قَالَ تَعَالى: { ... وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } البقرة: ١٨٧

 فَصْلٌ في أَصْلِ الاعْتِكَافِ

 الاعْتِكَافُ في أَصْلِ اللُّغَةِ: مُشْتَقٌ مِنَ الفِعْلِ الثُّلاثيِّ "عَكَفَ " بِمَعْنى أقَامَ ولَبثَ في المكَانِ، فَالاعْتِكَافُ تَدُورُ مَعَانِيهِ حَولَ: اللَّبْثِ والإِقَامَةِ واللُّزُومِ والحَبْسِ والقُعُودِ في مكَانٍ مَا، سَواءً كَانَ هذَا الحَبْسُ في بِرٍّ أو فُجُورٍ، ومِنْ شَوَاهِدِ الثَّاني قَولُهُ تَعَالى: {  مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } الأنبياء: ٥٢ [1].

 والاعْتِكَافُ شَرْعًا: هُوَ حَبْسُ النَّفْسِ في المسْجِدِ بِنِيَّةِ العِبَادَةِ بِصِفَةٍ مخْصُوصَةٍ[2].

 فَصْلٌ في مَشْرُوعِيَّةِ الاعْتِكَافِ

 لا يخفَى عَلَيكَ -أيُّها الطَّالِبُ، المتَحَفِّظُ للسُّنَّةِ وَالكِتَابِ- أنَّ الاعْتِكَاف في دِينِ اللهِ الإِسْلامِ مَشْرُوعٌ بِنُصُوصٍ مِنَ الكِتَابِ والسُّنةِ، وعَلَيهِ إِجماعُ الأُمَّةِ:

 فالكِتَابُ قَولُهُ سبحانه وتعالى لنَا: {  وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﮌ  } البقرة: ١٨٧، ومِنْ "شَرْعِ مَنْ مَضَى" قولُهُ سُبحَانَهُ: {  وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } البقرة: ١٢٥..

 و"شَرْعُ مَنْ مَضَى" إذا لم يُبْدَلِ *** شَرْعٌ لنَا عَلَى المقَالِ الأَعْدَلِ

إنْ قَصَّهُ اللهُ أوِ المختَارُ*** شرعًا لنَا ولم يَكُنْ إِنكَارُ[3]

 أمَّا السُّنةُ فمِنْهَا القَوْليُّ ومِنْهَا العَمَليُّ، فمِنَ الأَوَّلِ قَوْلُ النَّبيِّ القَانِتِ الأَوَّابِ صلى الله عليه وسلم لبَعْضِ أَصْحَابِهِ: " مَنْ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفْ في الْعَشْرِ الأَوَاخِر"[4]، وَمِنَ الثَّاني مُلازَمَتُهُ لِلاعْتِكَافِ كُلَّ عَامٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ الحيُّ القيُّومُ[5]..

 والاعْتِكَافُ سُنَّةٌ فَضِيلةْ*** عَطِيَّةٌ مِنْ رَبِّنَا جَلِيلَة ْ

لازمَهَا المُخْتَارُ كُلَّ عَامِ*** في وَسَطٍ وَآخِرِ الصِّيَامِ[6]

 وأجْمَعَ عَلَى مَشْرُوعيَّةِ الاعْتِكَافِ -إِجمالاً- الصَّحَابةُ والتَّابعُونَ والعالِمُونَ مِن أُمَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ شَيخُنا أبُو عَبدِ الرَّحمنِ القَنُّوبيُّ -حَفِظَهُ اللهُ-: " وَهَذا أمْرٌ متّفَقٌ عَلَيهِ بينَ الأُمّةِ الإسْلامِيَّةِ قَاطِبَةً، وقَدْ حَكَى الاتِّفَاقَ -أو الإِجمَاعَ- عَلَى ذَلكَ غَيرُ وَاحِدٍ مِنَ المتقَدِّمِينَ وَالمتَأخِّرِينَ"[7]..

