بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

خطبةُ يومِ عرفة

 

الحمدُ للهِ ذي الشأنِ الباهرِ ، والسلطانِ القاهرِ ، والبرهانِ الظاهرِ ، سبحانه يسبِّحُ له من في الأرضِ والسماءِ ، ويدعوه مَن في الضياءِ والظلماءِ ، سبحانه تقدّستْ أسماؤه ، وجلّتْ صفاتُه ( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ) ( الإسراء/44) ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأثني عليه ، وأستغفرُه من جميعِ الذنوبِ وأتوبُ إليه ، وأؤمنُ به وأتوكّلُ عليه ، من يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له ، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، جلّتْ قدرتُه ، وعظُمَ حلمُه ، وأحاط علمُه ، وسعَ كلَّ شيءٍ علماً ، لا إلهَ إلا هو إليه المصيرُ ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه ، وصفيُّه وخليلُه ، أفضلُ مَن تضرّعَ ودعا ، وطافَ وسعى ، أرسلَه اللهُ رحمةً للعالمين ، وسراجاً للمهتدين ، وإماماً للمتقين ، فبلّغَ الرسالةَ ، وأدّى الأمانةَ ، ونصحَ الأمّةَ ، وكشفَ الغمّةَ ، وجاهدَ في سبيلِ اللهِ ، ودعا إلى اللهِ حتى أتاه اليقينُ ، صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه وعلى آلِه وصحبِه أجمعين ، وعلى أتباعِه وحزبِه إلى يومِ الدِّينِ ، أمّا بعدُ :

   فيا عبادَ اللهِ :

     إنّكم في يومٍ عظيمٍ ، يومٍ يتجلّى اللهُ فيه برحمتِه لعبادِه المؤمنين ، ويباهي بعبادِه الحجّاجِ ملائكتَه المقرّبين ، يقولُ لهم اللهُ سبحانه وتعالى : ألم تروا إلى عبادي ؟! جاءوني شُعثاً غُبراً ، يطلبون مغفرتي ، أشهِدُكم أنّي قد غفرتُ لهم ، وفي هذا اليومِ العظيمِ وقفَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم في هذا الموقفِ بين يدَيْ اللهِ تعالى ضارعاً متواضعاً ، ذليلاً خاضعاً ، خائفاً راجياً ، مع أنّه ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ قد غفرَ اللهُ  له ما تقدّمَ من ذنبِه وما تأخّرَ ، فكيفَ ونحنُ يا عبادَ اللهِ ذنوبُنا كمثلِ الجبالِ الرواسيِ ! وكمثلِ البحرِ المتلاطمِ ! ألا فتوبوا إلى اللهِ ، توبوا إلى اللهِ عبادَ الله ، توبوا إلى اللهِ ، وتقرّبوا إليه سبحانه وتعالى بالدعواتِ وأنتم مُوقِنون بالإجابةِ ، وتضرّعوا إليه سبحانه وتعالى ، والهجُوا إلى اللهِ سبحانه وتعالى بالدعاءِ والاستغفارِ .

 عبادَ اللهِ :

    إنَّ اللهَ قد فرضَ عليكم الحجَّ ؛ ليكونَ صلةً بينه وبينكم ؛ وليكونَ سبباً من أسبابِ التقوى ، واللهُ تباركَ وتعالى يقولُ : ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ) ( البقرة/197) ، وتزوّدوا من هذا الموقفِ العظيمِ تقوى اللهِ سبحانه وتعالى ، واستغفِروه من ذنوبِكم ، واعلموا أنَّ الحاجَّ الذي يقِفُ عند حدودِ اللهِ سبحانه ، ولا يرفثُ في حجِّه ، ولا يفسقُ ، ولا يجادلُ ؛ يرجعُ من ذنوبِه كيومِ ولدتُه أمُّه ، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقولُ : « من حجَّ فلم يرفثْ ، ولم يجهلْ رجعَ من ذنوبِه كيومِ ولدتْه أمُّه » ، فاحرصوا عبادَ اللهِ على أداءِ شعائرِ اللهِ كما فرضَها عليكم ( وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( آل عمران/133 ـ 135)(  وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) ( البقرة/281) .

