بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حقيقةُ الحياةِ الدنيا

 

  الحمدُ للهِ الحميدِ المجيدِ ، المبدئِ المعيدِ ، الفعّالِ لما يريدُ ، سبحانه له القوّةُ والسلطانُ ، والعزّةُ والشأنُ ، والحجةُ والبرهانُ ، منه المبدأُ ، وإليه الرُّجعى ، وله الحمدُ في الآخرةِ والأولى ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ له من الحمدِ وأُثني عليه ، وأستغفرُه من جميعِ الذنوبِ وأتوبُ إليه ، وأؤمنُ به وأتوكّلُ عليه ، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له ، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، من يُطِعِ اللهَ ورسولَه فقد رشدَ ، ( وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) ( الأحزاب/36) ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، أرسلَه اللهُ إلى خلقِه بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى اللهِ بإذنِه وسراجاً منيراً ، فبلَّغَ الرسالةَ ، وأدّى الأمانةَ ، ونصحَ الأمةَ ، وكشفَ الغمّةَ ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه ، وعلى كلِّ من اهتدى بهديه ، واستنَّ بسنتِه ، وسارَ على نهجِه ، ودعا بدعوتِه إلى يومِ الدِّينِ ، أما بعدُ :

   فيا عبادَ اللهِ :

      ( اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ( آل عمران/102 ـ 103) ، واعلموا أنَّ هذه الحياةَ الدنيا ما هي إلا خيالٌ عابرٌ ، والإنسانُ الذي يُنسأُ له فيها في عمرِه إنما حياتُه محسوبةٌ قصيرةٌ ، كما ترون سرعةَ مرورِ الزمنِ ، فالناسُ فيها في سباقٍ دائمٍ في مضمارِ هذه الحياةِ ، والغايةُ إنما هي ريبُ المنونِ ، ولربّما سبقَ الصغيرُ الكبيرَ ، والطفلُ الشيخَ الهرِمَ ، وتذكّروا أنّ المناسباتِ الحوليةَ التي تمرُّ بالإنسانِ يكادُ أن يكونَ بعضُها آخذاً بحجزةِ بعضٍ ، فلا يكادُ الإنسانُ يمرُّ بمناسبةٍ من هذه المناسباتِ ، ثمّ يُغمضُ عينيه إلا ويفتحُهما على أختِها التي تأتي في السنةِ الآتيةِ ، وهكذا دواليك شأنُ هذه الحياةِ الدنيا ، وهذا إنْ دلَّ على شيءٍ فإنّما يدلُّ على أنّ على الإنسانِ فيها أن يكونَ مستبصِراً جدّاً آخذاً بحجزةِ تقوى اللهِ تبارك وتعالى ، وأن لا يعبرَ خِضمَّها إلا على سفينةٍ من التقوى التي تبلّغُه القصْدَ ، فإنّه خِضمٌّ رهيبٌ ، متلاطمُ الأمواجِ ، متعاظمُ الأعاصيرِ ، فالإنسانُ تتنازعُه في هذه الحياةِ أمورٌ شتّى ، فهو واقعٌ بين شهواتِه المتنوِّعةِ ، ونزعاتِه المتعدِّدةِ ، ونزواتِه المختلفةِ ، وكلٌّ منها ـ والعياذُ باللهِ ـ يجرُّه إلى الرَّدى إنْ لم يكن مستبصِراً آخذاً من تقوى اللهِ تباركَ وتعالى بالعُروةِ الوُثقى .