 فَكَانَ إِجمَاعًا فَلَيْسَ يُقبَلُ *** مِنْ بَعْدِ ذَا فِيْهِ خِلافٌ يُنقَلُ[8]

 فَصْلٌ في حُكْمِ الاعْتِكَافِ

 اِعْلَمْ -أخِي الحبِيبَ، حبَّبَ اللهُ إِلَيكَ الاعْتِكَاف وزيَّنهُ في قَلبِكَ- أنَّ الاعْتِكَافَ في أَصْلِ الشَّرعِ مَطلُوبٌ وفِعْلُهُ لرَبِّنَا مَرْغُوبٌ؛ لفِعْلِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأمْرِهِ بِهِ أصْحَابَهُ، فهوَ إِحدَى القُرَبِ للرَّبِّ سبحانه وتعالى، إلا أنَّهُ مَعَ ذلكَ تدورُ عَليهِ أحكَامُ الشَّرعِ الخَمْسَةُ، فيكُونُ تارَةً:

 أ- وَاجِبًا: وذَلكَ فيمَا إذَا أَوْجَبَهُ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بنَذْرٍ أو يمِينٍ فيَجِبُ الوَفاءُ بفِعْلِهِ، والتَّكفِيرُ بتَركِهِ؛ قالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ:" مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلا يَعْصِهِ"[9].

 ب- مُسْتَحَبًّا: في شَهرِ رَمضَانَ، ويُؤَكَّدُ في العَشرِ الأَوَاخِرِ منهُ تحرِّيًا لِلَيْلَةِ القَدْرِ، واقْتِدَاءً بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الذِي واظَبَ عَلَى الاعْتِكَافِ فِيهَا حَتى لاقَى رَبَّه[10]سبحانه وتعالىُ .

 ج- محَرَّمًا: في الأَيَّامِ التي يحرُمُ صِيَامُها ويجِبُ إفْطَارُها كيَومَي العِيدِ ويَومِ الشَّكِّ؛ لأَنَّ مِنْ شُرُوطِ الاعْتِكَافِ الصِّيامَ.

 ‌د- مَكْرُوهًا: في الأيَّامِ الَّتي يُكرَهُ صِيَامُها ويفضَّل إفطَارُها، كأيَّامِ التَّشْرِيقِ ويومِ الجُمعَةِ مُنْفَرِدًا.

‌ه- جَائِزًا: فيمَا عَدَا مَا سَلَفَ مِنْ أيَّامِ العَامِ، أمَّا القَولُ بِسُنِّيَّةِ الاعْتِكَافِ وندبيَّتِهِ في سَائِرِ أيَّامِ العَامِ فَـ" فِيْهِ نَظَرٌ" كمَا يقُولُ محدِّثُ العَصْرِ؛ نَظَرًا لأَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لمْ يَعتَكِفْ في غَيرِ رَمَضَانَ -إِلا قَضَاءً[11]- معَ كَثْرَةِ صِيَامِهِ في غَيرِهِ مِنَ الأيَّامِ ومُسَارَعَتِهِ إِلى مَوَاطِنِ الفَضْلِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بهَا [12]صلى الله عليه وسلم.

{ تَنْبِيْهٌ}: قَضَاءُ الاعْتِكَافِ -لِمَنْ قطَعَهُ أو أفْسَدَهُ- لهُ حكمُ أدَائِهِ، فمَنْ قَطَعَ اعْتِكَافًا واجِبًا كَانَ قضَاؤُهُ واجِبًا، ومَنْ قطَعَ اعْتِكَافًا مَندُوبًا كَانَ قَضَاؤُهُ منْدُوبًا -أيضًا- عَلَى الرَّأيِ الرَّاجِحِ  عِندَ شَيخِنَا القَنُّوبيِّ -رعَاهُ اللهُ-، وإنْ كَانَ في القَضَاءِ احْتِيَاطٌ وخُروجٌ مِنَ الخِلافَ، يَقُولُ -أمَدَّ اللهُ في عُمُرِهِ-: " فَاعْتِكَافُ النَّافِلَةِ إذَا دَخَلَ فِيهِ ثم خَرَجَ وقَضَاهُ فَذَلِكَ خَيرٌ، أمَّا إذَا لَم يَقْضِه فَلا شَيءَ عَلَيهِ، وَهَذَا بِخِلافِ الوَاجِبِ"[13].

