بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

صلة الأرحام

 

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، أرسله رحمة للعالمين، وسراجا للمهتدين، وإماما للمتقين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في سبيل ربه حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه، وعلى كل من اهتدى بهديه، وسار على نهجه، واستن بسنته، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد:

 فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، والعمل بما فيه رضاه، فاتقوا الله وراقبوه، وامتثلوا أوامره ولا تعصوه، واذكروه ولا تنسوه، واشكروه ولا تكفروه.

واعلموا أن من الحقوق التي أوجبها الله سبحانه وتعالى صلة الأرحام لبعضهم بعضا، وهم الأنساب الذين يجمعك وإياهم جد واحد، فقد أوجب الله سبحانه وتعالى صلتهم، وحرم قطيعتهم؛ لأن حياتنا الاجتماعية تتكون من الأسر والعائلات، فإذا تفككت عرى اتصال هذه الأسر، وتحللت روابط تلك العائلات، فقد ضاع القصد منها، وأصبح كل فرد منعزلا عن الآخر يهيم على وجهه، لا يجد له ناصرا، ولا يرى له معينا، وحينئذ لا تجد للحياة نظاما، ولا للعيش سعادة، ولهذا كانت صلة الأرحام هي السبيل الأقوى إلى توطيد عرى المحبة، وتوثيق روابط الألفة، فمن تجرأ على قطع هذه العلائق، وفصم هاتيك الصلات بين الأقارب؛ فقد اعتدى على النظام الإلهي، وتعرض لوعيد الله عز وجل، ثم لا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا، يقول عز من قائل: (وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء/1)، ويقول سبحانه: (الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) ( البقرة/27)، ويقول جل شأنه: (وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (الرعد/25)، ويقول عز وجل: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَ) (محمد/22-24)، وعن عائشة - رضي الله عنها- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرحم متعلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله»، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يدخل الجنة قاطع رحم»، وقد جاء الأمر بصلة الأقارب والحض عليها، والترغيب فيها في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، يقول عز من قائل: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ)  (البقرة/83)، ويقول سبحانه: ( وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) (النساء/36)، ويقول سبحانه: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى) (النحل/90)، ويقول جل شأنه: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) (الإسراء/26) (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون)، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليقل خيرا أو ليصمت»، وروي أن رجلا قال: يا رسول الله من أبر؟ قال: «أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب»، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يدخل الجنة من الأعمال، ويباعد عن النار فقال: «تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم»، وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسرع الخير ثوابا البر وصلة الرحم، وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم»، وقد ورد: أن الصدقة على الرحم أعظم ثوابا من الصدقة على  غيره، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم صدقة وصلة»، وصلة الرحم هي عنوان الشرف والمجد والكرم، وينجم عنها اللطف والعطف والحنان والإحسان، وصلة الرحم هي من الأسباب التي ينزل الله سبحانه وتعالى بها البركة في المال والأعمار والأعمال الصالحة، عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه»، وقد روي: «صلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمرن الديار، ويزدن في الأعمار»، وقد ورد أن: «الواصل لرحمه موصول من ربه بالخير والبركة، وأن القاطع لرحمه مقطوع من كل خير»، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: أنا الله، أنا الرحمن، خلقت الرحم، وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته»، فقوله: وصلته؛ أي أوصلت إليه كل خير، وقوله: قطعته؛ أي قطعت عنه كل خير، فالواصل موصول، والقاطع مقطوع، وفي رواية الربيع بن حبيب - رضي الله عنه - يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: من وصل رحمه فقد وصلني، ومن قطعها فقد قطعني»، فقوله: «من وصل رحمه فقد وصلني»؛ أي من فعل مع رحمه ما أمرته بفعله من الصلة والمواصلة؛ فقد امتثل أمري، وأدى ما أوجبته عليه، واستحق الثناء والثواب، وقوله: «ومن قطعها فقد قطعني»؛ أي من لم يمتثل ما أمرته به من إيصال الخير والمعروف إلى رحمه؛ فقد خالف أمري، وتعرض لقطيعتي، وفي التعبير بقوله: «وصلني»، «وقطعني» إشارة إلى أن صلة الرحم موجبة لصلة الرحمن، وأن قطيعة الرحم موجبة لقطيعة الرحمن، ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو إلى صلة الأرحام في بداية دعوته كما يدعو إلى عبادة الله عز وجل، فعن عبدالله بن سلام قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة خرجت أنظر فيمن ينظر، فلما رأيت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب، وكان أول ما سمعته يقول: «أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام»، وعندما بُدِأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي، ورأى منه ما رأى من الشدة؛ قالت له خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها -: كلا والله، ما يخزيك الله، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فعرفت خديجة - رضي الله عنها - بفراستها الصادقة أن هذه الخصال من تمسك بها كان في حفظ الله ورعايته، كان جديرا بكل خير، بعيدا عن كل شر؛ لأن صنائع المعروف تقي مصارع السوء (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) (الطلاق/2) (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) (الطلاق/4) (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) (النحل/128) (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف/90) (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت/69).

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم؛ إنه هو البرّ الكريم.

*              *            *

الحمد لله ربّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن سيدنا و نبينا محمدا عبده ورسوله، خاتم النبيين والمرسلين، وسيّد الأولين والآخرين، وقائد الغرّ المحجلين، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا عباد الله إن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة.

أيها المسلمون:

اتقوا الله تعالى، واعلموا أنه مما يجب على كل مسلم أن يصل رحمه، وأن يلتزم بالحقوق الواجبة عليه لهم، فيوقر كبيرهم، ويرحم صغيرهم، ويواسي منكوبهم، ويعود مريضهم، ويعزي مصابهم، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويرشدهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، يصلهم في فرحهم وفي ترحهم، يصلهم بنفسه وماله، وأفضل صلة الأرحام الهدايا والتحف وسائر وسائل الإكرام، وأضعف الصلة أن يرسل إليهم بالسلام، وليست الصلة الحقيقة بين الأقارب أن يصل الرجل أقاربه إذا وصلوه، ويقطعهم إذا قطعوه، وإنما الصلة الحقيقية التي يُستحق بها الثناء والثواب الجزيل هي أن يصلهم وإن قطعوه، ويعطيهم وإن حرموه، ويعفو عنهم وإن ظلموه، ويحسن إليهم وإن أساؤوا إليه، ويلين لهم وإن قسوا معه وجاروا عليه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا قال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيؤون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال: «لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك»، وقوله: «فكأنما تُسفِّهم المل» معناها كأنما تطعمهم الرماد الحار، وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد من الألم، ولا شيء على هذا المحسن، وإنما ينالهم إثم عظيم في قطيعته وإدخالهم الأذى عليه، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أفضل الصلة صلة الرحم الكاشح»؛ أي المضمر للعداوة؛ لأن صلتك له مع عداوته لك دليل على حسن النية وصلاح السيرة والسريرة، وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يصل من قطعه، ويعطي من حرمه، ويعفو عمن ظلمه، ويحسن إلى من أساء إليه، وإلى هذا أرشد القرآن الكريم، يقول عز من قائل: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف/199)، ويقول سبحانه: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت/34-35)، ومما أوجبه الله سبحانه وتعالى للأقربين على من ترك خيرا الوصية لهم بعد الموت بشيء من المال، يقول عز من قائل: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة/180).

فاتقوا الله يا عباد الله، وصلوا أرحامكم (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة/2) (وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (الأنفال/1) (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (المزمل/20) (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) (البقرة/281) (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور/31)