     واللهُ سبحانه قد ضربَ الأمثالَ الكثيرةَ في هذه الحياةِ لأجلِ تبصيرِ عبادِه بشأنِها حتى يتزوّدوا منها التقوى ، وأن لا يجعلَها غايةً لهم ، وإنما غايةُ ما يحرصون عليه فيها أن يتخذوها وسيلةً وطريقاً إلى الدارِ الآخرةِ التي يصِلون إليها ، فاللهُ تعالى يقولُ : ( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) ( يونس/24) ، فإنَّ اللهَ سبحانه وتعالى إثْرَ ذلك بيّنَ ما يجبُ أن يحرصَ عليه العاقلُ وأن يسارِعَ إليه إذ قالَ عزَّ وجلَّ : ( وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( يونس/25)  ، ثمَّ بيّنَ معادَ الناسِ في تلك الدارِ الآخرةِ بحسبِ ما يقدمونه في هذه الدارِ الدنيا ، فإنَّ تلك الدارَ إنما هي دارُ الحصادِ ، وهذه الدارُ إنما هي دارُ غرسٍ وزرعٍ ، يقولُ اللهُ سبحانه : ( لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ( يونس/26 ـ 27) ، ويضربُ اللهُ سبحانه وتعالى مثَلاً آخرَ في هذه الحياةِ الدنيا أيضاً فيقولُ : ( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ) ( الكهف/45) ، ثمَّ بيّنَ ما يحرصُ الناسُ عليه في هذه الحياةِ الدنيا ، ويتنافسون فيه ويتسابقون إليه إذْ قالَ عزَّ مِن قائلٍ بعد ذلك : ( الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ) ( الكهف/46) ، ويقولُ عزَّ مِن قائلٍ : ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) ( الحديد/20) .

      هذه الأمثلةُ وأمثالُها التي ضربَها اللهُ سبحانه وتعالى في هذه الحياةِ الدنيا لتصويرِ حقيقتِها ، وتبيينِ عوارِها ، وكشفِ مساوئِها ، كلُّ هذه تدعو العاقلَ للاستبصارِ فيها ؛ لئلا يغترَّ بزخرفِها ، فالعاقلُ هو الذي يتزوّدُ من يومِه لغدِه ، ومن حاضرِه لمستقبلِه ، ومن صحتِه لمرضِه ، ومن قوّتِه لضعفِه ، فإنَّ كلَّ ما يؤتاه الإنسانُ في هذه الحياةِ الدنيا أمدُه قصيرٌ ، فأمدُ الحياةِ نفسُه قصيرٌ جدّاً ؛ إذْ هذه الأنفاسُ التي يتنفّسُها الإنسانُ إنّما هي على حسابِ هذه الحياةِ ، وكلُّ نفَسٍ إنما هو خطوةٌ من خطواتِه التي يخطوها في سيرِه إلى الدارِ الآخرةِ ، فكيفَ بسائرِ الأمورِ التي تترتّبُ على هذه الحياةِ ، كلُّها أمدُها قصيرٌ ، فصحّتُها أمدُها قصيرٌ ، وشبابُها أمدُه قصيرٌ ، وغناها أمدُه قصيرٌ ، وكلُّ ما يؤتاه الإنسانُ في هذه الحياةِ الدنيا إنّما أمدُه قصيرٌ ، وعلى ذلك فإنّ على الإنسانِ أن يتزوّدَ من كلِّ ما يؤتاه زاداً يبلّغُه رضوانَ اللهِ سبحانه وتعالى ، فإذا أوتي قوةً في البدنِ عليه أن يتزوّدَ من هذه القوةِ زاداً من تقوى اللهِ سبحانه ؛ بحيثُ يسخِّرُها في طاعتِه عزَّ وجلَّ ، ولئنْ أوتي مالاً فعليه أن يسخِّرَ هذا المالَ في طاعةِ اللهِ تباركَ وتعالى ؛ ليتزوّدَ منه زاداً من تقوى اللهِ سبحانه وتعالى يقرِّبُه لرضوانِه عزَّ وجلَّ ، وإذا أوتي صحةً في بدنِه فعليه كذلكَ أن يتزوّدَ من هذه الصحةِ ما ينفعُه في الدارِ الآخرةِ التي ينقلبُ إليها ، وكذلك إن أوتيَ ذكاءً في عقلِه عليه أن يسخِّرَ هذا الذكاءَ لما يبلِّغُه رضوانَ اللهِ سبحانه وتعالى ، وكلُّ ما يؤتاه من نِعَمِ اللهِ عليه أن يتزوّدَ منه دائماً من ما يبلّغُه رضوانَ اللهِ سبحانه وتعالى ، وبهذا يكونُ شاكراً للنِّعَمِ .