     واعلموا أنَّ هذه الدنيا هي طريقُ الآخرةِ ، وما المرءُ إلا سالكُها بسرعةٍ ، فتزوّدوا من هذه الحياةِ الدنيا تقوى اللهِ سبحانه وتعالى ، واعلموا أنّكم إلى اللهِ تعالى مُنقلَبُكم ، وإليه مرجعُكم ، وأنّكم ستُحاسبون على جميعِ أعمالِكم ، واذكروا وأنتم اليومَ في هذا الموقفِ العظيمِ قد تجرّدتم من لباسِكم المألوفِ ، وخرجتُم كلُّكم سواسيةً ، لا فارقَ بين قويٍّ وضعيفٍ ، ولا بين فقيرٍ وغنيٍّ ، ولا بين حاكمٍ ومحكومٍ ، تذكّروا وأنتم في هذا الموقفِ العظيمِ ذلك الموقفَ الذي تقفون فيه بين يدي اللهِ ربِّ العالمين ، وتُحاسَبون على أعمالِكم ، فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، وادعوا اللهَ سبحانه وتعالى وأنتم مُوقِنون بالإجابةِ ، ولا حولَ ولا قوّةَ إلا باللهِ العليِّ العظيمِ .

     اللهمَّ إنَّا نسألُك بأنَّا نشهدُ أنّك أنت اللهُ لا إلهَ إلا أنت الواحدُ الأحدُ الفردُ الصمدُ ( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) ( الإخلاص/3 ـ 4) ، نسألُك ربَّنا ألا تدعَ لنا في مقامِنا هذا ذنباً إلا غفرتَه ، ولا غمّاً إلا فرّجتَه ، ولا كرْباً إلا نفّستَه ، ولا دَيناً إلا قضيتَه ، ولا مريضاً إلا عافيتَه ، ولا غائباً إلا حفظتَه ورددتَه ، ولا ضالاً إلا هديتَه ، ولا عدوّاً إلا كفيتَه ، ولا دعاءً إلا استجبتَه ، ولا حاجةً من حوائجِ الدنيا والآخرةِ لك فيها رضا ، ولنا فيها مصلحةٌ إلا قضيتَها ويسّرتَها بيسرٍ منك وعافيةٍ ، اللهمَّ اجعلِ الموتَ خيرَ غائبٍ ننتظرُه ، والقبرَ خيرَ بيتٍ نعمرُه ، واجعلْ ما بعده خيراً لنا منه يا ربَّ العالمين ، اللهمَّ أصلحْ لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرِنا ، وأصلحْ لنا دنيانا التي فيها معاشُنا ، وأصلحْ لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا ، واجعلِ الحياةَ زيادةً لنا في كلِّ خيرٍ ، والموتَ راحةً لنا من كلِّ شرٍّ ، اللهمَّ نسألُك أن ترزقَ كلاً منّا لساناً صادقاً ذاكراً ، وقلباً خاشعاً منيباً ، وعملاً صالحاً زاكياً ، وعلماً نافعاً رافعاً ، وإيماناً خالصاً ثابتاً ، ويقيناً راسخاً صادقاً ، ورزقاً حلالاً واسعاً ، ونسألُك ربَّنا أن تهبَنا إنابةَ المخلصين ، ويقينَ الصِّدِّيقين ، وسعادةَ المتقين ، ودرجةَ الفائزين ، يا أفضلَ مَن قُصِدَ ، وأكرمَ من سُئِلَ ، وأحلمَ من عُصِيَ ، يا اللهُ يا ذا الجلالِ والإكرامِ .