{تَنْبِيْهٌ آخَرُ}: لَمَّا كَانَ الأصْلُ في الاعْتِكَافِ النَّدْبَ لم يَجُزْ للمَرأَةِ أنْ تُقدِمَ عَلَيهِ -إنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ- إلا بعدَ استِئذَانِ زوجِها ومُوافَقَتِه؛ لأَنَّ لزَوجِهَا حُقُوقًا علَيهَا، والاعْتِكَافُ يفوِّتُ هَذِهِ الحُقُوقَ المشْرُوعَةَ[14]. 

فَصْلٌ في شُرُوطِ الاعْتِكَافِ

 تَفَقَّهْ -يَا رَعَاكَ اللهُ، ووَفَّقَكَ لتَمَامِ طَاعَتِهِ وتَقْوَاهُ- أنَّ للاعْتِكَافِ شَرْطَ قَبولٍ عندَ اللهِ -كَغَيرِهِ مِنَ العِبَادَاتِ- وشَرْطُ قَبُولِهِ التَّقْوَى؛ لِقَولِهِ تعَالى: {  إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } المائدة: ٢٧[15].

 وللاعْتِكَافِ -أيضًا- شَرائِطُ لا بُدَّ منْهَا لِصِحَّتِهِ، والَّتي هيَ: الإسْلامُ، والنِّيةُ، والعَقْلُ والتَّمْيِيزُ، والصِّيامُ، والطَّهَارَةُ مِنَ الحَدَثِ الأَكْبرِ، والْتِزَامُ المسْجِدِ.. ولِكُلِّ إجمَالٍ بيَانٌ، فَهَاكَ بيانَهُ مختَصَرًا مُفِيدًا:

 أوَّلاً/ الإسْلامُ: وهوَ الشَّرطُ الأوَّلُ لصِحَّةِ الأعْمَالِ، فَلا يَقبَلُ اللهُ مِنْ مُشرِكٍ ظَلَمَ نَفْسَهُ عَمَلاً، ولا يُرجَى لهُ في الآخِرَةِ فَوزًا؛ قَالَ تَعَالى:} إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } النساء: ٤٨، 116، و ﭧ: {  وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }آل عمران: ٨٥، واللهُ المستعانُ[16].

 ثانيًا/ النِّيَّةُ: لأنَّ الاعْتِكَافَ مِنَ العِبَادَاتِ الَّتي لا تُعْقَلُ عِلَّتُهَا أو فِيهَا بَعضُ الجَوانِبِ التَّعبُّدِيَّةِ التي لا يُعقَلُ مَعنَاهَا، ومِنَ المُتقَرِّرِ لدَى علَمَاءِ الشَّرِيعَةِ أنَّ النِّيةَ شَرطٌ في صِحَّةِ العِبَادَاتِ غَيرِ مَعْقُولَةِ المعْنى؛ لأَنَّ المُرَادَ منْهَا -أوَّلاً- محْضُ التَّعَبُّدِ للهِ عز وجل.

 ثالثًا/ العَقْلُ والتَّمْيِيزُ: فالمجنُونُ والمعتُوهُ والصَّبيُّ غَيرُ الممَيِّزِ والسَّكْرَانُ لا تَصِحُّ منهُ العِبَادَةُ وتُعَدُّ في حقِّهِ مُلغَاةً شَرعًا؛ لأَنَّهُ لا يُدرِكُ مَاهِيَّةَ العِبَادَةِ -الاعْتِكَافِ مثلاً-، ومَا هِيَ أعْمَالُهَا المطلُوبَةُ ومحظُورَاتُهَا الممْنُوعَةُ.. فالتَّميِيزُ يَتحَقَّقُ فيمَنْ يَفهَمُ الخِطَابَ ويَستطِيعُ الجَوابَ ويَفقَهُ مَعْنى العِبَادَةِ، وعلَيهِ فمَعَ فُقدَانِ العَقْلِ والتَّمْيِيزِ يتَعذَّرُ تحقُّقُ النِّيةِ المطلُوبَةِ في العِبَادَةِ شَرْعًا[17].

