بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

توديع العام الهجري ويوم عاشوراء

 

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبالعمل بطاعته تطيب الحياة، وتنزل البركات، سبحانه رفع منار الدين، وجمع شمل المسلمين بهجرة خاتم النبيين والمرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كلّ شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، أرسله رحمة للعالمين، وسراجا للمهتدين، وإماما للمتقين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة ن وجاهد في سبيل ربه حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه، وعلى كل من اهتدى بهديه، وسار على نهجه، واستن بسنته، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، والعمل بما فيه رضاه، فاتقوا الله وراقبوه، وامتثلوا أوامره ولا تعصوه، واذكروه ولا تنسوه، واشكروه ولا تكفروه.

واعلموا أن من غرر الأيام وأبرزها في تاريخ النضال بين المؤمنين والكافرين يوم الهجرة النبوية، ويوم عاشوراء، أما يوم الهجرة النبوية فهو اليوم الذي نصر الله سبحانه وتعالى فيه نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، ونجاه من كيد الكافرين، ومكر الماكرين؛ بعد أن تآمروا بالقضاء عليه وعلى دعوته؛ إما بحبسه أو قتله أو نفيه (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال/30)، واتفق رأيهم على أن يختاروا من كل قبيلة فتى شابا جلدا، ويعطونه سيفا صارما، فإذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم ضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل، فلا يستطيع بنو عبد مناف على محاربة جميع قبائل قريش، بل يرضون بالدية، ولكن الله من ورائهم محيط، ففي الليلة التي تجمّع فيها شياطين الضلال أمام داره عليه أفضل الصلاة والسلام؛ ليقتلوه تنفيذا لمؤامرتهم؛ نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره بذلك، فخرج صلى الله عليه وسلم من داره بين صفين من شباب فتيّ، يحملون سيوفا ساطعة، ورماحا مشرعة، وهو يتلو قول الله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ) (يس/9)، فنجاه الله من شرهم، وعصمه من كيدهم، وأرسل الفجر ضياءه، فإذا هدفهم قد أفُلِت من أيديهم، فهاج هائجهم، وطاشت ألبابهم، وانطلقوا كالمجانين، يجوبون الصحراء، ويستنطقون الرمال ومسارب الجبال، وعند الغار تنتهي آثار المسير، فأحدقوا به من كل ناحية، وأبو بكر رضي الله عنه يسمع وقع أقدامهم، فيحزن حزنا شديدا، موقف عصيب ينخلع له قلب الشجاع، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبقى ثابت الجنان، قوي الإيمان، يقول لصاحبه: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا»، فأعمى الله أبصار القوم، فلم يلتفت إليهم أحد (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة/40)، وبعد مضي ثلاث ليال خرجا من الغار، واتجها إلى المدينة المنورة، واستقر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرون بها، فكانت الهجرة حدا فاصلا بين الإيمان والكفر، بين الحق والباطل، كانت الهجرة تمهيدا؛ لتثبيت البناء الإسلامي، وإرساء قواعده، ومدّ شعاعه إلى العالم، فبالهجرة أصبح للإسلام مركز يأوي إليه، وحصن حصين يحتمي به، فما أحوج المسلمين اليوم إلى الإخلاص في الدعوة إلى الله عز وجل، والجد في العمل، والصدق في القول، والصبر على المكاره والشدائد، وأن يتفهموا حادث الهجرة، ويأخذوا منه الدروس والعبر، وأن المبادئ متى استقرت، وآمنت بها القلوب، وامتلأت بها النفوس؛ تكون عند أصحابها أعز من نفوسهم وأموالهم وكل ما يملكونه من هذه الحياة (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة/22) (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر/8ـ9)، وأما اليوم الثاني من أيام النصر فهو يوم عاشوراء، هو اليوم العاشر من المحرم، هو اليوم الذي نصر الله سبحانه وتعالى فيه نبيه موسى عليه السلام ومن معه من المؤمنين على الطاغية فرعون (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) (يونس/90ـ92)؛ أي إن في ذلك لعبرة يعتبر بها كل ذي قلب سليم، ويوقن أن النصر للمؤمنين ولو بعد حين، وأن العاقبة للمتقين (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (الحج/40) (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة/21) (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (الصافات/171ـ173) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران/200).

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم؛ إنه هو البرّ الكريم.

*              *            *

الحمد لله ربّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن سيدنا و نبينا محمدا عبده ورسوله، خاتم النبيين والمرسلين، وسيّد الأولين والآخرين، وقائد الغرّ المحجلين، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا عباد الله إن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة.

أيها المسلمون:

اتقوا الله تعالى، واعلموا أن يوم عاشوراء كما أنه يوم من أيام النصر فهو أيضا من الأيام التي اختصها الله سبحانه وتعالى بمزيد من الفضل؛ لذلك كان الصوم الذي تميز بخاصية النسبة إلى الله عز وجل كان مشروعا في هذا اليوم، في اليوم العاشر من المحرم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه، وقد صامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر الناس بصيامه، فلما فرض رمضان أصبح صيام يوم عاشوراء سنة؛ طلبا لمزيد الفضل؛ وتكفيرا لما لعله أن يكون قد اقترفه الإنسان في ماضيه من الوزر، فكل ابن آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون، عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -  قالت: كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه وأمر الناس بصيامه، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة، وترك يوم عاشوراء، ومن شاء صامه، ومن شاء تركه، ولكن في صيامه ثواب عظيم، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من صام يوم عاشوراء كان كفارة لستين شهرا، وعتق عشر رقبات مؤمنات من ولد إسماعيل عليه السلام»، وعن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة، وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة ماضية»، وقد ورد الترغيب في صيام اليوم التاسع مع اليوم العاشر من المحرم، «صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود، صوموا يوما قبله أو يوما بعده»، فاتقوا الله يا عباد الله، واغتنموا فرصة صيام هذا اليوم المفضل؛ يعظم الله  لكم الحسنات، ويكفر عنكم السيئات (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (المزمل/20) (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) (البقرة/281) (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور/31).