بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حقُّ المؤمنِ على أخيه المؤمنِ

 

الحمدُ للهِ الذي شرعَ بين المؤمنين من الحقوقِ والواجباتِ ما يدخلُ فيُورِثُ حسنَ العلاقاتِ وجميلَ الصِّلاتِ ، وجعلَ بعضَهم أولياءَ بعضٍ ، يتعاونون فيما بينهم على القيامِ بأوامرِ اللهِ ورسولِه ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأُثني عليه ، وأستغفرُه من جميعِ الذنوبِ وأتوبُ إليه ، وأؤمنُ به وأتوكّلُ عليه ، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له ، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، من يُطِعِ اللهَ ورسولَه فقد رشدَ ، ( وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا  )( الأحزاب/36) ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، أرسلَه اللهُ إلى الناسِ بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى اللهِ بإذنِه وسراجاً منيراً ، فأمرَ بالمعروفِ ، ونهى عن المنكرِ ، ووحّدَ بين الناسِ ، وألّفَ بين قلوبِهم على كلمةٍ سواءٍ ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا ونبيِّنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه ، وعلى كلِّ من اهتدى بهديه ، واستنَّ بسنتِه ، وسارَ على نهجِه ، ودعا بدعوتِه إلى يومِ الدِّينِ ، أما بعدُ :

   فيا عبادَ اللهِ :

    إنَّ اللهَ سبحانه وتعالى جعلَ الإيمانَ علاقةً قويةً بين المؤمنين ، لا تُشبهُها أيُّ علاقةٍ من العلاقاتِ ، فهي مُتقنةُ العمرانِ ، قويةُ الأسبابِ ، متينةُ العُرى ، تشدُّ المؤمنَ إلى المؤمنِ حتى تجعلَه يُحِلُّه محلَّ نفسِه ، ويُنزِلُه من نفسِه في سوادِ عينِه وسويداءِ قلبِه ، ذلك لأنَّ المؤمنين إخوةٌ ، فكلُّ مشاعرِ الأخوّةِ تشدُّ المؤمنَ إلى المؤمنِ ؛ حتى يكونَ المؤمنُ للمؤمنِ كأنّه عينُه ، يحبُّ له ما يحبُّ لنفسِه ، وذلك هو عينُ ما يقتضيه الإيمانُ ؛ كما جاءَ في الحديثِ الصحيحِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عندما قالَ ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ : « لا يؤمِنُ أحدُكم حتى يحبُّ لأخيه ما يحبُّ لنفسِه » ، وكتابُ اللهِ سبحانه وتعالى ناطقٌ بهذه العلاقةِ القويةِ بين المؤمنين ؛ إذ هو سبحانه وتعالى يقولُ : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة/71) ، فالمؤمنُ للمؤمنِ كأنّما هو عينُه .

    هذا .. وكتابُ اللهِ تباركَ وتعالى يحثُّ على التطبيقِ الدقيقِ لهذا المبدأِ القويمِ بين المؤمنين الأوّلين بين المهاجرين والأنصارِ ، فاللهُ سبحانه وتعالى يقولُ : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ )( الأنفال/72) ، ويبيّنُ سبحانه كيفَ كانت هذه العلاقةُ الحسنةُ والصلةُ المتينةُ بين هؤلاء ، وكيفَ جعلتْهم يترفّعون عن رغباتِ أنفسِهم وشهواتِها عندما قالَ سبحانه وتعالى أوّلاً في وصفِ عبادِه المهاجرين : ( لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ( الحشر/8) ، ثم ذكر بعد ذلك الأنصار عندما قال : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ( الحشر/9) .

    وضربَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأمثالَ الكثيرةَ في هذه العلاقةِ المتينةِ والصلةِ الوطيدةِ التي بين المؤمنين فقدْ قالَ صلى الله عليه وسلم : « ترى المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفِهم كمثلِ الجسدِ ، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسَدِ بالحمّى والسهرِ » ، وما أروعَها من علاقةٍ ! وما أمتنَها من صلةٍ بين عبادِ اللهِ المؤمنين ! بحيث يكونون جميعاً كمثلِ الجسدِ الواحدِ ،كلُّ واحدٍ منهم يتألّمُ بآلامِ غيرِه ، كما أنّه يُسرُّ بسرورِ الآخرين ، وهذه الصلةُ هي التي بيّنَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم أيضاً عندما قالَ ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ : « المؤمنُ للمؤمنُ كالبنيانِ يشدُّ بعضَه بعضاً » ، وشبّكَ بين  أصابعِه صلى الله عليه وسلم تمثيلاً لهذه العلاقةِ المتينةِ بين عبادِ اللهِ المؤمنين .

    وهذه الصلةُ التي تشدُّ المؤمنَ إلى المؤمنِ هي ولا ريبَ تشدُّ المؤمنَ إلى جميعِ أمّتِه الإسلاميةِ ، فإنّه يحبُّ لهم ما يحبُّه لنفسِه ، ولذلك يتألّمُ بآلامِ أمّتِه ، ويُسرُّ بسرورِها ، فالمؤمنُ يحفظُ للمسلمين ما يجبُ له عليهم من حقوقٍ متنوعةٍ ؛كما جاءَ في حديثِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عندما قالَ ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ : « المسلمُ أخو المسلمِ ، لا يحقِدُه ، ولا يخذلُه ، ولا يحقّرُه ، بحسبِ امرئٍ من الشرِّ أن يحقرَ أخاه المسلمَ ،كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ : دمُه ، ومالُه ، وعرضُه » ، فالمسلمُ لا يتجرّأُ على أخيه المسلمِ بسفْكِ دمِه ، ولا بانتهاكِ عرضِه ، ولا بسلبِ مالِه ؛ لأنّ كلَّ ذلك مما يتنافى مع الإيمانِ ، ويتنافى مع الإسلامِ ، ولذلك نجدُ في كتابِ اللهِ سبحانه وتعالى ما يدعو إلى تدخّلِ المؤمنين بالقوةِ من أجلِ إخفاءِ الفتنةِ وإخمادِ النائرةِ عندما تنشبُ بين عبادِ اللهِ تعالى المسلمين ، فاللهُ سبحانه وتعالى يقولُ : ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) ( الحجرات/9) ، هكذا يأمرُ اللهُ سبحانه وتعالى عبادَه المؤمنين أن يتدخّلُوا من أجلِ إخفاءِ الفتنِ والقضاءِ على النوائرِ التي تحصلُ بين المسلمين حتى تتمَّ الوحدةُ ، وحتى يسيرَ المسلمون كلُّهم في دربِ الحقِّ متعاونين على الخيرِ ، متآمرين بالمعروفِ ، متناهين عن المنكرِ ، فما يجري بين المسلمين في الأرضِ من سفْكِ بعضِهم دمَ بعضٍ ، واعتداءِ بعضِهم على بعضٍ أمرٌ يرفضُه الإيمانُ ، ويأباه الإسلامُ ،كيفَ والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقولُ : « إذا التقى المسلمانِ بسيفيهما فالقاتلُ والمقتولُ في النارِ » ، وعندما سُئِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ما بالُ المقتولِ يكونُ في النارِ مع أنّه هو المعتدى عليه هو المقتولُ ؟ أجابَ ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ بأنّه كان حريصاً على قتْلِ أخيه ، فكلُّ واحدٍ من الاثنينِ حريصٌ كلَّ الحرصِ على قتْلِ الآخرِ ، ولذلك استحقّا هذا الوعيدَ الشديدَ ، فالأمرُ يدعو إلى التآلفِ بين المسلمين ، وإلى نبْذِ أسبابِ الفُرْقةِ وقطْعِ دابرِ الشِّقاقِ بأيِّ وسيلةٍ من الوسائلِ ، فأعراضُ المسلمين ودماؤهم وأموالُهم حرامٌ فيما بينهم ؛كما قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في وصيتِه البالغةِ في حجةِ الوداعِ : « لا يحلُّ دمُ مسلمٍ إلا بحقّ ، لا يحلّ دم مسلم إلا برِدّةٍ بعد إيمانٍ أو قتلِ نفسٍ محرّمةٍ بغيرِ حقٍّ أو زنا بغيرِ إحصانٍ » ، وأما فيما سوى ذلك فإنَّ دمَ المسلمِ مصونٌ ، وقد جاءَ أنّ المسلمَ أعظمُ حرمةٍ عند اللهِ من البيتِ الحرامِ ،كلُّ ذلك من أجلِ المحافظةِ على حُرُماتِ هذا الدِّينِ ، ولأجلِ المحافظةِ على الصفاتِ التي تشدُّ المسلمين بعضَهم إلى بعضٍ ، وليس للمسلمِ أن يجرأَ بحالٍ من الأحوالِ على نقضِ هذا العهدِ الذي بينه وبين المسلمِ ؛ لأنَّه عهدٌ من عند اللهِ سبحانه وتعالى ، وليس للمسلمِ أن يجرأَ بأيِّ حالٍ من الأحوالِ على أخذِ مالِ مسلمٍ ، ولا على انتهاكِ عرضِه فضلاً عن سفكِ دمِه . ومن أجلِ ذلك نرى في كتابِ اللهِ سبحانه وتعالى من الآدابِ الاجتماعيةِ التي لو طبّقَها المسلمون لسادَ فيما بينهم الوئامُ ولسادت المودةُ ، ولكانوا جميعاً إخواناً في اللهِ سبحانه متحابّين في اللهِ ، فاللهُ تعالى يقولُ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ) ( الحجرات/11 ـ 12) ثمَّ يقولُ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) ( الحجرات/13) ،كلُّ ذلك من أجلِ شدِّ المسلمِ إلى المسلمِ ، ومن أجلِ مراعاةِ المسلمِ لحقوقِ الإنسانيةِ بأسرِها ، فمن تضاعيفِ هذه الأوامرِ الربانيةِ ما يحفظُ للإنسانيةِ حقوقَها فإنَّ اللهَ سبحانه وتعالى نهى أن يسخرَ قومٌ من قومٍ ، ونهى عن أن تسخرَ نساءٌ من نساءٍ ، ولم يفرِّقْ في ذلك بين أن يكونَ المسخورُ منه مسلماً أو غيرَ مسلمٍ ، وكذلك نهى عن التجسّسِ مطلقاً من غيرِ أن يفرِّقَ بين أن يكونَ المتجسّسُ عليه مسلماً أو غيرَ مسلمٍ ،كلُّ ذلك من أجلِ مراعاةِ حقوقِ الإنسانيةِ ، ولئِنْ كانت الإنسانيةُ تتمتّعُ في ظلِّ الإسلامِ بهذه الحقوقِ ، وتصلُ إلى هذا المستوى فأولى أن يكونَ ذلك فيما بين عبادِ اللهِ المسلمين أنفسِهم ؛ بحيثُ يرعى بعضُهم حرمةَ بعضٍ ، ولا يعتلي بعضُهم على بعضٍ .

     فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، واتّبعوا وصايا اللهِ ، وتآمروا بينكم بالخيرِ ، وتناهَوا عن الشرِّ ، تآمروا بالمعروفِ ، وتناهَوا عن المنكرِ ، ففي ذلك ضمانُ وَحْدتِكم ودوامُ قوّتِكم ، أقولُ قولي هذا ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ، فاستغفِروا اللهَ يغفرْ لكم ؛ إنّه هو الغفورُ الرحيمُ ، وادعوه يستجِبْ لكم ؛ إنه هو البرُّ الكريمُ .

*         *        *

     الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، والعاقبةُ للمتقين ، ولا عدوانَ إلا على الظالمين ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأشكرُه ، وأتوبُ إليه من جميعِ الذنوبِ وأستغفرُه ، وأؤمنُ به ولا أكفرُه ، وأعادي من يكفرُه ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِكْ على عبدِك ورسولِك سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين ، وعلى أتباعِه وحزبِه إلى يومِ الدِّينِ ، أما بعدُ :

  ففيما يأمرُ اللهُ تباركَ وتعالى به عبادَه المؤمنين وفيما يصِفُهم به ما يدلُّ على أنَّ هذه الأمةَ لا تقوى الصلةُ بينها ، ولا تقضي على دابرِ الشِّقاقِ الذي يشتِّتُ شملَها ويفكِّكُ وحدتَها إلا عند التآمرِ بالمعروفِ والتناهي عن المنكرِ ، فإنَّ اللهَ سبحانه وتعالى في معرضِ الأمرِ بالوحدةِ أمرَ المؤمنين في أن يكونَ منهم أمّةٌ يدعون إلى الخيرِ ، ويأمرون بالمعروفِ ، وينهون عن المنكرِ ، ذلك عندما قالَ سبحانه وتعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ( آل عمران/102 ـ 103) ، ثمَّ أتبعَ ذلك قولَه : ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ( آل عمران/104) ، ثمَّ حذّرَ بعد ذلك من التفرّقِ عندما قالَ : ( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( آل عمران/105) ، وهكذا يكون فيما وصفَ اللهُ تباركَ وتعالى عبادَه المؤمنين من موالاةِ بعضِهم لبعضٍ ما يدلُّ على أنَّ في مقدمةِ صفاتِهم التآمرَ بالمعروفِ والتناهيَ عن المنكرِ ، ذلك عندما قالَ سبحانه : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة/71) .

    وهكذا الأمةُ عندما تتآمرُ بالمعروفِ ، وتتناهى عن المنكرِ ؛ تقضي على أسبابِ الفرقةِ والشقاقِ بينها ؛ لأنَّ في تآمرِها بالمعروفِ وتناهيها عن المنكرِ ما يدعو بعضها بعضاً إلى الاعتصامِ بحبلِ اللهِ سبحانه وتعالى ، والتمسكِ بدينِه القويمِ ، وعدَمِ التفريطِ في شيءٍ من أوامرِه أو نواهيه ، وهذا بطبيعةِ الحالِ أمْرٌ يدعو إلى أن يكونَ كلُّ واحدٍ من الناسِ محاسِباً لنفسِه ، مسارِعاً إلى بِرِّ أخيه ، مسارِعاً إلى إيثارِ أخيه على نفسِه ، ثم إنَّ التآمرَ بالمعروفِ ، والتناهيَ عن المنكرِ يجعلانِ الإنسانَ في كلِّ أحوالِه ضابطاً لنفسِه ، مُمسِكاً بجميعِ نزواتِه ورغباتِه بحيثُ لا تنفلتُ نزوةٌ من هذه النزواتِ لتقوده إلى الشرِّ قطّ ، ولذلك كانَ في ذلك ضمانٌ لهذا المجتمعِ الذي يتآمرُ  بالمعروفِ ويتناهى عن المنكرِ من وقوعِ الفرقةِ والشِّقاقِ ، فيكون المؤمنون بذلك جميعاً إخواناً في ذاتِ اللهِ سبحانه وتعالى ، يتعاونون على أوامرِ اللهِ سبحانه وتعالى من واجبِها ومن مندوبِها .

    وكذلك وصَفَ اللهُ سبحانه وتعالى المؤمنين والمؤمنات بأنهم يُقيمون الصلاةَ ، ويؤتون الزكاةَ ، ويطيعون اللهَ ورسولَه ، ذلك لأنَّ الصلاةَ تنهى عن الفحشاءِ والمنكرِ ، فهي تقودُ الإنسانَ إلى الخيرِ ؛ ولأنَّ في إيتاءِ الزكاةِ تربيةً للنفسِ على المسارعةِ إلى طاعةِ اللهِ سبحانه وإيثارِ غيرِها عليها ،كما أنَّ في إيتاءِ الزكاةِ أيضاً استلالاً للسخائمِ والأحقادِ التي تكونُ بين الناسِ ، وكذلك وصَفَ اللهُ سبحانه وتعالى هؤلاءِ بأنهم يُطيعون اللهَ ورسولَه ؛ لأنَّ في طاعةِ اللهِ تباركَ وتعالى وطاعةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم جِماعَ الخيرِ كلِّه .

   فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، واحرِصوا على هذه الأوصافِ التي وصفَ اللهُ سبحانه وتعالى بها عبادَه المؤمنين .