 رابعًا/ الصِّيَامُ: الصَّومُ مَشرُوطٌ لِصِحَّةِ الاعْتِكَافِ عَلَى قَولِ جمهُورِ أَهْلِ العِلْمِ، وعَلَى المُعْتمَد عندَ العَالِمَينِ الخَلِيْلِيِّ والقَنُّوبيِّ -حفظَهمُ اللهُ-؛ لأَنَّ اللهَ تَعَالى لم يَذكُرِ الاعْتِكَافَ في كِتَابِهِ إلا مَقْرُونًا بِالصِّيَامِ } ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ } البقرة: ١٨٧ وذلكَ يُؤذِنُ بِشَرطيَّتِهِ، ومِنْ جِهَةٍ أُخْرى فقَدْ جَاءَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مُشَرِّعًا مِنْ عِندِ اللهِ عز وجل، ومُبيِّنًا لنَا مجمَلاتِ النُّصُوصِ بقَولِهِ وفِعْلِهِ، ومِنْ فعلِهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ لم يعْتَكِفْ إلا صَائِمًا حَتى في قَضَائِهِ بعْدَ شَهرِ رَمَضَانَ.

 يقُولُ المفْتي العَامُّ للسَّلطَنَةِ -أبقَاهُ اللهُ-: " الاعْتِكَافُ لا بُدَّ فِيهِ مِنَ الصِّيامِ عَلَى القَولِ الصَّحِيحِ، وهُوَ القَولُ الذِي نَأخُذُ بِهِ"[18]، ويقُولُ الشَّيخُ القنُّوبيُّ -حفظَهُ الموْلى سبحانه وتعالى-: " ولَكِنَّ القَولَ المشْهُورَ المنْصُورَ عِندَهُمْ هُوَ اشْتِرَاطُ الصَّومِ لِصِحَّةِ الاعْتِكَافِ"[19].

 خَامِسًا/ الإمْسَاكُ عَنِ الجِمَاعِ ومُقَدِّماتِهِ: لَيْلاً أو نهَارًا لقَولِهِ تَعَالى:} وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ  } البقرة: ١٨٧، والانحِبَاسُ لِلطَّاعَةِ والتَّفَرُّغُ للْعِبَادَةِ يَتنَافى ومَقَارَبةَ الشَّهْوةِ فضْلاً عَنْ مُواقَعَتِهَا، يقُولُ الحَافِظُ القَنُّوبيُّ: " وأمَّا الوَطْءُ فهوَ مِنَ الـمَحْظُوراتِ الـمُتّفَقِ عَلَيهَا، وهُوَ مِنَ الأُمُورِ التي تَتَنَافَى مَعَ الاعْتِكَافِ جُمْلَةً وتَفْصِيلا"، واللهُ المستعانُ[20].

 سَادِسًا/ الطَّهَارَةُ مِنَ الحَدَثِ الأَكْبرِ: فلا يَصِحُّ ابتدَاءُ الاعْتِكَافِ مِنَ الجنُبِ ولا مِنَ الحَائِضِ ولا مِنَ النُّفَسَاءِ عَلَى المُعْتَمَد؛ لأنَّ الاعْتِكَافَ لا يكُونُ إلا مَعَ الصِّيَامِ -كما تقدَّمَ-، والصِّيامُ يتَنَافى والحدَثَ الأكَبرَ بَلِ الحَائِضُ والنُّفَسَاءُ يَحرُمُ عَلَيهِمَا الصِّيَامُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.

 ومِنْ جِهَةٍ أُخْرى فَإِنَّ الاعْتِكَافَ لا يكُونُ إِلا في المسْجِدِ -كمَا سَيَأتي-، والجُنُبُ والحَائِضُ والنُّفَسَاءُ كلُّهُم مَنهيُّونَ عَنِ المُكْثِ في المسْجِدِ؛ قَالَ تَعَالى:} وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ } النساء: ٤٣[21].

 

 

فَصْلٌ في المُكْثِ في المسْجِدِ

 وهو الشَّرْطُ الأَسَاسِيُّ في الاعْتِكَافِ بَلْ هُوَ الرُّكْنُ الذِي لا بُدَّ مِنهُ فيهِ[22]؛ لأَنَّهُ بِلا مُكْثٍ والْتِزَامٍ لا يُسَمَّى اعْتِكَافًا، وقدْ نَصَّ الكِتَابُ العَزِيزُ أيضًا عَلَى أَنَّ هَذَا المكْثَ يكُونُ في المسَاجِدِ؛ قَالَ تَعَالى:} وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﮌ} البقرة: ١٨٧، وبَيَّنَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بفِعْلِهِ، إذْ لم يَعتَكِفْ إلا في مَسْجِدِهِ الشَّرِيفِ صلى الله عليه وسلم..