     على أنَّ الإنسانَ وهو يعبرُ هذه الحياةَ إنْ لم يكنْ مُستمسِكاً بحبلِ تقوى اللهِ سبحانه وتعالى ؛ سيبقى في مهالكِ هذه الحياةِ نفسِها ، فإنَّ سلامةَ هذه الحياةِ فضلاً عن سلامةِ الدارِ الآخرةِ موقوفةٌ على تقوى اللهِ سبحانه ، ومنوطةٌ بالاستمساكِ بحبلِ اللهِ سبحانه الذي يبلِّغُ إلى رضوانِه عزَّ وجلَّ ، فمِن هنا كانَ الإنسانُ بحاجةٍ إلى تقوى اللهِ ؛ لأجل سلامتِه في دنياه ، فضلاً عن سلامتِه في عُقباه ؛ إذِ العلاقاتُ بين البشرِ لا يمكنُ أن تقومَ إلا على أساسِ تقوى اللهِ ، ومراعاةِ حرماتِ اللهِ ، والوفاءِ بعهدِ اللهِ ، والوقوفِ عند حدودِه سبحانه وتعالى ، وإلا ساءتْ هذه العلاقاتُ ، فتقوى اللهِ تجمعُ بين عبادِ اللهِ المتقين ، وتُآخي بينهم ، وتجعلُ قلوبَهم كقلْبِ رجلٍ واحدٍ ، يعطِفُ بعضُهم على بعضٍ ، ويرعى بعضُهم مصلحةَ بعضٍ ، ويحرصُ بعضُهم على سلامةِ بعضٍ ؛كما جاءَ في الحديثِ عن الرسولِ صلى الله عليه وسلم : « لا يؤمنُ أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسِه » ، وكما جاءَ في الحديثِ عن الرسولِ ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ : « ترى المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفِهم كمثلِ الجسدِ ؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالحمّى والسهرِ » .

      وبجانبِ ذلك أيضاً فإنَّ حياةَ الفردِ تكونُ في اضطرابٍ إن لم يكنْ هذا الفردُ موصولاً بتقوى اللهِ تباركَ وتعالى ، فإنّه وهو يعبرُ خِضَمِّ هذه الحياةِ بين هذه النزواتِ الزائفةِ والتياراتِ النفسيّةِ المختلفةِ ؛ لا بدَّ من أن يعيشَ في اضطرابٍ إن لم يواجِهْ رغباتِ نفسِه المتعددّةِ باستمساكِه بتقوى اللهِ تباركَ سبحانه ، فإنَّ الإنسانَ بطاعتِه للهِ سبحانه يرعى كلَّ جانبٍ من جوانبِ نفسِه ، فلا يؤثِرُ جانباً على جانبٍ ، والإنسانُ كما ترون مؤلّفٌ من جوانبَ مختلفةٍ ، فقد جعلَه اللهُ سبحانه وتعالى مُركّباً من جسمٍ وروحٍ ، وعقلٍ وقلبٍ وضميرٍ ، وفكْرٍ ووجدانٍ ، وكلُّ جانبٍ من هذه الجوانبِ له دوافعُ ونوازعُ ، فمِن ذلك كان الإنسانُ بحاجةٍ إلى الموائمةِ بين هذه الجوانبِ كلِّها ، ولن تكونَ هذه المواءمةُ إلا بتبصرةٍ من اللهِ سبحانه ، ودينُ اللهِ الحقُّ الذي أنزلَه على أنبيائِه ، واختتمَ رسالاتِه التي أرسلَها بهذا الدِّينِ ، بالرسالةِ الكبرى التي بعثَ بها النبيَّ صلى الله عليه وسلم جامعةً لشتاتِ هذا الدِّينِ ، هذا الدِّينُ الحنيفُ هو الذي يجمعُ ما بين هذه الجوانبِ المتعددِّةِ ، ويوائمُ بينها ، فتكونُ حياةُ الإنسانِ حياةَ انسجامٍ ؛ سواءً كانت هذه الحياةُ حياةَ فردٍ ، أو كانتْ حياةَ أسرةٍ ، أو كانتْ حياةَ مجتمعٍ ، أو كانتْ حياةَ أمّةٍ .

     فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، واعتصِموا بحبلِ اللهِ المتينِ ، واتبِعُوا نورَه المبينَ ، وانهجُوا صراطَه المستقيمَ ، وعضُّوا بالنواجذِ على تعاليمِ اللهِ وتعاليمِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، ففيها الخيرُّ كلُّ الخيرِ . أقولُ قولي هذا ، وأستغفِرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ، فاستغفِروا اللهَ يغفِرْ لكم ؛ إنّه هو الغفورُ الرحيمُ ، وادعوه يستجِبْ لكم ؛ إنّه هو البرُّ الكريمُ .

*         *        *

     الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، والعاقبةُ للمتقين ، ولا عدوانَ إلا على الظالمين ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأشكرُه ، وأتوبُ إليه من جميعِ الذنوبِ وأستغفِرُه ، وأؤمنُ به ولا أكفرُه ، وأُعادي من يكفرُه ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا  ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين ، وعلى أتباعِه وحزبِه إلى يومِ الدِّينِ ، أما بعدُ : 

   فيا عبادَ اللهِ :

     اتقوا اللهَ ، واحرِصوا على خيرِكم وسلامتِكم في دنياكم وعقباكم ، واحرِصوا على سلامةِ أفرادِكم وسلامةِ أمتِكم ومجتمعِكم ، فإنَّ اللهَ سبحانه وتعالى أمرَ المؤمنين أن يحبَّ بعضُهم الخيرَ لبعضٍ كما جاءَ ذلك في أمرِه سبحانه وتعالى عبادَه المؤمنين في كتابِه العزيزِ بالتآمرِ بالمعروفِ والتناهي عن المنكرِ ؛ فإنَّ التآمرَ بالمعروفِ والتناهيَ عن المنكرِ منشؤهما حبُّ الخيرِ للغيرِ ، والغيرةِ على حُرماتِ اللهِ سبحانه وتعالى ، فإنَّ الآمرَ بالمعروفِ لن يحبَّ للمأمورِ إلا الخيرَ ، والناهي عن المنكر لن يحبَّ للمنهيِّ إلا الخيرَ ؛ بسببِ حرصِه على بعدِه عمّا فيه عطبُه ومضرّتُه ، والحرصِ على ما فيه سلامتُه وخيرُه في دنياه وعقباه ، واللهُ سبحانه وتعالى عندما أمرَ عبادَه بأن يعتصِموا بحبلِه أمرَهم بالتآمرِ بالمعروفِ والتناهي عن المنكرِ إذْ قالَ إثرَ ذلك سبحانه : ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ( آل عمران/104) ، ثمّ أتبعَ ذلك التحذيرَ من الافتراقِ عندما قالَ سبحانه وتعالى : ( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( آل عمران/105) ، وليسَ إلقاءُ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ بين الأمرِ بالوحدةِ والنهي عن الفرقةِ إلا لأنَّ الأمرَ بالمعروفِ والنهيَ عن المنكرِ ضمانٌ لوحدةِ الأمةِ وتعاونِها وترابطِها ، فإنَّ منشأَ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ حبُّ الخيرِ للجميعِ ، ولذلك فإنَّ الذين يتآمرون بالمعروفِ ويتناهون عن المنكرِ إنما يحرصون على وحدتِهم ، ويحرصون على ترابطِ مجتمعِهم وسلامةِ أمتِهم وسلامةِ الإنسانيةِ بأسرِها .

     فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، وتآمرُوا بالمعروفِ فيما بينكم ، وتناهَوا عن المنكرِ ، ولا تكونوا كبني إسرائيلَ الذين قالَ اللهُ تعالى فيهم : ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ) ( المائدة/78 ـ 79)   .

    فاتقوا اللهَ واحرِصوا على ما أمرَكم اللهُ تعالى به ( وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( آل عمران/133 ـ 135) .