   اللهمَّ كما جئناك من بلادٍ شتّى شُعثاً غبراً ، وتركْنا الأموالَ والأولادَ وراءنا ، وكما أوينا في حرَمِك الآمِنِ ؛ فحرِّمْ لحومَنا وجباهَنا وشعورَنا وعظامَنا وكلَّ شيءٍ منَّا عن النارِِ ، يا عزيزُ يا غفّارُ ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ ، اللهمَّ كما طُفْنا ببيتِكَ الحرامِ فأعتِقْ رقابَنا من النارِ ، اللهمَّ أعتِقْ رقابَنا من النارِ ، اللهمَّ أعتِقْ رقابَنا من النارِ ، وأعتِقْ رقابَ آبائِنا وأمّهاتِنا وذرياتِنا من النارِ ، وأدخلْنا الجنةَ مع الأبرارِ ، واجعلنا مع الذين أنعمتَ عليهم من النبيّين والصديقين والشهداءِ والصالحين ، يا حيُّ يا قيومُ ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ ، اللهمَّ أحسِنْ وِفادتَنا إليك ، اللهمَّ أحسِنْ وِفادتَنا إليك ، اللهمَّ أحسِنْ وِفادتَنا إليك ، اللهمَّ ربَّنا لا تردَّنا خائبين ، اللهمَّ لا تردَّنا خائبين ، اللهمَّ لا تردَّنا خائبين ، واغفرْ لنا أجمعين ، وأدخلْنا الجنّةَ آمنين ، اللهمَّ كما جئناكَ إلى حرَمِكَ الآمِنِ وبلدِك الأمينِ نسألُك الأمنَ يومَ النشورِ ، اللهمَّ إنَّا نسألُك الأمنَ يومَ النشورِ ، اللهمَّ إنَّا نسألُك الأمنَ يومَ النشورِ ، اللهمَّ إنَّا نسألُكَ الراحةَ عند الموتِ ، والعفوَ والتيسيرَ عند الحسابِ ، والفوزَ بالثوابِ ، والنجاةَ من العذابِ ، يا كريمُ يا وهّابُ .

    اللهمَّ تقبّلْ منّا نُسُكَنا ، وتقبّلْ صالحاتِ أعمالِنا ، وتجاوزْ عن خطيئاتِنا ، وأدخلْنا الجنةَ مع الأبرارِ ، يا أرحمَ الراحمين ، اللهمَّ إنَّا نسألُكَ أن تحشرَنا في زمرةِ عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، اللهمَّ ابعثْنا تحت لوائِه ، واسقِنا من حوضِه المورودِ شربةً لا نظمأُ بعدَها أبداً ، ولا تفرِّقْ ربَّنا بيننا وبينه حتى تدخلَنا مدخلَه ، اللهمَّ أحيينا على سنّتِه ، وأمتنا على طريقتِه ، واحشرْنا في زُمرتِه ، يا حيُّ يا قيومُ ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ ، اللهمَّ إنّا نعوذُ بك من شرورِ أنفسِنا ، ومن سيئاتِ أعمالِنا .

   اللهمَّ ربَّنا أعزَّ الإسلامَ والمسلمين ، وأذلَّ الشركَ والمشركين ، واقطعْ دابرَ أعداءِ الدينِ ، واستأصِلْ شأفتَهم يا ربَّ العالمين ، ولا تدعْ لهم من باقيةٍ ، اللهمَّ افعلْ بهم كما فعلتَ بثمودَ وعادٍ ، وفرعونَ ذي الأوتادِ ، الذين طغَوا في البلادِ ، فأكثروا فيها الفسادَ ، اللهمَّ صُبَّ عليهم سوطَ عذابٍ ، واجعلْ بأسَهم بينهم شديداً ، واجعلْ بأسَهم بينهم يا ربَّ العالمين ، وخلِّصْ جميعَ المسلمين مِن قهرِهم ، اللهمَّ ربَّنا استخلِفْنا في أرضِكَ كما استخلفتَ مَن قبلَنا مِن عبادِك المؤمنين ، ومكِّنْ لنا دينَنا الذي ارتضيتَه لنا ، وأبدِلْنا بخوفِنا أمناً ، وبذلِّنا عزّاً ، وبفقرِنا غنىً ، وبتشتّتِنا وَحْدةً ، واجمعْنا على كلمتِك ، وألِّفْ بين قلوبِنا بطاعتِك ، اللهمَّ إنَّا ضعفاءُ فقوِّنا ، وإنَّا أذلاءُ فأعِزَّنا ، وإنَّا فقراءُ فأغنِنا ، اللهمَّ أغنِنا بحلالِك عن الحرامِ ، وبطاعتِك عن الآثامِ ، وبك عمّن سواكَ ، سبحانك لا نُحصي ثناءً عليك ، نستغفرُك ونتوبُ إليكَ ، ونعوِّلُ في إجابةِ دعائِنا عليكَ ، اللهمَّ هذا الدعاءُ ومنكَ الإجابةُ ، وهذا الجهْدُ ، وعليك التكلانُ ، فلا تردَّنا ربَّنا خائبين ، وأدخلْنا الجنةَ آمنين ، يا حيُّ يا قيومُ ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ ، وصلِّ اللهمَّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ العليِّ العظيمِ ، ( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ( الصافات/180 ـ 182) .