 وفي هَذَا المقَامِ مَسَائِلُ، فَأيقِظِ العَزمَ إنْ نامَتْ لوَاحِظُهُ:

 {المَسْأَلَةُ الأُوْلى}: الاعْتِكَافُ يَصِحُّ في أيِّ مَسْجِدٍ تُقَامُ فيهِ الجَمَاعَةُ عَلَى مَذْهَبِ الجمْهُورِ أهْلِ العِلْمِ، وهوَ الذِي عَلَيهِ العَمَلُ، خِلافًا لمنْ  ضَيَّقَ وقَصَرَ جَوازَهُ عَلَى أَحَدِ المسَاجِدِ الثَّلاثَةِ: المسْجِدِ الحَرَامِ، والمسْجِدِ النَّبَوِيِّ، والمسْجِدِ الأَقْصَى؛ "يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا"[23].

 {المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ}: لا يُشْتَرَطُ في مَسْجِدِ الاعْتِكَافِ أنْ تُقامَ فيهِ صَلاةُ الجُمُعَةِ علَى المُعْتمَد مَا دَامَتْ تُقَامُ فيهِ صَلاةُ الجَمَاعَةِ، وإنْ كَانَ مَسْجِدُ الجُمُعَةِ أَوْلى وأفضَلَ، فإِنْ لمْ يَكُنْ فلْيَخرُجِ المعْتَكِفُ مجِيبًا نِدَاءَ الصَّلاةِ مِنْ يَومِ الجُمُعَةِ ويُصَلِّي هُنَالِكَ الجُمُعَةَ ثم يَعُودُ إِلى مُعْتَكَفِهِ فَوْرًا[24].

 {المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ}: اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أنَّ المسْجِدَ هوَ محلُّ الاعْتِكَافِ المشْرُوعِ بِنَصِّ القُرآنِ الكَرِيمِ، واخْتَلَفُوا في جَوازِ اعْتِكَافِ المرْأَةِ في  مُصَلَّى بَيتِهَا، فِقِيلَ: بصِحَّتِهِ، وهيَ رُخْصَةٌ مِنْ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ، وقيلَ: بعَدَمِ مَشرُوعِيَّتِهِ، وهُوَ الأَسْعَدُ بالنَّصِّ القُرآني والإقِرَارِ النَّبَوِيِّ لأُمَّهَاتِ المُؤمِنِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ-، فَقَدْ كُنَّ يَعْتَكِفْنَ مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في مَسْجِدِهِ الشَّرِيفِ مَعَ اتِّصَالِ حُجْرَاتهنَّ بِالمسْجِدِ،  وبَقِينَ عَلَى ذلِكَ بعْدَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَوْ كانَ في ذَلكَ رُخْصَةٌ لرَخَّصَ لهنَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَعتَكِفْنَ كُلٌّ في حُجُرتِهَا، أفَادَهُ شَيخَا زمَانهمَا أبُو خَلِيلٍ الخَلِيْلِيُّ وأبو عَبدِ الرَّحمنِ القَنُّوبيُّ -حفظهمُ اللهُ-، وعَلَيهِ جمهُورُ عُلَمَاءِ الأمَّةِ.

 ولكِنْ معَ ذلكَ فَلا تُمنَعُ المرأةُ مِنْ أنْ تَلتَزِمَ محرَابًا في بَيتِها تَتَعَبَّدُ فِيهِ سَاعَاتِهَا وتَتَحَنَّثُ فيهِ خَلَواتِهَا مِنْ غَيرِ أنْ يُعْطَى حُكْمَ المعْتَكَفِ } وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } النساء: ١٢٤[25].

 {تَنْبِيْهٌ}: لا بُدَّ أنْ يَكُونَ مَوْضِعُ اعْتِكَافِ المرأَةِ مِنَ المسْجِدِ سَاتِرًا لهَا عَنِ الرِّجَالِ صَوتًا وصُورَةً، بحيْثُ لا يُسْمَعُ لهَا فِيهِ صَوتٌ ولا يُرَى لهَا وَجْهٌ، أو يَكُونَ في مُصَلَّى النِّساءِ التَّابِعِ للمَسْجِدِ، وهَذَا أَولى بَلْ هُوَ الوَاجِبُ إنْ وُجِدَ[26].

