فللمطرِ خاصيّةُ الإنبات ، وللأرضِ خاصيّةُ النباتِ ، فيكونُ بذلك ما أرادَه اللهُ سبحانه من وجودِ الرزقِ النافعِ للإنسانِ الذي يتكوّنُ من نزولِ الماءِ من السماءِ ، وبإخراجِ الأرضِ كنوزَها ؛ إذْ تُنبِتُ في هذا الوجودِ ما تُنبِتُه من خيراتٍ ، وهكذا يذكّرُ اللهُ سبحانه وتعالى عبادَه بهذه النِّعَمِ الكبرى عليهم ، ثمّ بعد آياتٍ يَنعى عليهم كفرَهم وإعراضَهم عن عبادةِ اللهِ عندما يقولُ سبحانه وتعالى : ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( البقرة/28 ـ 29)  ، فالإنسانُ الذي يتقلّبُ في أعطافِ هذه النِّعَمِ ، ويسبحُ في خِضمِّها ؛ جديرٌ به أن يحرصَ كلَّ الحرصِ على الصلةِ باللهِ سبحانه من خلالِ العباداتِ الخالصةِ لوجهِه الكريمِ ؛ لأنّ العباداتِ لا تُقبلُ إلا عندما تكونُ خالصةً لوجهِ اللهِ ، فاللهُ تعالى يقولُ : ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء ) ( البينة/5) ، ويقولُ سبحانه وتعالى : ( فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) ( الكهف/110) .

      وقد بيّنَ سبحانه في كتابِه أنَّ العباداتِ تؤدي إلى التقوى ، فقد قالَ تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة/21) ، فالغايةُ إذاً من مشروعيةِ العبادةِ هي تحقيقُ التقوى في سلوكِ الناس ، وفي تعاملِهم فيما بينهم ، وفي صلتِهم بربِّهم سبحانه ؛ بحيثُ يشعرُ الإنسانُ في جميعِ أحوالِه أنّه بحاجةٍ إلى أن يقِفَ عند حدودِ اللهِ ، وأن يتقيَ سخَطَ اللهِ باقترابِه منه سبحانه بما فرضَ عليه من أعمالٍ ، وبعدِه عمّا نهاه عنه في جميعِ الأحوالِ ، وكما أنّ اللهَ سبحانه ذكرَ العبادةَ المجملةَ هنا مقترِنةً بالتقوى فقد ذكرَ العباداتِ تفصيلاً ، وقرَنَها بالتقوى إمّا صريحاً وإما إشارةً ، فقد قالَ عزَّ وجلَّ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة/21) ، وذكرَ اللهُ سبحانه الصلاةَ فقالَ : ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) ( العنكبوت/45) ، وكذلك قالَ في الزكاةِ : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ) ( التوبة/103)  ، وفيما ذكرَ من الغايةِ التي شُرِعتْ من أجلِها الصلاةُ ، والغايةِ التي شُرِعتْ من أجلِها الزكاةُ دليلٌ على أنَّ كلاً من الصلاةِ والزكاةِ تؤدِّيان إلى تقوى اللهِ سبحانه وتعالى ، فالصلاةُ تنهى عن الفحشاءِ والمنكرِ ، وفي ذلك اتقاءٌ لسخَطِ اللهِ ، وكذلك الزكاةُ تؤدي إلى الطهارةِ ، وتؤدي إلى زَكاءِ الأعمالِ الصالحةِ ، وذكرَ الحجَّ مقروناً بالتقوى كثيراً ، فقد قالَ سبحانه وتعالى : ( وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) ( البقرة/196)  إلى أن ختمَّ الآيةَ بقولِه : ( وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( البقرة/196) ، ثم أتبعَ ذلك قولَه : ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ) ( البقرة/197) ، وقالَ تعالى : ( وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) ( البقرة/203) ، وقال سبحانه : ( وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) ( الحج/32) ، وقال عزّ وجلّ : ( لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ) ( الحج/37)   .

     فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، واحرِصُوا على تأديةِ هذه العباداتِ كما أمرَكم سبحانه ، واحرِصُوا على أن تكونَ أوقاتُكم كلُّها مشغولةً بذكرِ اللهِ ، وأن تكونَ أعمالُكم كلُّها موصولةً باللهِ سبحانه ، فإنّ العملَ وإن كان دنيويّاً ينقلِبُ عملاً أُخرويّاً بحسنِ النيةِ ، وبالاقترابِ إلى اللهِ سبحانه وتعالى بهذا العملِ عندما يكونُ مؤدياً غرضاً من الأغراضِ الصالحةِ ، فقد جاءَ في الحديثِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : « في بِضْعِ أحدِكم صدقةٌ » ، قيلَ له : يا رسولَ اللهِ أيُصيبُ أحدُنا شهوتَه ، ويؤجرُ ؟! قال : « أرأيتم أنْ لو وضعَها في حرامٍ ، ألم يكنْ يؤزرُ ؟! فهكذا عندما يضعُها في الحلالِ يؤجرُ » .

      فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، وحاسِبُوا أنفسَكم ، وحاسِبُوا سرائرَكم فيما تعملون وفيما تذرون . أقولُ قولي هذا ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ، فاستغْفِروا اللهَ يغفِرْ لكم ؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ ، وادعوه يستجِبْ لكم ؛ إنه هو البرُّ الكريمُ .

*         *        *

     الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، والعاقبةُ للمتقين ، ولا عدوانَ إلا على الظالمين ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأشكرُه ، وأتوبُ إليه من جميعِ الذنوبِ وأستغفرُه ، وأؤمنُ به ولا أكفرُه ، وأعادي من يكفرُه ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، وأشهدُ أنّ سيدَنا  ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين ، وعلى أتباعِه وحزبِه إلى يومِ الدِّينِ ، أما بعدُ : 

   فيا عبادَ اللهِ :

        اتقوا اللهَ في جميعِ الأحوالِ ، واعبدوه في كلِّ الأوقاتِ والأزمانِ ؛ فإنَّ عبادةَ اللهِ لا تنحصِرُ في زمانٍ دون زمانٍ ، وإنّ مِن شأنِ كثيرٍ من الناسِ أنهم في شهرِ رمضانَ المباركِ يعكفُون على عبادةِ اللهِ ، ولكنْ سُرعانَ ـ عندما ينتهي الشهرُ الكريمُ ـ ما يتخلّصُون من هذه العباداتِ ؛ كأنما كانوا في سجنٍ منها ، ثم أُخرِجُوا منه ، فهم لا يتردّدون إلى المساجدِ في غيرِ شهرِ رمضانَ المباركِ ، كما أنّهم أيضاً لا يتلونَ كتابَ اللهِ في غيرِ شهرِ رمضانَ المباركِ ، وهذا مما يتنافى مع المكاسبِ التي يُحرِزُها الإنسانُ من عبادةِ اللهِ في شهرِ رمضانَ ، فإنَّ مِن مكاسبِ الصيامِ غرسَ تقوى اللهِ تعالى في الأنفسِ كما يدلُّ على ذلك قولُ اللهِ سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة/183) ، وكما ترونَ أنّ اللهَ سبحانه افتتحَ آياتِ الصيام بهذه الآيةِ الكريمةِ التي ذكرَ فيها التقوى ، وبيّنَ أنه الغايةُ من مشروعيةِ الصيامِ ، كذلك اختتمَ آياتِ الصيامِ بذكرِ التقوى في قولِه سبحانه وتعالى : ( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) ( البقرة/187) ، فمن أجلِ ذلك على الإنسانِ الذي وفّقَه اللهُ تعالى لصيامِ ذلك الشهرِ الكريمِ ألا يُفوِّتَ هذه المكاسبَ العظيمةَ التي أحرزَها ، ولئِنْ كان من شأنِ التاجرِ في عالمِ التجارةِ والاقتصادِ أن يحرصَ على الربحِ كما يحرصُ على رأسِ المالِ ؛ فكيف بهذا التاجرِ في العالمِ الرُّوحيِّ الذي حرصَ على عبادةِ اللهِ ، وأحرزَ تلك المكاسبَ الروحيةَ يُفوِّتُ رأس َالمالِ لا الربحَ وحده .

     فعلى الإنسانِ أن يتقيَ اللهَ في جميعِ أحوالِه ، وأن يحرصَ على عبادتِه ، وأن يستقبِلَ أيامَه ولياليَه كلَّها بالطاعةِ وحسنِ العملِ ، والقُرباتِ التي تقرِّبُه إلى اللهِ سبحانه وتعالى زُلفى ، على أنّ الإنسانَ يسيرُ سيراً حثيثاً مع الأيامِ ، وكلُّ من انتهى أملُه وقفَ به السيرُ ، ولا يشعرُ الإنسانُ بالساعةِ التي يتوقّفُ سيرُه فيها ، فالناسُ كلُّهم يرِدُون مَورِداً أخبرَ اللهُ تعالى عنه بقولِه : ( كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ) ( آل عمران/185) ، ولئِنْ كان هذا هو شأنُ هذه الحياةِ وهو شأنُ الإنسانِ الذي يعبرُها ؛ فإنّ عليه أن يتفطّنَ لذلك ، وأن يكونَ في كلِّ لحظةٍ من لحظاتِ عُمُرِه أكثرَ تقرُّباً إلى اللهِ بالطاعاتِ التي أمرَه اللهُ عزَّ وجلَّ بها ، وأن يكونَ أكثرَ اقتراباً إلى اللهِ بتركِ منهيّاتِه سبحانه وتعالى .

        فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، واحرِصُوا على ما أمرَكم اللهُ تعالى به من خيرٍ ، واحذرُوا ما حذّرَكم اللهُ سبحانه وتعالى به من شرِّ ( وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) ( البقرة/281) .