 ------------------------

 [1] - يُنظر:

 الفيومي، المصباح المنير، مادةع ك ف .

 الخَلِيْلِيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ: 19 رمضان 1424هـ، يوافقه 14/11/2003م.

 [2]- يُنظر:

 الخَلِيْلِيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ: 4 رمضان 1426هـ، يوافقه 8/10/2005م.

 القنُّوْبيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ:20 رمضان 1430هـ، يوافقه 10/ 9/ 2009م.

 [3] - السالمي، عبد الله بن حميد. طلعة الشمس ج2 ص96.

 [4] - الربيع، باب: في ليلة القدر، رقم الحديث 326.

 [5] - البخاري، بَاب: الاعْتِكَافِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، رقم الحديث 1886.

 [6] - السالمي، عبد الله بن حميد. جوهر النظام ج1 ص203.

 [7]- يُنظر:

 ابن المنذر، الإجماع ص16.

 القنُّوْبيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ: 10 رمضان 1423هـ، يوافقه 16/11/2002م.

 [8] - السالمي، عبد الله بن حميد. جوهر النظام ج4 ص386.

 [9] -  البخاري، باب: النذر في الطاعة، رقم حديث 6696، 6700.

 [10] - الكندي، ماجد بن محمد. دروس في فقه العبادات، صيف 1423هـ/ يوافقه 2002م. مذكرة خاصة ص28.

 [11] - نعم لقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم اعتكافه في شهر شوال عندما ضَربت نساؤه أَخْبِيَتَهُنَّ في مسجده مِن حوله، ورأى بينهنّ التنافس، فخَرَج من معتكَفِه ذلك في العشر الأواخر ثم قضاه في الشهر الذي يليه، والله أعلم. يُنظر:

 الخَلِيْلِيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ: 19 رمضان 1424هـ، يوافقه 14/11/2003م.

 القنُّوْبيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ:10 رمضان 1423هـ، يوافقه 16/11/2002م.

 [12] - القنُّوْبيُّ، سَعِيدُ بنُ مَبرُوكٍ. برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"- تلفزيون سلطنة عمان، حلقةُ: 20 رمضان 1430هـ، يوافقه 10/ 9/ 2009م.

 [13] - يُنظر:

 الخَلِيْلِيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ: 18 رمضان 1422هـ، يوافقه4/12/2001م.

 الخَلِيْلِيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ: 19 رمضان 1424هـ، يوافقه 14/11/2003م.

 القنُّوْبيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ: 24 رمضان 1422هـ، يوافقه10/12/2001م.

 القنُّوْبيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ:10 رمضان 1423هـ، يوافقه16/11/2002م.

 القنُّوْبيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ: 18 رمضان 1427هـ، يوافقه 12/10/2006م.

 القنُّوْبيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ:20 رمضان 1430هـ، يوافقه 10/ 9/ 2009م.

 [14]- الخَلِيْلِيُّ، أَحمَدُ بنُ حمَدٍ. برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"- تلفزيون سلطنة عمان، حلقةُ: 20 رمضان 1426هـ، يوافقه 24/10/2005م.

 [15]- فمن لم يكن متقيا فلا يقبل الله منه عمله، وإن سَقط عنه قضاؤُه، فإن تاب إلى المولى واتقى قبل الله منه أعماله، ورد إليه أجورها، والحمد لله الحليم التَّوَّاب. يُنظر:

 الخَلِيْلِيُّ، أَحمَدُ بنُ حمَدٍ. الفتاوى ج1 ص336.

 [16] - يُنظر:

 القنُّوْبيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ: 18 رمضان 1427هـ، يوافقه 12/10/2006م.

 القنُّوْبيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ:20 رمضان 1430هـ، يوافقه 10/ 9/ 2009م.

 [17] - يُنظر:

 القنُّوْبيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ:10 رمضان 1423هـ، يوافقه16/11/2002م.

 القنُّوْبيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ: 18 رمضان 1427هـ، يوافقه 12/10/2006م.

 القنُّوْبيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ:20 رمضان 1430هـ، يوافقه 10/ 9/ 2009م.

 [18] - يُنظر:

 الخَلِيْلِيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ: 18 رمضان 1422هـ، يوافقه 4/12/2001م.

 الخَلِيْلِيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ: 4 رمضان 1426هـ، يوافقه 8/10/2005م.

 [19] - يُنظر:

 القنُّوْبيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ:10 رمضان 1423هـ، يوافقه16/11/2002م.

 القنُّوْبيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ: 18 رمضان 1427هـ، يوافقه 12/10/2006م.

 القنُّوْبيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ:20 رمضان 1430هـ، يوافقه 10/ 9/ 2009م.

 [20] - يُنظر:

 الخَلِيْلِيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ: 19 رمضان 1424هـ، يوافقه 14/11/2003م.

 الخَلِيْلِيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ: 27 محرم 1427هـ، يوافقه 26/2/2006م.

 القنُّوْبيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ: 18 رمضان 1427هـ، يوافقه 12/10/2006م.

 القنُّوْبيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ:20 رمضان 1430هـ، يوافقه 10/ 9/ 2009م.

 [21] - يُنظر:

 الخَلِيْلِيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ: 19 رمضان 1424هـ، يوافقه 14/11/2003م.

 القنُّوْبيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ: 19 رمضان 1422هـ، يوافقه 5/12/2001م.

 القنُّوْبيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ:10 رمضان 1423هـ، يوافقه16/11/2002م.

 القنُّوْبيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ: 18 رمضان 1427هـ، يوافقه 12/10/2006م.

 [22]- القنُّوْبيُّ، سَعِيدُ بنُ مَبرُوكٍ. برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"- تلفزيون سلطنة عمان، حلقةُ:  10 رمضان 1423هـ، يوافقه 16/11/2002م.

 [23] - يُنظر:

 ابن المنذر، الإجماع ص16.

 الخَلِيْلِيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ: 18 رمضان 1422هـ، يوافقه 4/12/2001م.

 القنُّوْبيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ: 10 رمضان 1423هـ، يوافقه 16/11/2002م.

 القنُّوْبيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ: 18 رمضان 1427هـ، يوافقه 12/10/2006م,

 القنُّوْبيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ: 14 رمضان 1430هـ، يوافقه 4/ 9/ 2009م.

 [24] - وقد ذكر بعض العلماء أن هذا الحكم في حَقِّ المُقِيمِ، أمَّا إِنْ كَانَ المُعْتَكِفُ مُسَافِرًا فَلا يخلُو مِنْ أَحَدِ أمْرَينِ:

 إمَّا أنْ يَكُونَ اعْتِكَافُهُ هذَا وَاجِبًا لنَذْرٍ مَثَلاً فَلَيسَ لَهُ أنْ يَخرُجَ إِلى الجُمُعَةِ؛ لأَنَّ لزُومَ المعْتَكَفِ واجِبٌ والخُروجَ لِلْجُمُعَةِ في حَقِّهِ مُستَحَبٌّ، أمَّا إذَا كَانَ مُتَنَفِّلاً في اعْتِكَافِهِ فَإمَّا أنْ يَخرُجَ مِنْ هَذَا الاعْتِكَافِ ويَبطُلَ اعْتِكَافُهُ، وإمَّا أنْ يَترُكَ الخُرُوجَ ولا شَيءَ عَلَيهِ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالى، واللهُ يُوَفِّقُنَا وإِيَّاكَ. يُنظر:

 الخَلِيْلِيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ: 19 رمضان 1424هـ، يوافقه 14/11/2003م.

 القنُّوْبيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ:  21 رمضان 1422هـ، يوافقه 7 / 12/ 2001م.

 الكندي، ماجد بن محمد. دروس في فقه العبادات، صيف 1423هـ/ يوافقه 2002م. مذكرة خاصة ص28.

 [25] - يُنظر:

 الخَلِيْلِيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ:20 رمضان 1426هـ، يوافقه 24/10/2005م.

القنُّوْبيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ: 10 رمضان 1423هـ، يوافقه 16/11/2002م.

القنُّوْبيُّ، برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"، حلقةُ: 18 رمضان 1427هـ، يوافقه 12/10/2006م.

 [26] - الخَلِيْلِيُّ، أَحمَدُ بنُ حمَدٍ. برنامجُ: "سُؤَالُ أَهْلِ الذِّكْرِ"- تلفزيون سلطنة عمان، حلقةُ:20 رمضان 1426هـ، يوافقه 24/10/2005م.